فى نفس البقاء، بفتح الفاء، اى فى سعته، تقول: انت فى نفس من امرك، اى فى سعه.
و الصحف منشوره، اى و انتم بعد احياء، لانه لا تطوى صحيفه الانسان الا اذا مات.
و التوبه مبسوطه لكم غير مقبوضه عنكم، و لا مردوده عليكم ان فعلتم، كما ترد على الانسان توبته اذا احتضر.
و المدبر يدعى، اى من يدبر منكم، و يولى عن الخير يدعى اليه، و ينادى: يا فلان اقبل على ما يصلحك! و المسى ء يرجى، اى يرجى عوده و اقلاعه.
قبل ان يجمد العمل، استعاره مليحه، لان الميت يجمد عمله و يقف، و يروى: (يخمد) بالخاء، من خمدت النار، و الاول احسن.
و ينقطع المهل، اى العمر الذى امهلتم فيه.
و تصعد الملائكه، لان الانسان عند موته تصعد حفظته الى السماء، لانه لم يبق لهم شغل فى الارض.
قوله: (فاخذ امرو) ماض يقوم مقام الامر، و قد تقدم شرح ذلك، و المعنى ان من يصوم و يصلى فانما ياخذ بعض قوه نفسه مما يلقى من المشقه.
لنفسه اى عده و ذخيره لنفسه يوم القيامه، و كذلك من يتصدق، فانه ياخذ من ماله، و هو جار مجرى نفسه لنفسه.
و اخذ من حى لميت، اى من حال الحياه لحال الموت، و لو قال: من ميت لحى، كان جيدا ايضا، لان الحى فى الدنيا ليس بحى على الحقيقه، و انما الحي اه حياه الاخره، كما قال الله تعالى: (و ان الدار الاخره لهى الحيوان).
و روى: (امسكها بلجامها) بغير فاء.
جفاه: جمع جاف، اى هم اعراب اجلاف.
و الطغام: اوغاد الناس، الواحد و الجمع فيه سواء.
و يقال للاشرار و اللئام: عبيد، و ان كانوا احرارا.
و الاقزام، بالزاى: رذال الناس و سفلتهم، و المسموع قزم، الذكر و الانثى و الواحد و الجمع فيه سواء، لانه فى معنى المصدر، قال الشاعر: و هم اذا الخيل جالوا فى كتائبها فوارس الخيل لا ميل و لا قزم و لكنه (ع) قال: (اقزام) ليوازن بها قوله: (طغام)، و قد روى: (قزام) و هى روايه جيده، و قد نطقت العرب بهذه اللفظه و قال الشاعر: احصنوا امهم من عبدهم تلك افعال القزام الوكعه و جمعوا من كل اوب، اى من كل ناحيه.
و تلقطوا من كل شوب، اى من فرق مختلطه.
ثم وصف جهلهم و بعدهم عن العلم و الدين، فقال: ممن ينبغى ان يفقه و يودب، اى يعلم الفقه و الادب.
و يدرب، اى يعود اعتماد الافعال الحسنه و الاخلاق الجميله.
و يولى عليه، اى لا يستحقون ان يولوا امرا، بل ينبغى ان يحجر عليهم كما يحجر على الصبى و السفيه لعدم رشده.
و روى: (و يولى عليه)، بالتخفيف.
و يوخذ على يديه، اى يمنع من التصرف.
قوله (ع): (و لا الذين تبوئوا الدار و الايمان)، ظاهر اللفظ يشعر بان الاقسام ثلاثه و ليست الا اثنين، لان ا لذين تبوئوا الدار و الايمان الانصار، و لكنه (ع) كرر ذكرهم تاكيدا، و ايضا فان لفظه (الانصار) واقعه على كل من كان من الاوس و الخزرج، الذين اسلموا على عهد رسول الله (ص)، و الذين تبوئوا الدار و الايمان فى الايه، قوم مخصوصون منهم، و هم اهل الاخلاص و الايمان التام فصار ذكر الخاص بعد العام، كذكره تعالى جبرئيل و ميكائيل، ثم قال: (و الملائكه بعد ذلك ظهير)، و هما من الملائكه.
و معنى قوله (تبوئوا الدار و الايمان) سكنوهما، و ان كان الايمان لا يسكن كما تسكن المنازل، لكنهم لما ثبتوا عليه، و اطمانوا سماه منزلا لهم و متبوا، و يجوز ان يكون مثل قوله: و رايت زوجك فى الوغى متقلدا سيفا و رمحا ثم ذكر (ع) ان اهل الشام اختاروا لانفسهم اقرب القوم مما يحبونه، و هو عمرو بن العاص، و كرر لفظه (القوم)، و كان الاصل ان يقول: الا و ان القوم اختاروا لانفسهم اقربهم مما يحبون، فاخرجه مخرج قول الله تعالى: (و اتقوا الله ان الله عليم بذات الصدور).
و الذى يحبه اهل الشام هو الانتصار على اهل العراق و الظفر بهم، و كان عمرو بن العاص اقربهم الى بلوغ ذلك، و الوصول اليه بمكره و حيلته و خدائعه.
و القوم فى قوله ثانيا: (اقرب القوم)، بمعنى الناس كانه قال : و اخترتم لانفسكم اقرب الناس، مما تكرهونه، و هو ابوموسى الاشعرى، و اسمه عبدالله بن قيس، و الذى يكرهه اهل العراق هو ما يحبه اهل الشام، و هو خذلان عسكر العراق و انكسارهم، و استيلاء اهل الشام عليهم، و كان ابوموسى اقرب الناس الى وقوع ذلك، و هكذا وقع لبلهه و غفلته و فساد رايه، و بغضه عليا (ع) من قبل.
ثم قال: انتم بالامس، يعنى فى واقعه الجمل، قد سمعتم اباموسى ينهى اهل الكوفه عن نصرتى، و يقول لهم: هذه هى الفتنه التى وعدنا بها، فقطعوا اوتار قسيكم، و شيموا سيوفكم، اى اغمدوها فان كان صادقا فما باله سار الى، و صار معى فى الصف، و حضر حرب صفين، و كثر سواد اهل العراق و ان لم يحارب، و لم يسل السيف، فان من حضر فى احدى الجهتين و ان لم يحارب كمن حارب، و ان كان كاذبا فيما رواه من خبر الفتنه فقد لزمته التهمه و قبح الاختلاف اليه فى الحكومه، و هذا يوكد صحه احدى الروايتين فى امر ابى موسى، فانه قد اختلفت الروايه: هل حضر حرب صفين مع اهل العراق ام لا؟ فمن قال: حضر، قال: حضر و لم يحارب، و ما طلبه اليمانيون من اصحاب على (ع) ليجعلوه حكما كالاشعث بن قيس و غيره الا و هو حاضر معهم فى الصف، و لم يكن منهم على مسافه، و لو كان على مسافه لما ط لبوه، و لكان لهم فيمن حضر غناء عنه، و لو كان على مسافه لما وافق على (ع) على تحكيمه، و لا كان على (ع) ممن يحكم من لم يحضر معه.
و قال الاكثرون: انه كان معتزلا للحرب بعيدا عن اهل العراق و اهل الشام.
فان قلت: فلم لايحمل قوله (ع): (فان كان صادقا فقد اخطا بسيره غير مستكره) على مسيره الى اميرالمومنين (ع) و اهل العراق حيث طلبوه ليفوضوا اليه امر الحكومه؟ قلت: لو حملنا كلامه (ع) على هذا لم يكن لازما لابى موسى، و كان الجواب عنه هينا، و ذلك لان اباموسى يقول: انما انكرت الحرب و ما سرت لاحارب و لا لاشهد الحرب، و لا اغرى بالحرب، و انما سرت للاصلاح بين الناس، و اطفاء نائره الفتنه، فليس يناقض ذلك ما رويته عن الرسول من خبر الفتنه، و لا ما قلته فى الكوفه فى واقعه الجمل: (قطعوا اوتار قسيكم).
قوله (ع): (فادفعوا فى صدر عمرو بن العاص بعبدالله بن العباس)، يقال لمن يرام كفه عن امر يتطاول له: ادفع فى صدره، و ذلك لان من يقدم على امر ببدنه فيدفع دافع فى صدره حقيقه، فانه يرده او يكاد، فنقل ذلك الى الدفع المعنوى.
قوله (ع): (و خذوا مهل الايام)، اى اغتنموا سعه الوقت.
و خذوه مناهبه قبل ان يضيق بكم او يفوت.
قوله (ع): (و حوطوا قواصى الاسلام): ما بعد من الاطراف و النواحى.
ثم قال لهم: (الا ترون الى بلادكم تغزى!)، هذا يدل على ان هذه الخطبه بعد انقضاء امر التحكيم، لان معاويه بعد ان تم على ابى موسى من الخديعه ما تم استعجل امره، و بعث السرايا الى اعمال اميرالمومنين على (ع).
و تقول: قد رمى فلان صفاه فلان، اذا دهاه بداهيه، قال الشاهر: و الدهر يوتر قوسه يرمى صفاتك بالمعابل و اصل ذلك الصخره الملساء، لا يوثر فيها السهام و لا يرميها الرامى، الا بعد ان نبل غيرها، يقول: قد بلغت غارات اهل الشام حدود الكوفه التى هى دار الملك و سرير الخلافه، و ذلك لا يكون الا بعد الاثخان فى غيرها من الاطراف.
(فصل فى نسب ابى موسى و الراى فيه عند المعتزله) و نحن نذكر نسب ابى موسى و شيئا من سيرته و حاله نقلا من كتاب "الاستيعاب" لابن عبدالبر المحدث، و نتبع ذلك بما نقلناه من غير الكتاب المذكور.
قال ابن عبدالبر: هو عبدالله بن قيس بن سليم بن حضاره بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر ابن عذر بن وائل بن ناجيه بن الجماهر بن الاشعر، و هو نبت بن ادد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
و امه امراه من عك، اسلمت و ماتت بالمدينه، و اختلف فى انه هل هو من مهاج ره الحبشه ام لا؟ و الصحيح انه ليس منهم، و لكنه اسلم ثم رجع الى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو و ناس من الاشعريين على رسول الله (ص)، فوافق قدومهم قدوم اهل السفينتين جعفر بن ابى طالب و اصحابه من ارض الحبشه، فوافوا رسول الله (ص) بخيبر، فظن قوم ان اباموسى قدم من الحبشه مع جعفر.
و قيل انه لم يهاجر الى الحبشه، و انما اقبل فى سفينه مع قوم من الاشعريين، فرمت الريح سفينتهم الى ارض الحبشه، و خرجوا منها مع جعفر و اصحابه، فكان قدومهم معا، فظن قوم انه كان من مهاجره الحبشه.
قال: و ولاه رسول الله (ص) من مخاليف اليمن زبيد، و ولاه عمر البصره، لما عزل المغيره عنها، فلم يزل عليها الى صدر من خلافه عثمان فعزله عثمان عنها، و ولاها عبدالله بن عامر بن كريز، فنزل ابوموسى الكوفه حينئذ، و سكنها، فلما كره اهل الكوفه سعيد بن العاص و دفعوه عنها، ولوا اباموسى، و كتبوا الى عثمان يسالونه ان يوليه، فاقره على الكوفه، فلما قتل عثمان عزله على (ع) عنها، فلم يزل واجدا لذلك على على (ع)، حتى جاء منه ما قال حذيفه فيه، فقد روى حذيفه فيه كلاما كرهت ذكره و الله يغفر له.
قلت: الكلام الذى اشار اليه ابوعمر بن عبدالبر و لم يذكره قوله فيه، و قد ذكر عنده ب الدين، اما انتم فتقولون ذلك، و اما انا فاشهد انه عدو لله و لرسوله، و حرب لهما فى الحياه الدنيا و يوم يقوم الاشهاد، يوم لاينفع الظالمين معذرتهم، و لهم اللعنه و لهم سوء الدار.
و كان حذيفه عارفا بالمنافقين، اسر اليه رسول الله (ص) امرهم، و اعلمه اسمائهم.
و روى ان عمارا سئل عن ابى موسى، فقال: لقد سمعت فيه من حذيفه قولا عظيما، سمعته يقول: صاحب البرنس الاسود، ثم كلح كلوحا علمت منه انه كان ليله العقبه بين ذلك الرهط.
و روى عن سويد بن غفله: قال: كنت مع ابى موسى على شاطى ء الفرات فى خلافه عثمان، فروى لى خبرا عن رسول الله (ص)، قال: سمعته يقول: (ان بنى اسرائيل اختلفوا، فلم يزل الاختلاف بينهم، حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا و اضلا من اتبعهما، و لا ينفك امر امتى حتى يبعثوا حكمين يضلان و يضلان من تبعهما) فقلت له: احذر يا اباموسى ان تكون احدهما! قال: فخلع قميصه، و قال: ابرا الى الله من ذلك، كما ابرا من قميصى هذا.
فاما ما تعتقده المعتزله فيه، فانا اذكر ما قاله ابومحمد بن متويه فى كتاب "الكفايه" قال رحمه الله: اما ابوموسى فانه عظم جرمه بما فعله، و ادى ذلك الى الضرر الذى لم يخف حاله، و كان على (ع) يقنت عليه و على غيره، فيقول: اللهم العن معاويه اولا و عمرا ثانيا، و اباالاعور السلمى ثالثا، و اباموسى الاشعرى رابعا.
روى عنه (ع): انه كان يقول فى ابى موسى: صبغ بالعلم صبغا و سلخ منه سلخا.
قال: و ابوموسى هو الذى روى عن النبى (ص) انه قال: كان فى بنى اسرائيل حكمان ضالان، و سيكون فى امتى حكمان ضالان، ضال من اتبعهما.
و انه قيل له: الا يجوز ان تكون احدهما؟ فقال: لا- او كلاما، ما هذا معناه- فلما بلى به، قيل فيه: البلاء موكل بالمنطق، و لم يثبت فى توبته ما ثبت فى توبه غيره، و ان كان الشيخ ابوعلى قد ذكر فى آخر كتاب الحكمين انه جاء الى اميرالمومنين (ع) فى مرض الحسن بن على، فقال له: اجئتنا عائدا ام شامتا؟ فقال بل عائدا، و حدث بحديث فى فضل العياده.
قال ابن متويه: و هذه اماره ضعيفه فى توبته.
انتهى كلام ابن متويه، و ذكرته لك لتعلم انه عند المعتزله من ارباب الكبائر، و حكمه حكم امثاله ممن واقع كبيره و مات عليها.
قال ابوعمر بن عبدالبر: و اختلف فى تاريخ موته، فقيل: سنه اثنتين و اربعين، و قيل: سنه اربع و اربعين، و قيل سنه خمسين، و قيل: سنه اثنتين و خمسين.
و اختلف فى قبره، فقيل: مات بمكه و دفن بها، و قيل مات بالكوفه و دفن بها.