شرح نهج البلاغه

ابن ابی الحدید معتزلی

نسخه متنی -صفحه : 614/ 527
نمايش فراداده

خطبه 210-در وصف سالكان

الشرح:

يصف العارف، يقول: قد احيا قلبه بمعرفه الحق سبحانه، و امات نفسه بالمجاهده و رياضه القوه البدنيه بالجوع و العطش، و السهر، و الصبر على مشاق السفر، و السياحه.

حتى دق جليله، اى حتى نحل بدنه الكثيف.

و لطف غليظه، تلطفت اخلاقه و صفت نفسه، فان كدر النفس فى الاكثر انما يكون من كدر الجسد، و البطنه- كما قيل- تذهب الفطنه.

(فصل فى مجاهده النفوس و ما ورد فى ذلك من الاثار) و تقول ارباب هذه الطريقه: من لم يكن فى بدايته صاحب مجاهده لم يجد من هذه الطريقه شمه.

و قال عثمان المغربى الصوفى: من ظن انه يفتح عليه شى ء من هذه الطريقه، او يكشف له عن سر من اسرارها من غير لزوم المجاهده، فهو غالط.

و قال ابوعلى الدقاق: من لم يكن فى بدايته قومه، لم يكن فى نهايته جلسه.

و من كلامهم: الحركه بركه.

حركات الظواهر، توجب بركات السرائر.

و من كلامهم: من زين ظاهره بالمجاهده حسن الله سرائره بالمشاهده.

و قال الحسن الفرازينى: هذا الامر على ثلاثه اشياء: الا تاكل الا عند الفاقه، و لاتنام الا عند الغلبه، و لا تتكلم الا عند الضروره.

و قال ابراهيم بن ادهم: لن ينال الرجل درجه الصالحين حتى يغلق عن نفسه باب النعمه، و يفتح عليها باب ال شده.

و من كلامهم: من كرمت عليه نفسه، هان عليه دينه.

و قال ابوعلى الروذبارى: اذا قال الصوفى بعد خمسه ايام: انا جائع، فالزموه السوق، و مروه بالكسب.

و قال حبيب بن اوس ابوتمام، و هو يقصد غير ما نحن فيه، و لكنه يصلح ان يستعمل فيما نحن فيه: خذى عبرات عينك عن زماعى و صونى ما ازلت من القناع اقلى قد اضاق بكاك ذرعى و ما ضاقت بنازله ذراعى ا آلفه النحيب كم افتراق اظل فكان داعيه اجتماع! فليست فرحه الاوبات الا لموقوف على ترح الوداع تعجب ان رات جسمى نحيلا كان المجد يدرك بالصراع! اخو النكبات من ياوى اذا ما اطفن به الى خلق وساع يثير عجاجه فى كل فج يهيم به عدى بن الرقاع ابن مع السباع الماء حتى لخالته السباع من السباع و قال ايضا: فاطلب هدوئا بالتقلقل و استثر بالعيس من تحت الشهاده هجودا ما ان ترى الاحساب بيضا وضحا الا بحيث ترى المنايا سودا و جاء فى الحديث ان فاطمه جائت الى رسول الله (ص) بكسره خبز، فقال: ما هذه؟ قالت: قرص خبزته، فلم تطب نفسى حتى اتيتك منه بهذه الكسره، فاكلها، و قال: (اما انها لاول طعام دخل فم ابيك منذ ثلاث).

و كان يقال: ينابيع الحكمه من الجوع، و كسر عاديه النفس بالمجاهده.

و قال يحيى بن معاذ: لو ان الجوع يباع فى السوق لما كان ينبغى لطلاب الاخره اذا دخلوا السوق ان يشتروا غيره.

و قال سهل بن عبدالله: لما خلق الله الدنيا جعل فى الشبع المعصيه و الجهل، و جعل فى الجوع الطاعه و الحكمه.

و قال يحيى بن معاذ: الجوع للمريدين رياضه، و للتائبين تجربه، و للزهاد سياسه، و للعارفين تكرمه.

و قال ابوسلمان الدارانى: مفتاح الدنيا الشبع، و مفتاح الاخره الجوع.

و قال بعضهم: ادب الجوع الا ينقص من عادتك الا مثل اذن السنور، هكذا على التدريج، حتى تصل الى ما تريد.

و يقال: ان اباتراب النخشبى خرج من البصره الى مكه، فوصل اليها على اكلتين: اكله بالنباج، و اكله بذات عرق.

قالوا: و كان سهل بن عبدالله التسترى اذا جاع قوى، و اذا اكل ضعف.

و كان منهم من ياكل كل اربعين يوما اكله واحده، و منهم من ياكل كل ثمانين يوما اكله واحده.

قالوا: و اشتهى ابوالخير العسقلانى السمك سنين كثيره، ثم تهيا له اكله من وجه حلال، فلما مد يده لياكل اصابت اصبعه شوكه من شوك السمك، فقام و ترك الاكل، و قال: يا رب، هذا لمن مد يده بشهوه الى الحلال، فكيف بمن مد يده بشهوه الى الحرام! و فى الكتاب العزيز: (و اما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فان ا لجنه هى الماوى)، فالجمله الاولى هى التقوى، و الثانيه هى المجاهده.

و قال النبى (ص): (اخوف ما اخاف على امتى اتباع الهوى و طول الامل، اما اتباع الهوى فيصد عن الحق، و اما طول الامل فينسى الاخره).

و سئل بعض الصوفيه عن المجاهده، فقال: ذبح النفس بسيوف المخالفه.

و قال: من نجمت طوارق نفسه، افلت شوارق انسه.

و قال ابراهيم بن شيبان: ما بت تحت سقف و لا فى موضع عليه غلق اربعين سنه.

و كنت اشتهى فى اوقات ان اتناول شبعه عدس فلم يتفق، ثم جملت الى و انا بالشام غضاره فيها عدسيه، فتناولت منها و خرجت، فرايت قوارير معلقه فيها شبهه انموذجات، فظننتها خلا، فقال بعض الناس: اتنظر الى هذه و تظنها خلا! و انما هى خمر، و هى انموذجات هذه الدنان- لدنان هناك- فقلت: قد لزمنى فرض الانكار، فدخلت حانوت ذلك الخمار لاكسر الدنان و الجرار، فحملت الى ابن طولون، فامر بضربى مائتى خشبه، و طرحى فى السجن، فبقيت مده، حتى دخل ابوعبدالله الوبانى المغربى استاذ ذلك البلد، فعلم انى محبوس، فشفع فى، فاخرجت اليه، فلما وقع بصره على قال: اى شى ء فعلت؟ فقلت: شبعه عدس و مائتى خشبه، فقال: لقد نجوت مجانا.

و قال ابراهيم الخواص: كنت فى جبل، فرايت رمانا فاشتهيته، فدنوت فاخذ ت منه واحده، فشققها فوجدتها حامضه، فمضيت و تركت الرمان، فرايت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير، فسلمت عليه، فرد على باسمى، فقلت: كيف عرفتنى؟ قال: من عرف الله لم يخف عليه شى ء، فقلت له: ارى لك حالا مع الله، فلو سالته ان يحميك و يقيك من اذى هذه الزنابير! فقال: و ارى لك حالا مع الله، فلو سالته ان يقيك من شهوه الرمان، فان لذع الرمان يجد الانسان المه فى الاخره، و لذع الزنابير يجد الانسان المه فى الدنيا، فتركته و مضيت على وجهى.

و قال يوسف بن اسباط: لايمحو الشهوات من القلب الا خوف مزعج، او شوق مقلق.

و قال الخواص: من ترك شهوه فلم يجد عوضها فى قلبه فهو كاذب فى تركها.

و قال ابوعلى الرباطى: صحت عبدالله المروزى، و كان يدخل الباديه قبل ان اصحبه بلا زاد، فلما صحبته قال لى: ايما احب اليك؟ تكون انت الامير، ام انا؟ قلت: بل انت، فقال: و عليك الطاعه؟ قلت: نعم، فاخذ مخلاه و وضع فيها زادا، و حملها على ظهره، فكنت اذا قلت له: اعطنى حتى احملها، قال: الامير انا، و عليك الطاعه، قال: فاخذنا المطر ليله، فوقف الى الصباح على راسى، و عليه كساء يمنع عنى المطر، فكنت اقول فى نفسى: يا ليتنى مت و لم اقل له: انت الامير! ثم قال لى: اذا صحبت ان سانا فاصحبه كما رايتنى صحبتك.

ابوالطيب المتنبى: ذرينى انل ما لاينال من العلا فصعب العلا فى الصعب و السهل فى السهل تريدين ادراك المعالى رخيصه و لا بد دون الشهد من ابرالنحل و له ايضا: و اذا كانت النفوس كبارا تعبت فى مرادها الاجسام و من امثال العامه: من لم يغل دماغه فى الصيف لم تغل قدره فى الشتاء.

من لم يركب الاخطار، لم ينل الاوطار.

ادراك السول و بلوغ المامول، بالصبر على الجوع، و فقد الهجوع، و سيلان الدموع.

و اعلم ان تقليل الماكول لا ريب فى انه نافع للنفس و الاخلاق، و التجربه قد دلت عليه، لانا نرى المكثر من الاكل يغلبه النوم و الكسل و بلاده الحواس و تتبخر الماكولات الكثيره ابخره كثيره، فتتصاعد الى الدماغ فتفسد القوى النفسانيه.

و ايضا فان كثره الماكل تزيل الرقه، و تورث القساوه و السبعيه، و القياس ايضا يقتضى ذلك، و لان كثره المزاولات، سبب لحصول الملكات، فالنفس اذا توفرت على تدبير الغذاء و تصريفه، كان ذلك شغلا شاغلا لها، و عائقا عظيما عن انصبابها الى الجهه الروحانيه العاليه، و لكن ينبغى ان يكون تقليل الغذاء الى حد يوجب جوعا قليلا، فان الجوع المفرط يورث ضعف الاعضاء الرئيسه و اضطرابها، و اختلال قواها، و ذلك يقتضى تشويش النفس و اضطراب الفكر، و اختلال العقل، و لذلك تعرض الاخلاط السوداويه لمن افرط عليه الجوع، فاذن لا بد من اصلاح امر الغذاء، بان يكون قليل الكميه، كثير الكيفيه، فتوثر قله كميته فى انه لايشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه الى الجهه العاليه الروحانيه، و توثر كثره كيفيته فى تدارك الخلل الحاصل له من قله الكميه، و يجب ان يكون الغذاء شديد الامداد للاعضاء الرئيسه، لانها هى المهمه من اعضاء البدن و ما دمت باقيه على كمال حالها لايظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الاعضاء.

(فصل فى الرياضه النفسيه و اقسامها) و اعلم ان الرياضه و الجوع هى امر يحتاج اليه المريد الذى هو بعد فى طريق السلوك الى الله.

و ينقسم طالبوا هذا الامر الجليل الشاق الى اقسام اربعه: احدها: الذين مارسوا العلوم الالهيه، و اجهدوا انفسهم فى طلبها و الوصول الى كنهها، بالنظر الدقيق، فى الزمان الطويل، فهو لايحصل لهم شوق شديد، و ميل عظيم الى الجهه العاليه الشريفه، فيحملهم حب الكمال على الرياضه.

و ثانيها: الانفس التى هى باصل الفطره و الجوهر مائله الى الروحانيه من غير ممارسه علم و لا دربه بنظر و بحث، و قد راينا مثلهم كثيرا، و شاهدنا قوما من العامه متى سنح لهم سانح مشوق، مثل صوت مطرب، او انشاد بيت يقع فى النفس، او سماع كلمه توافق امرا فى بواطنهم، فانه يستولى عليهم الوجد، و يشتد الحنين، و تغشاهم غواش لطيفه روحانيه، يغيبون بها عن المحسوسات و الجسمانيات.

و ثالثها: نفوس حصل لها الامران معا: الاستعداد الاصلى، و الاشتغال بالعلوم النظريه الالهيه.

و رابعها: النفوس التى لا استعداد لها فى الاصل و لا ارتضات بالعلوم الالهيه، و لكنهم قوم سمعوا كمال هذه الطريقه، و ان السعاده الانسانيه ليست الا بالوصول اليها، فمالت نحوها و حصل لها اعتقاد فيها.

فهذه اقسام المريدين، و الرياضه التى تليق بكل واحد من هذه الاقسام غير الرياضه اللائقه بالقسم الاخر.

و نحتاج قبل الخوض فى ذلك الى تقديم امرين: احدهما: ان النفحات الالهيه دائمه مستمره، و انه كل من توصل اليها وصل، قال سبحانه و تعالى: (و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) و قال النبى (ص): (ان لربكم فى ايام عصركم نفحات، الا فتعرضوا لنفحاته).

و ثانيهما: ان النفوس البشريه فى الاكثر مختلفه بالنوع، فقد تكون بعض النفوس مستعده غايه الاستعداد لهذا المطلب، و ربما لم تكن البته متسعده له، و بين هذين الطرفين اوساط مختلفه بالضعف و القوه.

و اذا تقرر ذلك ف اعلم ان القسمين الاولين لما اختلفا فيما ذكرناه لاجرم، اختلفا فى الكسب و المكتسب.

اما الكسب فان صاحب العلم الاولى به فى الاكثر العزله و الانقطاع عن الخلق، لانه قد حصلت له الهدايه و الرشاد، فلا حاجه له الى مخالطه احد يستعين به على حصول ما هو حاصل.

و اما صاحب الفطره الاصليه من غير علم فانه لايليق به العزله، لانه يحتاج الى المعلم و المرشد، فانه ليس يكفى الفطره الاصليه فى الوصول الى المعالم الالهيه و الحقائق الربانيه، و لا بد من موقف و مرشد فى مبدا الحال، هذا هو القول فى الكسب بالنظر اليهما.

و اما المكتسب، فان صاحب العلم اذا اشتغل بالرياضه كانت مشاهداته و مكاشفاته اكثر كميه، و اقل كيفيه مما لصاحب الفطره المجرده، اما كثره الكميه، فلان قوته النظريه تعينه على ذلك، و اما قله الكيفيه، فلان القوه النفسانيه تتوزع على تلك الكثره، و كلما كانت الكثره اكثر، كان توزع القوه الى اقسام اكثر، و كان كل واحد منها اضعف مما لو كانت الاقسام اقل عددا، و اذا عرفت ذلك عرفت ان الامر فى جانب صاحب الفطره الاصليه بالعكس من ذلك، و هو ان مشاهداته و مكاشفاته تكون اقل كميه، و اكثر كيفيه.

و اما الاستعداد الثالث، و هو النفس التى قد جمعت الفطره ال اصليه و العلوم الالهيه النظريه بالنظر، فهى النفس الشريفه الجليله الكامله.

و هذه الاقسام الثلاثه مشتركه فى ان رياضتها القلبيه يجب ان تكون زائده فى الكم و الكيف على رياضتها البدنيه، لان الغرض الاصلى هو رياضه القلب و طهاره النفس، و انما شرعت الرياضات البدنيه، و العبادات الجسمانيه، لتكون طريقا الى تلك الرياضه الباطنه، فاذا حصلت كان الاشتغال بالرياضه البدنيه عبثا، لان الوسيله بعد حصول المتوسل اليه فضله مستغنى عنها، بل ربما كانت عائقه عن المقصود.

نعم لا بد من المحافظه على الفرائض خاصه، لئلا تعتاد النفس الكسل، و ربما افضى ذلك الى خلل فى الرياضه النفسانيه، و لهذا حكى عن كثير من كبراء القوم قله الاشتغال بنوافل العبادات.

و اما القسم الرابع، و هو النفس التى خلت عن الوصفين معا، فهذه النفس يجب الا تكون رياضتها فى مبدا الحال الا بتهذيب الاخلاق بما هو مذكور فى كتب الحكمه الخلقيه، فاذا لانت و مرنت و استعدت للنفحات الاليهه حصل لها ذوق ما، فاوجب ذلك الذوق شوقا، فاقبلت بكليتها على مطلوبها.

(فصل ان الجوع يوثر فى صفاء النفس) و اعلم ان السبب الطبيعى فى كون الجوع موثرا فى صفاء النفس، ان البلغم الغالب على مزاج البدن يوجب بطبعه البلاده، و ابطاء الفهم لكثره الارضيه فيه، و ثقل جوهره، و كثره ما يتولد عنه من البخارات التى تسد المجارى، و تمنع نفوذ الارواح، و لاريب ان الجوع يقتضى تقليل البلغم، لان القوه الهاضمه اذا لم تجد غذاء تهضمه، عملت فى الرطوبه الغريبه الكائنه فى الجسد، فكلما انقطع الغذاء استمر عملها فى البلغم الموجود فى البدن، فلا تزال تعمل فيه و تذيبه الحراره الكائنه فى البدن، حتى يفنى كل ما فى البدن من الرطوبات الغريبه، و لايبقى الا الرطوبات الاصليه، فان استمر انقطاع الغذاء اخذت الحراره و القوه الهاضمه فى تنقيص الرطوبات الاصليه من جوهر البدن، فان كان ذلك يسيرا و الى حد ليس بمفرط، لم يضر ذلك بالبدن كل الاضرار، و كان ذلك هو غايه الرياضه التى اشار اميرالمومنين (ع) اليها بقوله: (حتى دق جليله) و لطف غليظه)، و ان افرط وقع الحيف و الاجحاف على الرطوبه الاصليه، و عطب البدن و وقع صاحبه فى الدق و الذبول، و ذلك منهى عنه، لانه قتل للنفس، فهو كمن يقتل نفسه بالسيف او بالسكين.

كلام للفلاسفه و الحكماء فى المكاشفات الناشئه عن الرياضه و اعلم ان قوله (ع): (و برق له لامع كثير البرق)، هو حقيقه مذهب الحكماء، و حقيقه قول الصوفيه اصحاب الطريقه و الحقي قه، و قد صرح به الرئيس ابوعلى ابن سينا فى كتاب "الاشارات" فقال فى ذكر السالك الى مرتبه العرفان: ثم انه اذا بلغت به الاراده و الرياضه حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق اليه لذيذه كانها بروق تومض اليه ثم تخمد عنه، و هى التى تسمى عندهم اوقاتا، و كل وقت يكتنفه وجد اليه، و وجد عليه.

ثم انه لتكثر عليه هذه الغواشى اذا امعن فى الارتياض، ثم انه ليتوغل فى ذلك حتى يغشاه فى غير الارتياض، فكلما لمح شيئا عاج منه الى جانب القدس، فتذكر من امره امرا فغشيه غاش، فيكاد يرى الحق فى كل شى ء، و لعله الى هذا الحد تستولى عليه غواشيه، و يزول هو عن سكينته، و يتنبه جليسه لاستنفاره عن قراره، فاذا طالت عليه الرياضه لم تستنفره غاشيه، و هدى للتانس بما هو فيه.

ثم انه لتبلغ به الرياضه مبلغا ينقلب له وقته سكينه فيصير المخطوب مالوفا، و الوميض شهابا بينا، و يحصل له معارف مستقره، كانها صحبه مستمره، و يستمتع فيها ببهجته، فاذا انقلب عنها انقلب حيران آسفا.

فهذه الفاظ الحكيم ابى على بن سينا فى "الاشارات"، و هى كما نراها مصرح فيها بذكر البروق اللامعه للعارف.

و قال القشيرى فى الرساله لما ذكر الحال و الامور الوارده على العارفين، قال: هى بروق تلمع ث م تخمد، و انوار تبدو ثم تخفى، ما احلاها لو بقيت مع صاحبها! ثم تمثل بقول البحترى: خطرت فى النوم منها خطره خطره البرق بدا ثم اضمحل اى زور لك لو قصدا سرى و ملم بك لو حقا فعل! فهو كما تراه يذكر البروق اللامعه حسبما ذكره الحكيم، و كلاهما يتبع الفاظ اميرالمومنين (ع)، لانه حكيم الحكماء و عارف العارفين، و معلم الصوفيه، و لولا اخلاقه و كلامه و تعليمه للناس هذا الفن تاره بقوله، و تاره بفعله، لما اهتدى احد من هذه الطائفه، و لاعلم كيف يورد، و لاكيف يصدر.

و قال القشيرى ايضا فى الرساله: المحاضره قبل المكاشفه، فاذا حصلت المكاشفه فبعدها المشاهده.

و قال: و هى ارفع الدرجات.

قال: فالمحاضره حضور القلب، و قد تكون بتواتر البرهان، و الانسان بعد وراء الستر، و ان كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر.

و اما المكاشفه فهى حضور البين غير مفتقر الى تامل الدليل، و تطلب السبيل، ثم المشاهده، و هى وجود الحق من غير بقاء تهمه.

و احسن ما ذكر فى المشاهد قول الجنيد: هى وجود الحق مع فقدانك.

و قال عمرو بن عثمان المكى: المشاهده ان تتوالى انوار التجلى على القلب من غير ان يتخللها ستر و لا انقطاع، كما لو قدر اتصال البروق فى الليله المظلمه، فكما انها تصير من ذلك بضوء النهار، فكذلك القلب اذا دام له التجلى مع النهار فلا ليل.

و انشدوا شعرا: ليلى بوجهك مشرق و ظلامه فى الناس سار فالناس فى سدف الضلا م و نحن فى ضوء النهار و قال الثورى: لاتصح للعبد المشاهده و قد بقى له عرق قائم.

و قالوا: اذا طلع الصباح، استغنى عن المصباح.

و انشدوا ايضا: فلما استنار الصبح طوح ضوئه بانواره انوار ضوء الكواكب فجرعهم كاسا لو ابتليت لظى بتجريعه طارت كاسرع ذاهب كاس و اى كاس، تصطلمهم عنهم، و تفنيهم و تخطفهم منهم و لاتبقيهم، كاس لاتبقى و لاتذر، تمحو بالكليه، و لاتبقى شظيه من آثار البشريه، كما قال قائلهم: ساروا فلم يبق لا عين و لا اثر.

و قال القشيرى ايضا: هى ثلاث مراتب: اللوائح، ثم اللوامع، ثم الطوالع.

فاللوائح كالبروق، ما ظهرت حتى استترت، كما قال القائل: فافترقنا حولا فلما التقينا كان تسليمه على وداعا و انشدوا: يا ذا الذى زار و ما زارا كانه مقتبس نارا مر بباب الدار مستعجلا ما ضره لو دخل الدارا! ثم اللوامع، و هى اظهر من اللوائح، و ليس زوالها بتلك السرعه، فقد تبقى وقتين و ثلاثه، و لكن كما قيل: العين باكيه لم تشبع النظرا او كما قالوا: بلائى من مشهد و مغيب و حب يب منى بعيد قريب لم ترد ماء وجهه العين حتى شرقت قبل ريها برقيب فاصحاب هذا المقام بين روح و فوح، لانهم بين كشف و ستر يلمع ثم يقطع، لايستقر لهم نور النهار، حتى تكر عليه عساكر الليل، فهم كما قيل: و الليل يشملنا بفاضل برده و الصبح يلحفنا رداء مذهبا ثم الطوالع، و هى ابقى وقتا، و اقوى سلطانا، و ادوم مكثا، و اذهب للظلمه، و انفى للمهمه.

افلا ترى كلام القوم كله مشحون بالبروق و اللمعان! و كان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر و على بن عيسى الجراح وزيره ايضا على الحلاج انهما وجدا فى كتبه لفظ "النور الشعشعانى"، و ذلك لجهالتهما مراد القوم و اصطلاحهم، و من جهل امرا عاداه.

ثم قال (ع): (و تدافعته الابواب الى باب السلامه و دار الاقامه)، اى لم يزل ينتقل من مقام من مقامات القوم الى مقام فوقه، حتى وصل، و تلك المقامات معروفه عند اهلها، و من له انس بها، و سنذكرها فيما بعد.

ثم قال: (و ثبتت رجلاه بطمانينه بدنه فى قرار الامن و الراحه بما استعمل قلبه و ارضى ربه)، اى كانت الراحه الكليه و السعاد الابديه مستثمره من ذلك التعب الذى تحمله لما استعمل قلبه، و راض جوارحه و نفسه، حتى وصل، كما قيل: عند الصباح يحمد القوم السرى و تن جلى عنا غيابات الكرى و قال الشاعر: تقول سليمى لو اقمت بارضنا و لم تدر انى للمقام اطوف.

و قال آخر: ما ابيض وجه المرء فى طلب العلا حتى يسود وجهه فى البيد و قال: فاطلب هدوئا بالتقلقل و استثر بالعيس من تحت السهاد هجودا ما ان ترى الاحساب بيضا وضحا الا بحيث ترى المنايا سودا