و الرواية الثانية: قال محمد بن إسحاق: إنأم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت، وكانت يوماً في ظل شجرة فرأت طائراً يطعمفرخاً له فتحركت نفسها للولد، فدعت ربهاأن يهب لها ولداً فحملت بمريم، و هلكعمران، فلما عرفت جعلته للّه محرراً، أيخادما للمسجد، قال الحسن البصري: إنهاإنما فعلت ذلك بإلهام من اللّه و لولاه مافعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنامفعلم أن ذلك أمر من اللّه و إن لم يكن عنوحي، و كما ألهم اللّه أم موسى فقذفته فياليم و ليس بوحي.
المحرر الذي يجعل حراً خالصاً، يقال: حررتالعبد إذا خلصته عن الرق، و حررت الكتابإذا أصلحته، و خلصته فلم تبق فيه شيئاً منوجوه الغلط، و رجل حر إذا كان خالصاً لنفسهليس لأحد عليه تعلق، و الطين الحر الخالصعن الرمل و الحجارة و الحمأة و العيوب أماالتفسير فقيل مخلصاً للعبادة عن الشعبي، وقيل: خادماً للبيعة، و قيل: عتيقاً من أمرالدنيا لطاعة اللّه، و قيل: خادماً لمنيدرس الكتاب، و يعلم في البيع، و المعنىأنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفاً علىطاعة اللّه، قال الأصم: لم يكن لبنيإسرائيل غنيمة و لا سبي، فكان تحريرهمجعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذاصار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمةالأبوين، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوعمن الانتفاع، و يجعلونهم محررين لخدمةالمسجد و طاعة اللّه تعالى، و قيل: كانالمحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتىيبلغ الحلم، ثم يخير بين المقام و الذهاب،فإن أبى المقام و أراد أن يذهب ذهب، و إناختار المقام فليس له بعد ذلك خيار، و لميكن نبي إلا و من نسله محرر في بيت المقدس.
هذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمانأما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لمايصيبها من الحيض و الأذى، ثم إن حنة نذرتمطلقاً إما لأنها بنت الأمر على التقدير،أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلبالذكر.
في انتصاب قوله مُحَرَّراً وجهانالأول:أنه نصب على الحال من ما و تقديره:
نذرت لك الذي في بطني محرراًو الثاني: و هوقول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعلما في بطني محرراً.
ثم قال اللّه تعالى حاكياً عنها:فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ
التقبل: أخذ الشيء على الرضا، قالالواحدي: و أصله من المقابلة لأنه يقبلبالجزاء، و هذا كلام من لا يريد بما فعلهإلا الطلب لرضا اللّه تعالى و الإخلاص فيعبادته، ثم قالت إِنَّكَ أَنْتَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ و المعنى: أنك أنتالسميع لتضرعي و دعائي و ندائي، العليمبما في ضميري و قلبي و نيتي.
و اعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرعبني إسرائيل و غير موجود في شرعنا، والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذهالأحكام.
قال تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها
و اعلم أن هذا الضمير إما أن يكون عائداًإلى الأنثى التي كانت في بطنها و كانعالماً بأنها كانت أنثى أو يقال: إنها عادتإلى النفس و النسمة أو يقال: عادت إلىالمنذورة.
ثم قال تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّيوَضَعْتُها أُنْثى
و اعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدممنها النذر في تحرير ما في بطنها، و كانالغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك فيكلامها، و كانت العادة عندهم أن الذي