قال ابوالعباس:فلما رجع الجواب الى معاويه ارسل الى حوثره الاسدى اباه، و قال له:اذهب فاكفنى امر ابنك، فصار اليه ابوه، فدعاه الى الرجوع فابى، فما راه فصمم، فقال:يا بنى، اجيئك بابنك، فلعلك تراه فتحن اليه! فقال:يا ابت، انا و الله الى طعنه نافذه اتقلب فيها على كعوب الرمح، اشوق منى الى ابنى! فرجع الى معاويه فاخبره فقال:يا اباحوثره، لقد عتا بحق هذا جدا.
ثم وجه اليه جيشا اكثره اهل الكوفه، فلما نظر اليهم حوثره، قال لهم:يا اعداء الله، انتم بالامس تقاتلون معاويه لتهدوا سلطانه، و انتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه! فخرج اليه ابوه، فدعاه الى البراز، فقال:يا ابت، لك فى غيرى من دوحه، و لى فى غيرك مذهب، ثم حمل على القوم و هو يقول:اكرر على هذى الجموع حوثره فعن قليل ما تنال المغفره فحمل عليه رجل من طيى ء فقتله، فلما راى اثر السجود قد لوح جبهته ندم على قتله.
(الرهين المرادى) و قال الرهين المرادى احد فقهاء الخوارج و نساكها:يا نفس قد طال فى الدنيا مراوغتى لاتامنن لصرف الدهر تنغيصا انى لبائع ما يفنى لباقيه ان لم يعقنى رجاء العيش تربيصا و اسال الله بيع النفس محتسبا حتى الاقى فى الفردوس حرقوصا و ابن المنيح و مرداسا و اخوته اذ فارقوا هذه الدنيا مخاميصا قال ابوالعباس:و اكثرهم لم يكن يبالى بالقتل، و شيمتهم استعذاب الموت، و الاستهانه بالمنيه.
و منهم الهازى ء بالامراء، و قد قدم الى السيف، ولى زياد شيبان بن عبدالله الاشعرى- صاحب مقبره بنى شيبان- باب عثمان و ما يليه بالبصره، فجد فى طلب الخوارج، و اخافهم، فلم يزل على ذلك حتى اتاه ليله و هو متكى ء بباب داره رجلان من الخوارج، فضرباه باسيافهما فقتلاه، فاتى زياد بعد ذلك برجل من الخوارج، فقال:اذهبوا به فاقتلوه متكئا كما قتل شيبان متكئا، فصاح به الخارجى:يا عدلاه يهزا به.
(عباد بن اخضر المازنى) قال:و اما عباد بن اخضر قاتل ابى بلال مرداس بن اديه- و قد ذكرنا قصته- فانه لم يزل بعد قتله مرداسا محمودا فى المصر موصوفا بما كان منه، حتى ائتمر جماعه من الخوارج ان يقتلوه، فذمر بعضهم بعضا على ذلك، فجلسوا له يوم جمعه بعد ان اقبل على بغلته، و ابنه رديفه، فقام اليه رجل منهم فقال له:اسالك (عن) مساله؟ قال:قل، قال:رايت رجلا قتل رجلا بغير حق، و للقاتل جاه و قدر و ناحيه من السلطان، و لم يعد عليه السلطان لجوره، الولى ذلك المقتول ان يقتل القاتل ان قدر عليه؟ فقال:بل يرفعه الى السلطان.
قال:ان السلطان لايعدى عليه لمكانه منه، و لعظم جاهه عنده، قال:اخاف عليه ان فتك به (فتك به السلطان).
قال:دع ما تخافه من السلطان، ايلحقه تبعه فيما بينه و بين الله؟ قال:لا، فحكم هو و اصحابه ثم خبطوه باسيافهم، و رمى عباد بابنه فنجا، و تنادى الناس:قتل عباد، فاجتمعوا فاخذوا افواه الطرق- و كان مقتل (عباد فى سكه) بنى مازن عند مسجد بنى كليب بن يربوع، فجاء معبد بن اخضر، اخو عباد- و هو معبد ابن علقمه، و اخضر زوج امهما- فى جماعه من بنى مازن، و صاحوا بالناس:دعونا و ثارنا، فاحجم الناس، فتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعا، لم يفلت منهم احد الا عبيده بن هلال، فان ه خرق خصا و نفذ فيه، ففى ذلك يقول الفرزدق:لقد ادرك الاوتار غير ذميمه اذا ذم طلاب الترات الاخاضر هم جردوا الاسياف يوم ابن اخضر فنالوا التى ما فوقها نال ثائر اقادوا به اسدا لها فى اقتحامها - اذا برزت نحو الحروب- بصائر ثم هجا كليب بن يربوع، رهط جرير بن الخطفى، لانه قتل بحضره مسجدهم و لم ينصروه، فقال فى كلمته هذه:كفعل كليب اذ اخلت بجارها و نصر اللئيم معتم و هو حاضر و ما لكليب حين تذكر اول و ما لكليب حين تذكر آخر قال:و كان مقتل عباد بن اخضر و عبيدالله بن زياد بالكوفه، و خليفته على البصره عبيدالله بن ابى بكره، فكتب اليه يامره الا يدع احدا يعرف بهذا الراى الا حبسه، فجد فى طلب من تغيب عنه، و جعل يتبعهم و ياخذهم، فاذا شفع اليه احد منهم كفله، الى ان يقدم به على ابن زياد، حتى اتوه بعروه بن اديه فاطلقه، و قال:انا كفيلك، فلما قدم ابن زياد اخذ من فى الحبس، فقتلهم جميعا، و طلب الكفلاء بمن كفلوا به، فكل من جاء بصاحبه اطلقه و قتل الخارجى، و من لم يات بمن كفل به منهم قتله.
ثم قال لابن ابى بكره:هات عروه بن اديه، قال:لااقدر عليه، قال:اذا و الله اقتلك، فانك كفيله.
فلم يزل يطلبه حتى دل عليه فى سرب العلاء بن سويه المنقرى، فكتب بذلك الى عبيدالله بن زياد، فقرا عليه كتابه فقال:انا قد اصبناه فى شرب العلاء، فتهانف به عبيدالله و قال:صحفت و لومت، انما هو (فى سرب العلاء)، و لوددت انه كان ممن شرب النبيذ.
فلما اقيم عروه بين يديه، قال:لم جهزت اخاك على! يعنى ابابلال، فقال:و الله لقد كنت به ضنينا، و كان لى عزا، و لقد اردت له ما اريد لنفسى، فعزم عزما فمضى عليه، و ما احب لنفسى الا المقام و ترك الخروج.
فقال له:افانت على رايه؟ قال:كلنا نعبد ربا واحدا، قال:اما و الله لامثلن بك، قال:اختر لنفسك من القصاص ما شئت، فامر به فقطعوا يديه و رجليه، ثم قال له:كيف ترى؟ قال:افسدت على دنياى، و افسدت عليك آخرتك، فامر به فصلب على باب داره.
(ابوالوازع الراسبى) قال ابوالعباس:و كان ابوالوازع الراسبى من مجتهدى الخوارج و نساكها، و كان يذم نفسه و يلومها على القعود، و كان شاعرا، و كان يفعل ذلك باصحابه، فاتى نافع بن الازرق و هو فى جماعه من اصحابه، يصف لهم جور السلطان و فساد العامه، و كان نافع ذا لسان عضب و احتجاج و صبر على المنازعه، فاتاه ابوالوازع، فقال له:يا نافع، انك اعطيت لسانا صارما، و قلبا كليلا، فلوددت ان صرامه لسانك كانت لقلب ك، و كلال قلبك كان للسانك، اتحض على الحق و تقعد عنه! و تقبح الباطل و تقيم عليه! فقال نافع:يا اباالوازع، انما ننتظر الفرص، الى ان تجمع من اصحابك من تنكى ء به عدوك، فقال ابوالوازع:لسانك لاتنكى به القوم انما تنال بكفيك النجاه من الكرب فجاهد اناسا حاربوا الله و اصطبر عسى الله ان يجزى غوى بنى حرب يعنى معاويه.
ثم قال:و الله لا الومك و نفسى الوم، و لاغدون غدوه لاانثنى بعدها ابدا.
ثم مضى فاشترى سيفا، و اتى صيقلا كان يذم الخوارج، و يدل على عوارتهم، فشاوره فى السيف، فحمده، ثم (قال):اشحذه، فشحذه حتى اذا رضيه، خبط به الصيقل فقتله، و حمل على الناس فهربوا منه، حتى اتى مقبره بنى يشكر، فدفع عليه رجل حائط ستره فشدخه، و امر ابن زياد بصلبه.
(عمران بن الحارث الراسبى) قال ابوالعباس:و من نساكهم الذين قتلوا فى الحرب عمران بن الحارث الراسبى، قتل يوم دولاب، التقى هو و الحجاج بن باب الحميرى- و كان الامير يومئذ على اهل البصره، و صاحب رايتهم- فاختلفا ضربتين فخرا ميتين، فقالت ام عمران ترثيه:الله ايد عمرانا و طهره و كان يدعو الله فى السحر يدعوه سرا و اعلانا ليرزقه شهاده بيدى ملحاده غدر ولى صحابته عن حر ملحمه و شد عمران كالضرغامه الذكر قال:و ممن قتل من روسائهم يوم دولاب نافع بن الازرق- و كان خليفتهم- خاطبوه بامره المومنين، فقال رجل منهم يرثيه:شمت ابن بدر و الحوادث جمه و الجائرون بنافع بن الازرق و الموت حتم لا محاله واقع من لايصبحه نهارا يطرق فئن اميرالمومنين اصابه ريب المنون فمن يصبه يغلق و قال قطرى بن الفجاءه يذكر يوم دولاب:لعمرك انى فى الحياه لزاهد و فى العيش ما لم الق ام حكيم من الخفرات البيض لم ير مثلها شفاء لذى بث و لا لسقيم لعمرك انى يوم الطم وجهها على نائبات الدهر جد لئيم فلو شهدتنا يوم دولاب شاهدت طعان فتى فى الحرب غير ذميم غداه طفت علماء بكر بن وائل و عجنا صدور الخيل نحو تميم و كان بعبد القيس اول جدنا و احلافها من يحصب و سليم و ظلت شيوخ الازد فى حومه الوغى تعوم فمن مستنزل و هزيم فلم ار يوما كان اكثر مقعصا يمج دما من فائظ و كليم و ضاربه خدا كريما على فتى اغر نجيب الامهات كريم اصيب بدولاب و لم تك موطنا له ارض دولاب و ارض حميم فلو شهدتنا يوم ذاك و خيلنا تبيح الكفار كل حريم رات فتيه باعوا الاله نفوسهم بجنات عدن عنده و نعيم (عبدالله بن يحيى طالب الحق) و من روساء الخوارج و كبارهم عبدالله بن يحيى الكندى الملقب طالب الحق، و صاحبه المختار بن عوف الازدى صاحب وقعه قديد، و نحن نذكر ما ذكره ابوالفرج الاصفهانى من قصتهما فى كتاب "الاغانى" مختصرا محذوفا منه ما لا حاجه بنا فى هذا الموضع اليه.
قال ابوالفرج:كان عبدالله بن يحيى من حضرموت، و كان مجتهدا عابدا، و كان يقول قبل ان يخرج:لقينى رجل فاطال النظر الى و قال:ممن انت؟ قلت:من كنده، فقال:من ايهم؟ فقلت:من بنى شيطان، فقال:و الله لتملكن و تبلغن وادى القرى، و ذلك بعد ان تذهب احدى عينيك، و قد ذهبت و انا اتخوف ما قال، و استخير الله.
فراى باليمن جورا ظاهرا، و عسفا شديدا، و سيره فى الناس قبيحه، فقال لاصحابه:انه لايحل لنا المقام على ما نرى، و لا الصبر عليه.
و كتب الى جماعه من الاباضيه بالبصره و غيرها، يشاورهم فى الخروج، فكتبوا اليه:ان استطعت الا تقيم يوما واحدا فافعل، فان المبادره بالعمل الصالح افضل، و لست تدرى متى ياتى اجلك، و لله بقيه خير من عباده، يبعثهم اذا شاء بنصر دينه، و يختص بالشهاده منهم من يشاء.
و شخص اليه ابوحمزه المختار بن عوف الازدى و بلج بن عقبه المسعودى فى رجال من الاباضيه، فقدموا عليه حضرموت فحر ضوه على الخروج، و اتوه بكتب اصحابه يوصونه و يوصون اصحابه:اذا خرجتم فلا تغلوا، و لاتغدروا، و اقتدوا بسلفكم الصالحين، و سيروا بسيرتهم، فقد علمتم ان الذى اخرجهم على السلطان العيب لاعمالهم.
فدعا عبدالله اصحابه فبايعوه، و قصدوا دار الاماره، و على حضرموت يومئذ ابراهيم بن جبله بن مخرمه الكندى فاخذه، فحبسه يوما ثم اطلقه، فاتى صنعاء، و اقام عبدالله بحضرموت، و كثر جمعه، و سموه (طالب الحق).
و كتب الى من كان من اصحابه بصنعاء:انى قادم عليكم، ثم استخلف على حضرموت عبدالله بن سعيد الحضرمى، و توجه الى صنعاء و ذلك فى سنه تسع و عشرين و مائه- فى الفين، و العامل على صنعاء يومئذ القاسم بن عمرو اخو يوسف بن عمرو الثقفى، فجرت بينه و بين عبدالله بن يحيى حروب و مناوشات، كانت الدوله فيها و النصره لعبدالله بن يحيى، فدخل الى صنعاء، و جمع ما فيها من الخزائن و الاموال فاحرزها.
فلما استولى على بلاد اليمن خطب، فحمد الله و اثنى عليه، و صلى على رسوله، و ذكر و حذر، ثم قال:انا ندعوكم ايها الناس الى كتاب الله و سنه نبيه، و اجابه من دعا اليهما.
الاسلام ديننا، و محمد نبينا، و الكعبه قبلتنا، و القرآن امامنا.
رضينا بالحلال حلالا لانبتغى به بدلا، و لانشترى به ثمنا، و حرمنا الحرام، و نبذناه وراء ظهورنا، و لا حول و لا قوه الا بالله، و الى الله المشتكى، و عليه المعول، من زنى فهو كافر، و من سرق فهو كافر، و من شرب الخمر فهو كافر، و من شك فى انه كافر فهو كافر.
ندعوكم الى فرائض بينات، و آيات محكمات، و آثار نقتدى بها، و نشهد ان الله صادق فيما وعد، و عدل فيما حكم، و ندعو الى توحيد الرب و اليقين بالوعد و الوعيد، و اداء الفرائض، و الامر بالمعروف و النهى عن المنكر، و الولايه لاهل ولايه الله، و العداوه و لاعداء الله.
ايها الناس، ان من رحمه الله ان جعل فى كل فتره بقايا من اهل العلم، يدعون من ضل الى الهدى، و يصبرون على الالم فى جنب الله، و يقتلون على الحق فى سالف الايام، شهداء فما نسيهم ربهم، و ما كان ربك نسيا.