و هو أن كثرة المال، توجب شدة القوة و كمالالقدرة، و تزايد المال يوجب تزايد القدرة،و تزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلكالقدرة، و تزايد تلك اللذات، يدعو الإنسانإلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سببالحصول هذه اللذات المتزايدة، و بهذاالطريق تصير المسألة مسألة الدور، لأنهإذا بالغ في السعي ازداد المال و ذلك يوجبازدياد القدرة، و هو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال،و لما صارت المسألة مسألة الدور، لم يظهرلها مقطع و لا آخر، فأثبت الشرع لها مقطعاو آخرا و هو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفةمن تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاةاللّه تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريقالظلماني الذي لا آخر له و يتوجه إلى عالمعبودية اللّه و طلب رضوانه.
أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان و القسوةفي القلب، و سببه ما ذكرنا من أن كثرةالمال سبب لحصول القدرة، و القدرة محبوبةلذاتها، و العاشق إذا وصل لمعشوقه استغرقفيه، فالإنسان يصير غرقا في طلب المال،فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعانبماله و قدرته على دفع ذلك المانع، و هذاهو المراد بالطغيان، و إليه الإشارة بقولهسبحانه و تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَلَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق:6، 7] فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان و يردالقلب إلى طلب رضوان الرحمن.
أن النفس الناطقة لها قوتان، نظرية وعملية، فالقوة النظرية كمالها في التعظيملأمر اللّه، و القوة العملية كمالها فيالشفقة على خلق اللّه، فأوجب اللّه الزكاةليحصل لجوهر الروح هذا الكمال و هو اتصافهبكونه محسنا إلى الخلق ساعيا في إيصالالخيرات إليهم دافعا للآفات عنهم، و لهذاالسر قال عليه الصلاة و السلام: «تخلقوابأخلاق اللّه».
أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعيافي إيصال الخيرات إليهم، و في دفع الآفاتعنهم أحبوه بالطبع و مالت نفوسهم إليه لامحالة، على ما قاله عليه الصلاة و السلام:«جبلت القلوب على حب من أحسن إليها و بغضمن أساء إليها» فالفقراء إذا علموا أنالرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفهإليهم من ذلك المال أكثر، أمدوه بالدعاء والهمة، و للقلوب آثار و للأرواح حرارةفصارت تلك الدعوات سببا لبقاء ذلك الإنسانفي الخير و الخصب، و إليه الإشارة بقولهتعالى: وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَفَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] وبقوله عليه الصلاة و السلام: «حصنواأموالكم بالزكاة».
أن الاستغناء عن الشيء أعظم منالاستغناء بالشيء، فإن الاستغناءبالشيء يوجب الاحتياج إليه، إلا أنهيتوسل به إلى الاستغناء عن غيره، فأماالاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام، ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق، والاستغناء بالشيء صفة الخلق، فاللّهسبحانه لما أعطى بعض عبيده أموالا كثيرةفقد رزقه نصيبا وافرا من باب الاستغناءبالشيء. فإذا أمره بالزكاة كان المقصودأن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء، إلىالمقام الذي هو أعلى منه، و أشرف منه و هوالاستغناء عن الشيء.
أن المال سمي مالا لكثرة ميل كل أحد إليه،فهو غاد ورائح، و هو سريع الزوال مشرف علىالتفرق، فما دام يبقى في يده كان كالمشرفعلى الهلاك و التفرق. فإذا أنفقه الإنسانفي وجوه البر و الخير و المصالح بقي بقاءلا يمكن زواله، فإنه يوجب المدح الدائم فيالدنيا و الثواب الدائم في الآخرة، وسمعت