شرح نهج البلاغه

ابن ابی الحدید معتزلی

نسخه متنی -صفحه : 614/ 558
نمايش فراداده

قوله: (سروح عاهه)، و السروح: جمع سرح، و هو المال السارح.

و العاهه: الافه، اعاه القوم اصابت ماشيتهم العاهه.

و واد وعث: لا يثبت الحافر و الخف فيه، بل يغيب فيه، و يشق على من يمشى فيه.

و اوعث القوم: وقعوا فى الوعث.

و مسيم يسيمها: راع يرعاها.

قوله: (رويدا يسفر الظلام...) الى آخر الفصل، ثلاثه امثال محركه لمن عنده استعداد.

و استقرانى ابوالفرج محمد بن عباد رحمه الله و انا يومئذ حدث هذه الوصيه فقراتها عليه من حفظى، فلما وصلت الى هذا الموضع صاح صيحه شديده، و سقط- و كان جبارا قاسى القلب.

(اقوال حكيمه فى وصف الدنيا و فناء الخلق) و اعلم انا قدمنا فى وصف الدنيا و الفناء و الموت من محاسن كلام الصالحين و الحكماء ما فيه الشفاء، و نذكر الان اشياء اخر.

فمن كلام الحسن البصرى: يابن آدم، انما انت ايام مجموعه، فاذا مضى يوم مضى بعضك.

عن بعض الحكماء، رحم الله امرا لا يغره ما يرى من كثره الناس، فانه يموت وحده، و يقبر وحده، و يحاسب وحده.

و قال بعضهم: لا وجه لمقاساه الهموم لاجل الدنيا و لا الاعتداد بشى ء من متاعها، و لا التخلى منها، اما ترك الاهتمام لها، فمن جهه انه لا سبيل الى دفع الكائن من مقدورها، و اما ترك الاعتداد بها، فان مرجع كل احد الى تركها، و اما ترك التخلى عنها فان الاخره لا تدرك الا بها.

و من كلام بعض الحكماء: افضل اختيار الانسان ما توجه به الى الاخره، و اعرض به عن الدنيا، و قد تقدمت الحجه و اذنا بالرحيل، و لنا من الدنيا على الدنيا دليل، و انما احدنا فى مده بقائه صريع لمرض، او مكتئب بهم، او مطروق بمصيبه، او مترقب لمخوف، لا يامن المرء اصناف لذته من المطعوم و المشروب ان يكون موته فيه، و لا يامن مملوكه و جاريته ان يقتلاه بحديد او سم، و هو مع ذلك عاجز عن استدامه سلامه عقله من زوال، و سمعه من صمم، و بصره من عمى، و لسانه من خرس، و سائر جوارحه من زمانه، و نفسه من تلف، و ماله من بوار، و حبيبه من فراق، و كل ذلك يشهد شهاده قطعيه انه فقير الى ربه، ذليل فى قبضته، محتاج اليه.

لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه، و عمر آخرته بتخريب دنياه، و اذا اعترضته بحار المكاره، جعل معابرها الصبر و التاسى، و لم يغتر بتتابع النعم، و ابطاء حلول النقم، و ادام صحبه التقى، و فطم النفس عن الهوى، فانما حياته كبضاعه ينفق من راس المال منها، و لا يمكنه ان يزيد فيها، و مثل ذلك يوشك فناوه و سرعه زواله.

و قال ابوالعتاهيه فى ذكر الموت: ستباشر الترباء خدك و سيضحك الباكون بعدك و لينزلن بك البلى و ليخلفن الموت عهدك و ليفنينك مثل ما افنى اباك بلى و جدك لو قد رحلت عن القصو ر و طيبها و سكنت لحدك لم تنتفع الا بفع ل صالح قد كان عندك و ترى الذين قسمت ما لك بينهم حصصا و كدك يتلذذون بما جمع ت لهم و لايجدون فقدك

الشرح:

مثل الكلمه الاولى قول بعض الحكماء- و قد نسب ايضا الى اميرالمومنين (ع): اهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام.

قوله: (فخفضن فى الطلب) من قول رسول الله (ص): (ان روح القدس نفث فى روعى انه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاجملوا فى الطلب).

و قال الشاعر: ما اعتاض باذل وجهه بسواله عوضا و لو نال الغنى بسوال و اذا النوال الى السوال قرنته رجح السوال و خف كل نوال و قال آخر: رددت رونق وجهى عن صحيفته رد الصقال بهاء الصارم الخذم و ما ابالى و خير القول اصدقه حقنت لى ماء وجهى ام حقنت دمى و قال آخر: و انى لاختار الزهيد على الغنى و اجزا بالمال القراح عن المحض و ادرع الاملاق صبرا و قد ارى مكان الغنى كى لا اهين له عرضى و قال ابومحمد اليزيدى فى المامون: ابقى لنا الله الامام و زاده شرفا الى الشرف الذى اعطاه و الله اكرمنا بانا معشر عتقاء من نعم العباد سواه و قال آخر.

كيف النهوض بما اوليت من حسن ام كيف اشكر ما طوقت من نعم ملكتنى ماء وجه كاد يسكبه ذل السوال و لم تفجع به هممى و قال آخر: لا تحرصن على الحطام فانما ياتيك رزقك حين يوذن فيه سبق القضاء بقدره و زمانه و بانه يا تيك او ياتيه و كان يقا: ما استغنى احد بالله الا افتقر الناس اليه.

و قال رجل فى مجلس فيه قوم من اهل العلم: لا ادرى ما يحمل من يوقن بالقدر على الحرص على طلب الرزق! فقال له احد الحاضرين: يحمله القدر، فسكت.

اقول: لو كنت حاضرا لقلت: لو حمله القدر لما نهاه العقلاء عن الحرص، و لما مدحوه على العفه و القناعه فان عاد و قال: و اولئك الجاهم القدر الى المدح و الذم و الامر و النهى، فقد جعل نفسه و غيره من الناس، بل من جميع الحيوانات بمنزله الجمادات التى يحركها غيرها و من بلغ الى هذا الحد لا يكلم.

و قال الشاعر: اراك تزيدك الايام حرصا على الدنيا كانك لا تموت فهل لك غايه ان صرت يوما اليها قلت حسبى قد رضيت! ابوالعتاهيه: اى عيش يكون اطيب من عي ش كفاف قوت بقدر البلاغ قمرتنى الايام عقلى و مالى و شبابى و صحتى و فراغى و اوصى بعض الادباء ابنه فكتب اليه: كن حسن الظن برب خلقك بنى و احمده على ما رزقك و اعلم بان الحرص يطفى رونقك فجانب الحرص و حسن خلقك و اصدق و صادق ابدا من صدقك دار معاديك و مق من ومقك و اجعل لاعدائك حزما ملقك و جنبن حشو الكلام منطقك هذى وصاه والد قد عشقك وصاه من يقلقه ما اقلقك ارشدك الله لها و وفقك ابوالعتاهيه: اجل الغنى مما يومل اسرع و اراك تجمع دائما لا تشبع قل لى لمن اصبحت تجمع دائبا البعل عرسك لا ابا لك تجمع! و اوصى زياد ابنه عبيدالله عند موته، فقال: لا تدنسن عرضك، و لا تبذلن وجهك، و لا تخلقن جدتك بالطلب الى من ان ردك كان رده عليك عيبا، و ان قضى حاجتك جعلها عليك منا، و احتمل الفقر بالتنزه عما فى ايدى الناس، و الزم القناعه بما قسم لك، فان سوء عمل الفقير يضع الشريف، و يخمل الذكر، و يوجب الحرمان.

الشرح:

هذا الكلام قد اشتمل على امثال كثيره حكميه.

اولها قوله: (تلافيك ما فرط من صمتك ايسر من ادراكك ما فات من منطقك)، و هذا مثل قولهم: انت قادر على ان تجعل صمتك كلاما، و لست بقادر على ان تجعل كلامك صمتا، و هذا حق، لان الكلام يسمع و ينقل، فلا يستطاع اعادته صمتا و الصمت عدم الكلام، فالقادر على الكلام قادر على ان يبدله بالكلام، و ليس الصمت بمنقول و لا مسموع فيتعذر استدراكه.

و ثانيها قوله: (حفظ ما فى يديك احب الى من طلب ما فى ايدى غيرك)، هذا مثل قولهم فى المثل: البخل خير من سوال البخيل، و ليس مراد اميرالمومنين (ع) وصايته بالامساك و البخل، بل نهيه عن التفريط و التبذير، قال الله تعالى: (و لاتبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)، و احمق الناس من اضاع ماله اتكالا على مال الناس، و ظنا انه يقدر على الاستخلاف، قال الشاعر: اذا حدثتك النفس انك قادر على ما حوت ايدى الرجال فكذب و ثالثها قوله: (مراره الياس خير من الطلب الى الناس)، من هذا اخذ الشاعر قوله: و ان كان طعم الياس مرا فانه الذ و احلى من سوال الاراذل و قال البخترى: و الياس احدى الراحتين و لن ترى تعبا كظن الخائب المغرور و رابعها قوله: (الحرفه مع العفه خير من الغنى مع الفجور)، و الحرفه بالكسر مثل الحرف بالضم، و هو نقصان الحظ و عدم المال.

و منه قوله (رجل محارف)، بفتح الراء، يقول: لان يكون المرء هكذا و هو عفيف الفرج و اليد، خير من الغنى مع الفجور، و ذلك لان الم الحرفه مع العفه و مشقتها انما هى فى ايام قليله و هى ايام العمر، و لذه الغنى اذا كان مع الفجور، ففى مثل تلك الايام يكون، و لكن يستعقب عذابا طويلا، فالحال الاولى خير لا محاله.

و ايضا ففى الدنيا خير ايضا للذكر الجميل فيها، و الذكر القبيح فى الثانيه، و للمحافظه على المروئه فى الاولى و سقوط المروئه فى الثانيه.

و خامسها قوله: (المرء احفظ لسره) اى الاولى الا تبوح بسرك الى احد، فانت احفظ له من غيرك، فان اذعته فانتشر فلا تلم الا نفسك، لانك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك، فغيرك عن حفظ سرك و هو اجنبى اعجز قال الشاعر: اذا ضاق اصدر المرء عن حفظ سره فصدر الذى يستودع السر اضيق و سادسها قوله: (رب ساع فيما يضره)، قال عبدالحميد الكاتب فى كتابه الى ابى مسلم: لو اراد الله بالنمله صلاحا، لما انبت لها جناحا.

و سابعها قوله: (من اكثر اهجر) يقال: اهجر الرجل، اذا افحش فى المنطق السوء و الخنا، قال الشماخ: كما جده الاعرا ق قال ابن ضره عليها كلاما جار فيه و اهجرا و هذا مثل قولهم: من كثر كلامه كثر سقطه.

و قالوا ايضا: قلما سلم مكثار، او امن من عثار.

و ثامنها قوله: (من تفكر ابصر)، قالت الحكماء: الفكر تحديق العقل نحو المعقول، كما ان النظر البصرى تحديق البصر نحو المحسوس، و كما ان من حدق نحو المبصر و حدقته صحيحه و الموانع مرتفعه لابد ان يبصره، كذلك من نظر بعين عقله، و افكر فكرا صحيحا، لابد ان يدرك الامر الذى فكر فيه و يناله.

و تاسعها قوله: (قارن اهل الخير تكن معهم، و باين اهل الشر تبن عنهم)، كان يقال: حاجبك وجهك، و كاتبك لسانك، و جليسك كلك.

و قال الشاعر: عن المرء لاتسال و سل عن قرينه فكل قرين بالمقارن مقتد و عاشرها قوله: (بئس الطعام الحرام)، هذا من قوله تعالى: (ان الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما انما ياكلون فى بطونهم نارا و سيصلون سعيرا).

و حادى عشرها قوله: (ظلم الضعيف افحش الظلم).

راى معاويه ابنه يزيد يضرب غلاما، فقال: يا بنى، كيف لا يسع حلمك من تضربه فلا يمتنع منك! و امر المامون باشخاص الخطابى القاص من البصره، فلما مثل بين يديه، قال له: يا سليمان، انت القائل: العراق عين الدنيا، و البصره عين العراق، و المربد عين البصره، و م سجدى عين المربد، و انا عين مسجدى، و انت اعور، فان عين الدنيا عوراء! قال: يا اميرالمومنين لم اقل ذاك، و لا اظن اميرالمومنين احضرنى لذلك، قال: بلغنى انك اصبحت فوجدت على ساريه من سوارى مسجدك: رحم الله عليا انه كان تقيا فامرت بمحوه، قال: يا اميرالمومنين، كان (و لقد كان نبيا) فامرت بازالته، فقال: كذبت كانت القاف اصح من عينك الصحيحه، ثم قال: و الله لو لا ان اقيم لك عند العامه سوقا لاحسنت تاديبك، قال: يا اميرالمومنين، قد ترى ما انا عليه من الضعف و الزمانه و الهرم و قله البصر، فان عاقبتنى مظلوما فاذكر قول ابن عمك على (ع): (ظلم الضعيف افحش الظلم) و ان عاقبتنى بحق، فاذكر ايضا قوله: (لكل شى ء راس، و الحلم راس السودد).

فنهض المامون من مجلسه و امر بره الى البصره، و لم يصله بشى ء، و لم يحضر احد قط مجلس المامون الا وصله عدا الخطابى، و ليس هذا هو المحدث الحافظ المشهور، ذاك ابوسليمان احمد بن محمد بن احمد البستى، كان فى ايام المطيع و الطائع، و هذا قاص بالبصره كان يقال له ابوزكريا سليمان بن محمد البصرى.

و ثانى عاشرها قوله: (اذا كان الرفق خرقا، كان الخرق رفقا)، يقول: اذا كان استعمال الرفق مفسده و زياده فى الشر فلا تستعمله، فانه حينئذ ليس برفق بل هو خرق، و لكن استعمل الخرق، فانه يكون رفقا و الحاله هذه، لان الشر لايلقى الا بشر مثله، قال عمرو ابن كلثوم: الا لا يجهلن احد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا و فى المثل: ان الحديد بالحديد يفلح.

و قال زهير: و من لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم و من لا يظلم الناس يظلم و قال ابوالطيب: و وضع الندى فى موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف فى موضع الندى و ثالث عشرها قوله: (و ربما كان الدواء داء، و الداء دواء)، هذا مثل قول ابى الطيب: ربما صحت الاجسام بالعلل و مثله قول ابى نواس: و داونى بالتى كانت هى الداء و مثل قول الشاعر: تداويت من ليلى بليلى فلم يكن دواء و لكن كان سقما مخالفا و رابع عشرها قوله: (ربما نصح غير الناصح، و غش المستنصح).

كان المغيره بن شعبه يبغض عليا (ع) منذ ايام رسول الله (ص)، و تاكدت بغضته الى ايام ابى بكر و عثمان و عمر، و اشار عليه يوم بويع بالخلافه ان يقر معاويه على الشام مده يسيره، فاذا خطب له بالشام و توطات دعوته دعاه اليه كما كان عمر و عثمان يدعو انه اليهما، و صرفه فلم يقبل، و كان ذلك نصيحه من عدو كاشح.

و استشار الحسين (ع) عبدالله بن الزبير و هما بمكه فى الخروج عنها، و قصد ال عراق ظانا انه ينصحه فغشه، و قال له: لا تقم بمكه: فليس بها من يبايعك، و لكن دونك العراق، فانهم متى راوك لم يعدلوا بك احدا، فخرج الى العراق، حتى كان من امره ما كان.

و خامس عشرها قوله: (اياك و الاتكال على المنى، فانها بضائع النوكى)، جمع انوك و هو الاحمق.

من هذا اخذ ابوتمام قوله: من كان مرعى عزمه و همومه روض الامانى لم يزل مهزولا و من كلامهم: ثلاثه تخلق العقل، و هو اوضح دليل على الضعف: طول التمنى، و سرعه الجواب، و الاستغراب فى الضحك.

و كان يقال: التمنى و الحلم سيان.

و قال آخر: شرف الفتى ترك المنى.

و سادس عشرها قوله: (العقل حفظ التجارب) من هذا احد المتكلمون قولهم: العقل نوعان: غريزى، و مكتسب، فالغريزى العلوم البديهيه، و المكتسب ما افادته التجربه و حفظته النفس.

و سابع عشرها قوله: (خير ما جربت ما وعظك)، مثل هذا قول افلاطون: اذا لم تعظك التجربه فلم تجرب، بل انت ساذج كما كنت.

و ثامن عشرها قوله: (بادر الفرصه، قبل ان تكون غصه)، حضر عبيدالله بن زياد عند هانى ء بن عروه عائدا و قد كمن له مسلم بن عقيل، و امره ان يقتله اذا جلس و استقر، فلما جلس جعل مسلم يوامر نفسه و يريدها على الوثوب به فلم تطعه، و جعل هانى ء ينشد كانه يترنم بالشعر: ما الانتظار بسلمى لا تحييها و يكرر ذلك، فاوجس عبيدالله خيفه و نهض، فعاد الى قصر الاماره وفات مسلما منه ما كان يومله باضاعه الفرصه، حتى صار امره الى ما صار.

و تاسع عشرها قوله: (ليس كل طالب يصيب، و لا كل غائب يثوب)، الاولى كقول القائل: ما كل وقت ينال المرء ما طلبا و لايسوغه المقدار ما وهبا و الثانيه كقول عبيد: و كل ذى غيبه يئوب و غائب الموت لايئوب العشرون قوله: (من الفساد اضاعه الزاد، و مفسده المعاد)، و لا ريب ان من كان فى سفر و اضاع زاده، و افسد الحال التى يعود اليها فانه اجمق، و هذا مثل ضربه للانسان فى حالتى دنياه و آخرته.

الحادى و العشرون قوله: (و لكل امر عاقبه) هذا مثل المثل المشهور (لكل سائله قرار).

الثانى و العشرون قوله: (سوف ياتيك ما قدر لك)، هذا من قول رسول الله (ص): (و ان يقدر لاحدكم رزق فى قبه جبل او حضيض بقاع ياته).

الثالث و العشرون قوله: (التاجر مخاطر) هذا حق، لانه يتعجل باخراج الثمن و لا يعلم: هل يعود ام لا! و هذا الكلام ليس على ظاهره، بل له باطن، و هو ان من مزج الاعمال الصالحه بالاعمال السيئه، مثل قوله: (خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا) فانه مخاطر لانه لايامن ان يكون بعض تلك الس يئات تحبط اعماله الصالحه، كما لا يامن ان يكون بعض اعماله الصالحه يكفر تلك السيئات، و المراد انه لا يجوز للمكلف ان يفعل الا الطاعه او المباح.

الرابع و العشرون قوله: (رب يسير، انمى من كثير)، قد جاء فى الاثر: قد يجعل الله من القليل الكثير، و يجعل من الكثير البركه.

و قال الفرزدق: فان تميما قبل ان يلد الحصا اقام زمانا و هو فى الناس واحد و قال ابوعثمان الجاحظ: راينا بالبصره اخوين، كان ابو هما يحب احدهما و يبغض الاخر فاعطى محبوبه يوم موته كل ماله- و كان اكثر من مائتى الف درهم- و لم يعط الاخر شيئا، و كان يتجر فى الزيت، و يكتسب منه ما يصرفه فى نفقه عياله، ثم راينا اولاد الاخ الموسر بعد موت الاخوين من عائله ولد الاخ المعسر يتصدقون عليهم من فواضل ارزاقهم.

الشرح:

هذا الفصل قد اشتمل على كثير من الامثال الحكميه.

فاولها قوله: (لا خير فى معين مهين، و لا فى صديق ظنين)، مثل الكلمه الاولى قولهم: اذا تكفيت بغير كاف وجدته للهم غير شاف و من الكلمه الثانيه اخذ الشاعر قوله: فان من الاخوان من شحط النوى به و هو راع للوصال امين و منهم صديق العين اما لقاوه فحلو و اما غيبه فظنين و ثانيها قوله: (ساهل الدهر ما ذلك لك قعوده)، هذا استعاره، و القعود البكر حين يمكن ظهره من الركوب الى ان يثنى، و مثل هذا المعنى قولهم فى المثل: من ناطح الدهر اصبح اجم.

و مثله: و در مع الدهر كيفما دارا و مثله: و من قامر الايام عن ثمراتها فاحر بها ان تنجلى و لها القمر و مثله: اذا الدهر اعطاك العنان فسر به رويدا و لاتعنف فيصبح شامسا و ثالثها قوله: (لا تخاطر بشى ء رجاء اكثر منه)، هذا مثل قولهم: من طلب الفضل، حرم الاصل.

و رابعها قوله: (اياك و ان تجمح بك مطيه اللجاج)، هذا استعاره، و فى المثل: الج من خنفساء، و الج من زنبور.

و كان يقال: اللجاج من القحه، و القحه من قله الحياء، و قله الحياء من قله المروئه، و فى المثل: لج صاحبك فحج.

و خامسها قوله: (احمل نفسك من اخيك)، الى قوله:(او تفعله بغير اهله) اللطف، بفتح اللام و الطاء، الاسم من الطفه بكذا اى بره به، و جائتنا لطفه من فلان اى هديه، و الملاطفه المباره.

و روى (عن اللطف) و هو الرفق للامر، و المعنى انه اوصاه اذا قطعه اخوه ان يصله، و اذا جفاه ان يبره، و اذا بخل عليه، ان يجود عليه، الى آخر الوصاه.

ثم قال له: (لاتفعل ذلك مع غير اهله)، قال الشاعر: و ان الذى بينى و بين بنى ابى و بين بنى امى لمختلف جدا فان اكلوا لحمى وفرت لحومهم و ان هدموا مجدى بنيت لهم مجدا و ان زجروا طيرا بنحس تمر بى زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا و لااحمل الحقد القديم عليهم و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا و قال الشاعر: انى و ان كان ابن عمى كاشحا لمقاذف من خلفه و ورائه و مفيده نصرى و ان كان امرا متزحزحا فى ارضه و سمائه و اكون والى سره و اصونه حتى يحق على وقت ادائه و اذا الحوادث اجحفت بسوامه قرنت صحيحتنا الى جربائه و اذا دعا باسمى ليركب مركبا صعبا قعدت له على سيسائه و اذا اجن فليقه فى خدره لم اطلع مما وراء خبائه و اذا ارتدى ثوبا جميلا لم اقل يا ليت ان على فضل ردائه! و سادسها قوله: (لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادى صديقك)، قد قال ال ناس فى هذا المعنى فاكثروا، قال بعضهم: اذا صافى صديقك من تعادى فقد عاداك و انقطع الكلام و قال آخر: صديق صديقى داخل فى صداقتى و خصم صديقى ليس لى بصديق و قال آخر: تود عدوى ثم تزعم اننى صديقك ان الراى عنك لعازب و سابعها قوله: (و امحض اخاك النصيحه، حسنه كانت او قبيحه)، ليس يعنى (ع) بقبيحه هاهنا القبيح الذى يستحق به الذم و العقاب و انما يريد نافعه له فى العاجل كانت او ضاره له فى الاجل، فعبر عن النفع و الضرر بالحسن و القبيح، كقوله تعالى: (و ان تصبهم سيئه بما قدمت ايديهم اذا هم يقنطون).

و قد فسره قوم فقالوا: اراد: كانت نافعه لك او ضاره لك.

و يحتمل تفسير آخر و هو وصيته اياه ان يمحض اخاه النصيحه سواء كانت مما لايستحيا من ذكرها و شياعها، او كانت مما يستحيا من ذكرها و استفاضتها بين الناس، كمن ينصح صديقه فى اهله و يشير عليه بفراقهم لفجور اطلع عليه منهم، فان الناس يسمون مثل هذا اذا شاع قبيحا.

و ثامنها قوله: (تجرع الغيظ فانى لم ار جرعه احلى منها عاقبه و لا الذ مغبه) هذا مثل قولهم: الحلم مراره ساعه، و حلاوه الدهر كله.

و كان يقال: التذلل للناس مصايد الشرف.

قال المبرد فى "الكامل": اوصى على بن الحسين ابنه محمد بن ع لى (ع)، فقال: يا بنى، عليك بتجرع الغيظ من الرجال، فان اباك لايسره بنصيبه من تجرع الغيظ من الرجال حمر النعم، و الحلم اعز ناصرا، و اكثر عددا.

و تاسعها قوله: (لن لمن غالظك، فانه يوشك ان يلين لك)، هذا مثل المثل المشهور: (اذا عز اخوك فهن)، و الاصل فى هذا قوله تعالى: (ادفع بالتى هى احسن فاذا الذى بينك و بينه عداوه كانه ولى حميم).

و عاشرها قوله: (خذ على عدوك بالفضل فانه احد الظفرين) هذا معنى مليح، و منه قول ابن هانى ء فى المعز: ضراب هام الروم منتقما و فى اعناقهم من جوده اعباء لو لا انبعاث السيف و هو مسلط فى قتلهم قتلتهم النعماء و كنت كاتبا بديوان الخلافه، و الوزير حينئذ نصير الدين ابوالازهر احمد بن الناقد رحمه الله، فوصل الى حضره الديوان فى سنه اثنتين و ثلاثين و ستمائه محمد بن محمد امير البحرين على البر، ثم وصل بعده الهرمزى صاحب هرمز فى دجله بالمراكب البحريه- و هرمز هذه فرضه فى البحر نحو عمان- و امتلات بغداد من عرب محمد بن محمد و اصحاب الهرمزى- و كانت تلك الايام اياما غراء زاهره لما افاض المستنصر على الناس من عطاياه، و الوفود تزدحم من اقطار الارض على ابواب ديوانه- فكتبت يوم دخول الهرمزى الى الوزير ابياتا سن حت على البديهه، و انا متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمه، و كان رحمه الله لا يزال يذكرها و ينشدها و يستحسنها: يا احمد بن محمد انت الذى علقت يداه بانفس الاعلاق ما املت بغداد قبلك ان ترى ابدا ملوك البحر فى الاسواق ولهوا عليها غيره و تنافسوا شغفا بها كتنافس العشاق و غدت صلاتك فى رقاب سراتهم و نداك كالاطواق فى الاعناق بسديد رايك اصلحت جمحاتهم و تالفوا من بعد طول شقاق لله همه ماجد لم تعتلق بسحيل آراء و لا احذاق جلب السلاهب من اراك و بعدها جلب المراكب من جزيره واق هذا العداء هو العداء فعد عن قول ابن حجر فى لاى و عناق و اظنه و الظن علم انه سيجيئنا بممالك الافاق اما اسير صنيعه فى جيده بالجود غل او اسير وثاق لا زال فى ظل الخليفه ما له فان وسودده المعظم باق و حادى عشرها قوله: (ان اردت قطيعه اخيك فاستبق له من نفسك بقيه يرجع اليها ان بدا ذلك له يوما)، هذا مثل قولهم: (احبب حبيبك هونا ما، عسى ان يكون بغيضك يوما ما، و ابغض بغيضك هونا ما عسى ان يكون حبيبك يوما ما) و ما كان يقال: اذا هويت فلا تكن غاليا، و اذا تركت فلا تكن قاليا.

و ثانى عشرها قوله: (من ظن خيرا فصدق ظنه) كثير من ارباب الهمم يفعلون هذا، يقال لمن قد شدا طرفا من العلم: هذا عالم، هذا فاضل، فيدعوه ما ظن فيه من ذلك الى تحقيقه، فيواظب على الاشتغال بالعلم حتى يصير عالما فاضلا حقيقه، و كذلك يقول الناس: هذا كثير العباده، هذا كثير الزهد، لمن قد شرع فى شى ء من ذلك، فتحمله اقوال الناس على الالتزام بالزهد و العباده.

و ثالث عشرها قوله: (و لا تضيعن حق اخيك اتكالا على ما بينك و بينه، فانه ليس لك باخ من اضعت حقه)، من هذا النحو قول الشاعر: اذا خنتم بالغيب عهدى فما لكم تدلون ادلال المقيم على العهد صلوا و افعلوا فعل المدل بوصله و الا فصدوا و افعلوا فعل ذى الصدى و كان يقال: اضاعه الحقوق، داعيه العقوق.

و رابع عشرها قوله: (لا ترغبن فيمن زهد فيك) الرغبه فى الزاهد هى الداء العياء، قال العباس بن الاحنف: ما زلت ازهد فى موده راغب حتى ابتليت برغبه فى زاهد هذا هو الداء الذى ضاقت به حيل الطبيب و طال ياس العائد و قد قال الشعراء المتقدمون و المتاخرون فاكثروا، نحو قولهم: و فى الناس ان رثت حبالك واصل و فى الارض عن دار القلى متحول و قول تابط شرا: انى اذا خله ضنت بنائلها و امسكت بضعيف الحبل احذاقى نجوت منها نجائى من بجيله اذ القيت ل يله خبت الرهط ارواقى و خامس عشرها قوله: لا يكونن اخوك اقوى على قطيعتك منك على صلته، و لا تكونن على الاسائه اقوى منك على الاحسان.

هذا امر له بان يصل من قطعه، و ان يحسن الى من اساء اليه.

ظفر المامون عبدالله بن هارون الرشيد بكتب قد كتبها محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق (ع) الى اهل الكرخ و غيرهم من اعمال اصفهان يدعوهم فيها الى نفسه، فاحضرها بين يديه، و دفعها اليه، و قال له: اتعرف هذه؟ فاطرق خجلا، فقال له: انت آمن، و قد وهبت هذا الذنب لعلى و فاطمه (ع)، فقم الى منزلك، و تخير ما شئت من الذنوب، فانا نتخير لك مثل ذلك من العفو.

و سادس عشرها قوله: (لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فانه يسعى فى مضرته و نفعك و ليس جزاء من سرك ان تسوئه)، جاء فى الخبر المرفوع انه (ص) سمع عائشه تدعو على من سرق عقدا لها، فقال لها: لا تمسحى عنه بدعائك، اى لا تخففى عذابه).

و قوله (ع): (و ليس جزاء من سرك ان تسوئه) يقول: لا تنتقم ممن ظلمك فانه قد نفعك فى الاخره بظلمه لك، و ليس جزاء من ينفع انسانا ان يسى ء اليه.

و هذا مقام جليل لا يقدر عليه الا الافراد من الاولياء الابرار.

و قبض بعض الجبابره على قوم صالحين، فحبسهم و قيدهم، فلما طال عليهم الامر زفر بعضه م زفره شديده، و دعا على ذلك الجبار، فقال له بعض اولاده- و كان افضل اهل زمانه فى العباده.

و كان مستجاب الدعوه: لا تدع عليه فتخفف عن عذابه، قالوا: يا فلان، الا ترى ما بنا و بك! لا يانف ربك لنا! قال: ان لفلان مهبطا فى النار لم يكن ليبلغه الا بما ترون، و ان لكم لمصعدا فى الجنه لم تكونوا لتبلغوه الا بما ترون.

قالوا: فقد نال منا العذاب و الحديد، فادع الله لنا ان يخلصنا و ينقذنا مما نحن فيه، قال: انى لاظن انى لو فعلت لفعل، و لكن و الله لاافعل حتى اموت هكذا، فالقى الله فاقول له: اى رب سل فلانا لم فعل بى هذا؟ و من الناس من يجعل قوله (ع): (و ليس جزاء من سرك ان تسوئه)، كلمه مفرده مستقله بنفسها، ليست من تمام الكلام الاول، و الصحيح ما ذكرناه.

و سابع عشرها- و من حقه ان يقدم ذكره قوله: (و لا يكن اهلك اشقى الخلق بك)، هذا كما يقال فى المثل: من شوم الساحره انها اول ما تبدا باهلها، و المراد من هذه الكلمه النهى عن قطيعه الرحم و اقصاء الاهل و حرمانهم، و فى الخبر المرفوع: (صلوا ارحامكم و لو بالسلام).

الشرح:

فى بعض الروايات: (اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاء)، قد مضى لنا كلام شاف فى الرزق.

و روى ابوحيان، قال: رفع الواقدى الى المامون رقعه يذكر فيها غلبه الدين عليه، و كثره العيال، و قله الصبر، فوقع المامون عليها: انت رجل فيك خلتان، السخاء و الحياء فاما السخاء فهو الذى اطلق ما فى يديك، و اما الحياء فهو الذى بلغ بك الى ما ذكرت، و قد امرنا لك بمائه الف درهم، فان كنا اصبنا ارادتك فازدد فى بسط يدك، و ان كنا لم نصب ارادتك فبجنايتك على نفسك، و انت كنت حدثتنى و انت على قضاء الرشيد عن محمد بن اسحاق، عن الزهرى، عن انس بن مالك، ان رسول الله (ص) قال للزبير: (يا زبير، ان مفاتيح الرزق بازاء العرش، ينزل الله تعالى للعباد ارزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، و من قلل قلل له).

قال الواقدى: و كنت انسيت هذا الحديث، و كانت مذاكرته اياى به احب من صلته.

و اعلم ان هذا الفصل يشتمل على نكت كثيره حكميه: منها قوله (الرزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك)، و هذا حق، لان ذلك انما يكون على حسب ما يعلمه الله تعالى من مصلحه المكلف، فتاره ياتيه الرزق بغير اكتساب و لا تكلف حركه، و لا تجشم سعى، و تاره يكون الامر بالعكس.

دخل عماد الدوله ابوالحسن بن بويه شيراز بعد ان هزم ابن ياقوت عنها، و هو فقير لا مال له، فساخت احدى قوائم فرسه فى الصحراء فى الارض، فنزل عنها و ابتدرها غلمانه فخلصوها، فظهر لهم فى ذلك الموضع نقب وسيع، فامرهم بحفره، فوجدوا فيه اموالا عظيمه، و ذخائر لابن ياقوت، ثم استلقى يوما آخر على ظهره فى داره بشيراز التى كان ابن ياقوت يسكنها، فراى حيه فى السقف، فامر غلمانه بالصعود اليها و قتلها، فهربت منهم، و دخلت فى خشب الكنيسه فامر ان يقلع الخشب و تستخرج و تقتل، فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه اكثر من خمسين الف دينار ذخيره لابن ياقوت.

و احتاج ان يفصل و يخيط ثيابا له و لاهله فقيل: هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت، و هو رجل منسوب الى الدين و الخير، الا انه اصم لا يسمع شيئا اصلا، فامر باحضاره، فاحضر و عنده رعب و هلع، فلما ادخله اليه كلمه، و قال: اريد ان تخيط لنا كذا و كذا قطعه من الثياب، فارتعد الخياط و اضطرب كلامه، و قال: و الله يا مولانا ما له عندى الا اربعه صناديق ليس غيرها، فلا تسمع قول الاعداء فى.

فتعجب عماد الدوله و امر باحضار الصناديق، فوجدها كلها ذهبا و حليا و جواهر مملوئه وديعه لابن ياقوت.

و اما الرزق الذى يطلب ه الانسان و يسعى اليه فهو كثير جدا لا يحصى.

و منها قوله: (ما اقبح الخضوع عند الحاجه، و الجفاء عند الغنى)! هذا من قول الله تعالى: (حتى اذا كنتم فى الفلك و جرين بهم بريح طيبه و فرحوا بها جائتها ريح عاصف و جائهم الموج من كل مكان و ظنوا انهم احيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن انجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما انجاهم اذا هم يبغون فى الارض بغير الحق).

و من الشعر الحكمى فى هذا الباب قول الشاعر: خلقان لا ارضاهما لفتى: تيه الغنى و مذله الفقر فاذا غنيت فلاتكن بطرا و اذا افتقرت فته على الدهر و منها قوله: (انما لك من دنياك، ما اصلحت به مثواك)، هذا من كلام رسول الله (ص): (يابن آدم، ليس لك من مالك الا ما اكلت فافنيت، او لبست فابليت، او تصدقت فابقيت).

و قال ابوالعتاهيه: ليس للمتعب المكادح من دن ياه الا الرغيف و الطمران و منها قوله: (و ان كنت جازعا على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل اليك)، يقول: لا ينبغى ان تجزع على ما ذهب من مالك، كما لا ينبغى ان تجزع على ما فاتك من المنافع و المكاسب، فانه لا فرق بينهما، الا ان هذا حصل، و ذاك لم يحصل بعد، و هذا فرق غير موثر، لان الذى تظن انه حاصل لك غير حاصل ف ى الحقيقه، و انما الحاصل على الحقيقه ما اكلته و لبسته، و اما القنيات و المدخرات فلعلها ليست لك، كما قال الشاعر: و ذى ابل يسقى و يحسبها له اخى تعب فى رعيها و دئوب غدت و غدا رب سواه يسوقها و بدل احجارا وجال قليب و منها قوله (استدل على ما لم يكن بما كان، فان للامور اشباها) يقال: اذا شئت ان تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك.

و قال ابوالطيب فى سيف الدوله: ذكى تظنيه طليعه عينه يرى قلبه فى يومه ما يرى غدا و منها قوله: (و لا تكونن ممن لا تنفعه العظه...) الى قوله: (الا بالضرب)، هو قول الشاعر: العبد يقرع بالعصا و الحر تكفيه الملامه و كان يقال: اللئيم كالعبد، و العبد كالبهيمه عتبها ضربها.

و منها قوله: (اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاء).

هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع و الفائده، و قد اخذ عبدالله بن الزبير بعض هذه الالفاظ فقال فى خطبته لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب اخيه: (لقد جائنا من العراق خبر احزننا و سرنا، جائنا خبر قتل مصعب، فاما سرورنا فلان ذلك كان له شهاده، و كان لنا ان شاءالله خيره، و اما الحزن فلوعه يجدها الحميم عند فراق حميمه، ثم يرعوى بعدها ذو الراى الى حسن الصبر و كرم العزاء).

و من ها قوله: (من ترك القصد جار) القصد الطريق المعتدل، يعنى ان خير الامور اوسطها، فان الفضائل تحيط بها الرذائل فمن تعدى هذه يسيرا وقع فى هذه.

و منها قوله: (الصاحب مناسب) كان يقال: الصديق نسيب الروح، و الاخ نسيب البدن، قال ابوالطيب: ما الخل الا من اود بقلبه و ارى بطرف لايرى بسوائه و منها قوله: (الصديق من صدق غيبه)، من هاهنا اخذ ابونواس قوله فى المنهوكه: هل لك و الهل خبر فيمن اذا غبت حضر او ما لك اليوم اثر فان راى خيرا شكر او كان تقصير عذر و منها قوله: (الهوى شريك العمى) هذا مثل قولهم: (حبك الشى ء يعمى و يصم) قال الشاعر: و عين الرضا عن كل عيب كليله كما ان عين السخط تبدى المساويا و منها قوله: (رب بعيد اقرب من قريب، و قريب ابعد من بعيد)، هذا معنى مطروق، قال الشاعر: لعمرك ما يضر البعد يوما اذا دنت القلوب من القلوب و قال الاحوص: انى لا منحك الصدود و اننى قسما اليك مع الصدود لا ميل و قال البحترى: و نازحه و الدار منها قريبه و ما قرب ثاو فى التراب مغيب! و منها (قوله و الغريب من لم يكن له حبيب) يريد بالحبيب هاهنا المحب لا المحبوب و قال الشاعر: اسره المرء والداه و فيما بين جنبيهما الحياه تطيب و اذا وليا عن المرء يوما فهو فى الناس اجنبى غريب و منها قوله: (من تعدى الحق ضاق بمذهبه)، يريد بمذهبه هاهنا طريقته، و هذه استعاره، و معناه ان طريق الحق لا مشقه فيها لسالكها، و طرق الباطل فيها المشاق و المضار، و كان سالكها سالك طريقه ضيقه يتعثر فيها، و يتخبط فى سلوكها.

و منها قوله: (من اقتصر على قدره كان ابقى له)، هذا مثل قوله: (رحم الله امرا عرف قدره، و لم يتعد طوره) و قال: من جهل قدره قتل نفسه.

و قال ابوالطيب: و من جهلت نفسه قدره راى غيره منه ما لا يرى و منها قوله: (اوثق سبب اخذت به سبب بينك و بين الله سبحانه)، هذا من قول الله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت و يومن من بالله فقد استمسك بالعروه الوثقى لاانفصام لها).

و منها قوله: (فمن لم يبالك فهو عدوك)، اى لم يكترث بك، و هذه الوصاه خاصه بالحسن (ع) و امثاله من الولاه و ارباب الرعايا، و ليست عامه للسوقه من افناء الناس، و ذلك لان الوالى اذا انس من بعض رعيته انه لا يباليه و لا يكترث به، فقد ابدى صفحته، و من ابدى لك صفحته فهو عدوك، و اما غير الوالى من افناء الناس، فليس احدهم اذا لم يبال الاخر يعدو له.

و منها قوله: (قد يكون الياس ادراكا اذا كان الطمع هلاكا)، هذا م ثل قول القائل: من عاش لاقى ما يسو ء من الامور و ما يسر و لرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در و المعنى: ربما كان بلوغ الامل فى الدنيا و الفوز بالمطلوب منها سببا للهلاك فيها، و اذا كان كذلك، كان الحرمان خيرا من الظفر.

و منها قوله: (ليس كل عوره تظهر، و لا كل فرصه تصاب) يقول: قد تكون عوره العدو مستتره عنك فلا تظهر، و قد تظهر لك و لايمكنك اصابتها.

و قال بعض الحكماء: الفرصه نوعان: فرصه من عدوك، و فرصه فى غير عدوك، فالفرصه من عدوك ما اذا بلغتها نفعتك، و ان فاتتك ضرتك، و فى غير عدوك ما اذا اخطاك نفعه لم يصل اليك ضره.

و منها قوله: (فربما اخطا البصير قصده، و اصاب الاعمى رشده) من هذا النحو قولهم فى المثل: (مع الخواطى ء سهم صائب) و قولهم: (رميه من غير رام).

و قالوا فى مثل اللفظه الاولى: (الجواد يكبو، و الحسام قد ينبو).

و قالوا: (قد يهفو الحليم، و يجهل العليم).

و منها قوله: (اخر الشر فانك اذا شئت تعجلته) مثل هذا: قولهم فى الامثال الطفيليه: (كل اذا وجدت، فانك على الجوع قادر).

و من الامثال الحكميه: (ابدا بالحسنه قبل السيئه، فلست بمستطيع للحسنه فى كل وقت و انت على الاسائه متى شئت قادر).

و منها قوله: (قطيعه الجاهل تعدل صله العاقل)، هذا حق، لان الجاهل اذا قطعك انتفعت ببعده عنك، كما تنتفع بمواصله الصديق العاقل لك، و هذا كما يقول المتكلمون: عدم المضره كوجود المنفعه، و يكاد ان يبتنى على هذا قولهم: كما ان فعل المفسده قبيح من البارى ء، فالاخلال باللطف منه ايضا يجب ان يكون قبيحا.

و منها قوله: (من امن الزمان خانه، و من اعظمه اهانه)، مثل الكلمه الاولى قول الشاعر: و من يامن الدنيا يكن مثل قابض على الماء خانته فروج الانامل و قالوا: احذر الدنيا ما استقامت لك.

و من الامثال الحكميه: (من امن الزمان ضيع ثغرا مخوفا).

و مثل الكلمه الثانيه قولهم: (الدنيا كالامه اللئيمه المعشوقه، كلما ازددت لها عشقا و عليها تهالكا ازدادت اذلالا، و عليك شطاطا).

و قال ابوالطيب: و هى معشوقه على الغدر لاتح فظ عهدا و لاتتمم وصلا شيم الغانيات فيها فلا اد رى لذا انث اسمها الناس ام لا و منها قوله: (ليس كل من رمى اصاب) هذا معنى مشهور، قال ابوالطيب: ما كل من طلب المعالى نافذا فيها و لا كل الرجال فحولا و منها قوله: (اذا تغير السلطان، تغير الزمان).

فى كتب الفرس ان انوشروان جمع عمال السواد و بيده دره يقلبها، فقال: اى شى ء اضر بارتفاع السواد و ادعى الى محقه؟ اي كم قال ما فى نفسى جعلت هذه الدره فى فيه؟ فقال بعضهم: انقطاع الشرب؟ و قال بعضهم: احتباس المطر، و قال بعضهم: استيلاء الجنوب و عدم الشمال: فقال لوزيره: قل انت فانى اظن عقلك يعادل عقول الرعيه كلها او يزيد عليها، قال: تغير راى السلطان فى رعيته، و اضمار الحيف لهم، و الجور عليهم، فقال: لله ابوك! بهذا العقل اهلك آبائى و اجدادى لما اهلوك له.

و دفع اليه الدره فجعلها فى فيه.

و منها قوله: (سل عن الرقيق، قبل الطريق، و عن الجار قبل الدار) و قد روى هذا الكلام مرفوعا، و فى المثل: (جار السوء كلب هارش، و افعى ناهش).

و فى المثل: الرفيق اما رحيق او حريق.

الشرح:

نهاه ان يذكر من الكلام ما كان مضحكا، لان ذلك من شغل ارباب الهزل و البطاله، و قل ان يخلو ذلك من غيبه او سخريه.

ثم قال: و ان حكيت ذلك عن غيرك، فانه كما يستهجن الابتداء بذلك يستهجن حكايته عن الغير، و ذلك كلام فصيح، الا ترى انه لا يجوز الابتداء بكلمه الكفر، و يكره ايضا حكايتها.

و قال عمر لما نهاه رسول الله (ص) ان يحلف بالله: فما حلفت به ذاكرا، و لا آثرا، و لا حاكيا.

و كان يقال: من مازح استخف به، و من كثر ضحكه قلت هيبته.

فاما مشاوره النساء فانه من فعل عجزه الرجال، قال الفضل بن الربيع ايام الحرب بين الامين و المامون فى كلام يذكر فيه الامين و يصفه بالعجز: ينام نوم الظربان، و ينتبه انتباهه الذئب، همه بطنه، و لذته فرجه، لا يفكر فى زوال نعمه، و لا يروى فى امضاء راى و لا مكيده، قد شمر له عبدالله عن ساقه، و فوق له اشد سهامه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، و الموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، و ناط له البلايا باسنه الرماح، و شفار السيوف، فكانه هو قال هذا الشعر و وصف به نفسه و اخاه: يقارع اتراك ابن خاقان ليله الى ان يرى الاصباح لا يتلعثم فيصبح من طول الطراد و جسمه نحيل و اضحى فى النعيم اصمم و همى كاس من عقار و قينه و همته درع و رمح و مخذم فشتان ما بينى و بين ابن خالد اميه فى الرزق الذى الله يقسم و نحن معه نجرى الى غايه ان قصرنا عنها ذممنا، و ان اجتهدنا فى بلوغها انقطعنا، و انما نحن شعب من اصل، ان قوى قوينا و ان ضعف ضعفنا ان هذا الرجل قد القى بيده القاء الامه الوكعاء، يشاور النساء، و يعتزم على الرويا، قد امكن اهل الخساره و اللهو من سمعه، فهم يمنونه الظفر، و يعدونه عقب الايام، و الهلاك اسرع اليه من السيل الى قيعان الرمل.

قوله (ع): (فان رايهن الى افن) الافن بالسكون: النقص، و المتافن: المتنقص، يقال: فلان يتافن فلانا، اى يتنقصه و يعيبه.

و من رواه (الى افن) بالتحريك فهو ضعف الراى، افن الرجل يافن افنا اى ضعف رايه، و فى المثل: (ان الرقين تغطى افن الافين) و الوهن: الضعف.

قوله: (و اكفف عليهن من ابصارهن) من هاهنا زائده، و هو مذهب ابى الحسن الاخفش فى زياده من فى الموجب، و يجوز ان يحمل على مذهب سيبويه، فيعنى به: فاكفف عليهن بعض ابصارهن.

ثم ذكر فائده الحجاب، و نهاه ان يدخل عليهن من لا يوثق به، و قال: ان خروجهن اهون من ذلك، و ذلك لان من تلك صفته يتمكن من الخلوه ما لا يتمكن منه من يراهن فى الطرقات.

ثم قال: (ان استطعت الا يعرفن غيرك فافعل).

كان لبعضهم بنت حسناء، فحج بها، و كان يعصب عينيها، و يكشف للناس وجهها، فقيل له فى ذلك فقال: انما الحذر من رويتها الناس، لا من رويه الناس لها.

قال: (و لاتملك المراه من امرها ما جاوز نفسها)، اى لا تدخلها معك فى تدبير و لا مشوره، و لا تتعدين حال نفسها و ما يصلح شانها.

فان المراه ريحانه، و ليست بقهرمانه، اى انما تصلح للمتعه و اللذه، و ليست وكيلا فى مال، و لا وزيرا فى راى.

ثم اكد الوصيه الاولى، فقال: لا تعد بكرامتها نفسها، هذا هو قوله: (و لا تملكها من امرها ما جاوز نفسها).

ثم نهاه ان يطمعها فى الشفاعات.

و روى الزبير بن بكار، قال: كانت الخيزران كثيرا ما تكلم موسى ابنها- لما استخلف- فى الحوائج، و كان يجيبها الى كل ما تسال، حتى مضت اربعه اشهر من خلافته و تتالى الناس عليها، و طمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو الى بابها، و كلمته يوما فى امر فلم يجد الى اجابتها سبيلا، و احتج عليها بحجه فقالت: لابد من اجابتى، فقال: لا افعل، قالت: انى قد ضمنت هذه الحاجه لعبدالله بن مالك، فغضب موسى و قال: ويلى على ابن الفاعله! قد علمت انه صاحبها، و الله لا قضيتها لك و لا له! قالت: و الله ل ااسالك حاجه ابدا، قال: اذن و الله لا ابالى، فقامت مغضبه، فقال: مكانك تستوعبى كلامى، و انا و الله برى ء من قرابتى من رسول الله (ص)، لئن بلغنى انه وقف احد من قوادى و خاصتى و خدمى و كتابى على بابك لاضربن عنقه، و لاقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التى تغدو الى بابك كل يوم! اما لك مغزل يشغلك، او مصحف يذكرك، او بيت يصونك، اياك ثم اياك ان تفتحى فاك فى حاجه لملى او ذمى.

فانصرفت و ما تعقل ما تطا عليه، و لم تنطق عنده بحلوه و لا مره بعدها حتى هلك.

و اخذ هذه اللفظه منه و هى قوله: (ان المراه ريحانه، و ليست بقهرمانه) الحجاج فقالها للوليد بن عبدالملك، روى ابن قتيبه فى كتاب (عيون الاخبار) قال: دخل الحجاج على الوليد بن عبدالملك و عليه درع و عمامه سوداء و فرس عربيه و كنانه، و ذلك فى اول قدمه قدمها عليه من العراق، فبعثت ام البنين بنت عبدالعزيز بن مروان و هى تحت الوليد اليه: من هذا الاعرابى المستلئم فى السلاح عندك و انت فى غلاله! فارسل اليها: هذا الحجاج، فاعادت اليه الرسول: (فقال: تقول لك:) و الله لان يخلو بك ملك الموت فى اليوم احيانا احب الى من ان يخلو بك الحجاج: فاخبره الوليد بذلك و هو يمازحه، فقال: يا اميرالموم نين، دع عنك مفاكهه النساء بزخرف القول، فانما المراه ريحانه، و ليست بقهرمانه، فلاتطلعها على سرك و مكايده عدوك.

فلما دخل الوليد عليها اخبرها و هو يمازحها بمقاله الحجاج، فقالت: يا اميرالمومنين، حاجتى ان تامره غدا ان ياتينى مسلما، ففعل ذلك، فاتاها الحجاج فحجبته، فلم يزل قائما، ثم اذنت له، فقالت: يا حجاج، انت الممتن على اميرالمومنين بقتلك ابن الزبير و ابن الاشعث! اما و الله لو لا ان الله علم انك شر خلقه ما ابتلاك برمى الكعبه الحرام و لا بقتل ابن ذات النطاقين، اول مولود فى دار هجره الاسلام! و اما نهيك اميرالمومنين عن مفاكهه النساء و بلوغ لذاته و اوطاره، فان كن ينفرجن عن مثلك فما احقه بالاخذ منك! و ان كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك، اما و الله لقد نقص نساء اميرالمومنين الطيب من غدائرهن فبعنه فى اعطيه اهل الشام حين كنت فى اضيق من قرن، قد اظلتك رماحهم، و اثخنك كفاحهم، و حين كان اميرالمومنين احب اليهم من ابنائهم و آبائهم، فانجاك الله من عدو اميرالمومنين بحبهم اياه، قاتل الله القائل حين ينظر اليك، و سنان غزاله بين كتفيك: اسد على و فى الحروب نعامه ربداء تنفر من صفير الصافر هلا برزت الى غزاله فى الوغى بل كان قلبك فى جناحى طائر قم فاخرج، فقام فخرج.

(بعض ما قيل فى الغيره من الشعر) فاما قوله (ع): (اياك و التغاير فى غير موضع غيره) فقد قيل هذا المعنى، قال بعض المحدثين: يا ايها الغائر مه لا تغر الا لما تدركه بالبصر ما انت فى ذلك الا كمن بيته الدب لرمى الحجر و كان مسكين الدارمى احد من يستهجن الغيره، و يستقبح وقوعها فى غير محلها، فمن شعره فى هذا المعنى: ما احسن الغيره فى حينها و اقبح الغيره فى غير حين! من لم يزل متهما عرسه مناصبا فيها لرجم الظنون يوشك ان يغريها بالذى يخاف او ينصبها للعيون حسبك من تحصينها ضمها منك الى خيم كريم و دين لا تظهرن يوما على عوره فيتبع المقرون حبل القرين و قال ايضا: الا ايها الغائر المستشيط علام تغار اذ لم تغر! فما خير عرس اذا خفتها و ما خير بيت اذا لم يزر! تغار من الناس ان ينظروا و هل يفتن الصالحات النظر! فانى ساخلى لها بيتها فتحفظ لى نفسها او تذر اذا الله لم يعطه ودها فلن يعطى الود سوط ممر و من ذا يراعى له عرسه اذا ضمه و الركاب السقر! و قال ايضا: و لست امرا لاابرح الدهر قاعدا الى جنب عرسى لاافارقها شبرا و لا مقسما لا ابرح الدهر بيته ا لاجعله قبل الممات لها قبرا و لا حاملا ظنى و لا قول قائل على غيره حتى احيط به خبرا و هبنى امرا راعيت ما دمت شاهدا فكيف اذا ما سرت من بيتها شهرا! اذا هى لم تحصن لما فى فنائها فليس بمنجيها بنائى لها قصرا فاما قوله: (و اجعل لكل انسان من خدمك عملا تاخذه به) فقد قالت الحكماء هذا المعنى، قال ابرويز فى وصيته لولده شيرويه: و انظر الى كتابك، فمن كان منهم ذا ضياع قد احسن عمارتها فوله الخراج، و من كان منهم ذا عبيد قد احسن سياستهم و تثقيفهم فوله الجند، و من كان منهم ذا سرارى و ضرائر قد احسن القيام عليهن فوله النفقات و القهرمه، و هكذا فاصنع فى خدم دارك، و لا تجعل، امرك فوضى بين خدمك فيفسد عليك ملكك.

و اما قوله: (فاكرم عشيرتك فانهم جناحك) فقد تقدم منا كلام فى وجوب الاعتضاد بالعشائر.

(اعتزاز الفرزدق بقومه) روى ابوعبيده قال: كان الفرزدق لا ينشد بين يدى الخلفاء و الامراء الا قاعدا، فدخل على سليمان بن عبدالملك يوما، فانشده شعرا فخر فيه بابائه، و قال من جملته: تالله ما حملت من ناقه رجلا مثلى اذا الريح لفتنى على الكور فقال سليمان: هذا المدح لى ام لك! قال: لى و لك يا اميرالمومنين، فغضب سليمان و قال: قم فا تمم: و لاتنشد بعده الا قائما، فقال الفرزدق: لا و الله او يسقط الى الارض اكثرى شعرا.

فقال سليمان: ويلى على الاحمق ابن الفاعله! لا يكنى و ارتفع صوته فسمع الضوضاء بالباب، فقال سليمان: ما هذا؟ قيل: بنوتميم على الباب، قالوا: لا ينشد الفرزدق قائما و ايدينا فى مقابض سيوفنا، قال: فلينشد قاعدا.

(وفود الوليد بن جابر على معاويه) و روى ابوعبيدالله محمد بن موسى بن عمران المرزبانى، قال: كان الوليد بن جابر بن ظالم الطائى ممن وفد على رسول الله (ص) فاسلم.

ثم صحب عليا (ع)، و شهد معه صفين، و كان من رجاله المشهورين، ثم وفد على معاويه فى الاستقامه، و كان معاويه لا يثبته، معرفه بعينه، فدخل عليه فى جمله الناس، فلما انتهى اليه استنسبه، فانتسب له، فقال: انت صاحب ليله الهرير؟ قال: نعم، قال: و الله ما تخلو مسامعى من رجزك تلك الليله، و قد علا صوتك اصوات الناس، و انت تقول: شدوا فداء لكم امى و اب فانما الامر غدا لمن غلب هذا ابن عم المصطفى و المنتجب تنمه للعلياء سادات العرب ليس بموصوم اذا نص النسب اول من صلى و صام و اقترب قال: نعم، انا قائلها.

قال، فلماذا قلتها؟ قال: لانا كنا مع رجل لا نعلم خصله توجب الخلافه، و لا فضيله تص ير الى التقدمه، الا و هى مجموعه له، كان اول الناس سلما، و اكثرهم علما، و ارجحهم حلما، فات الجياد فلا يشق غباره، يستولى على الامد فلايخاف عثاره، و اوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره، و سلك القصد فلا تدرس آثاره، فلما ابتلانا الله تعالى بافتقاده، و حول الامر الى من يشاء من عباده، دخلنا فى جمله المسلمين فلم ننزع يدا عن طاعه، و لم نصدع صفاه جماعه، على ان لك منا ما ظهر، و قلوبنا بيد الله، و هو املك بها منك، فاقبل صفونا و اعرض عن كدرنا، و لا تثر كوامن الاحقاد، فان النار تقدح بالزناد.

قال معاويه: و انك لتهددنى يا اخا طيى باوباش العراق اهل النفاق.

و معدن الشقاق! فقال: يا معاويه هم الذين اشرقوك بالريق، و حبسوك فى المضيق، و ذادوك عن سنن الطريق، حتى لذت منهم بالمصاحف، و دعوت اليها من صدق بها و كذبت، و آمن بمنزلها و كفرت، و عرف من تاويلها ما انكرت.

فغضب معاويه و ادار طرفه فيمن حوله فاذا جلهم من مضر و نفر قليل من اليمن، فقال: ايها الشقى الخائن، انى لاخال ان هذا آخر كلام تفوه به- و كان عفير بن سيف بن ذى يزن بباب معاويه حينئذ- فعرف موقف الطائى و مراد معاويه، فخافه عليه، فهجم عليهم الدار، و اقبل على اليمانيه، فقال: شاهت الوجوه ذل ا و قلا، و جدعا و فلا، كشم الله هذه الانف كشما مرعبا.

ثم التفت الى معاويه، فقال: انى و الله يا معاويه ما اقول قولى هذا حبا لاهل العراق، و لا جنوحا اليهم، و لكن الحفيظه تذهب الغضب، لقد رايتك بالامس، خاطبت اخا ربيعه- يعنى صعصعه بن صوحان.

و هو اعظم جرما عندك من هذا، و انكا لقلبك، و اقدح فى صفاتك، و اجد فى عداوتك، و اشد انتصارا فى حربك، ثم اثبته و سرحته، و انت الان مجمع على قتل هذا- زعمت- استصغارا لجماعتنا! فانا لا نمر و لا نحلى، و لعمرى لو وكلتك ابناء قحطان الى قومك لكان جدك العاثر، و ذكرك الداثر، و حدك المفلول، و عرشك المثلول، فاربع على ظلعك، و اطونا على بلالتنا، ليسهل لك حزننا، و يتطامن لك شاردنا، فانا لا نرام بوقع الضيم، و لا نتلمظ جرع الخسف، و لا نغمز بغماز الفتن، و لا نذر على الغضب.

فقال معاويه: الغضب شيطان فاربع نفسك ايها الانسان، فانا لم نات الى صاحبك مكروها، لم نرتكب منه مغضبا، و لم ننتهك منه محرما، فدونكه فانه لم يضق عنه حلمنا و يسع غيره.

فاخذ عفير بيد الوليد، و خرج به الى منزله، و قال له: و الله لتووبن باكثر مما آب به معدى من معاويه.

و جمع من بدمشق من اليمانيه، و فرض على كل رجل دينارين فى عطائه، فبلغت اربعين الفا، فتعجلها من بيت المال، و دفعها الى الوليد، و رده الى العراق.

نامه 032-به معاويه

الشرح:

ارديتهم: اهلكتهم.

و جيلا من الناس، اى صنفا من الناس.

و الغى: الضلال.

و جاروا: عدلوا عن القصد.

و وجهتهم، بكسر الواو، يقال: هذا وجه الراى، اى هو الراى بنفسه، و الاسم الوجه بالكسر و يجوز بالضم.

قوله: (و عولوا على احسابهم)، اى لم يعتمدوا على الدين، و انما اردتهم الحميه و نخوه الجاهليه، فاخلدوا اليها و تركوا الدين، و الاشاره الى بنى اميه و خلفائهم الذين اتهموه (ع) بدم عثمان، فحاموا عن الحسب، و لم ياخذوا بموجب الشرع فى تلك الواقعه ثم استثنى قوما فائوا، اى رجعوا عن نصره معاويه، و قد ذكرنا فى اخبار صفين من فارق معاويه و رجع الى اميرالمومنين (ع)، او فارقه و اعتزل الطائفتين.

قوله: (حملتهم على الصعب) اى على الامر الشاق، و الاصل فى ذلك البعير المستصعب يركبه الانسان فيغرر بنفسه.

(ذكر بعض ما دار بين على و معاويه من الكتب) و اول هذا الكتاب: من عبدالله على اميرالمومنين (ع) الى معاويه بن ابى سفيان، اما بعد، فان الدنيا دار تجاره، و ربحها او خسرها الاخره، فالسعيد من كانت بضاعته فيها الاعمال الصالحه، و من راى الدنيا بعينها، و قدرها بقدرها! و انى لاعظك مع علمى بسابق العلم فيك مما لا مرد له دون نفاذه، و لكن الله تعالى اخذ على العلماء ان يودوا الامانه، و ان ينصحوا الغوى و الرشيد، فاتق الله، و لا تكن ممن لا يرجو لله وقارا، و من حقت عليه كلمه العذاب، فان الله بالمرصاد.

و ان دنياك ستدبر عنك، و ستعود حسره عليك، فاقلع عما انت عليه من الغى و الضلال، على كبر سنك، و فناء عمرك، فان حالك اليوم كحال الثوب المهيل الذى لا يصلح من جانب الا فسد من آخر، و قد ارديت جيلا من الناس كثيرا، خدعتهم بغيك... الى آخر الكتاب.

قال ابوالحسن على بن محمد المدائنى: فكتب اليه معاويه: من معاويه بن ابى سفيان الى على بن ابى طالب، اما بعد فقد وقفت على كتابك، و قد ابيت على الفتن الا تماديا، و انى لعالم ان الذى يدعوك الى ذلك مصرعك الذى لابد لك منه، و ان كنت موائلا، فازدد غيا الى غيك، فطالما خف عقلك، و منيت نفسك ما ليس لك، و التويت على من هو خير منك، ثم كانت العاقبه لغيرك، و احتملت الوزر بما احاط بك من خطيئتك.

والسلام.

فكتب على (ع) اليه: اما بعد، فان ما اتيت به من ضلالك ليس ببعيد الشبه مما اتى به اهلك و قومك الذين حملهم الكفر و تمنى الاباطيل على حسد محمد (ص) حتى صرعوا مصارعهم حيث علمت، لم يمنعوا حريما، و لم يدفعوا عظيما، و انا صاحبهم فى تلك المواط ن، الصالى بحربهم، و الفال لحدهم، و القاتل لرووسهم و رووس الضلاله، و المتبع ان شاء الله خلفهم بسلفهم، فبئس الخلف خلف اتبع سلفا محله و محطه النار.

والسلام.

قال: فكتب اليه معاويه: اما بعد، فقد طال فى الغى ما استمررت ادراجك، كما طالما تمادى عن الحرب نكوصك و ابطاوك، فتوعد وعيد الاسد، و تروغ روغان الثعلب فحتام تحيد عن لقاء مباشره الليوث الضاريه، و الافاعى القاتله، و لا تستبعدنها، فكل ما هو آت قريب ان شاء الله.

والسلام.

قال: فكتب اليه على (ع): اما بعد: فما اعجب ما ياتينى منك، و ما اعلمنى بما انت اليه صائر! و ليس ابطائى عنك الا ترقبا لما انت له مكذب، و انا به مصدق! و كانى بك غدا و انت تضج من الحرب ضجيج الجمال من الاثقال، و ستدعونى انت و اصحابك الى كتاب تعظمونه بالسنتكم، و تجحدونه بقلوبكم.

والسلام.

قال: فكتب اليه معاويه: اما بعد، فدعنى من اساطيرك، و اكفف عنى من احاديثك، و اقصر عن تقولك على رسول الله (ص) و افترائك من الكذب ما لم يقل، و غرور من معك و الخداع لهم، فقد استغويتهم، و يوشك امرك ان ينكشف لهم فيعتزلوك، و يعلموا ان ما جئت به باطل مضمحل.

والسلام.

قال: فكتب اليه على (ع): اما بعد، فطالما دعوت انت و اولياوك اولياء الشيطان الرجيم الحق اساطير الاولين، و نبذتموه وراء ظهوركم، و جهدتم باطفاء نور الله بايديكم و افواهكم، و الله متم نوره و لو كره الكافرون.

و لعمرى ليتمن النور على كرهك، و لينفذن العلم بصغارك، و لتجازين بعملك، فعث فى دنياك المنقطعه عنك ما طاب لك، فكانك بباطلك و قد انقضى، و بعملك و قد هوى، ثم تصير الى لظى، لم يظلمك الله شيئا، و ما ربك بظلام للعبيد! قال: فكتب اليه معاويه: اما بعد، فما اعظم الرين على قلبك، و الغطاء على بصرك! الشره من شيمتك، و الحسد من خليقتك، فشمر للحرب، و اصبر للضرب، فو الله ليرجعن الامر الى ما علمت، و العاقبه للمتقين.

هيهات هيهات! اخطاك ما تمنى و هوى قلبك مع من هوى، فاربع على ظلعك، و قس شبرك بفترك، لتعلم اين حالك من حال من يزن الجبال حلمه، و يفصل بين اهل الشك علمه.

والسلام.

قال: فكتب اليه على (ع): اما بعد، فان مساوئك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك و بين ان يصلح لك امرك، و ان يرعوى قلبك، يابن الصخر اللعين! زعمت ان يزن الجبال حلمك، و يفصل بين اهل الشك علمك، و انت الجلف المنافق، الاغلف القلب، القليل العقل، الجبان الرذل، فان كنت صادقا فيما تسطر، و يعينك عليه اخو بنى سهم فدع الناس جانبا، و تيسر لما د عوتنى اليه من الحرب، و الصبر على الضرب، و اعف الفريقين من القتال، ليعلم اينا المرين على قلبه، المغطى على بصره، فانا ابوالحسن، قاتل جدك و اخيك و خالك، و ما انت منهم ببعيد، والسلام.

قلت: و اعجب و اطرب ما جاء به الدهر- و ان كانت عجائبه و بدائعه جمه- ان يفضى امر على (ع) الى ان يصير معاويه ندا له و نظيرا مماثلا، يتعارضان الكتاب و الجواب، و يتساويان فيما يواجه به احدهما صاحبه، و لايقول له على (ع) كلمه الا قال مثلها، و اخشن مسا منها، فليت محمدا (ص) كان شاهد ذلك، ليرى عيانا لا خبرا ان الدعوه التى قام بها، و قاسى اعظم المشاق فى تحملها، و كابد الاهوال فى الذب عنها، و ضرب بالسيوف عليها لتاييد دولتها، و شيد اركانها، و ملا الافاق بها، خلصت صفوا عفوا لاعدائه الذين كذبوه، لما دعا اليها و اخرجوه عن اوطانه لما حض عليها، و ادموا وجهه، و قتلوا عمه و اهله، فكانه كان يسعى لهم، و يداب لراحتهم، كما قال ابوسفيان فى ايام عثمان، و قد مر بقبر حمزه، و ضربه برجله، و قال، يا اباعماره! ان الامر الذى اجتلدنا عليه بالسيف امسى فى يد غلماننا اليوم يتلعبون به! ثم آل الامر الى ان يفاخر معاويه عليا، كما يتفاخر الاكفاء و النظراء... اذا غير الطائ ى بالبخل مادر و قرع قسا بالفهاهه باقل و قال السها للشمس انت خفيه و قال الدجى يا صبح لونك حائل و فاخرت الارض السماء سفاهه و كاثرت الشهب الحصا و الجنادل فياموت زر ان الحياه ذميمه و يا نفس جدى ان دهرك هازل! ثم اقول ثانيا لاميرالمومنين (ع): ليت شعرى، لماذا فتح باب الكتاب و الجواب بينه و بين معاويه! و اذا كانت الضروره قد قادت الى ذلك، فهلا اقتصر فى الكتاب اليه على الموعظه من غير تمرض للمفاخره و المنافره! و اذا كان لابد منهما فهلا اكتفى بهما من غير تمرض لامر آخر يوجب المقابله و المعارضه، بمثله، و باشد منهه: (و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) و هلا دفع هذا الرجل العظيم الجليل نفسه عن سباب هذا السفيه الاحمق، هذا معه انه القائل: من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون! اى افتروا عليه و قالوا فيه الباطل.

ايها الشاتمى لتحسب مثلى انما انت فى الضلال تهيم لا تسبننى فلست بسبى ان سبى من الرجال الكريم و هكذا جرى فى القنوت و اللعن، قنت بالكوفه على معاويه، و لعنه فى الصلاه و خطبه الجمعه، و اضاف اليه عمرو بن العاص و اباموسى و اباالاعور السلمى و حبيب بن مسلمه، فبلغ ذلك م عاويه بالشام، فقنت عليه، و لعنه بالصلاه، و خطبه الجمعه، و اضاف اليه الحسن و الحسين و ابن عباس و الاشتر النخعى، و لعله (ع) قد كان يظهر له من المصلحه حينئذ ما يغيب عنا الان، و لله امر هو بالغه!

نامه 033-به قثم بن عباس

الشرح:

كان معاويه قد بعث الى مكه دعاه فى السر يدعون الى طاعته، و يثبطون العرب عن نصره اميرالمومنين، و يوقعون فى انفسهم انه اما قاتل لعثمان او خاذل، و ان الخلافه لا تصلح فيمن قتل او خذل، و ينشرون عندهم محاسن معاويه بزعمهم و اخلاقه و سيرته، فكتب اميرالمومنين (ع) هذا الكتاب الى عامله بمكه، ينبهه على ذلك ليعتمد فيه بما تقتضيه السياسه، و لم يصرح فى هذا الكتاب بما ذا يامره ان يفعل اذا ظفر بهم.

قوله: (عينى بالمغرب)، اى اصحاب اخباره عند معاويه، و سمى الشام مغربا لانه من الاقاليم المغربيه.

و الموسم: الايام التى يقام فيها الحج.

و قوله: (و يحتلبون الدنيا درها بالدين) دلاله على ما قلنا: انهم كانوا دعاه يظهرون سمت الدين، و ناموس العباده، و فيه ابطال قول من ظن ان المراد بذلك السرايا التى كان معاويه يبعثها، فتغير على اعمال على (ع).

و درها منصوب بالبدل (من الدنيا) و روى: (الذين يلتمسون الحق بالباطل) اى يطلبونه، اى يتبعون معاويه و هو على الباطل التماسا و طلبا للحق، و لا يعلمون انهم قد ضلوا.

قوله: (و اياك و ما يعتذر منه) من الكلمات الشريفه الجليله الموقع، و قد رويت مرفوعه، و كان يقال: ما شى ء اشد على الانسان م ن حمل المروئه، و المروئه الا يعمل الانسان فى غيبه صاحبه ما يعتذر منه عند حضوره.

قوله: (و لا تكن عند النعماء بطرا، و لا عند الباساء فشلا) معنى مستعمل، قال الشاعر: فلست بمفراح اذا الدهر سرنى و لا جازع من صرفه المتقلب و لااتمنى الشر و الشر تاركى و لكن متى احمل على الشر اركب (قثم بن عباس و بعض اخباره) فاما قثم بن العباس، فامه ام اخوته، و روى ابن عبدالبر فى كتاب الاستيعاب عن عبدالله بن جعفر قال: كنت انا و عبيدالله و قثم ابنا العباس نلعب، فمر بنا رسول الله (ص) راكبا، فقال: (ارفعوا الى هذا الفتى) يعنى قثم- فرفع اليه! فاردفه خلفه، ثم جعلنى بين يديه، و دعا لنا، فاستشهد قثم بسمرقند.

قال ابن عبدالبر: و روى عبدالله بن عباس، قال: كان قثم آخر الناس عهدا برسول الله (ص) اى آخر من خرج من قبره ممن نزل فيه.

قال: و كان المغيره بن شعبه يدعى ذلك لنفسه، فانكر على بن ابى طالب (ع) ذلك، و قال: بل آخر من خرج من القبر قثم بن العباس.

قال ابن عبدالبر: و كان قثم واليا لعلى (ع) على مكه، عزل على (ع) خالد بن العاص بن هشام بن المغيره المخزومى- و كان و اليها لعثمان- و ولاها اباقتاده الانصارى، ثم عزله عنها و ولى مكانه، قثم بن العباس فلم يزل واليه عليها حتى قتل على (ع).

قال: هذا قول خليفه و قال الزبير بن بكار: استعمل على (ع) قثم بن العباس على المدينه.

قال ابن عبدالبر: و استشهد قثم بسمرقند، كان خرج اليها مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاويه فقتل هناك.

قال: و كان قثم يشبه رسول الله (ص)، و فيه يقول داود بن مسلم: عتقت من حل و من رحله يا ناق ان ادنيتنى من قثم انك ان ادنيت منه غدا حالفنى اليسر و مات العدم فى كفه بحر و فى وجهه بدر و فى العرنين منه شمم اصم عن قيل الخنا سمعه و ما على الخير به من صمم لم يدر ما (لا) و ب (لا) قد درى فعافها و اعتاض منها نعم

نامه 034-به محمد بن ابى بكر

الشرح:

(محمد بن ابى بكر و بعض اخباره) ام محمد رحمه الله اسماء بنت عميس الخثعميه: و هى اخت ميمونه زوج النبى (ص)، و اخت لبابه ام الفضل و عبدالله زوج العباس بن عبدالمطلب، و كانت من المهاجرات الى ارض الحبشه، و هى اذ ذاك تحت جعفر بن ابى طالب (ع)، فولدت له هناك محمد بن جعفر و عبدالله و عونا، ثم هاجرت معه الى المدينه، فلما قتل جعفر يوم موته تزوجها ابوبكر، فولدت له محمد بن ابى بكر هذا، ثم مات عنها فتزوجها على (ع)، و ولدت له يحيى بن على، لا خلاف فى ذلك.

و قال ابن عبدالبر فى "الاستيعاب": ذكر ابن الكلبى ان عون بن على اسم امه اسماء بنت عميس، و لم يقل ذلك احد غيره.

و قد روى ان اسماء.

كانت تحت حمزه بن عبدالمطلب، فولدت له بنتا تسمى امه الله- و قيل امامه- و محمد بن ابى بكر ممن ولد فى عصر رسول الله (ص).

قال ابن عبدالبر فى كتاب "الاستيعاب" ولد عام حجه الوداع فى عقب ذى القعده بذى الحليفه، حين توجه رسول الله (ص) الى الحج، فسمته عائشه محمدا، و كنته اباالقاسم بعد ذلك لما ولد له ولد سماه القاسم، و لم تكن الصحابه ترى بذلك باسا، ثم كان فى حجر على (ع)، و قتل بمصر، و كان على (ع) يثنى عليه و يقرظه و يفضله، و كان لمحم د رحمه الله عباده و اجتهاد، و كان ممن حضر عثمان و دخل عليه، فقال له: لو رآك ابوك لم يسره هذا المقام منك! فخرج و تركه و دخل عليه، بعده من قتله.

و يقال: انه اشار الى من كان معه فقتلوه.

قوله: (و بلغنى موجدتك)، اى غضبك، وجدت على فلان موجده، و وجدانا لغه قليله، و انشدوا: كلانا رد صاحبه بغيظ على حنق و وجدان شديد فاما فى الحزن فلا يقال الا وجدت انا بالفتح لا غير.

و الجهد: الطاقه، اى لم استبطئك فى بذل طاقتك و وسعك، و من رواها الجهد بالفتح فهو من قولهم: اجهد جهدك فى كذا، اى ابلغ الغايه، و لا يقال هذا الحرف هاهنا الا مفتوحا.

ثم طيب (ع) نفسه بان قال له: لو تم الامر الذى شرعت فيه من ولايه الاشتر مصر لعوضتك بما هو اخف عليك مئونه و ثقلا، و اقل نصبا من ولايه مصر، لانه كان فى مصر بازاء معاويه من الشام و هو مدفوع الى حربه.

ثم اكد (ع) ترغيبه بقوله: (و اعجب اليك ولايه).

فان قلت: ما الذى بيده مما هو اخف على محمد مئونه و اعجب اليه من ولايه مصر؟ قلت: ملك الاسلام كله كان بيد على (ع) الا الشام، فيجوز ان يكون قد كان فى عزمه ان يوليه اليمن او خراسان او ارمينيه او فارس.

ثم اخذ فى الثناء على الاشتر و كان على (ع) شديد الاعتضاد به، ك ما كان هو شديد التحقق بولايته و طاعته.

و ناقما، من نقمت على فلان كذا، اذا انكرته عليه و كرهته منه.

ثم دعا له بالرضوان، و لست اشك بان الاشتر بهذه الدعوه يغفر الله له و يكفر ذنوبه، و يدخله الجنه، و لا فرق عندى بينها و بين دعوه رسول الله (ص)، و يا طوبى لمن حصل له من على (ع) بعض هذا! قوله: (و اصحر لعدوك) اى ابرز له و لاتستتر عنه بالمدينه التى انت فيها، اصحر الاسد من خيسه، اذا خرج الى الصحراء.

و شمر فلان للحرب، اذا اخذ لها اهبتها.

نامه 035-به عبدالله بن عباس

الشرح:

انظر الى الفصاحه كيف تعطى هذا الرجل قيادها، و تملكه زمامها، و اعجب لهذه الالفاظ المنصوبه، يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه و تطاوعه، سلسه سهله، تتدفق من غير تعسف و لا تكلف، حتى انتهى الى آخر الفصل فقال: (يوما واحدا، و لا التقى بهم ابدا)، و انت و غيرك من الفصحاء اذا شرعوا فى كتاب او خطبه، جائت القرائن و الفواصل تاره مرفوعه، و تاره مجروره، و تاره منصوبه، فان ارادوا قسرها باعراب واحد ظهر منها فى التكلف اثر بين، و علامه واضحه، و هذا الصنف من البيان احد انواع الاعجاز فى القرآن، ذكره عبدالقاهر، قال: انظر الى سوره النساء و بعدها سوره المائده، الاولى منصوبه الفواصل، و الثانيه ليس فيها منصوب اصلا، و لو مزجت احدى السورتين بالاخرى لم تمتزجا، و ظهر اثر التركيب و التاليف بينهما.

ثم ان فواصل كل واحد منهما تنساق سياقه بمقتضى البيان الطبيعى لا الصناعه التكلفيه.

ثم انظر الى الصفات و الموصوفات فى هذا الفصل، كيف قال: (ولدا ناصحا)، و (عاملا كادحا)، و (سيفا قاطعا)، و ركنا دافعا، لو قال: (ولدا كادحا)، و (عاملا ناصحا) و كذلك ما بعده لما كان صوابا، و لا فى الموقع واقعا، فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسه و الخصائص الشريفه! ان يكون غلام من ابناء عرب مكه، ينشا بين اهله، لم يخالط الحكماء، و خرج اعرف، بالحكمه و دقائق العلوم الالهيه من افلاطون و ارسطو! و لم يعاشر ارباب الحكم الخلقيه و الاداب النفسانيه، لان قريشا لم يكن احد منهم مشهورا بمثل ذلك، و خرج اعرف بهذا الباب من سقراط! و لم يرب بين الشجعان، لان اهل مكه كانوا ذوى تجاره، و لم يكونوا ذوى حرب، و خرج اشجع من كل بشر مشى على الارض، قيل لخلف الاحمر: ايما اشجع عنبسه و بسطام ام على بن ابى طالب؟ فقال: انما يذكر عنبسه و بسطام مع البشر و الناس، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقه، فقيل له فعلى كل حال.

قال: و الله لو صاح فى وجوههما لماتا قبل ان يحمل عليهما.

و خرج افصح من سحبان و قس، و لم تكن قريش بافصح العرب، كان غيرها افصح منها، قالوا: افصح العرب جرهم و ان لم تكن لهم نباهه.

و خرج ازهد الناس فى الدنيا، و اعفهم، مع ان قريشا ذوو حرص و محبه للدنيا، و لا غرو فيمن كان محمد (ص) مربيه و مخرجه، و العنايه الالهيه تمده و ترفده ان يكون منه ما كان! يقال: احتسب ولده، اذا مات كبيرا، و افترط ولده، اذا مات صغيرا.

قوله: (فمنهم الاتى...)، قسم جنده اقساما، فمنهم من اجابه و خرج كارها للخروج، كما قا ل تعالى: (كانما يساقون الى الموت و هم ينظرون)، و منهم من قعد و اعتل بعله كاذبه، كما قال تعالى: (يقولون ان بيوتنا عوره و ما هى بعوره ان يريدون الا فرارا)، و منهم من تاخر و صرح بالقعود و الخذلان، كما قال تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله و كرهوا ان يجاهدوا باموالهم و انفسهم فى سبيل الله).

و المعنى ان حاله كانت مناسبه لحال النبى (ص)، و من تذكر احوالهما و سيرتهما، و ما جرى لهما الى ان قبضا، علم تحقيق ذلك.

ثم اقسم انه لو لا طمعه فى الشهاده لما اقام مع اهل العراق و لا صحبهم.

فان قلت: فهلا خرج الى معاويه وحده من غير جيش ان كان يريد الشهاده؟ قلت: ذلك لا يجوز، لانه القاء النفس الى التهلكه، و للشهاده شروط متى فقدت، فلا يجوز ان تحمل احدى الحالتين على الاخرى.