سائر الشرائع، لا جرم صار ذلك موجباً لفضلهذه الأمة على سائر الأمم، و هذا معنى ماروي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذهالآية: قوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍأُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تأمرونهم أن يشهدواأن لا إله إلا اللّه و يقروا بما أنزلاللّه، و تقاتلونهم عليه و «لا إله إلااللّه» أعظم المعروف، و التكذيب هو أنكرالمنكر.
ثم قال القفال: فائدة القتال على الدين لاينكره منصف، و ذلك لأن أكثر الناس يحبونأديانهم بسبب الألف و العادة، و لايتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذاأكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتلدخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حبالدين الباطل، و لا يزال يقوى في قلبه حبالدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلىالحق، و من استحقاق العذاب الدائم إلىاستحقاق الثواب الدائم.
السؤال الثاني: لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان باللّه فيالذكر مع أن الإيمان باللّه لا بد و أنيكون مقدماً على كل الطاعات؟.
و الجواب: أن الإيمان باللّه أمر مشتركفيه بين جميع الأمم المحقة، ثم إنه تعالىفضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة،فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذهالخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشتركبين الكل، بل المؤثر في حصول هذه الزيادةهو كون هذه الأمة أقوى حالًا في الأمربالمعروف و النهي عن المنكر من سائرالأمم، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيريةهو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وأما الإيمان باللّه فهو شرط لتأثير هذاالمؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجدالإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثراً فيصفة الخيرية، فثبت أن الموجب لهذه الخيريةهو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر،و أما إيمانهم فذاك شرط التأثير، و المؤثرألصق بالأثر من شرط التأثير، فلهذا السببقدم اللّه تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان.
السؤال الثالث: لم اكتفى بذكر الإيمانباللّه و لم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنهلا بد منه.
و الجواب: الإيمان باللّه يستلزم الإيمانبالنبوّة، لأن الإيمان باللّه لا يحصل إلاإذا حصل الإيمان بكونه صادقاً، و الإيمانبكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذيأظهر المعجز على وفق دعواه صادقا لأنالمعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلماشاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمدصلّى الله عليه وسلّم كان من ضرورةالإيمان باللّه الإيمان بنبوّة محمد صلّىالله عليه وسلّم، فكان الاقتصار على ذكرالإيمان باللّه تنبيهاً على هذه الدقيقة.
ثم قال تعالى: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُالْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ
و فيه وجهانالأول: و لو آمن أهل الكتاببهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيريةلأتباع محمد عليه الصلاة و السلام لحصلتهذه الخيرية أيضاً لهم، فالمقصود من هذاالكلام ترغيب أهل الكتاب في هذاالدينالثاني: إن أهل الكتاب إنما آثروادينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العلوم و لو آمنوا لحصلت لهم هذهالرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم فيالآخرة، فكان ذلك خيراً لهم مما قنعوا به.
و اعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتينعلى سبيل الابتداء من غير عاطفإحداهما:قوله مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110]و ثانيتهما: قوله لَنْ يَضُرُّوكُمْإِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْيُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لايُنْصَرُونَ قال صاحب «الكشاف»: هماكلامان واردان على طريق الاستطراد عندإجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت و كيت، و لذلكجاء آمَنَ غير عاطف.