هذا هو التحقيق في هذا التركيب، فلهذاالمعنى قال الفقهاء: إن الشرط المؤخر فياللفظ مقدم في المعنى، و المقدم في اللفظمؤخر في المعنى.
و اعلم أن نوحا عليه السلام لما قرر هذهالمعاني قال: هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِتُرْجَعُونَ و هذا نهاية الوعيد أي هوإلهكم الذي خلقكم و رباكم و يملك التصرف فيذواتكم و في صفاتكم قبل الموت و عند الموتو بعد الموت مرجعكم إليه و هذا يفيد نهايةالتحذير.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِافْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
اعلم أن معنى افتراه اختلقه و افتعله وجاء به من عند نفسه، و الهاء ترجع إلىالوحي الذي بلغه إليهم، و قوله: فَعَلَيَّإِجْرامِي الإجرام اقتراح المحظورات واكتسابها، و هذا من باب حذف المضاف، لأنالمعنى:
فعلي عقاب إجرامي، و في الآية محذوف آخر وهو أن المعنى: إن كنت افتريته فعلي عقابجرمي، و إن كنت صادقا و كذبتموني فعليكمعقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقيةلدلالة الكلام عليه، كقوله: أَمَّنْ هُوَقانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ [الزمر: 9] و لميذكر البقية، و قوله: وَ أَنَا بَرِيءٌمِمَّا تُجْرِمُونَ أي أنا بريء من عقابجرمكم، و أكثر المفسرين على أن هذا من بقيةكلام نوح عليه السلام، و هذه الآية و قعتفي قصة محمد صلى اللنه عليه و سلم في أثناءحكاية نوح، و قولهم بعيد جدا، و أيضا قوله:قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّإِجْرامِي لا يدل على أنه كان شاكا، إلاأنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس منالقبول.
وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْيُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْآمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوايَفْعَلُونَ (36)
فيه مسائل:
فقال:
رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَالْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] و قوله:فَلا تَبْتَئِسْ أي لا تحزن، قال أبو زيد:
ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، و أنشدأبو عبيدة:
أي غير حزين و لا كاره.
و قالوا: إنه تعالى أخبر عن قومه أنهم لايؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم لكان إمامع بقاء هذا الخبر صدقا، و مع بقاء هذاالعلم علما أو مع انقلاب هذا الخبر كذبا ومع انقلاب هذا العلم جهلا و الأول ظاهرالبطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكونالإخبار عن عدم الإيمان صدقا، و مع كونالعلم بعدم الإيمان حاصلا حال وجودالإيمان جمع بين النقيضين، و الثاني أيضاباطل، لأن انقلاب خبر اللَّه كذبا و علماللَّه جهلا محال، و لما كان صدور الإيمانمنهم لا بد و أن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل و احد منهما محال كان صدورالإيمان منهم محالا مع أنهم كانوا مأمورينبه، و أيضا القوم كانوا مأمورين بالإيمانو من الإيمان تصديق اللَّه تعالى في كل ماأخبر عنه. و منه قوله:
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَإِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فيلزم أن يقال:إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لايؤمنون ألبتة.
و ذلك تكليف الجمع بين النقيضين، و تقريرهذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مرارا وأطوارا.