اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزاتالظاهرة القاهرة و رأى القوم مصرين علىالجحود و العناد و الإنكار، أخذ يدعوعليهم، و من حق من يدعو على الغير أن يذكرأولا سبب إقدامه على تلك الجرائم، و كانجرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركواالدين، فلهذا السبب قال موسى عليه السلام:رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالًا و الزينةعبارة عن الصحة و الجمال و اللباس والدواب، و أثاث البيت و المال ما يزيد علىهذه الأشياء من الصامت و الناطق.
ثم قال: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ و فيهمسألتان:
و قرأ الباقون بفتح الياء.
و تقريره من و جهين:
الأول: أن اللام في قوله: لِيُضِلُّوا لامالتعليل، و المعنى: أن موسى قال يا ربالعزة إنك أعطيتهم هذه الزينة و الأمواللأجل أن يضلوا، فدل هذا على أنه تعالى قديريد إضلال المكلفين. الثاني: أنه قال: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فقال اللَّهتعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما و ذلكأيضا يدل على المقصود. قال القاضي: لا يجوزأن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه: الأول: أنه ثبت أنه تعالىمنزه عن فعل القبيح و إرادة الكفر قبيحة. والثاني: أنه لو أراد ذلك لكان الكفارمطيعين للَّه تعالى بسبب كفرهم، لأنه لامعنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافقالإرادة و لو كانوا كذلك لما استحقواالدعاء عليهم بطمس الأموال و شد القلوب، والثالث: أنا لو جوزنا أن يريد إضلالالعباد، لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهمالسلام للدعاء إلى الضلال، و لجاز أن يقويالكذابين الضالين المضلين بإظهارالمعجزات عليهم، و فيه هدم الدين و إبطالالثقة بالقرآنو الرابع: أنه لا يجوز أنيقول لموسى و هارون عليهما السلام:فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُيَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] و أنيقول:
وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَبِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِلَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130]ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم و أعطاهمالنعم لكي يضلوا، لأن ذلك كالمناقضة، فلابد من حمل أحدهما على موافقة الآخر.
الخامس: أنه لا يجوز أن يقال: إن موسى عليهالسلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجلأن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان.
و اعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه فيمواضع كثيرة من هذا الكتاب.
و إذا ثبت هذا فنقول: وجب تأويل هذه الكلمةو ذلك من وجوه: الأول: أن اللام في قولهلِيُضِلُّوا لام العاقبة كقوله تعالى:فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَلَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص: 8] ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال، و قدأعلمه اللَّه تعالى، لا جرم عبر عن هذاالمعنى بهذا اللفظ. الثاني: أن قوله:رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أيلئلا يضلوا عن سبيلك، فحذف لا لدلالةالمعقول عليه كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُلَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:
176] و المراد أن لا تضلوا، و كقوله تعالى:قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوايَوْمَ الْقِيامَةِ [الأعراف: 172] و المرادلئلا تقولوا، و مثل هذا الحذف كثير فيالكلام. الثالث: أن يكون موسى عليه السلامذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكارو التقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لاينفقون هذه الأموال إلا فيه و كأنه قال:
آتيتهم زينة و أموالا لأجل أن يضلوا عنسبيل اللَّه ثم حذف حرف الاستفهام كما فيقول الشاعر: