[التوبة: 128] قال القاضي: هذا الوجه عدول عنالحقيقة، و إنما يجوز المصير إليه لو تعذرإجراء اللفظ على حقيقته.
أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصيرإلى هذا المجاز. و أقول: لو قرأ أحد منالسلف شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْبِالْكُفْرِ من قولك: زيد نفيس و عمرو أنفسمنه، لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر.
ثم قال: أُولئِكَ حَبِطَتْأَعْمالُهُمْ
و المراد منه: ما هو الفصل الحق في هذاالكتاب، و هو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل منأعمال البر، مثل إكرام الوالدين، و بناءالرباطات، و إطعام الجائع، و إكرام الضيففكل ذلك باطل، لأن عقاب كفرهم زائد علىثواب هذه الأشياء فلا يبقى لشيء منها أثرفي استحقاق الثواب و التعظيم مع الكفر وأما الكلام في الإحباط فقد تقدم في هذاالكتاب مرارا فلا نعيده.
ثم قال: وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ
و هو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار. واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق منأهل الصلاة لا يبقى مخلدا في النار منوجهين: الأول: أن قوله: وَ فِي النَّارِهُمْ خالِدُونَ يفيد الحصر، أي هم فيهاخالدون لا غيرهم، و لما كان هذا الكلاموارد في حق الكفار، ثبت أن الخلود لا يحصلإلا للكافر. الثاني: أنه تعالى جعل الخلودفي النار جزاء للكفار على كفرهم، و لو كانهذا الحكم ثابتا لغير اللَّه لما صح تهديدالكافر به،
ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أنيشتغل بعمارة المسجد، بين أن المشتغل بهذاالعمل يجب أن يكون موصوفا بصفات أربعة:
قوله: إِنَّما يَعْمُرُمَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِوَ الْيَوْمِ الْآخِرِ
و إنما قلنا إنه لا بد من الإيمان باللَّهلأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبداللَّه فيه، فما لم يكن مؤمنا باللَّه،امتنع أن يبني موضعا يعبد اللَّه فيه، وإنما قلنا إنه لا بد من أن يكون مؤمناباللَّه و اليوم الآخر لأن الاشتغالبعبادة اللَّه تعالى إنما تفيد فيالقيامة، فمن أنكر القيامة لم يعبداللَّه، و من لم يعبد اللَّه لم يبن بناءلعبادة اللَّه تعالى.
فإن قيل: لم لم يذكر الإيمان برسولاللَّه؟
قلنا فيه وجوه: الأول: أن المشركين كانوايقولون: إن محمدا إنما ادعى رسالة اللَّهطلبا للرياسة و الملك، فههنا ذكر الإيمانباللَّه و اليوم الآخر، و ترك النبوة كأنهيقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاالإيمان بالمبدا و المعاد، فذكر المقصودالأصلي و حذف ذكر النبوة تنبيها للكفارعلى أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذاالقدر. الثاني: أنه لما ذكر الصلاة، والصلاة لا تتم إلا بالأذان و الإقامة والتشهد، و هذه الأشياء مشتملة على ذكرالنبوة كان ذلك كافيا. الثالث: أنه ذكرالصلاة، و المفرد المحلى بالألف و اللامينصرف إلى المعهود السابق، ثم المعهودالسابق من الصلاة من المسلمين ليس إلاالأعمال التي كان أتى بها محمد صلّى اللهعليه وسلّم، فكان ذكر الصلاة دليلا علىالنبوة من هذا الوجه.
قوله: وَ أَقامَ الصَّلاةَ
و السبب فيه أن المقصود الأعظم من بناءالمساجد إقامة الصلوات، فالإنسان ما لميكن مقرا بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم علىبناء المساجد.
قوله: وَ آتَى الزَّكاةَ.
و اعلم أن اعتبار إقامة الصلاة و إيتاءالزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أنالمراد من عمارة المسجد الحضور فيه، و ذلكلأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنهيحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به، وإذا