ثم قال: وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ وفيه مسألتان:
القول الأول: جاء بكم من البدو أي منالبادية،
و قال الواحدي: البدو بسيط من الأرض يظهرفيه الشخص من بعيد و أصله من بدا يبدوبدوا، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال:بدو و حضر و كان يعقوب و ولده بأرض كنعانأهل مواش و برية.
و القول الثاني: قال ابن عباس رضي اللَّهعنهما كان يعقوب قد تحول إلى بدا و سكنها،
و منها قدم على يوسف و له بها مسجد تحتجبلها قال ابن الأنباري: بدا اسم موضعمعروف يقال هو بين شعب و بدا و هما موضعانذكرهما جميعا كثير فقال:
فالبدو على هذا القول معناه قصد هذاالموضع الذي يقال له بدا يقال بدا القوميبدون بدوا إذا أتوا بدا كما يقال: غارالقوم غورا إذا أتوا الغور فكان معنىالآية و جاء بكم من قصد بدا، و على هذاالقول كان يعقوب و ولده حضريين لأن البدولم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا إلىههنا كلام قاله الواحدي في «البسيط».
لأن خروج العبد من السجن أضافه إلى نفسهبقوله: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ومجيئهم من البدو و أضافه إلى نفسه سبحانهبقوله: وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل اللَّهتعالى و حمل هذا على أن المراد أن ذلك إنماحصل بإقدار اللَّه تعالى و تيسيره عدول عنالظاهر.
ثم قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَالشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَإِخْوَتِي
قال صاحب «الكشاف»: نَزَغَ أفسد بيننا وأغوى و أصله من نزغ الراكض الدابة و حملهاعلى الجري: يقال: نزغه و نسغه إذا نخسه.
و اعلم أن الجبائي و الكعبي و القاضي:احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر قالوا:لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنهأضاف الإحسان إلى اللَّه و أضاف النزغ إلىالشيطان، و لو كان ذلك أيضا من الرحمن لوجبأن لا ينسب إلا إليه كما في النعم.
و الجواب: أن إضافته هذا الفعل إلىالشيطان مجاز، لأن عندكم الشيطان لا يتمكنمن الكلام الخفي و قد أخبر اللَّه عنهفقال: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْسُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْفَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] فثبت أنظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلىالشيطان مع أنه ليس كذلك. و أيضا فإن كانإقدام المرء على المعصية بسبب الشيطانفإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسببشيطان آخر لزم التسلسل و هو محال و إن لميكن بسبب شيطان آخر فليقل مثله في حقالإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان و ليس أيضا بسببنفسه لأن أحدا لا يميل طبعه إلى اختيارالجهل و الفسق الذي يوجب وقوعه في ذمالدنيا و عقاب الآخرة، و لما كان وقوعه فيالكفر و الفسق لا بد له من موقع، و قد بطلالقسمان لم يبق إلا أن يقال ذلك من اللَّهتعالى، ثم الذي يؤكد ذلك أن الآيةالمتقدمة على هذه الآية و هي قوله: إِذْأَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَبِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ صريح في أن الكل مناللَّه تعالى.