عالم ربانی یادنامه آیت الله سید مهدی روحانی

کانون نویسندگان فضلای قمی

نسخه متنی -صفحه : 25/ 13
نمايش فراداده

فرقة السَلَفيّة و تطوّراتها في التاريخ [1]

آيت الله حاج سيد مهدى روحانى قدّس سرّه

فرقة السلفية

لابدّ لنا قبل الشروع في المقصود من الإشارة إلى أمر هامّ و أنّ افتراق الفرق الإسلامية بعد اشتراكها في الأصول الهامّة من الدين الإسلامي قد كان على نوعين و على كيفية هذا الافتراق و مداه يكون تقسيم الفرق الإسلامية، و هذان الأمران هما:

الأوّل: تقسيمهم بالنظر إلى الأُمور العقائدية.

الثاني: تقسيمهم بالنظر إلى الفقه و الأحكام العملية و ربما يكون الافتراق لفرقتين من كلا الوجهين كما هو الحال بالنسبة للشيعة الإمامية مثلاً حيث تفترق عن عامة مذاهب السنّة في العقائد و الأحكام معاً.

كما أنّ الفرقة «السلفية» التى اشتهرت باسم «الوهّابية» كذلك أيضاً؛ فإنّها تفترق عن سائر أهل السنّة فى العقائد و الفقه جميعاً و إن كان اختلافهم مع الشيعة أكثر إلاّ أنّ العمدة في اختلاف السلفية الوهابية مع سائر أهل السنّة إنما هو في المسائل الاعتقادية.

تدّعى السلفية أنّه قد دخل في الدين بدع و اُمور خارجة عن الدين أو مناقضة له فاتّخذ المسلمون هذه البدع ديناً و بذلك فقد خرجوا عن طريقة السلف الصالح و هم الصحابة و التابعون و لم يبق من الفرق الإسلامية مَن يمشى على طريقة السلف اعتقادياً و فقهياً، إلاّ السلفية يعنون بها أنفسهم و لذلك اختاروا لأنفسهم هذا الاسم.

و إنّ للأحاديث و المأثورات في كتب أهل الحديث مقاماً عالياً في هذا المذهب، و يضاف إليها آراء الصحابة و أقول التابعين التي تذكر في كتب الحديث في رديف سنن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، فهذه المأثورات و الأحاديث هي الأصل الأصيل عندهم و يحملون القرآن الكريم في دلالته على محتوى هذه الأحاديث و لايزنون الأحاديث بميزان مخالفتها القرآن أو موافقتها له.

و كان سلفهم يقولون:

إن السنّة لاتنسخ بالقرآن، و قالوا: السنّة تنسخ القرآن و تقضى عليه، و القرآن لا ينسخ السنّة و لا يقضى عليها[2].

كما أنّ من قولهم:

إنّ القرآن أحوج إلى السنّة إلى من السنّة إلى القرآن [3] و جابهوا القول بعرض الأحاديث على الكتاب في تقييمها و قبولها أو ردّها بشدّة فائقة و قالوا:

إنّ القول بعرض الأحاديث على الكتاب قول وضعه الزنادقة.[4]

و على أيّ حال فإنّ مذهب السلفية ليس كما يظنّ بعض الكتّاب انه مذهب جديد بتمامه أبدعه ابن تيمية في القرن الثامن أوجاء به الشيخ محمد بن عبدالوهاب (المتوفى سنة 7012 هـ .ق) فى القرن الثاني عشر، ولا كما يظنّون هم أنفسهم من أنّهم على طريقة السلف مأة بالمأة عقائدياً و فقهياً، بل إنّ لهذا المذهب جذوراً عميقة بعضها يرجع إلى القرن الأوّل و بعضها إلى القرن الثاني، ثمّ الثالث، كما أنّ من المسلّم به أنّ ابن تيمية قد أضاف فيه أُموراً لم تكن في القرون الأُولى.

و مع ملاحظة الربط الوثيق الذي لهذا المذهب بالمأثورات المنسوبة إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و الصحابة و التابعين (رضى الله عنهم)، فقد مرّ في نشوئه و تكامله و تطوّره و مهجوريته ثمّ بعثه و إحيائه من جديد بمراحل، و جرت عليه أحوال متعاقبة... لامناص من التعرّض لها في هذا البحث... فنحن نذكر هذه التطوّرات بعون الله و تسديده و نرى أنّها يمكن تقسيمها إلى ستّ مراحل على النحو التالي:

المرحلة الأولى

تأريخ الحديث

قد أشرنا إلى أنّ للعقائد السلفية ارتباطاً وثيقاً بالأحاديث الموجودة في كتب الحديث، و هذا يحتم علينا الإشارة إلى تأريخ الحديث و إن كان فيه بعض الطول... فنقول:

إنّ أوّل ما يلفت النظر في تأريخ الحديث هو محو و إفناء أحاديث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، فنجد أنّه مع لحاق الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم بالرفيق الأعلى و اختلاف الصحابة في الخلافة ـ نرى ـ قد استقرّت و استمرّت سيرة الخلفاء الثلاثة الأُولى على هذا الأمر... و من بعد هم معاوية و بعدهم عبدالملك ابن مروان كما سيجي ء إن شاء الله، و بالجملة...فإنّ تأريخ الحديث بعد الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم قد بدأ بأمرين:

أوّلاً، إنّ الخلفاء المذكورين كانوا يمنعون عن التحديث و نقل الأحاديث.

ثانياً، إنّهم كانوا يمنعون أيضاً من كتابة الأحاديث و تدوينها، إلى حدّ أنّ عدم كتابة الأحاديث صار من مظاهر القداسة و الالتزام الديني لدى الصحابة و التابعين إلاّ عدّة قليلة أبرزهم عليّ عليه السّلام و شيعته بالإضافة إلى أفراد قليلين آخرين.

و أعظم من ذلك فإنّنا نجد في صحاح أهل السنّة بطرق عديدة أنّ الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:

«لاتكتبوا عنّي غير القرآن، و مَن كتب فليمحه»[5].

و قد تعاضد المنع عن التحديث في عصر متصل بعصر صدور الأحاديث و هو عصر الرسالة مع المنع عن الكتابه و التدوين فمحيت كمية هائلة من سنن الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم من صفحة الوجود. و أما المصلحة التي راعاها الخلفاء المذكورون حتّى أذّى اجتهادهم إلى هذا الرأى، فلم تتضح لنا بصورة كاملة، فقد يقال: إنّ النصّ الآتي كافٍ في إيضاح ذلك.

فقد ذكر ابن أبى مليكة: أنّ الصديق (هو الخليفة أبوبكر) جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال: إنكم تحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أحاديث تختلفون فيها، و الناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا و بينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله و حرّموا حرامه.

وحدّث القاسم بن محمد: قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و كانت خمسمأة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً، قالت: فغمّني، فقلت: أتتقلّب لشكوى أولشي ء بلغك؟ فلمّا أصبح قال: أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فدعا بنار فأحرقها، فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت و هي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد أئمنته و وثقت و لم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك[6].

نعم...قد يقال: إن سرّ ذلك هو ما ذكر... ولكنّنا مع ذلك نطمئنّ إلى أنّ ذلك هو كلّ السبب... ولدينا من الشواهد ما يبرر لنا هذه... إلاّ أنّ بحثها لايهمّنا كثيراً الآن.... .

هذا....و يبد و للناظر أنّ أمر أبي بكر الصديق بعدم نقل سنن النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم و إحراقه خمسمأة حديث فعلاً قد صار الجري العملي عليه و هو موافق تماماً للقول الذي صدر من زميله و معاضده عمر بن الخطّاب في مرض موت النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم لمّا طلب صلّى الله عليه و آله و سلّم كتاباً يكتبه للناس لئلاّ يضلّوا بعده فمنع عمر بن الخطّاب عن ذلك و قال: حسبنا كتاب الله، فهذا القول و قول أبي بكر بعد وفاة الرسول: فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً؛ ينبئنا بخطّة مرسومة فيما بينهما.

و لمّا أفضت الخلافة إلى الخليفة عمر بن الخطّاب اهتمّ بهذا الأمر جدّاً و كان كلّما يرسل حاكماً أو والياً إلى قطر أو بلد يوصيه في جملة ما يوصيه بأن: «جرّدوا القرآن و أقلّوا الرواية عن محمد، وأنا شريككم» [7]، و كان عمر قد شيّع قرظة بن كعب الأنصاري و مَن معه إلى «صراة» على ثلاثة أميال من المدينة و أظهر لهم أن مشايعته لهم إنّما كانت لأجل الوصية بهذا الأمر و قال لهم ذاك القول. [8]

و قال لأبي ذرّ و عبدالله بن مسعود و أبى الدرداء: ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمد [9]، قال الراوي عن ابن حنبل: أظنّ أنّه قال: حبسهم، و قد قال الخطيب و الذهبي: إنّ عمر حبس ابن مسعود و أبا الدرداء، و أبا مسعودالأنصاري، و قال: إنّكم تكثرون الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم .

و بالإسناد عن عروة الزبير، قال: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنن فاستشار فيها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فأشار عليه عامّتهم بذلك، فلبث عمر شهراً يستخير الله في ذلك شاكّاً فيه، ثمّ أصبح يوماً و قد عزم الله له فقال: إنّي قد كنت ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثمّ تذكّرت فإذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبّوا عليها و تركوا كتاب الله، و إنّى والله لا ألبس كتاب الله بشي ء أبداً، فترك كتاب السنن.

و ذكر القاسم بن محمد: أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّ في أيدي الناس كتباً فاستنكرها و كرهها، و قال: أيّها الناس، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها و أقومها، فلا يبقينّ أحد عنده كتاب إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي، قال: فظنّوا أنّه يريد ينظر فيها و يقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار، ثمّ قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب.[10]

و في نقل ابن سعد أنّه أقسم على الناس أن يأتوه بكتبهم.[11]

و ذكر يحيى بن جعدة أنّه أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها ثمّ كتب في الأمصار: من كان عنده شي ء منها فليمحه.[12]

و هذا اللفظ لعمر بن الخطّاب قد زيد عليه و جعل من الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قد ذكرناه.

أمّا نحن فلا نشك في أنّ هذا الحديث والنهي عن كتابة الحديث مكذوب على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و ذلك لما علم من المنقولات السابقة:

أولاً، إنّ الصحابة قد كتبوا الأحاديث والسنن حتى أنّ أبابكر أحرق منها خمسمأة حديث، و أخرج عمر من أيديهم على مدى شهر كامل كمية كبيرة من الأحاديث فأحرقها أيضاً، كما أنّ عامة الصحابة هم الذين أشاروا على عمر بكتابة الأحاديث حين استشارهم فلم نرفيهم مَن نهى عن الكتابة مستنداً إلى نهي رسول الله عنها، بل كان المحو والإفناء رأياً رآه عمر و قبله أبوبكر و لذا استند لرأيه فى مقام توجيهه لما أقدم عليه، حيث قال بأنّها مثناة كمثناة أهل الكتاب أو أمنية كأمنية أهل الكتاب.

و ثانياً، إنّ الدين الذي تتعرّض أوّل آيات نزلت من كتابه لكرامة الله لعبيده بالقراء ة و القلم، لايقدم نبيّ هذا الدين الذي يدّعي بقائه إلى الأبد على إبطال نصف دينه، وذلك بالنهي عن الضبط و التدوين لأوامره الشفوية في حين أنّه يقول: إنّ هذه الأوامر أيضاً هي مثل كتابه المنزل يجب أن يعمل بها إلى يوم القيامة.

و بعد وفاة عمر بن الخطّاب نرى أنّ الخليفة عثمان و قد كان عالماً برأي الخليفتين قبله و كان كاتباً لهما يقوم بنفس المهمّة التي أخذ عمر على عاتقه القيام بها و لكن بصورة محددة و يسلب عن نفسه المسؤولية في ذلك، فيقول: لا يجوز لأحد أن يحدّث بحديث لم يسمع في عهد أبي بكر و عمر.[13]

كما أنّ معاوية يتبع طريقة الخلفاء الثلاثة، و يقول: أيّها الناس، اِتّقوا الروايات عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلاّ ما كان يذكر في زمن عمر.[14]

و نرى أيضاً أنّ عبدالملك بن مروان ينهى أهل المدينة عن الأحاديث و يذكّر هم بأنّ عدم قبول الأحاديث إنّما هو طريقة السلف، قال الراوي: سمعت عبدالملك بن مروان يقول: يا أهل المدينة، إنّ أحقّ الناس أن يلزم الأمر الأوّل لأنتم، و قد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق لا نعرفها و لا نعرف منها إلاّ قراء ة القرآن، فالزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم و عليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه الله فإنّه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت و نعم المشير كان للإسلام فأحكما ما أحكما و أسقطوا ما شذّ عنهما.[15]

و كان عبيدالله بن زياد الوالي ليزيد بن معاوية على الكوفة ينهى زيد بن أرقم الصحابيّ عن التحديث بأحاديث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم [16].

أمّا المعارضة للمنع عن التحديث و تدوين الأحاديث فإنّ النصوص التأريخية و غيرها من المأثورات تذكر المعارضة لشخصين، أحدهما: علىّ عليه السّلام فإنّه كان يسعى لتعليم الناس و إيقافهم على الحلال والحرام، كما أنّه كان يهتمّ باستئصال عقائد المشركين مثل الجبر و التشبيه من أذهان الناس، و ربما كان يقول: من يشتري منكم علماً بدرهم، يعنى يشتري قراطيس حتى يملى عليه علماً، و قد أثّرت خطبه العقائدية تلك في تأسيس فرقة المعتزلة الذين يقوم مذهبهم على نفي الجبر و التشبيه، و قد اعترف المعتزلة بأنّهم تعلّموا هذين الأصلين من خطبه عليه السّلام و من أبنائه و ولده، و لذلك فهم يسموّن أنفسهم بـ : «أهل العدل و التوحيد» كما أنّ خطبه قد أثّرت في طريقة دعوة المعتزلة حيث نجدهم ينهجون أسلوب الكلام و إلقاء الخطب فكانوا متكلّمي الإسلام والمسلمين على ما يصوّره الجاحظ لنا في أوّل كتابه: البيان والتبيين.

أضف إلى ذلك أنّ عليّاًعليه السّلام قد كتب كتباً كثيرة بإملاء رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قد أودعها عند ولده و أروها لأصحابهم في موارد لا تحصى، و إذا كان عليّ عليه السّلام هو ذلك الرجل الملتزم بأوامر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فإنّنا ندرك بشكل قاطع أنّه لم يكن عنده شي ء مما يدّعى من النهي عن كتابة الحديث.

ثانيهما، أبوذرّ الغفاري، فإنّه بعد ما لم يؤذن له بالخروج عن المدينة كما أشير إليه سابقاً لكثرة حديثه عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان ممنوعاً عن التحديث أيضاً، إلاّ أنّه لم يكن يلقى بالاً إلى ذلك المنع، قال الراوي: جلست إلى أبى ذرّ الغفاري، إذ وقف عليه رجل فقال: ألم ينهك أميرالمؤمنين عن الفتيا؟ فقال أبوذرّ:

والله لو وضعتم الصمصامة على هذه - و أشار إلى حلقه - أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لأنفذتها قبل أن يكون ذلك [17] و هذا و إن كان بلفظ الفتيا إلاّ أنّه يعلم من جواب أبي ذر أنّ المنع أنّما كان عن التحديث بكلمات سمعها من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم .

نتائج المنع عن التحديث والكتابة

و قد فتح عن هذه التشديدات من قبل الخلفاء ما عدا عليّ عليه السّلام الخوف و الرعب في نفوس كبار الصحابة فقلّت عنهم الروايات إلى حدٍّ كبير.

وقال ابن سعد في كلام طويل له يذكر فيه أنّه قلّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ما عدا عمربن الخطّاب و عليّ بن أبي طالب لأنّهما وليا فسألا ثمّ سمّى جماعة ممّن عرفوا بالفقه و الحديث من صغار الصحابة ـ إلى أن قال-: و منهم من أفتى برأيه و منهم من لم يحدّث عن رسول الله شيئاً و لعلّه أكثر صحبة و مجالسة و سماعاً من الذي حدّث عنه و لكنّا حملنا الأمر في ذلك على التوقّى منهم في الحديث أو على أنّه لم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ... [18]، و انظر إلى قوله: و لكنّا حملنا الأمر... إلخ فإنّ هذا حمل و تكلّف ظاهر بعد ما علم من سيرة الخلفاء و سياستهم القاضية بالمنع عن التحديث و الكتابة، و إنّ كل واحد من هذين الأمرين أي: المنع عن التحديث، و المنع عن الكتابة والتدوين علّة كاملة لمحو الأحاديث و إفنائها خصوصاً مع ملاحظة اِتّصال عهد صدور سنن الرسول بعصرهم و لكن انضمام الأمرين بعضهما إلى البعض كان ضربة قاسية و قاضية على سنن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و أحاديثه ففقد من بين أيدى المسلمين أحكام الهيّة و سنن نبوية كثيرة جدّاً.

فقد أخرج البخاري عن السائب بن يزيد، قال: صحبت طلحة بن عبيدالله و سعد بن أبى وقّاص و المقداد بن الأسود و عبدالرحمن بن عوف (رضي الله عنهم) فما سمعت أحداً منهم يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلاّ أنّي سمعت طلحة يحدّث عن يوم أحد [19].

و قال ابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث: و كان كثير من جلّة الصحابه و أهل الخاصة برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كأبي بكر و الزبير و أبي عبيدة و العبّاس بن عبدالمطّلب يقلّلون الرواية عنه بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد و هو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة كما يروون[20].

قال السيد محمد رشيد رضا: ... و نحن نجزم بأنّا نسينا و أضعنا من حديث نبينا صلّى الله عليه و آله و سلّم حظّاً عظيماً لعدم كتابة علماء الصحابة كلّ ما سمعوه[21].

و قد كان في المنع عن التحديث و التدوين آثاره البارزة و هى قلّة أحاديث الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم و ندرتها، و قد كان من الآثار السيئة لذلك:

1. إنّه قد فتح على الناس القول بالرأي و ملاحظة المصالح و المفاسد بأنفسهم و آرائهم و كان المتولّي لذلك هو الوالي السلطان.

2.إنّه لقلّة الأحاديث قد نشأ عنها شيوع سنن أُخرى غير سنّة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم فيذكرون سنّة أبي بكر و سنّة عمر و سنّة علىّ، و هذا ليس بمعنى أنّهم نقلوا رأي الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم و إلاّ لكان ذلك سنّة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم بل بمعنى أنّ لهم حقّاً في تسنين السنن و تشريع الأحكام! و على الأُمة و الناس أن يأخذوا بآرائهم.[22]

3. إنّ الآثار السيّئة لقلّة الأحاديث لم تظهر في عصر الخلفاء ا لثلاثة بل ظهرت بعد قتل علي عليه السّلام بالذات و في عصر معاوية فإنّه أدام النهي السابق في المنع عن التحديث و لكنّه أجاز لأبي هريرة و هو معاضده الوحيد من بين الصحابة فكثرت الروايات عنه فكان هو راوية الإسلام عند عامة المسلمين كما أنّه أجاز لكعب الأحبار و كان من مسلمة اليهود، و لعمرو بن العاص و لابنه عبدالله بن عمرو و لقلّة آخرين ينتسبون إليه جعلهم هم وحدهم العلماء و الحكماء و استغلّهم في سياسة التي كانت تتّجه نحو تقوية الإسرائيليات و طرقها كبديل عن أحاديث و سنّة النبى صلّى الله عليه و آله و سلّم و كانوا قد اختلفوا للتحديث عن اليهود حديثاً يوحى بأنّ النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم مبلّغ للقرآن فقط و أمّا الأحاديث فتؤخذ من اليهود و هذا الحديث هو: عن النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم إنّه قال: بلّغوا عنّي ولو آية وحدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج... و قد كان من سياسة دفع أمر الخلافة عن علىّ وآله ، وقد كان عليّ بعد ما فرغ عن وقعة الجمل أقام منا شدة كبيرة للناس في رحبة الكوفة سنة 36 فاستشهد كلّ مَن حضر من الصحابة في قضية «الغدير»، و قول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فيه في تلك المناسبة فشاع ذلك في الناس، و هذا يعارض سياسة معاوية الذي يريد الخلافة لولده يزيد و لبني أميّة من بعده، فمن أجل مواجهة هذا الأمر نجده يعمل على بثّ فضائل كثيرة لعثمان كما سنّ لعن عليّ و ولده ثم زاد في فضائل الشيخين و أمر بصرف ما يذكر في فضل أبي تراب «يعنى علياً» إلى الشيخين و جدّ في هذا الأمر حتىّ أدخل خلافة الخلفاء الثلاثة في عقائد عامّة الناس تلو عقيدتي التوحيد و الرسالة و معاوية هو الذى أحدث القصص [23]، و شجّع القصّاصين و منهم ظهر أهل الحديث كما أنّه اهتم بعقيدة الجبر و سمّاها: «عقيدة القدر» فاستغلّها لإثبات صحّة خلافته و خلافة ابنه يزيد، و استعان بكعب الأحبار و أبي هريرة و غير هما فنشر على يد هؤلاء عقيدة تشبيه الله تعالى بمخلوقاته و كان من نتيجة ذلك أن زادت الأحاديث المروية في قداسة الخلفاء الثلاثة و عقيدة الجبر و عقيدة التشبيه زيادة هائلة و بذلك فقد أسّس معاوية فرقة: «العثمانية» على هذه القواعد الثلاث، و قد كانت فرقة الدولة القائمة.

والعثمانية تعارض الشيعة و الخوارج و هما قد وجدتا قبل العثمانية، و قد وجدت فرق أُخرى معارضة للعثمانية منها: «المرجئة» التي وجدت سنة 08 ، و هي كما لا تقدّس عليّاً لاتقدّس عثمان أيضاً، و منها: «الجهمية» التي أنكرت أحاديث التشبيه و قد صار لقب الجهمية و النسبة إليها من أردأ النسب والألقاب و يؤدى مفهوم الإنكار لسنّة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم ثم ظهرت: «الغيلانية» و «المعتزلة» و هم يعارضون الجبر و يقولون بالتنزيه على خلاف العثمانية القائلة بالتشبيه.