من قرا (يسبح له فيها) بفتح الباء ارتفع (رجال) عنده بوجهين: احدهما ان يضمر له فعل يكون هو فاعله، تقديره (يسبحه رجال)، و دل على (يسبحه) يسبح، كما قال الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومه و مختبط مما تطيح الطوائح اى يبكيه ضارع، و دل على (يبكيه) ل(يبك).
و الثانى ان يكون خبر مبتدا محذف، تقديره: (المسبحون رجال).
و من قرا: (يسبح له فيها) بكسر الباء، ف(رجال) فاعل، و اوقع لفظ (التجاره) فى مقابله لفظ (البيع) اما لانه اراد بالتجاره هاهنا الشراء خاصه، او لانه عمم بالتجاره المشتمله على البيع و الشراء، ثم خص البيع، لانه ادخل فى باب الالهاء، لان البيع يحصل ربحه بيقين، و ليس كذلك الشراء، و الذكر يكون تاره باللسان، و تاره بالقلب، فالذى باللسان نحو التسبيح و التكبير و التهليل و التحميد و الدعاء، و الذى بالقلب، فهو التعظيم و التبجيل و الاعتراف و الطاعه.
و جلوت السيف و القلب جلاء، بالكسر، و جلوت اليهود عن المدينه جلاء بالفتح.
و الوقره: الثقل فى الاذن.
و العشوه، بالفتح: فعله، من العشا فى العين.
و آلاوه: نعمه.
فان قلت: اى معنى تحت قوله: (عزت آلاوه) و عزت بمعنى.
(قلت)؟ و هل يجوز مثل ذلك فى تعظيم الله؟ قلت: عزت هاهنا ليس بمعنى (قلت) و لكن بمعنى: (كرمت و عظمت)، تقول منه: عززت على فلان بالفتح، اى كرمت عليه، و عظمت عنده، و فلان عزيز علينا، اى كريم معظم.
و البرهه من الدهر: المده الطويله، و يجوز فتح الباء.
و ازمان الفترات: ما يكون منها بين النوبتين.
و ناجاهم فى فكرهم: الهمهم، بخلاف مناجاه الرسل ببعث الملائكه اليهم، و كذلك (و كلمهم فى ذات عقولهم)، (فاستصبحوا بنور يقظه): صار ذلك النور مصباحا لهم يستضيئون به.
قوله: (من اخذ القصد حمدوا اليهم طريقه)، الى هاهنا: هى التى فى قولهم: احمد الله اليك، اى منهيا ذلك اليك، او مفضيا به اليك، و نحو ذلك، و طريقه العرب فى الحذف فى مثل هذا معلومه، قال سبحانه: (و لو نشاء لجعلنا منكم ملائكه)، اى لجعلنا بدلا منكم ملائكه.
و قال الشاعر: فليس لنا من ماء زمزم شربه مبرده بانت على طهيان اى عوضا من ماء زمزم.
قوله: (و من اخذ يمينا و شمالا)، اى ضل عن الجاده.
و (الى) فى قوله: (ذموا اليه الطريق) مثل (الى) الاولى.
و يهتفون بالزواجر: يصوتون بها، هتفت الحمامه تهتف هتفا، و هتف زيد بالغنم هتافا بالكسر، و قوس هتافه و هتفى، اى ذات صوت.
و القسط: العدل.
و ياتمرون به: يمتثلون الامر.
و قوله: (فكانما قطعوا الدن يا الى الاخره)، الى قوله: (و يسمعون ما لايسمعون)، هو شرح قوله عن نفسه (ع): (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا).
و الاوزار: الذنوب.
و النشيج: صوت البكاء.
و المقعد: موضع القعود.
و يد قارعه: تطرق باب الرحمه، و هذا الكلام مجاز.
و المنادح: المواضع الواسعه.
و (على) فى قوله: (و لايخيب عليه الراغبون) متعلقه بمحذوف مثل (الى) المتقدم ذكرها، و التقدير (نادمين عليه).
و الحسيب: المحاسب.
و اعلم ان هذا الكلام فى الظاهر صفه حال القصاص و المتصدين لانكار المنكرات، الا تراه يقول: (يذكرون بايام الله)! اى بالايام التى كانت فيها النقمه بالعصاه، و يخوفون مقامه من قوله تعالى: (و لمن خاف مقام ربه جنتان) ثم قال: فمن سلك القصد حمدوه، و من عدل عن الطريق ذموا طريقه، و خوفوه الهلاك.
ثم قال: يهتفون بالزواجر عن المحارم فى اسماع الغافلين، و يامرون بالقسط و ينهون عن المنكر.
و هذا كله ايضاح لما قلناه اولا، ان ظاهر الكلام شرح حال القصاص و ارباب المواعظ فى المجامع و الطرقات، و المتصدين لانكار القبائح، و باطن الكلام شرح حال العارفين، الذين هم صفوه الله تعالى من خلقه، و هو (ع) دائما يكنى عنهم، و يرمز اليهم، على انه فى هذا الموضع قد صرح بهم فى قوله: (ح تى كانهم يرون ما لا يرى الناس، و يسمعون ما لايسمعون).
و قد ذكر من مقامات العارفين فى هذا الفصل الذكر، و محاسبه النفس، و البكاء و النحيب، و الندم و التوبه، و الدعاء و الفاقه، و الذله، و الحزن، و هو الاسى الذى ذكر انه جرح قلوبهم بطوله.
(بيان احوال العارفين) و قد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم، و هذا موضعه، فنقول: ان اول مقام من مقامات العارفين، و اول منزل من منازل السالكين التوبه، قال الله تعالى: (و توبوا الى الله جميعا ايه المومنون لعلكم تفلحون).
و قال النبى (ص): (التائب من الذنب كمن لاذنب له).
و قال على (ع): (مامن شى ء احب الى الله من شاب تائب).
و التوبه فى عرف ارباب هذه الطريقه الندم على ما عمل من المخالفه و ترك الزله فى الحال و العزم على الا يعود الى ارتكاب معصيه، و ليس الندم وحده عند هولاء توبه، و ان جاء فى الخبر: (الندم توبه)، لانه على وزان قوله (ع): (الحج عرفه)، ليس على معنى ان غيرها ليس من الاركان، بل المراد انه اكبر الاركان و اهمها، و منهم من قال: يكفى الندم وحده، لانه يستتبع الركنين الاخرين لاستحاله كونه نادما على ما هو مصر على مثله، او ما هو عازم على الاتيان بمثله.
قالوا: و للتوبه شروط و ترتيبات: فاول ذلك انتباه القلب من رقد الغفله، و رويه العبد ما هو عليه من سوء الحاله، و انما يصل الى هذه الجمله بالتوفيق للاصغاء الى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه، يسمع قلبه، فان فى الخبر النبوى عنه (ص): (واعظ كل حال الله فى قلب كل امرى ء مسلم).
و فى الخبر: (ان فى بدن المرء لمضغه اذا صلحت صلح جميع البدن، الا و هى القلب، و اذا فسدت فسد جميع البدن، الا و هى القلب).
و اذا فكر العبد بقلبه فى سوء صنيعه، و ابصر ما هو عليه من ذميم الافعال، سنحت فى قلبه اراده التوبه و الاقلاع عن قبيح المعامله، فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمه، و الاخذ فى طرق الرجوع و التاهب لاسباب التوبه.
و اول ذلك هجران اخوان السوء، فانهم الذين يحملونه على رد هذا القصد، و عكس هذا العزم، و يشوشون عليه صحه هذه الاراده، و لا يتم ذلك له الا بالمواظبه على المشاهد و المجالس التى تزيده رغبه فى التوبه، و توفر دواعيه الى اتمام ما عزم عليه، مما يقوى خوفه و رجائه، فعند ذلك تنحل عن قلبه عقده الاصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال، فيقف عن تعاطى المحظورات، و يكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعه الشهوات، فيفارق الزله فى الحال، و يلزم العزيمه على الا يعود الى مثل ها فى الاستقبال، فان مضى على موجب قصده، و نفذ على مقتضى عزمه، فهو الموفق حقا، و ان نقض التوبه مره او مرات، ثم حملته ارادته على تجديدها، فقد يكون مثل هذا كثيرا، فلا ينبغى قطع الرجاء عن توبه امثال هولاء، فان لكل اجل كتابا.
و قد حكى عن ابى سليمان الدارانى انه قال: اختلفت الى مجلس قاص، فاثر كلامه فى قلبى، فلما قمت لم يبق فى قلبى شى ء، فعدت ثانيا، فسمعت كلامه، فبقى من كلامه فى قلبى اثر فى الطريق ثم زال، ثم عدت ثالثا فوقر كلامه فى قلبى، و ثبت حتى رجعت الى منزلى، و كسرت آلات المخالفه، و لزمت الطريق.
و حكيت هذه الحكايه ليحيى بن معاذ، فقال: عصفور اصطاد كركيا- يعنى بالعصفور القاص، و بالكركى اباسليمان.
و يحكى ان اباحفص الحداد ذكر بدايته، فقال: تركت ذلك العمل- يعنى المعصيه- كذا و كذا مره، ثم عدت اليها، ثم تركنى العمل، فلم اعد اليه.
و قيل ان بعض المريدين تاب، ثم وقعت له فتره، و كان يفكر و يقول: اترى لو عدت الى التوبه كيف كان يكون حكمى! فهتف به هاتف: يا فلان، اطعتنا فشكرناك، ثم تركتنا فامهلناك، و ان عدت الينا قبلناك، فعاد الفتى الى الاراده.
و قال ابوعلى الدقاق: التوبه على ثلاثه اقسام.
فاولها التوبه، و اوسطها الانابه، و آخ رها الاوبه، فجعل التوبه بدايه، و الاوبه نهايه، و الانابه واسطه بينهما.
و المعنى ان من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبه، و من تاب طمعا فى الثواب فهو صاحب الانابه، و من تاب مراعاه للامر فقط، فهو صاحب الاوبه.
و قال ابوعلى ايضا: التوبه صفه المومنين، قال سبحانه: (و توبوا الى الله جميعا ايه المومنون).
و الانابه صفه الاولياء، قال سبحانه: (و جاء بقلب منيب)، و الاوبه صفه الانبياء، قال سبحانه: (نعم العبد انه اواب).
و قال الجنيد: دخلت على السرى يوما، فوجدته متغيرا، فسالته فقال: دخل على شاب، فسالنى عن التوبه، فقلت: الا تنسى ذنبك! فقال: بل التوبه الا تذكر ذنبك.
قال الجنيد: فقلت له: ان الامر عندى ما قاله الشاب، قال: كيف؟ قلت: لانى اذا كنت فى حال الجفاء فنقلنى الى حال الصفاء، فذكر الجفاء فى حال الصفاء جفاء.
فسكت السرى.
و قال ذو النون المصرى: الاستغفار من غير اقلاع توبه الكذابين.
و سئل البوشنجى عن التوبه، فقال: اذا ذكرت الذنب ثم لاتجد حلاوته عند ذكره، فذاك حقيقه التوبه.
و قال ذو النون: حقيقه التوبه ان تضيق عليك الارض بما رحبت، حتى لايكون لك قرار، ثم تضيق عليك نفسك، كما اخبر الله تعالى فى كتابه بقوله: (حتى اذا ضاقت عليهم ا لارض بما رحبت و ضاقت عليهم انفسهم و ظنوا ان لا ملجا من الله الا اليه ثم تاب عليهم).
و قيل لابى حفص الحداد: لم تبغض الدنيا؟ فقال: لانى باشرت فيها الذنوب، قيل: فهلا احببتها لانك وفقت فيها للتوبه! فقال: انا من الذنب على يقين، و من هذه التوبه على ظن.
و قال رجل لرابعه العدويه: انى قد اكثرت من الذنوب و المعاصى، فهل يتوب على ان تبت؟ قالت: لا بل لو تاب عليك لتبت.
قالوا: و لما كان الله تعالى يقول فى كتابه العزيز: (ان الله يحب التوابين) دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقه التوبه، و لا شبهه ان من قارف الزله فهو من خطئه على يقين، فاذا تاب فانه من القبول على شك، لا سيما اذا كان من شرط القبول محبه الحق سبحانه له، و الى ان يبلغ العاصى محلا يجد فى اوصافه اماره محبه الله تعالى اياه مسافه بعيده، فالواجب اذا على العبد اذا علم انه ارتكب ما يجب عنه التوبه دوام الانكسار، و ملازمه التنصل و الاستغفار، كما قيل: استشعار الوجل الى الاجل.
و كان من سنته (ع) دوام الاستغفار.
و قال: (انه ليغان على قلبى فاستغفر الله فى اليوم سبعين مره).
و قال يحيى بن معاذ: زله واحده بعد التوبه اقبح من سبعين قبلها.
و يحكى ان على بن عيسى الوزير ركب فى موكب عظ يم، فجعل الغرباء يقولون: من هذا؟ من هذا؟ فقالت امراه قائمه على السطح: الى متى تقولون: من هذا، من هذا! هذا عبد سقط.
من عين الله، فابتلاه بما ترون.
فسمع على بن عيسى كلامها، فرجع الى منزله و لم يزل يتوصل فى الاستعفاء من الوزاره حتى اعفى، و ذهب الى مكه فجاور بها.
و منها المجاهد، و قد قلنا فيها ما يكفى فيما تقدم.
و منها العزله و الخلوه، و قد ذكرنا فى جزء قبل هذا الجزء مما جاء فى ذلك طرفا صالحا.
و منها التقوى، و هى الخوف من معصيه الله، و من مظالم العباد، قال سبحانه: (ان اكرمكم عند الله اتقاكم)، و قيل: ان رجلا جاء الى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله اوصنى، فقال: (عليك بتقوى الله، فانه جماع كل خير، و عليك بالجهاد، فانه رهبانيه المسلم، و عليك بذكر الله، فانه نور لك).
و قيل فى تفسير قوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته): ان يطاع فلا يعصى، و يذكر فلا ينسى، و يشكر فلا يكفر.
و قال النصر اباذى: من لزم التقوى بادر الى مفارقه الدنيا، لان الله تعالى يقول: (و للدار الاخره خير للذين يتقون).
و قيل: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: التوكل فيما لم ينل، و الرضا بما قد نال، و حسن الصبر على ما فات.
و كان يقال: من كان راس ماله التقوى كلت ال السن عن وصف ربحه.
و قد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا، مثل ما يحكى عن ابن سيرين، انه اشترى اربعين حبا سمنا، فاخرج غلامه فاره من حب، فساله: من اى حب اخرجها؟ قال: لا ادرى، فصبها كلها.
و حكى ان ابايزيد البسطامى غسل ثوبه فى الصحراء و معه مصاحب له، فقال صاحبه: نضرب هذا الوتد فى جدار هذا البستان، و نبسط الثوب عليه، فقال: لايجوز ضرب الوتد فى جدار الناس قال: فنعلقه على شجره حتى يجف، قال: يكسر الاغصان، فقال: نبسطه على الاذخر قال: انه علف الدواب لايجوز ان نستره منها.
فولى ظهره قبل الشمس، و جعل القميص على ظهره حتى جف احد جانبيه، ثم قلبه حتى جف الجانب الاخر.
و منها الورع، و هو اجتناب الشبهات، و قال (ص) لابى هريره: (كن ورعا تكن اعبد الناس).
و قال ابوبكر: كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافه ان نقع فى باب واحد من الحرام.
و كان يقال: الورع فى المنطق اشد منه فى الذهب و الفضه، و الزهد فى الرياسه اشد منه فى الذهب و الفضه، لانك تبذلهما فى طلب الرياسه.
و قال ابوعبدالله الجلاء: اعرف من اقام بمكه ثلاثين سنه لم يشرب من ماء زمزم الا ما استقاه بركوته و رشائه.
و قال بشر بن الحارث: اشد الاعمال ثلاثه: الجود فى القله، و الورع فى الخلوه ، و كلمه الحق عند من يخاف و يرجى.
و يقال: ان اخت بشر بن الحارث جائت الى احمد بن حنبل، فقالت: انا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الطاهريه، فيقع شعاعها علينا، افيجوز لنا الغزل فى ضوئها؟ فقال احمد: من انت يا امه الله؟ قالت: اخت بشر الحافى، فبكى احمد، و قال: من بيتكم خرج الورع، لاتغزلى فى ضوء مشاعلهم.
و حكى بعضهم، قال: مررت بالبصره فى بعض الشوارع، فاذا بمشايخ قعود و صبيان يلعبون، فقلت: اما تستحيون من هولاء المشايخ؟ فقال غلام من بينهم: هولاء المشايخ قل ورعهم، فقلت هيبتهم.
و يقال: ان مالك بن دينار مكث بالبصره اربعين سنه، ما صح له ان ياكل من تمر البصره و لا من رطبها حتى مات و لم يذقه.
و كان اذا انقضى اوان الرطب يقول: يا اهل البصره، هذا بطنى ما نقص منه شى ء، سواء على اكلت من رطبكم او لم آكل! و قال الحسن: مثقال ذره من الورع خير من الف مثقال من الصوم و الصلاه.
و دخل الحسن مكه، فراى غلاما من ولد على بن ابى طالب، قد اسند ظهره الى الكعبه و هو يعظ الناس، فقال له الحسن: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، فجعل الحسن يتعجب منه.
و قال سهل بن عبدالله: من لم يصحبه الورع، اكل راس الفيل و لم يشبع.
و حمل الى عمر بن عبدالعزيز مسك من الغنائم، فقبض على مشمه، و قال: انما ينتفع من هذا بريحه، و انا اكره ان اجد ريحه دون المسلمين.
و سئل ابوعثمان الحريرى عن الورع فقال: كان ابوصالح بن حمدون عند صديق له و هو فى النزع، فمات الرجل، فنفث ابوصالح فى السراج فاطفاه، فقيل له فى ذلك، فقال: الى الان كان الدهن الذى فى المسرجه له، فلما مات صار الى الورثه.
و منها الزهد، و قد تكلموا فى حقيقته، فقال سفيان الثورى: الزهد فى الدنيا قصر الامل.
و قال الخواص: الزهد ان تترك الدنيا فلا تبالى من اخذها.
و قال ابوسليمان الدارانى: الزهد ترك كل ما يشغل عن الله.
و قيل: الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز: (لكيلا لا تاسوا على ما فاتكم و لاتفرحوا بما آتاكم).
و كان يقال: من صدق فى زهده اتته الدنيا و هى راغمه، و لهذا قيل: لو سقطت قلنسوه من السماء لما وقعت الا على راس من لايريدها.
و قال يحيى بن معاذ: الزهد يسعطك الخل و الخردل، و العرفان يشمك المسك و العنبر.
و قيل لبعضهم: ما الزهد فى الدنيا؟ قال: ترك ما فيها على من فيها.
و قال رجل لذى النون المصرى: متى ترانى ازهد فى الدنيا؟ قال: اذا زهدت فى نفسك.
و قال رجل ليحيى بن معاذ: متى ترانى ادخل حانوت التوكل، و البس رداء الزهد، و اقعد بين الزاهدين؟ فقال: اذا صرت من رياضتك لنفسك فى السر الى حد لو قطع الله عنك القوت ثلاثه ايام لم تضعف فى نفسك و لا فى يقينك، فاما ما لم تبلغ الى هذه الدرجه فقعودك على بساط الزاهدين جهل، ثم لا آمن ان تفتضح.
و قال احمد بن حنبل: الزهد على ثلاثه اوجه: ترك الحرام، و هو زهد العوام، و ترك الفضول من الحلال، و هو زهد الخواص، و ترك كل ما يشغلك عن الله، و هو زهد العارفين.
و قال يحيى بن معاذ: الدنيا كالعروس، فطالبها كما شطتها تحسن وجهها و تعطر ثوبها، و الزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها، و تنتف شعرها، و تحرق ثوبها.
و العارف مشتغل بالله، لايلتفت اليها، و لايشعر بها.
و كان النصر اباذى يقول فى مناجاته: يا من حقن دماء الزاهدين، و سفك دماء العارفين! و كان يقال: ان الله تعالى جعل الخير كله فى بيت، و جعل مفتاحه الزهد، و جعل الشر كله فى بيت، و جعل مفتاحه حب الدنيا.
و منها الصمت، و قدمنا فيما سبق من الاجزاء نكتا نافعه فى هذا المعنى، و نذكر الان شيئا آخر.
قال رسول الله (ص): (من كان يومن بالله و اليوم الاخر فلا يوذين جاره، و من كان يومن بالله و اليوم الاخر فليكرم ضيفه، و من كان يومن بالله و اليوم الاخر فليقل خيرا او فليصمت).
و قال اصحاب هذا العلم: الصمت من آداب الحضره، قال الله تعالى: (و اذا قرى ء القرآن فاستمعوا له و انصتوا).
و قال مخبرا عن الجن: (فلما حضروه قالوا انصتوا).
و قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامه: (و خشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا).
و قالوا: كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب و الغيبه، و عبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبه! و انشدوا: ارتب ما اقول اذا افترقنا و احكم دائما حجج المقال فانساها اذا نحن التقينا و انطق حين انطق بالمحال و انشدوا: فياليل كم من حاجه لى مهمه اذا جئتكم لم ادر بالليل ماهيا! قالوا: و ربما كان سبب الصمت و السكوت حيره البديهه، فانه اذا ورد كشف بغته، خرست العبارات عند ذلك، فلا بيان و لا نطق، و طمست الشواهد فلا علم و لا حس، قال الله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا اجبتم قالوا لاعلم لنا انك انت علام الغيوب)، فاما ايثار ارباب المجاهده الصمت فلما علموا فى الكلام من الافات، ثم ما فيه من حط النفس و اظهار صفات المدح، و الميل الى ان يتميز من بين اشكاله بحسن النطق، و غير ذلك من ضروب آفات الكلام.
و هذا نعت ارباب الرياضه، و هو احد اركانهم فى حكم مجاهده النفس و منازلتها و تهذيب الاخلاق.
و يقال : ان داود الطائى لما اراد ان يقعد فى بيته، اعتقد ان يحضر مجلس ابى حنيفه، لانه كان تلميذا له و يقعد بين اضرابه من العلماء، و لايتكلم فى مساله على سبيل رياضته نفسه، فلما قويت نفسه على ممارسه هذه الخصله سنه كامله، قعد فى بيته عند ذلك، و آثر العزله.
و يقال: ان عمر بن عبدالعزيز كان اذا كتب كتابا فاستحسن لفظه، مزق الكتاب و غيره.
و قال بشر بن الحارث: اذا اعجبك الكلام فاصمت، فاذا اعجبك الصمت فتكلم.
و قال سهل بن عبدالله: لايصح لاحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوه، و لايصح لاحد التوبه حتى يلزم نفسه الصمت.
و منها الخوف، قال الله تعالى: (يدعون ربهم خوفا و طمعا).
و قال تعالى: (و اياى فارهبون).
و قال: (يخافون ربهم من فوقهم).
و قال ابوعلى الدقاق: الخوف على مراتب: خوف، و خشيه، و هيبه.
فالخوف من شروط الايمان و قضاياه، قال الله تعالى: (فلا تخافوهم و خافون ان كنتم مومنين).
و الخشيه من شروط العلم، قال الله تعالى: (انما يخشى الله من عباده العلماء).
و الهيبه من شروط المعرفه، قال سبحانه: (و يحذركم الله نفسه).
و قال ابوعمر الدمشقى: الخائف من يخاف من نفسه اكثر مما يخاف من الشيطان.
و قال بعضهم: من خاف من شى ء هرب منه، و من خاف الله هرب ال يه.
و قال ابوسليمان الدارانى: ما فارق الخوف قلبا الا خرب.
و منها الرجاء، و قد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف و الرجاء طرفا صالحا، قال سبحانه: (من كان يرجو لقاء الله فان اجل الله لات).
و الفرق بين الرجاء و التمنى، و كون احدهما محمودا و الاخر مذموما، ان التمنى الا يسلك طريق الاجتهاد و الجد، و الرجاء بخلاف ذلك، فلهذا كان التمنى يورث صاحبه الكسل.
و قال ابوعلى الروذبارى: الرجاء و الخوف كجناحى الطائر، اذا استويا استوى الطائر و تم طيرانه، و اذا نقص احدهما وقع فيه النقص، و اذا ذهبا صار الطائر فى حد الموت.
و قال ابوعثمان المغربى: من حمل نفسه على الرجاء تعطل، و من حمل نفسه على الخوف قنط، و لكن من هذا مره و من هذا مره.
و من كلام يحيى بن معاذ- و يروى عن على بن الحسين (ع): يكاد رجائى لك مع الذنوب، يغلب رجائى لك مع الاعمال، لانى اجدنى اعتمد فى الاعمال على الاخلاص، و كيف احرزها و انا بالافه معروف، و اجدنى فى الذنوب اعتمد على عفوك! و كيف لاتغفرها و انت بالجود موصوف.
و منها الحزن، و هو من اوصاف اهل السلوك.
و قال ابوعلى الدقاق: صاحب الحزن يقطع من طريق الله فى شهر ما لايقطعه من فقد الحزن فى سنتين.
فى الخبر النبوى (ص): (ان الله يح ب كل قلب حزين).
و فى بعض كتب النبوات القديمه: (اذا احب الله عبدا نصب فى قلبه نائحه، و اذا ابغض عبدا جعل فى قلبه مزمارا).
و روى ان رسول الله (ص) كان متواصل الاحزان، دائم الفكر.
و قيل: ان القلب اذا لم يكن فيه حزن خرب، كما ان الدار اذا لم يكن فيها ساكن خربت.
و سمعت رابعه رجلا يقول: و احزناه! فقالت: قل و اقله حزناه! لو كنت محزونا ما تهيا لك ان تتنفس! و قال سفيان بن عيينه: لو ان محزونا بكى فى امه، لرحم الله تلك الامه ببكائه.
و كان بعض هولاء القوم اذا سافر واحد من اصحابه يقول: اذا رايت محزونا فاقرئه عنى السلام.
و كان الحسن البصرى لا يراه احد الا ظن انه حديث عهد بمصيبه.
و قال وكيع يوم مات الفضيل: ذهب الحزن اليوم من الارض.
و قال بعض السلف: اكثر ما يجده المومن فى صحيفته من الحسنات الحزن و الهم.
و قال الفضيل: ادركت السلف يقولون: ان لله فى كل شى ء زكاه، و زكاه العقل طول الحزن.
و منها الجوع و ترك الشهوات، و قد تقدم ذكر ذلك.
و منها الخشوع و التواضع، قال سبحانه: (الذين هم فى صلاتهم خاشعون).
و فى الخبر النبوى عنه (ص): (لايدخل الجنه من فى قلبه مثقال ذره من كبر، و لايدخل النار من فى قلبه مثقال ذره من ايمان)، فقال رجل: يا رسو ل الله، ان المرء ليحب ان يكون ثوبه حسنا، فقال: (ان الله جميل يحب الجمال، انما المتكبر من بطر الحق، و غمص الناس).
و روى انس بن مالك، ان رسول الله (ص) كان يعود المريض، و يشيع الجنائز، و يركب الحمار، و يجيب دعوه العبد.
و كان يوم قريظه و النضير على حمار مخطوم بحبل من ليف، عليه اكاف من ليف.
و دخل مكه يوم فتحها راكب بعير، برحل خلق، و ان ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى و خشوعا، و جيشه يومئذ عشره آلاف.
قالوا فى حد الخشوع: هو الانقياد للحق.
و فى التواضع: هو الاستسلام و ترك الاعتراض على الحكم.
و قال بعضهم: الخشوع قيام القلب بين يدى الحق بهم مجموع.
و قال حذيفه بن اليمان: اول ما تفقدون من دينكم الخشوع.
و كان يقال: من علامات الخشوع ان العبد اذا اغضب او خولف او رد عليه استقبل ذلك بالقبول.
و قال محمد بن على الترمذى: الخاشع من خمدت نيران شهوته، و سكن دخان صدره، و اشرق نور التعظيم فى قلبه.
فماتت حواسه و حيى قلبه، و تطامنت جوارحه.
و قال الحسن: الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب.
و قال الجنيد: الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب، قال الله تعالى: (و عباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا)، اى خاشعون متواضعون.
و راى بعضهم رجلا منقبض الظاهر، منكسر الشاهد، قد زوى منكبيه، فقال: يا فلان، الخشوع هاهنا- و اشار الى صدره، لا هاهنا- و اشار الى منكبيه.
و روى ان رسول الله (ص) راى رجلا يعبث بلحيته فى صلاته، فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه).
و قيل: شرط الخشوع فى الصلاه الا يعرف من على يمينه، و لا من على شماله.
و قال بعض الصوفيه: الخشوع قشعريره ترد على القلب بغته عند مفاجاه كشف الحقيقه.
و كان يقال: من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره.
و قيل: ان عمر بن عبدالعزيز لم يكن يسجد الا على التراب.
و كان عمر بن الخطاب يسرع فى المشى، و يقول: هو انجح للحاجه، و ابعد من الزهو.
كان رجاء بن حيوه ليله عند عمر بن عبدالعزيز و هو خليفه، فضعف المصباح، فقام رجل ليصلحه، فقال: اجلس، فليس من الكرم ان يستخدم المرء ضيفه، فقال: انبه الغلام، قال: انها اول نومه نامها، ثم قام بنفسه فاصلح السراج.
فقال رجاء: اتقوم الى السراج و انت اميرالمومنين! قال: قمت و انا عمر بن عبدالعزيز، و رجعت و انا عمر بن عبدالعزيز.
و فى حديث ابى سعيد الخدرى ان رسول الله (ص) كان يعلف البعير و يقم البيت، و يخصف النعل و يرقع الثوب، و يحلب الشاه، و ياكل مع الخادم.
و يطحن معها اذا اعيت.
و كان لايمنعه الحياء ان يحمل بضاعته من السوق الى منزل اهله، و كان يصافح الغنى و الفقير، و يسلم مبتدئا، و لايحقر ما دعى اليه و لو الى حشف التمر.
و كان هين المونه، لين الخلق، كريم السجيه، جميل المعاشره، طلق الوجه، بساما من غير ضحك، محزونا من غير عبوس، متواضعا من غير ذله، جوادا من غير سرف، رقيق القلب، رحيما لكل مسلم، ما تجشا قط من شبع، و لا مد يده الى طبع.
و قال الفضيل: اوحى الله الى الجبال انى مكلم على واحد منكم نبيا، فتطاولت الجبال، و تواضع طور سيناء، فكلم الله عليه موسى لتواضعه.
سئل الجنيد عن التواضع، فقال: خفض الجناح، و لين الجانب.
ابن المبارك: التكبر على الاغنياء و التواضع للفقراء من التواضع.
و قيل لابى يزيد: متى يكون الرجل متواضعا؟ قال: اذا لم ير لنفسه مقاما و لا حالا، و لايرى ان فى الخلق من هو شر منه.
و كان يقال: التواضع نعمه لايحسد عليها، و التكبر محنه لايرحم منها، و العز فى التواضع، فمن طلبه فى الكبر لم يجده.
و كان يقال: الشرف فى التواضع، و العز فى التقوى، و الحريه فى القناعه.
يحيى بن معاذ: التواضع حسن فى كل احد، لكنه فى الاغنياء احسن، و التكبر سمج فى كل احد، و لكنه فى الفقراء اسمج.
و ركب زيد بن ثابت، فدنا ابن عباس لياخذ بركابه، فقال: مه يا بن عم رسول الله! فقال: انا كذا امرنا ان نفعل بعلمائنا، فقال زيد: ارنى يدك، فاخرجها فقبلها، فقال: هكذا امرنا ان نفعل باهل بيت نبينا.
و قال عروه بن الزبير: رايت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى و على عاتقه قربه ماء، فقلت: يا اميرالمومنين، انه لاينبغى لمثلك هذا! فقال: انه لما اتتنى الوفود سامعه مهادنه، دخلت نفسى نخوه، فاحببت ان اكسرها.
و مضى بالقربه الى حجره امراه من الانصار، فافرغها فى انائها.
ابوسليمان الدارانى: من راى لنفسه قيمه، لم يذق حلاوه الخدمه.
يحيى بن معاذ: التكبر على من تكبر عليك تواضع.
بشر الحافى: سلموا على ابناء الدنيا بترك السلام عليهم.
بلغ عمر بن عبدالعزيز ان ابنا له اشترى خاتما بالف درهم، فكتب اليه: بلغنى انك اشتريت خاتما و فصه بالف درهم، فاذا اتاك كتابى فبع الخاتم، و اشبع به الف بطن، و اتخذ خاتما من درهمين، و اجعل فصه حديدا صينيا، و اكتب عليه: (رحم الله امرا عرف قدره).
قومت ثياب عمر بن عبدالعزيز و هو يخطب ايام خلافته باثنى عشر درهما، و هى: قباء، و عمامه، و قميص، و سراويل، و رداء، و خفان، و قلنسوه.
و قال ابراهيم بن ادهم: ما سررت قط سرورى فى ايام ثلاثه: كنت فى سفينه، و فيها رجل مضحك، كان يلعب لاهل السفينه، فيقول: كنا ناخذ العلج من بلاد الترك هكذا، و ياخذ بشعر راسى فيهزنى، فسرنى ذلك، لانه لم يكن فى تلك السفينه احقر منى فى عينه.
و كنت عليلا فى مسجد، فدخل الموذن و قال: اخرج، فلم اطق، فاخذ برجلى و جرنى الى خارج المسجد.
و كنت بالشام و على فرو، فنظرت اليه فلم اميز بين الشعر و بين القمل لكثرته.
عرض على بعض الامراء مملوك بالوف من الدراهم، فاستكثر الثمن، فقال العبد: اشترنى يا مولاى، ففى خصله تساوى اكثر من هذا الثمن.
قال: ما هى؟ قال: لو قدمتنى على جميع مماليك و خولتنى بكل مالك لم اغلظ فى نفسى، بل اعلم انى عبدك فاشتراه.
تشاجر ابوذر و بلال، فعير ابوذر بلالا بالسواد، فشكاه الى رسول الله (ص)، فقال: يا اباذر، ما علمت انه قد بقى فى قلبك شى ء من كبر الجاهليه.
فالقى ابوذر نفسه، و حلف الا يحمل راسه حتى يطا بلال خده بقدمه، فما رفع راسه حتى فعل بلال ذلك.
مر الحسن بن على (ع) بصبيان يلعبون، و بين ايديهم كسر خبز ياكلونها، فدعوه فنزل و اكل معهم، ثم حملهم الى منزله، فاطعمهم و كساهم، و قال: الفضل لهم، لانهم لم يجدوا غير ما اطعمونى، و نحن نجد اكثر مما اطعمناهم.
و منها مخالفه النفس، و ذكر عيوبها، و قد تقدم ذكر ذلك.
و منها القناعه، قال الله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر او انثى و هو مومن فلنحيينه حياه طيبه)، قال كثير من المفسرين: هى القناعه.
و فى الحديث النبوى- و يقال انه من كلام اميرالمومنين (ع): (القناعه كنز لاينفد).
و فى الحديث النبوى ايضا: (كن ورعا تكن اعبد الناس، و كن قنوعا تكن اشكر الناس، و احب للناس ما تحب لنفسك تكن مومنا، و احسن مجاوره من جاورك تكن مسلما، و اقل الضحك، فان كثره الضحك تميت القلب).
و كان يقال: الفقراء اموات الا من احياه الله تعالى بعز القناعه.
و قال ابوسليمان الدارانى: القناعه من الرضا بمنزله الورع من الزهد، هذا اول الرضا.
و هذا اول الزهد.
و قيل: القناعه سكون النفس و عدم انزعاجها عند عدم المالوفات.
و قيل فى تفسير قوله تعالى: (ليرزقنهم الله رزقا حسنا): انه القناعه.
و قال ابوبكر المراغى: العاقل من دبر امر الدنيا بالقناعه و التسويف، و انكر ابوعبدالله بن خفيف، فقال: القناعه ترك التسويف بالمفقود، و الاستغناء بالموجود.
و كان يقال: خرج العز و الغنى يجولان، فلقيا القناعه، فاستقرا.
و كان يقال: من كانت قناعته سمينه طابت له كل مرقه.
مر ابوحازم الاعرج بقصاب، فقال له: خذ يا اباحازم، فقال: ليس معى در هم، قال: انا انظرك، قال: نفسى احسن نظره لى منك.
و قيل: وضع الله تعالى خمسه اشياء فى خمسه مواضع: العز فى الطاعه، و الذل فى المعصيه، و الهيبه فى قيام الليل، و الحكمه فى البطن الخالى، و الغنى فى القناعه.
و كان يقال: انتقم من فلان بالقناعه، كما تنتقم من قاتلك بالقصاص.
ذو النون المصرى: من قنع استراح من اهل زمانه، و استطال على اقرانه.
و انشدوا: و احسن بالفتى من يوم عار ينال به الغنى، كرم وجوع و راى رجل حكيما ياكل ما تساقط من البقل على راس الماء، فقال له: لو خدمت السلطان لم تحتج الى اكل هذا! فقال: و انت لو قنعت بهذا لم تحتج الى خدمه السلطان.
و قيل: العقاب عزيز فى مطاره، لاتسمو اليه مطامع الصيادين، فاذا طمع فى جيفه علقت على حباله، نزل من مطاره فنشب فى الاحبوله.
و قيل: لما نطق موسى بذكر الطمع، فقال: (لو شئت لاتخذت عليه اجرا)، قال له الخضر: (هذا فراق بينى و بينك) و فسر بعضهم قوله: (هب لى ملكا لاينبغى لاحد من بعدى)، فقال: مقاما فى القناعه لايبلغه احد.
و منها التوكل، قال الله تعالى: (و من يتوكل على الله فهو حسبه) و قال سهل بن عبدالله: اول مقام فى التوكل ان يكون العبد بين يدى الله تعالى، كالميت بين يدى الغاسل، يقلبه كيف يشاء، لايكون له حركه، و لاتدبير.
و قال رجل لحاتم الاصم: من اين تاكل؟ فقال: (و لله خزائن السموات و الارض و لكن المنافقين لايفقهون).
و قال اصحاب هذا الشان: التوكل بالقلب، و ليس ينافيه الحركه بالجسد، بعد ان يتحقق العبد ان التقدير من الله، فان تعسر شى ء فبتقديره، و ان تسهل فبتيسيره.
و فى الخبر النبوى انه (ع) قال للاعرابى الذى ترك ناقته مهمله فندت، فلما قيل له، قال: توكلت فتركتها، فقال (ع): (اعقل و توكل).
و قال ذو النون: التوكل الانخلاع من الحول و القوه، و ترك تدبير الاسباب و قال بعضهم: التوكل رد العيش الى يوم واحد باسقاط هم غد.
و قال ابوعلى الدقاق: التوكل ثلاث درجات: التوكل و هو ادناها، ثم التسليم، ثم التفويض، فالاولى للعوام، و الثانيه للخواص، و الثالثه لخواص الخواص.
جاء رجل الى الشبلى يشكو اليه كثره العيال، فقال: ارجع الى بيتك، فمن وجدت منهم ليس رزقه على الله فاخرجه من البيت.
و قال سهل بن عبدالله: من طعن فى التوكل فقط طعن فى الايمان، و من طعن فى الحركه، فقد طعن فى السنه.
و كان يقال: المتوكل كالطفل لايعرف شيئا ياوى اليه الا ثدى امه، كذلك المتوكل لايهتدى الا الى ربه.
و راى ابوسليمان الدارانى رجلا بمكه لايتناو ل شيئا الا شربه من ماء زمزم، فمضت عليه ايام، فقال له يوما: ارايت لو غارت- اى زمزم- اى شى ء كنت تشرب! فقام و قبل راسه، و قال: جزاك الله خيرا حيث ارشدتنى، فانى كنت اعبد زمزم منذ ايام.
ثم تركه و مضى.
و قيل: التوكل نفى الشكوك، و التفويض الى مالك الملوك.
و دخل جماعه على الجنيد، فقالوا: نطلب الرزق! قال: ان علمتم فى اى موضع هو فاطلبوه، قالوا: فنسال الله ذلك، قال: ان علمتم انه ينساكم فذكروه، قالوا: لندخل البيت فنتوكل، قال: التجربه شك، قالوا: فما الحيله؟ قال: ترك الحيله.
و قيل: التوكل الثقه بالله و الياس عما فى ايدى الناس.
و منها الشكر، و قد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه.
و منها اليقين و هو مقام جليل، قال الله: تعالى (و بالاخره هم يوقنون).
و قال على بن ابى طالب (ع): لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
و قال سهل بن عبدالله: حرام على قلب ان يشم رائحه اليقين، و فيه شكوى الى غير الله.
و ذكر للنبى (ص) ما يقال عن عيسى بن مريم (ع) انه مشى على الماء، فقال: لو ازداد يقينا لمشى على الهواء.
و فى الخبر المرفوع عنه (ص)، انه قال لعبد الله بن مسعود: (لاترضين احدا بسخط الله، و لاتحمدن احدا على فضل الله، و لاتذمن احدا على ما لم يوتك الله.
و اعلم ان الرزق لايسوقه حرص حريص، و لايرده كراهه كاره، و ان الله جعل الروح و الفرج فى الرضا و اليقين، و جعل الهم و الحزن فى الشك و السخط).
و منها الصبر، قال الله تعالى: (و اصبر و ما صبرك الا بالله).
و قال على (ع): الصبر من الايمان بمنزله الراس من الجسد.
و سئل الفضيل عن الصبر، قال: تجرع المراره من غير تعبيس.
و قال رويم: الصبر ترك الشكوى.
و قال على (ع): الصبر مطيه لاتكبو.
وقف رجل على الشبلى، فقال اى صبر اشد على الصابرين؟ قال الشبلى: الصبر فى الله تعالى، فقال: لا، قال: فالصبر لله، فقال: لا، قال: فالصبر مع الله تعالى، فقال: لا، قال: فاى شى ئ؟ قال الصبر عن الله.
فصرخ الشبلى صرخه عظيمه، و وقع.
و يقال ان الشبلى حبس فى المارستان، فدخل عليه قوم، فقال: من انتم؟ قالوا: محبوك جئناك زائرين، فرماهم بالحجاره فهربوا، فقال: لو كنتم احباى، لصبرتم على بلائى.
و جاء فى بعض الاخبار، عن الله تعالى: بعينى ما يتحمل المتحملون من اجلى.
و قال عمر بن الخطاب: لو كان الصبر و الشكر بعيرين لم ابال ايهما ركبت.
و فى الحديث المرفوع: (الايمان الصبر و السخاء).
و فى الخبر: العلم خليل المومن، و الحلم وزيره، و العقل دليله، و العمل قائده، و الرفق وا لده، و البر اخوه، و الصبر امير جنوده.
قالوا: فناهيك بشرف خصله تتامر على هذه الخصال! و المعنى ان الثبات على هذه الخصال و استدامه التخلق بها انما يكون بالصبر، فلذلك كان امير الجنود.
و منها المراقبه، جاء فى الخبر عن النبى (ص): ان سائلا ساله عن الاحسان، فقال: (ان تعبد الله كانك تراه، فان لم تكن تراه، فانه يراك).
و هذه اشاره الى حال المراقبه، لان المراقبه علم العبد باطلاع الرب عليه، فاستدامه العبد لهذا العلم مراقبه للحق، و هو اصل كل خير، و لا يكاد يصل الى هذه الرتبه الا بعد فراغه عن المحاسبه، فاذا حاسب نفسه على ما سلف، و اصلح حاله فى الوقت، و لازم طريق الحق، و احسن بينه و بين الله تعالى بمراعاه القلب، و حفظ مع الله سبحانه الانفاس، راقبه تعالى فى عموم احواله، فيعلم انه تعالى رقيب عليه، يعلم احواله، و يرى افعاله، و يسمع اقواله.
و من تغافل عن هذه الجمله، فهو بمعزل عن بدايه الوصله، فكيف عن حقائق القربه! و يحكى ان ملكا كان يتحظى جاريه له، و كان لوزيره ميل باطن اليها، فكان يسعى فى مصالحها، و يرجح جانبها على جانب غيرها من حظايا الملك و نسائه.
فاتفق ان عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الاحمر: احدهما انفس من الاخر، بمحضر من وزيره، فتحيرت ايهما تاخذ! فاوما الوزير بعينه الى الحجر الانفس، و حانت من الملك التفاته، فشاهد عين الوزير و هى مائله الى ذلك الجانب، فبقى الوزير بعدها اربعين سنه لايراه الملك قط الا كاسرا عينه نحو الجانب الذى كان طرفه مائلا اليه ذلك اليوم، اى كان ذلك خلقه.
و هذا عزم قوى فى المراقبه، و مثله فليكن حال من يريد الوصول.
و يحكى ايضا ان اميرا كان له غلام يقبل عليه اكثر من اقباله على غيره من مماليكه، و لم يكن اكثرهم قيمه، و لا احسنهم صوره، فقيل له فى ذلك، فاحب ان يبين لهم فضل الغلام فى الخدمه على غيره، فكان يوما راكبا، و معه حشمه، و بالبعد منهم جبل عليه ثلج فنظر الامير الى الثلج و اطرق، فركض الغلام فرسه، و لم يعلم الغلمان لماذا ركض! فلم يلبث الا قليلا حتى جاء و معه شى ء من الثلج، فقال الامير: ما ادراك انى اردت الثلج! فقال: انك نظرت اليه، و نظر السلطان الى شى ء لايكون الا عن قصد.
فقال الامير لغلمانه: انما اختصه باكرامى و اقبالى، لان لكل واحد منكم شغلا، و شغله مراعاه لحظاتى، و مراقبه احوالى.
و قال بعضهم: من راقب الله فى خواطره، عصمه الله فى جوارحه.
و منها الرضا، و هو ان يرضى العبد بالشدائد و المصائب التى يقضيها الله تعالى عليه، و ليس المراد بالرضا رضا العبد بالمعاصى و الفواحش، او نسبتها الى الرب تعالى عنها، فانه سبحانه لا يرضاها، كما قال جل جلاله: (و لايرضى لعباده الكفر).
و قال: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها).
قال رويم: الرضا ان لو ادخلك جهنم لما سخطت عليه.
و قيل لبعضهم: متى يكون العبد راضيا؟ قال: اذا سرته المصيبه، كما سرته النعمه.
قال الشبلى مره- و الجنيد حاضر: لا حول و لا قوه الا بالله، فقال الجنيد: ارى ان قولك هذا ضيق صدر، و ضيق الصدر يجى ء من ترك الرضا بالقضاء.
و قال ابوسليمان الدارنى: الرضا الا تسال الله الجنه، و لاتستعيذ به من النار.
و قال تعالى فيمن سخط قسمته: (و منهم من يلمزك فى الصدقات فان اعطوا منها رضوا و ان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون).
ثم نبه على ما حرموه من فضيله الرضا، فقال: (و لو انهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيوتينا الله من فضله و رسوله انا الى الله راغبون)، و جواب (لو) هاهنا محذوف لفهم المخاطب و علمه به.
و فى حذفه فائده لطيفه و هو ان تقديره (لرضى الله عنهم)، و لما كان رضاه عن عباده مقاما جليلا جدا حذف ذكره، لان الذكر له لا ينبى ء عن كنهه، و حقيقه فضله، فكان الاضراب عن ذكره ابلغ ف ى تعظيم مقامه.
و من الاخبار المرفوعه انه (ص) قال: (اللهم انى اسالك الرضا بعد القضاء)، قالوا: انما قال: (بعد القضاء) لان الرضا قبل القضاء لايتصور، و انما يتصور توطين النفس عليه، و انما يتحقق الرضا بالشى ء بعد وقوع ذلك الشى ء.
و فى الحديث انه قال لابن عباس يوصيه: (اعمل لله باليقين و الرضا، فان لم يكن فاصبر، فان فى الصبر على ما تكره خيرا كثيرا).
و فى الحديث انه (ص) راى رجلا من اصحابه، و قد اجهده المرض و الحاجه، فقال: ما الذى بلغ بك ما ارى؟ قال: المرض و الحاجه، قال: اولا اعلمك كلاما ان انت قلته اذهب الله عنك ما بك! قال: و الذى نفسى بيده ما يسرنى بحظى منهما ان شهدت معك بدرا و الحديبيه! فقال (ص) (و هل لاهل بدر و الحديبيه ما للراضى و القانع!) و قال ابوالدرداء: ذروه الايمان الصبر و الرضا.
قدم سعد بن ابى وقاص مكه بعد ما كف بصره، فانثال الناس عليه يسالونه الدعاء لهم، فقال له عبدالله بن السائب: يا عم انك تدعو للناس فيستجاب لك، هلا دعوت ان يرد عليك بصرك! فقال: يابن اخى، قضاء الله تعالى احب الى من بصرى.
عمر بن عبدالعزيز: اصبحت و مالى سرور الا فى مواقع القدر.
و كان يقال: الرضا اطراح الاقتراح على العالم بالصلاح، و كان يقال: اذا كان القدر حقا كان سخطه حمقا.
و كان يقال: من رضى حظى.
و من اطرح الاقتراح، افلح و استراح.
و كان يقال: كن بالرضا عاملا، قبل ان تكون له معمولا، و سر اليه عادلا و الا سرت نحوه معدولا.
و قيل للحسن: من اين اتى الخلق؟ قال: من قله الرضا عن الله، فقيل: و من اين دخلت عليهم قله الرضا عن الله؟ قال: من قله المعرفه بالله.
و قال صاحب "سلوان المطاع" فى الرضا: يا مفزعى فيما يج ى ء و راحمى فيما مضى عندى لما تقضيه ما يرضيك من حسن الرضا و من القطيعه استعي ذ مصرحا و معرضا و قال ايضا: كن من مدبرك الحك يم علا وجل على وجل و ارض القضاء فانه حتم اجل و له اجل و قال ايضا: يا من يرى حالى و ان ليس لى فى غير قربى منه اوطار و ليس لى ملتحد دونه و لا عليه لى انصار حاشا لذاك العز و الفضل ان يهلك من انت له جار و ان تشا هلكى فهب لى رضا بكل ما تقضى و تختار عندى لاحكامك يا مالكى قلب كما انعمت صبار كل عذاب منك مستعذب ما لم يكن سخطك و النار و منها العبوديه، و هى امر وراء العباده، معناها التعبد و التذلل.
قالوا: العباده للعوام من المومنين، و العبوديه للخواص من السالكين.
و قال ابوعلى الدقاق: العباده لمن له علم اليقين، و العبوديه لمن له عين اليقين.
و سئل محمد بن خفيف: متى تصح العبوديه؟ فقال: اذا طرح كله على مولاه، و صبر معه على بلواه.
و قال بعضهم: العبوديه معانقه ما امرت به، و مفارقه ما زجرت عنه.
و قيل: العبوديه ان تسلم اليه كلك، و تحمل عليه كلك.
و فى الحديث المرفوع: (تعس عبد الدينار، و تعس عبد الخبيصه).
راى ابويزيد البسطامى رجلا، فقال له: ما حرفتك؟ قال خربنده، قال: امات الله حمارك، لتكون عبدالله، لا عبدا للحمار.
و كان ببغداد فى رباط شيخ الشيوخ، صوفى كبير اللحيه جدا، و كان مغرى، و معنى بها اكثر زمانه، يدهنها و يسرحها، و يجعلها ليلا عند نومه فى كيس، فقام بعض المريدين اليه فى الليل، و هو نائم، فقصها من الاذن الى الاذن، فاصبحت كالصريم.
و اصبح الصوفى شاكيا الى شيخ الرباط، فجمع الصوفيه و سالهم، فقال المريد: انا قصصتها، قال: و كيف فعلت، ويلك ذلك! قال: ايها الشيخ، انها كانت صنمه، و كان يعبدها من دون الله، فانكرت ذلك بقلبى، و اردت ان اجعله عبدا لله لا عبدا للحيه.
قالوا: و ليس شى ء اشرف من العبوديه، و لا اسم اتم للمومن من اسمه بالعبوديه، و لذلك قال سبحانه فى ذكر النبى (ص) ليله المعراج، و كان ذلك الوقت اشرف اوقاته فى الدنيا: (سبحان الذى اسرى بعبده ليلا).
و قال تعالى: (فاوحى الى عبده ما اوحى)، فلو كان اسم اجل من العبوديه لسماه به.
و انشدوا: لاتدعنى الا بيا عبدها فانه اشرف اسمائى و منها الاراده، قال تعالى: (و لاتطرد الذين يدعون ربهم بالغداه و العشى يريدون وجهه).
قالوا: الاراده هى بدء طريق السالكين، و هى اسم لاول منازل القاصدين الى الله، و انما سميت هذه الصفه اراده، لان الاراده مقدمه كل امر، فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله، فلما كان هذا الشان اول الامر لمن يسلك طريق الله سمى اراده، تشبيها له بالقصد الى الامور التى هو مقدمتها.
قالوا: و المريد على موجب الاشتقاق: من له اراده، و لكن المريد فى هذا الاصطلاح من لا اراده له، فما لم يتجرد عن ارادته لايكون مريدا، كما ان من لا اراده له على موجب الاشتقاق لايكون مريدا.
و قد اختلفوا فى العبارات الداله على ماهيه الاراده فى اصطلاحهم، فقال بعضهم: الاراده ترك ما عليه العاده، و عاده الناس فى الغالب التعريج على اوطان الغفله، و الركون الى اتباع الشهوه، و الاخلاد الى ما دعت اليه المنيه، و المريد هو المنسلخ عن هذه الجمله.
و قال بعضهم: الاراده نهوض القلب، فى طلب الرب، و لهذا قيل: انها لوعه تهون كل روعه.
و قال: ابوعلى الدقاق: الاراده لوعه فى الفواد، و لذعه فى القلب، و غرام فى الضمير، و انزعاج فى الباطن، و نيران تاجج فى القلوب.
و قال ممشاذ الدينورى: مذ علمت ان احوال الفقراء جد كلها لم امازح فقيرا، و ذلك ان فقيرا قدم على، فقال: ايها الشيخ، اريد ان تتخذلى عصيده، فجرى على لسانى (اراده و عصيده)، فتاخر الفقير و لم اشعر، فامرت باتخاذ عصيده، و طلبته فلم اجده، فتعرفت خبره، فقيل: انه انصرف من فوره، و هو يقول (اراده و عصيده، اراده و عصيده!)، و هام على وجهه، حتى خرج الى الباديه، و هو يكرر هذه الكلمه، فما زال يقول و يرددها حتى مات.
و حكى بعضهم، قال: كنت بالباديه وحدى، فضاق صدرى، فصحت: يا انس كلمونى، يا جن كلمونى! فهتف هاتف: اى شى ء ناديت؟ فقلت: الله، فقال الهاتف: كذبت، لو اردته لما ناديت الانس، و لا الجن.
فالمريد هو الذى لايشغله عن الله شى ء، و لايفتر آناء الليل و اطراف النهار، فهو فى الظاهر بنعت المجاهدات، و فى الباطن بوصف المكابدات، فارق الفراش، و لازم الانكماش، و تحمل المصاعب، و ركب المتاعب، و عالج الاخلاق، و مارس المشاق، و عانق الاهوال، و فارق الاشكال، فهو كما قيل: ثم قطعت الليل فى مهمه لا اسدا اخشى و لا ذ يبا يغلبنى شوقى فاطوى السرى و لم يزل ذو الشوق مغلوبا و قيل: من صفات المريدين التحبب اليه بالتوكل، و الاخلاص فى نصيحه الامه، و الانس بالخلوه، و الصبر على مقاساه الاحكام، و الايثار لامره، و الحياء من نظره، و بذل المجهود فى محبته، و التعرض لكل سبب يوصل اليه، و القناعه بالخمول، و عدم الفرار من القلب، الى ان يصل الى الرب.
و قال بعضهم: آفه المريد ثلاثه اشياء: التزويج، و كتبه الحديث، و الاسفار.
و قيل: من حكم المريد ان يكون فيه ثلاثه اشياء: نومه غلبه، و اكله فاقه، و كلامه ضروره.
و قال بعضهم: نهايه الاراده ان يشير الى الله فيجده مع الاشاره، فقيل له: و اى شى ء يستوعب الاراده؟ فقال: ان يجد الله بلا اشاره.
و سئل الجنيد: ما للمريدين و سماع القصص و الحكايات؟ فقال: الحكايات جند من جند الله تعالى، يقوى بها قلوب المريدين.
فقيل له: هل فى ذلك شاهد؟ فتلا قوله تعالى: (و كلا نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فوادك).
و قال اصحاب الطريقه: بين المريد و المراد فرق، فالمريد من سلك الرياضه طلبا للوصول، و المراد من فاضت عليه العنايه الالهيه ابتداء، فكان مخطوبا لا خاطبا) و بين الخاطب و المخطوب فرق عظيم.
قالوا: كان موسى (ع) مريدا، ق ال: (رب اشرح لى صدرى) و كان محمد (ص) مرادا، قال له: (الم نشرح لك صدرك)، و سئل الجنيد عن المريد و المراد، فقال: المريد سائر، و المراد طائر، و متى يلحق السائر الطائر! ارسل ذو النون المصرى رجلا الى ابى يزيد، و قال له: الى متى النوم و الراحه! قد سارت القافله! فقال له ابويزيد: قل لاخى: الرجل من ينام الليل كله، ثم يصبح فى المنزل قبل القافله.
فقال ذو النون: هنيئا له! هذا الكلام لاتبلغه احوالنا.
و قد تكلم الحكماء فى هذا المقام، فقال ابوعلى بن سينا فى كتاب "الاشارات": اول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الاراده، و هو ما يعترى المستبصر باليقين البرهانى، او الساكن النفس الى العقد الايمانى، من الرغبه فى اعتلاق العروه الوثقى، فيتحرك سره الى القدس، لينال من روح الاتصال، فما دامت درجته هذه، فهو مريد.
ثم انه ليحتاج الى الرياضه، و الرياضه، موجهه الى ثلاثه اغراض: الاول: تنحيه ما دون الحق عن سنن الايثار.
و الثانى: تطويع النفس الاماره للنفس المطمئنه، لتنجذب قوى التخيل و الوهم الى التوهمات المناسبه للامر القدسى، منصرفه من التوهمات المناسبه للامر السفلى.
و الثالث: تلطيف السر لنفسه.
فالاول يعين عليه الزهد الحقيقى، و الثانى يعين عليه عده اشياء: العباده المشفوعه بالفكره، ثم الالحان المستخدمه لقوى النفس الموقعه لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الاوهام، ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكى، بعباره بليغه، و نغمه رخيمه، و سمت رشيد.
و الثالث يعين عليه الفكر اللطيف، و العشق العفيف، الذى تتامر فيه شمائل المعشوق، دون سلطان الشهوه.
و منها الاستقامه، و حقيقتها الدوام و الاستمرار على الحال، قال تعالى: (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا).
و سئل بعضهم عن تارك الاستقامه، فقال: قد ذكر الله ذلك فى كتابه، فقال: (و لاتكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوه انكاثا).
و فى الحديث المرفوع: (شيبتنى هود)، فقيل له فى ذلك، فقال قوله: (فاستقم كما امرت).
و قال تعالى: (و ان لو استقاموا على الطريقه لاسقيناهم ماء غدقا)، فلم يقل (سقيناهم) بل (اسقيناهم)، اى جعلنا لهم سقيا دائمه، و ذلك لان من دام على الخدمه دامت عليه النعمه.
و منها الاخلاص، و هو افراد الحق خاصه فى الطاعه بالقصد و التقرب اليه بذلك خاصه، من غير رياء و من غير ان يمازحه شى ء آخر من تصنع لمخلوق، او اكتساب محمده بين الناس، او محبه مدح، او معنى من المعانى، و لذلك قال ارباب هذا الفن: الاخلاص تصفيه العمل عن ملا حظه المخلوقين.
و قال الخواص من هولاء القوم: نقصان كل مخلص فى اخلاصه رويه اخلاصه، فاذا اراد الله ان يخلص اخلاص عبد اسقط عن اخلاصه رويته لاخلاصه، فيكون مخلصا لا مخلصا.
و جاء فى الاثر عن مكحول: ما اخلص عبد لله اربعين صباحا، الا ظهرت ينابيع الحكمه من قلبه على لسانه و منها الصدق، و يطلق على معنيين: تجنب الكذب، و تجنب الرياء، و قد تقدم القول فيهما.
و منها الحياء، و فى الحديث الصحيح: (اذا لم تستحى فاصنع ما شئت).
و فى الحديث ايضا: (الحياء من الايمان)، و قال تعالى: (الم يعلم بان الله يرى)، قالوا: معناه الم يستحى! و فى الحديث انه قال لاصحابه: (استحيوا من الله حق الحياء) قالوا: انا لنستحيى و نحمد الله.
قال: (ليس كذلك، من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الراس و ما وعى، و البطن و ما حوى، و ليذكر الموت و طول البلى، و ليترك زينه الحياه الدنيا، فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
و قال ابن عطاء: العلم الاكبر الهيبه و الحياء، فاذا ذهبا لم يبق خير.
و قال ذو النون: الحب ينطق، و الحياء يسكت، و الخوف يقلق.
و قال السرى: الحياء و الانس يطرقان القلب، فان وجدا فيه الزهد و الورع حطا، و الا رحلا.
و كان يقال: تعامل القرن الاول من الناس فيما بينهم بالدين حتى رق الدين، ثم تعامل القرن الثانى بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروئه حتى فنيت المروئه، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبه و الرهبه.
و قال الفضيل: خمس من علامات الشقاء: القسوه فى القلب، و جمود العين، و قله الحياء، و الرغبه فى الدنيا، و طول الامل.
و فسر بعضهم قوله تعالى: (و لقد همت به و هم بها لو لا ان راى برهان ربه) انها كان لها صنم فى زاويه البيت، فمضت فالقت على وجهه ثوبا، فقال يوسف: ما هذا؟ قالت: استحيى منه، قال: فانا اولى ان استحيى من الله! و فى بعض الكتب القديمه: ما انصفنى عبدى! يدعونى فاستحيى ان ارده، و يعصينى و انا اراه، فلايستحيى منى.
و منها الحريه، و هو الا يكون الانسان بقلبه رق شى ء من المخلوقات، لامن اغراض الدنيا، و لا من اغراض الاخره، فيكون فردا لفرد لايسترقه عاجل دنيا، و لا آجل منى، و لا حاصل هوى، و لا سوال، و لا قصد، و لا ارب.
قال له (ص) بعض اصحاب الصفه: قد عزفت نفسى يا رسول الله عن الدنيا، فاستوى عندى ذهبها و حجرها.
قال: صرت حرا.
و كان بعضهم يقول: لو صحت صلاه بغير قرآن، لصحت بهذا البيت: اتمنى على الزمان محا لا ان ترى مقلتاى طلعه حر و سئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا الا مقدار مص نواه! فقال: المكاتب عبد ما بقى عليه درهم.
و منها الذكر، قال الله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) و روى ابوالدرداء ان رسول الله (ص)، قال: الا انبئكم بخير اعمالكم، و ازكاها عند خالقكم، و ارفعها فى درجاتكم، و خير من اعطائكم الذهب و الفضه فى سبيل الله، و من ان تلقوا عدوكم فتضربوا اعناقهم، و يضربوا اعناقكم؟)، قالوا: ما ذلك يا رسول الله؟ قال: (ذكر الله).
و فى الحديث المرفوع: (لاتقوم الساعه على احد يقول: الله الله).
و قال ابوعلى الدقاق: الذكر منشور الولايه، فمن وفق للذكر فقد اعطى المنشور، و من سلب الذكر فقد عزل.
و قيل: ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين، به يقاتلون اعدائهم، و به يدفعون الافات التى تقصدهم، و ان البلاء اذا اظل العبد ففزع بقلبه الى الله حاد عنه كل ما يكرهه.
و فى الخبر المرفوع: (اذا مررتم برياض الجنه فارتعوا فيها)، قيل: و ما رياض الجنه؟ قال: (مجالس الذكر).
و فى الخبر المرفوع: (انا جليس من ذكرنى).
و سمع الشبلى و هو ينشد: ذكرتك لا انى نسيتك لمحه و ايسر ما فى الذكر ذكر لسانى فكدت بلا وجد اموت من الهوى و هام على القلب بالخفقان فلما ارانى الوجد انك حاضرى شهدتك موجودا بكل مكان فخاطبت موجودا بغير تكلم و لاحظت معلوما بغير عيان و منها الفتوه، قال سبحانه مخبرا عن اصحاب الاصنام (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم).
و قال تعالى فى اصحاب الكهف، (انهم فتيه آمنوا بربهم و زدناهم هدى).
و قد اختلفوا فى التعبير عن الفتوه ما هى؟ فقال بعضهم: الفتوه الا ترى لنفسك فضلا على غيرك.
و قال بعضهم: الفتوه الصفح عن عثرات الاخوان.
و قالوا: انما هتف الملك يوم احد بقوله: لا سيف الا ذو الفقا ر، و لا فتى الا على لانه كسر الاصنام، فسمى بما سمى به ابوه ابراهيم الخليل حين كسرها و جعلها جذاذا.
قالوا: و صنم كل انسان نفسه، فمن خالف هواه فقد كسر صنمه، فاستحق ان يطلق عليها لفظ الفتوه.
و قال الحارث المحاسبى: الفتوه ان تنصف و لاتنتصف.
و قال عبدالله بن احمد بن حنبل: سئل ابى عن الفتوه، فقال: ترك ما تهوى لما تخشى.
و قيل: الفتوه الا تدخر و لاتعتذر.
سال شقيق البلخى جعفر بن محمد الصادق (ع)، عن الفتوه، فقال: ما تقول انت؟ قال: ان اعطينا شكرنا، و ان منعنا صبرنا.
قال: ان الكلاب عندنا بالمدينه هذا شانها، و لكن قل: ان اعطينا آثرنا، و ان منعنا شكرنا.
و منها الفراسه، قيل فى تفسير قوله تعالى: (ان فى ذلك لايات للمتوسمين).
اى للمتفرسين.
و قال النبى (ص): (اتقوا فراسه المومن، فانها لا تخطى ء).
قيل: الفراسه سواطع انوار لمعت فى القلوب، حتى شهدت الاشياء من حيث اشهدها الحق اياها، و كل من كان اقوى ايمانا كان اشد فراسه.
و كان يقال: اذا صحت الفراسه ارتقى منها صاحبها الى المشاهده.
و منها حسن الخلق، و هو من صفات العارفين، فقد اثنى الله تعالى به على نبيه، فقال: (و انك لعلى خلق عظيم).
و قيل له (ص): اى المومنين افضل ايمانا؟ فقال: احسنهم خلقا، و بالخلق تظهر جواهر الرجال، و الانسان مستور بخلقه مشهور بخلق.
و قال بعضهم: حسن الخلق استصغار ما منك، و استعظام ما اليك.
و قال النبى (ص): (انكم لن تسعوا الناس باموالكم، فسعوهم باخلاقكم).
قيل لذى النون: من اكبر الناس هما؟ قال: اسووهم خلقا.
و كان يقال: ما تخلق احد اربعين صباحا بخلق الا صار ذلك طبيعه فيه.
قال الحسن فى قوله تعالى: (و ثيابك فطهر) اى و خلقك فحسن.
شتم رجل الاحنف بن قيس، و جعل يتبعه و يشتمه، فلما قرب الحى وقف، و قال: يا فتى، ان كان قد بقى فى قلبك شى ء فقله، كيلا يسمعك سفهاء الحى فيجيبوك.
و يقال: ان معروفا الكرخى نزل د جله ليسبح، و وضع ثيابه و مصحفه، فجائت امراه فاحتملتهما، فتبعها، و قال: انا معروف الكرخى، فلا باس عليك! الك ابن يقرا؟ قالت: لا، قال: افلك بعل؟ قالت: لا، قال: فهاتى المصحف، و خذى الثياب.
قيل لبعضهم: ما ادب الخلق؟ قال: ما ادب الله به نبيه فى قوله: (خذ العفو و امر بالعرف و اعرض عن الجاهلين).
يقال: ان فى بعض كتب النبوات القديمه: يا عبدى اذكرنى حين تغضب، اذكرك حين اغضب.
قالت امراه لمالك بن دينار: يا مرائى! فقال: لقد وجدت اسمى الذى اضله اهل البصره.
قال بعضهم- و قد سئل عن غلام سوء له: لم يمسكه؟ قال: اتعلم عليه الحلم.
و كان يقال: ثلاثه لايعرفون الا عند ثلاثه: الحليم عند الغضب، و الشجاع عند الحرب، و الصديق عند الحاجه اليه.
و قيل فى تفسير قوله تعالى: (و اسبغ عليكم نعمه ظاهره و باطنه): الظاهره تسويه الخلق، و الباطنه تصفيه الخلق.
الفضيل: لان يصحبنى فاجر حسن الخلق احب الى من ان يصحبنى عابد سيى ء الخلق.
خرج ابراهيم بن ادهم الى بعض البرارى، فاستقبله جندى فساله: اين العمران؟ فاشار الى المقبره، فضرب راسه فشجه و ادماه، فلما جاوزه قيل له: ان ذلك ابراهيم بن ادهم زاهد خراسان! فرد اليه يعتذر.
فقال ابراهيم: انك لما ضربتنى سالت الله لك الجنه.
قال: لم سالت ذلك؟ قال: علمت انى اوجر على ضربك لى، فلم ارد ان يكون نصيبى منك الخير، و نصيبك منى الشر.
و قال بعض اصحاب الجنيد! قدمت من مكه، فبدات بالشيخ كى لايتعنى الى، فسلمت عليه، ثم مضيت الى منزلى، فلما صليت الصبح فى المسجد، اذا انابه خلفى فى الصف، فقلت: انما جئتك امس لئلا تتعنى! فقال: ذلك فضلك، و هذا حقك.
كان ابوذر على حوض يسقى ابله، فزاحمه انسان فكسر الحوض، فجلس ابوذر ثم اضطجع فقيل له فى ذلك، فقال: امرنا رسول الله (ص): (اذا غضب الرجل و هو قائم فليجلس، فان ذهب عنه، و الا فليضطجع).
دعا انسان بعض مشاهير الصوفيه الى ضيافه، فلما حضر باب داره رده و اعتذر اليه.
ثم فعل به مثل ذلك و ثانيه و ثالثه، و الصوفى لايغضب، و لايضجر، فمدحه ذلك الانسان و اثنى عليه بحسن الخلق، فقال: انما تمدحنى على خلق تجد مثله فى الكلب، ان دعوته حضر، و ان زجرته انزجر.
مر بعضهم وقت الهاجره بسكه، فالقى عليه من سطح طست رماد، فغضب من كان فى صحبته، فقال: لاتغضبوا، من استحق ان يصب عليه النار فصولح على الرماد، لم يجز له ان يغضب.
كان لبغض الخياطين جار يدفع اليه ثيابا فيخيطها، و يدفع اليه اجرتها دراهم زيوفا، فياخذها، فقام يوما من حانوته، و اس تخلف ولده، فجاء الجار بالدراهم الزائفه، فدفعها الى الولد فلم يقبلها، فابدلها بدراهم جيده، فلما جاء ابوه دفع اليه الدراهم، فقال: ويحك! هل جرى بينك و بينه امر؟ قال: نعم، انه احضر الدراهم زيوفا، فرددتها فاحضر هذه، فقال: بئس ما صنعت! انه منذ كذا و كذا سنه يعاملنى بالزائف و اصبر عليه، و و القيها فى بئر، كى لايغر غيرى بها! و قيل: الخلق السيى ء هو ان يضيق قلب الانسان عن ان يتسع لغير ما تحبه النفس و توثره، كالمكان الضيق لايسع غير صاحبه.
و كان يقال: من سوء الخلق ان تقف على سوء خلق غيرك و تعيبه به.
قيل لرسول الله: ادع الله على المشركين، فقال: (انما بعثت رحمه، و لم ابعث عذابا).
دعا على (ع) غلاما له مرارا، و هو لايجيبه، فقام اليه فقال: الا تسمع يا غلام! قال: بلى، قال: فما حملك على ترك الجواب؟ قال: امنى لعقوبتك، قال: اذهب فانت حر.
و منها الكتمان، قال رسول الله (ص): (استعينوا على اموركم بالكتمان).
و قال السرى: علامه الحب الصبر و الكتمان، و من باح بسرنا فليس منا.
و قال الشاعر: كتمت حبك حتى منك تكرمه ثم استوى فيك اسرارى و اعلانى كانه غاض حتى فاض عن جسدى فصار سقمى به فى جسم كتمانى و هذا ضد ما يذهب اليه القوم من الكتم ان، و هو عذر لاصحاب السر و الاعلان.
و كان يقال: المحبه فاضحه، و الدمع نمام.
و قال الشاعر: لا جزى الله دمع عينى خيرا و جزى الله كل خير لسانى فاض دمعى فليس يكتم شيئا و وجدت اللسان ذا كتمان يقال: ان بعض العارفين، اوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال، فلما شاهد الامر غلب، فكان يطلع فى بئر فى موضع خال، فيحدثها بما يشاهد، فنبتت فى تلك البئر شجره سمع منها صوت يحكى كلام ذلك التلميذ، كما يحكى الصدا كلام المتكلم، فاسقط بذلك من ديوان الاولياء.
و انشدوا: ابدا تحن اليكم الارواح و وصالكم ريحانها و الراح و قلوب اهل ودادكم تشتاقكم و الى لقاء جمالكم ترتاح و ارحمه للعاشقين تحملوا ثقل المحبه و الهوى فضاح بالسر ان باحوا تباح دماوهم و كذا دماء البائحين تباح و قال الحسين بن منصور الحلاج: انى لا كتم من علمى جواهره كى لايرى العلم ذو جهل فيفتننا و قد تقدمنى فيه ابوحسن الى الحسين، و اوصى قبله الحسنا يا رب مكنون علم لو ابوح به لقيل لى انت ممن يعبد الوثنا! و لاستحل رجال صالحون دمى يرون اقبح ما ياتونه حسنا و منها الجود و السخاء و الايثار، قال الله تعالى: (و يوثرون على انفسهم و لو كان بهم خصا صه): و قال النبى (ص): السخى قريب من الله، قريب من الناس، و البخيل بعيد من الله بعيد من الناس.
و ان الجاهل السخى احب الى الله من العابد البخيل.
قالوا: لافرق بين الجود و السخاء فى اصطلاح اهل العربيه، الا ان البارى سبحانه لايوصف بالسخاء، لانه يشعر بسماح النفس عقيب التردد فى ذلك، و اما فى اصطلاح ارباب هذه الطريقه، فالسخاء هو الرتبه الاولى، و الجود بعده، ثم الايثار، فمن اعطى البعض و ابقى البعض فهو صاحب السخاء، و من اعطى الاكثر و ابقى لنفسه شيئا فهو صاحب الجود، و الذى قاسى الضراء و آثر غيره بالبلغه فهو صاحب الايثار.
قال اسماء بن خارجه الفزارى: ما احب ان ارد احدا عن حاجه طلبها، ان كان كريما صنت عرضه عن الناس، و ان كان لئيما صنت عنه عرضى.
كان مورق العجلى يتلطف فى بر اخوانه، يضع عندهم الف درهم، و يقول: امسكوها حتى اعود اليكم، ثم يرسل اليهم: انتم منها فى حل.
و كان يقال: الجود اجابه الخاطر الاول.
و كان ابوالحسن البوشنجى فى الخلاء، فدعا تلميذا له، فقال انزع عنى هذا القميص و ادفعه الى فلان، فقيل له: هلا صبرت! فقال: لم آمن على نفسى ان تغير على ما وقع لى من التخلق معه بالقميص.
رئى على (ع) يوما باكيا، فقيل له.
لم تبكى؟ فقال : لم ياتنى صيف منذ سبعه ايام، اخاف ان يكون الله قد اهاننى.
اضاف عبدالله بن عامر رجلا فاحسن قراه، فلما اراد ان يرتحل لم يعنه غلمانه.
فسئل عن ذلك، فقال انهم انما يعينون من نزل علينا لا من ارتحل عنا.
و منها الغيره، قال رسول الله (ص): (لا احد اغير من الله، انما حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن لغيرته).
و فى حديث ابى هريره: (ان الله ليغار و ان المومن ليغار).
قال: و الغيره هى كراهيه المشاركه فيما هو حقك.
و قيل: الغيره الانفه و الحميه.
و حكى عن السرى انه قرى ء بين يديه: (و اذا قرات القرآن جعلنا بينك و بين الذين لايومنون بالاخره حجابا مستورا).
فقال لاصحابه: اتدرون ما هذا الحجاب؟؟ هذا حجاب الغيره، و لا احد اغير من الله.
قالوا: و معنى حجاب الغيره، انه لما اصر الكافرون على الجحود عاقبهم بان لم يجعلهم اهلا لمعرفه اسرار القرآن.
و قال ابوعلى الدقاق: ان اصحاب الكسل عن عبادته، هم الذين ربط الحق باقدامهم مثقله الخذلان، فاختار لهم البعد، و اخرهم عن محل القرب، و لذلك تاخروا.
و فى معناه انشدوا فقالوا: انا صب بمن هويت و لكن ما احتيالى فى سوء راى الموالى! و فى معناه قالوا: سقيم لايعاد، و مريد لايراد.
و كان ابوعلى الدقاق: اذا وقع شى ء فى خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين، يقول: هذا من غيره الحق، يريد به الا يتم ما املناه من صفاء هذا الوقت.
و انشدوا فى معناه: همت باتياننا حتى اذا نظرت الى المراه نهانا وجهها الحسن و قيل لبعضهم: اتريد ان تراه؟ قال: لا، قيل: لم؟ قال انزه ذلك الجمال عن نظر مثلى.
و فى معناه انشدوا: انى لاحسد ناظرى عليك حتى اغض اذا نظرت اليك و اراك تخطر فى شمائلك التى هى فتنتى، فاغار منك عليكا و سئل الشبلى: متى تستريح؟ قال: اذا لم ار له ذاكرا.
و قال ابوعلى الدقاق فى قول النبى (ص) عند مبايعته فرسا من اعرابى و انه استقاله فاقاله، فقال الاعرابى: عمرك الله، فمن انت؟ قال (ص): (انا امرو من قريش)، فقال بعض الصحابه من الحاضرين للاعرابى: كفاك جفاء الا تعرف نبيك! فكان ابوعلى يقول: انما قال: (امرو من قريش) غيره و نوعا من الانفه، و الا فقد كان الواجب عليه ان يتعرف لكل احد انه من هو، لكن الله سبحانه اجرى على لسان ذلك الصحابى التعريف للاعرابى بقوله: (كفاك جفاء الا تعرف نبيك!) و قال اصحاب الطريقه: مساكنه احد من الخلق للحق فى قلبك توجب الغيره منه تعالى.
اذن الشبلى مره، فلما انتهى الى الشهادتين، قال: و حقك لولا انك امرتنى ما ذك رت معك غيرك.
و سمع رجل رجلا يقول: جل الله! فقال له: احب ان تجله عن هذا.
و كان بعض العارفين يقول: لا اله الا الله من داخل القلب، محمد رسول الله من قرط الاذن.
و قيل لابى الفتوح السهروردى- و قد اخذ بحلب ليصلب على خشبه: ما الذى اباحهم هذا منك؟ قال: ان هولاء دعونى الى ان اجعل محمدا شريكا لله فى الربوبيه، فلم افعل، فقتلونى.
و منها التفويض، قال الله تعالى: (و عسى ان تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى ان تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و انتم لاتعلمون)، فاستوقف من عقل امره عن الاقتراح عليه، و افهمه ما يرضاه به من التفويض اليه، فالعاقل تارك للاقتراح، على العالم بالصلاح.
و قال تعالى: (فعسى ان تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا)، فبعث على تاكيد الرجاء بقوله: (خيرا كثيرا).
و لما فوض مومن آل فرعون امره الى الله وقاه (الله سيئات ما مكروا و حاق بال فرعون سوء العذاب) كما ورد فى الكتاب العزيز.
و حقيقه التفويض هى التسليم لاحكام الحق سبحانه، و الى ذلك وقعت الاشاره بقوله تعالى: (قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المومنون)، فاس التفويض و الباعث عليه هو اعتقاد العجز عن مغالبه القدر، و انه لايكون فى الخير و الشر- اعنى الرخص و الصحه و سعه الرزق و البلايا، و الامراض و العلل و ضيق الرزق، الا ما اراد الله تعالى كونه، و لايصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك و لم يعلمه علم اليقين.
و قد بالغ النبى (ص) فى التصريح به و النص عليه بقوله لعبدالله بن مسعود: (ليقل همك، ما قدر اتاك و ما لم يقدر لم ياتك، و لو جهد الخلق ان ينفعوك بشى ء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، و لو جهدوا ان يضروك بشى ء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك).
و فى صحيح مسلم بن الحجاج انه قال لابى هريره فى كلام له: (فان اصابك شى ء فلا تقل: لو فعلت كذا لكان كذا، فان (لو) تفتح عمل الشيطان، و لكن قل: ما قدر الله و ما شاء فعل).
و فى صحيح مسلم ايضا عن البراء بن عازب: (اذا اخذت مضجعك فقل كذا...) الى ان قال: (وجهت وجهى اليك، و الجات ظهرى اليك، رغبه و رهبه اليك، لا منجى و لا ملجا منك الا اليك).
و كان يقال: معارضه المريض طبيبه، توجب تعذيبه و كان يقال: انما الكيس الماهر من امسى فى قبضه القاهر.
و كان يقال: اذا كانت مغالبه القدر مستحيله، فما من اعوان تقوده الى الحيله.
و كان يقال: اذا التبست المصادر، ففوض الى القادر.
و كان يقال: من الدلاله على ان الانسان مصرف مغلوب، و مدبر مربوب، ان يتبلد رايه فى بعض الخطوب، و يعمى عليه الصواب المطلوب.
و اذا كان كذلك، فربما كان تدميره فى تدبيره، و اغتياله من احتياله، و هلكته من حركته.
و فى ذلك انشدوا: ايا من يعول فى المشكلات على ما رآه و ما دبره اذا اعضل الامر فافزع به الى من يرى منه ما لم تره تكن بين عطف يقيل الخطوب و لطف يهون ما قدره اذا كنت تجهل عقبى الامور و ما لك حول و لا مقدره فلم ذا العنا و علا م الاسى و مم الحذار و فيم الشره! و انشدوا فى هذا المعنى: يا رب مغتبط و مغ بوط بامر فيه هلكه و منافس فى ملك ما يشقيه فى الدارين ملكه ستر، و ليس يرام هتكه و معارض الاقدار بال آراء سى ء الحال ضنكه فكن امرا محض اليقي ن و زيف الشبهات سبكه تفويضه توحيده و عناده المقدار شركه و منها الولايه و المعرفه، و قد تقدم القول فيهما.
و منها الدعاء و المناجاه، قال الله تعالى: (ادعونى استجب لكم).
و فى الحديث المرفوع: (الدعاء مخ العباده).
و قد اختلف ارباب هذا الشان فى الدعاء، فقال قوم: (الدعاء مفتاح الحاجه، و مستروح اصحاب الفاقات، و ملجا المضطرين، و متنفس ذوى المارب.
و قد ذم الله تعالى قوما فقال: (و يقبضون ايديهم) فسروه و قالوا: لايمدونها اليه فى السوال.
و قال سهل بن عبدالله التسترى: خلق الله الخلق، و قال: تاجروا فى، فان لم تفعلوا فاسمعوا منى، فان لم تفعلوا فكونوا ببابى، فان لم تفعلوا فانزلوا حاجاتكم بى.
قالوا: و قد اثنى الله، على نفسه، فقال: (امن يجيب المضطر اذا دعاه)، قالوا: الدعاء اظهار فاقه العبوديه.
و قال ابوحاتم الاعرج: لان احرم الدعاء اشد على من ان احرم الاجابه.
و قال قوم: بل السكوت و الخمود تحت جريان الحكم و الرضا بما سبق من اختيار الحكيم العالم بالمصالح اولى و لهذا قال الواسطى اختيار ما جرى لك فى الازل، خير لك من معارضه الوقت.
و قال النبى (ص) اخبارا عن الله تعالى: (من شغله ذكرى عن مسالتى اعطيته افضل ما اعطى السائلين).
و قال قوم: يجب ان يكون العبد صاحب دعاء بلسانه، و صاحب رضا بقلبه، لياتى بالامرين جميعا.
و قال قوم: ان الاوقات تختلف، ففى بعض الاحوال يكون الدعاء افضل من السكوت، و فى بعض الاحوال يكون بالعكس، و انما يعرف هذا فى الوقت، لان علم الوقت يحصل فى الوقت، فاذا وجد فى قلبه الاشاره الى الدعاء فالدعاء اولى، و ان وجد بقلبه الاشاره الى السكوت فالسكوت له اتم و اولى.
و جاء فى الخبر: (ان الله يبغض العبد فيسرع اجابته بغض ا لسماع صوته، و انه يحب العبد فيوخر اجابته حبا لسماع صوته).
و من ادب الدعاء حضور القلب، فقد روى عنه (ص): (ان الله لايستجيب دعاء قلب لاه).
و من شروط الاجابه طيب الطعمه و حل المكسب، قال (ص) لسعد بن ابى وقاص: (اطب كسبك تستجب دعوتك).
و ينبغى ان يكون الدعاء بعد المعرفه، قيل لجعفر بن محمد الصادق (ع): ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا! قال: لانكم تدعون من لاتعرفونه.
كان صالح المرى يقول كثيرا: ادعوا: فمن ادمن قرع الباب يوشك ان يفتح له، فقالت له رابعه العدويه: ماذا تقول؟: اغلق هذا الباب حتى يستفتح! فقال صالح: شيخ جهل، و امراه علمت.
و قيل: فائده الدعاء اظهار الفاقه من الخلق، و الا فالرب يفعل ما يشاء.
و قيل: دعاء العامه بالاقوال، و دعاء العابد بالافعال، و دعاء العارف بالاحوال.
و قيل: خير الدعاء ما هيجه الاحزان و الوجد.
و قيل: اقرب الدعاء الى الاجابه دعاء الاضطرار، لقوله تعالى: (امن يجيب المضطر اذا دعاه).
قال اصحاب هذه الطريقه: السنه المبتدئين ارباب الاراده منطلقه بالدعاء، و السنه المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك.
و كان عبدالله بن المبارك يقول: ما دعوته منذ خمسين سنه، و لااريد ان يدعو لى احد.
و قيل: الدعاء سلم المذنبين.
و قا ل من قال بنقيض هذا: الدعاء مراسله، و ما دامت المراسله باقيه فالامر جميل بعد.
و قالوا: السنه المذنبين دموعهم.
و كان ابوعلى الدقاق يقول: اذا بكى المذنب فقد راسل الله.
و فى معناه انشدوا: دموع الفتى عما يجن تترجم و انفاسه تبدين ما القلب يكتم و قال بعضهم لبعض العارفين: ادع لى، فقال: كفاك من الاجابه الا تجعل بينك و بينه واسطه.
و منها التاسى، قال سبحانه: (لقد كان لكم فى رسول الله اسوه حسنه) اى فى مصابه و ما نيل منه فى نفسه و فى اهله يوم احد، فلا تجزعوا ان اصيب بعضكم.
و جاء فى الحديث المرفوع: لاتنظروا الى من فوقكم، و انظروا الى من دونكم، فانه اجدر الا تزدروا نعم الله عليكم.
و قالت الخنساء ترثى اخاها: و لولا كثره الباكين حولى على اخوانهم لقتلت نفسى و ما يبكون مثل اخى و لكن اعزى النفس عنه بالتاسى و حقيقه التاسى تهوين المصائب و النوائب على النفس بالنظر الى ما اصاب امثالك، و من هو ارفع محلا منك.
و قد فسر العلماء قوله تعالى: (و لن ينفعكم اليوم اذ ظلمتم انكم فى العذاب مشتركون)، قال: انه لايهون على احد من اهل النار عذابه، و ان تاسى بغيره من المعذبين، لان الله تعالى جعل لهم التاسى نافعا فى الدنيا، و لم يجعله ناف عا لاهل النار مبالغه فى تعذيبهم، و نفيا لراحه تصل اليهم.
و منها الفقر، و هو شعار الصالحين، قال رسول الله (ص): (اللهم احينى مسكينا، و امتنى مسكينا، و احشرنى مع المساكين).
قال لعلى (ع): (ان الله قد زينك بزينه لم يزين العباد باحسن منها، وهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم اتباعا، و يرضون بك اماما).
و جاء فى الخبر المرفوع: (الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامه).
و سئل يحيى بن معاذ عن الفقر فقال: الا تستغنى الا بالله.
و قال ابوالدرداء: لان اقع من فوق قصر فاتحطم احب الى من مجالسه الغنى لانى سمعت رسول الله (ص) يقول: (اياكم و مجالسه الموتى)، فقيل له: و ما الموتى؟ قال: الاغنياء.
قيل للربيع بن خثيم: قد غلا السعر، قال: نحن اهون على الله من ان يجيعنا، انما يجيع اوليائه.
و قيل ليحيى بن معاذ: ما الفقر؟ قال: خوف الفقر.
و قال الشبلى: ادنى علامات الفقير ان لو كانت الدنيا باسرها لواحد فانفقها فى يوم واحد، ثم خطر بباله: (لو امسكت منها قوت يوم آخر!)، لم يصدق فى فقره.
سئل ابن الجلاء عن الفقر، فسكت ثم ذهب قليلا، و عاد فقال: كانت عندى اربعه دوانيق فضه، فاستحييت من الله ان اتكلم فى الفقر و هى عندى، فذهبت فاخرجتها، ثم قعد فتكلم فى ال فقر.
و قال ابوعلى الدقاق فى تفسير قوله (ص): (من تواضع لغنى ذهب ثلثا دينه، ان المرء بقلبه و لسانه و جوارحه، فمن تواضع لغنى بلسانه و جوارحه، ذهب ثلثا دينه، فان تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله.
و منها الادب، قالوا فى تفسير قوله تعالى: (ما زاع البصر و ما طغى): حفظ ادب الحضره.
قيل انه (ع) لم يمد نظره فوق المقام الذى اوصل اليه ليله شاهد السدره، و هى اقصى ما يمكن ان ينتهى اليه البشريون.
و فى الحديث المرفوع: (ادبنى ربى فاحسن تاديبى).
و قيل: ان الجنيد لم يمد رجله فى الخلوه عشرين سنه، و كان يقول: الادب مع الله اولى من الادب مع الخلق.
و قال ابوعلى الدقاق: من صاحب الملوك بغير ادب، اسلمه الجهل الى القتل.
و من كلامه (ع): ترك الادب يوجب الطرد، فمن اساء الادب على البساط، رد الى الباب، و من اساء الادب على الباب، رد الى ساحه الدواب.
و قال عبدالله بن المبارك: قد اكثر الناس فى الادب، و عندى ان الادب معرفه الانسان بنفسه.
و قال الثورى: من لم يتادب للوقت، فوقته مقت.
و قال ابوعلى الدقاق فى قوله تعالى، حكايه عن ايوب: (اذ نادى ربه انى مسنى الضر و انت ارحم الراحمين).
قال: لم يقل: (فارحمنى) لانه حفظ آداب الخطاب، و كذلك قال فى قول عي سى: (ان كنت قلته فقد علمته)، قال: لم يقل: (لم اقل) رعايه لادب الحضره.
و منها المحبه، و هى مقام جليل، قالوا: المحبه ان تهب كلك لمن احببت، فلا يبقى لك منك شى ء.
قيل لبعض العرب: ما وجدت من حب فلانه؟ قال: ارى القمر على جدارها احسن منه على جدارن الناس.
و قال ابوعبدالرحمن السلمى: المحبه ان تغار على محبوبك ان يحبه غيرك.
و قال النصراباذى: المحبه نوعان: نوع يوجب حقن الدماء، و نوع يوجب سفك الدماء.
و قال يحيى بن معاذ: المحبه الخالصه الا تنقص بالجفاء، و لاتزيد بالبر.
و قيل للنصر اباذى: كيف حالك فى المحبه؟ قال: عدمت وصال المحبين، و رزقت حسراتهم، فهو ذا انا احترق فيها.
ثم قال: المحبه مجانبه السلو على كل حال.
و انشدوا: و من كان فى طول الهوى ذاق سلوه فانى من ليلى لها غير ذائق و اكثر شى ء نلته من وصالها امانى لم تصدق كلمحه بارق و جاء فى الحديث المرفوع: (المرء مع من احب)، و لما سمع سمنون هذا الخبر، قال: فاز المحبون بشرف الدنيا و الاخره، لانهم مع الله تعالى.
و فى الحديث المرفوع: (لاعطين الرايه غدا رجلا يحب الله و رسوله، و يحبه الله و رسوله)، و هذا يتجاوز حد الجلاله و الشرف.
و كان يقال: الحب اوله ختل، و آخره قتل.
قيل: ك تب يحيى بن معاذ الى ابى يزيد: سكرت من كثره ما شربت من محبته، فكتب اليه ابوزيد: غيرك شرب بحور السموات و الارض، و ما روى بعد، و لسانه خارج، و هو يقول: هل من مزيد! و انشد: عجبت لمن يقول ذكرت حبى و هل انسى فاذكر ما نسيت! شربت الحب كاسا بعد كاس فما نفد الشراب، و لا رويت و قيل: المحبه سكر لايصحو صاحبه الا بمشاهده محبوبه، ثم السكر الذى يحصل عند المشاهده لايوصف.
و انشدوا: فاسكر القوم دور كاس و كان سكرى من المدير و منها الشوق، جاء فى الخبر المرفوع: ان الجنه لتشتاق الى ثلاثه: على، و سلمان، و عمار.
الشوق مرتبه من مراتب القوم، و مقام من مقامتهم.
سئل ابن عطاء: الشوق اعلى ام المحبه؟ فقال: المحبه، لان الشوق منها يتولد.
و من الادعيه النبويه الماثوره الدعاء الذى كان يدعو به عمار بن ياسر رضى الله عنه: (اللهم بعلمك بالغيب، و قدرتك على الخلق، احينى ما علمت الحياه خيرا لى، و توفنى ما كانت الوفاه خيرا لى اللهم انى اسالك خشيتك فى الغيب و الشهاده، و اسالك كلمه الحق فى الرضا و الغضب، و اسالك القصد فى الغنى و الفقر، و اسالك نعيما لايبيد، و قره عين لاتنقطع، و اسالك الرضا بعد القضاء، و برد العيش بعد الموت.
و اسالك النظر الى وجهك "و الشوق الى لقائك" من غير ضراء مضره.
اللهم زينا بزينه الايمان، و اجعلنا هداه مهتدين).
قالوا: الشوق احتياج القلب الى لقاء المحبوب، و على قدر المحبه يكون الشوق، و علامه الشوق حب الموت.
و هذا هو السر فى قوله تعالى: (فتمنوا الموت ان كنتم صادقين) اى ان من كان صاحب محبه يتمنى لقاء محبوبه، فمن لايتمنى ذلك لايكون صادق المحبه.
قيل لبعض الصوفيه: هل تشتاق اليه؟ فقال: انما الشوق الى غائب، و هو حاضر لايغيب.
و قالوا فى قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فان اجل الله لات): انه تطيب لقلوب المشتاقين.
و يقال: انه مكتوب فى بعض كتب النبوات القديمه: شوقناكم فلم تشتاقوا، و زمرنا لكم فلم ترقصوا، و خوفناكم فلم ترهبوا، و نحنا لكم فلم تحزنوا.
و قيل: ان شعيبا بكى حتى عمى، فرد الله اليه بصره، ثم بكى حتى عمى، فرد عليه بصره، ثم كذلك ثلاثا، فقال الله تعالى: (ان كان هذا البكاء شوقا الى الجنه فقد ابحتها لك، و ان كان خوفا من النار فقد اجرتك منها).
فقال: و حقك لا هذا و لا هذا، و لكن شوقا اليك، فقال له: (لاجل ذلك اخدمتك نبيى و كليمى عشر سنين).
و منها الزهد و رفض الدنيا، قال سبحانه: (و لاتمدن عينيك الى ما متعنا به ازواجا منهم زهره الحياه الدنيا).
و جاء فى الخبر ان يوسف (ع) كان يجوع فى سنى الجدب، فقيل له: اتجوع و انت على خزائن مصر! فقال: اخاف ان اشبع فانسى الجياع.
و كذلك قال على (ع)، و قد قيل له: اهذا لباسك، و هذا ماكولك، و انت امير المومنين! فقال: نعم، ان الله فرض على ائمه العدل ان يقدروا لانفسهم كضعفه الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره.
و منع عمر بن الخطاب نفسه عام الرماده الدسم، و قال: لا آكله حتى يصيبه المسلمون جميعا.
و كان عمر بن عبدالعزيز من اكثر الناس تنعما، قبل ان يلى الخلافه، قومت ثيابه حينئذ بالف دينار، و قومت و هو يخطب الناس ايام خلافته بثلاثه دراهم.
و اعلم ان بعض هذه المراتب و المقامات التى ذكرناها للقوم قد يكون متداخلا فى الظاهر، و له فى الباطن عندهم فرق يعرفه من يانس بكتبهم، و قد اتينا فى تقسيم مراتبهم و تفصيل مقاماتهم فى هذا الفصل بما فيه كفايه.