قد تقدم القول فى كراهيه مدح الانسان فى وجهه.
و فى الحديث المرفوع: (اذا مدحت اخاك فى وجهه، فكانما امررت على حلقه موسى و ميضه).
و قال ايضا لرجل مدح رجلا فى وجهه: (عقرت الرجل عقرك الله!).
و قال ايضا: (لو مشى رجل الى رجل بسيف مرهف كان خيرا له من ان يثنى عليه فى وجهه).
و من كلام عمر: المدح هو الذبح، قالوا: لان المذبوح ينقطع عن الحركه و الاعمال، و كذلك الممدوح يفتر عن العمل.
و يقول: قد حصل فى القلوب و النفوس ما استغنى به عن الحركه و الجد.
و من امثال الفلاحين: اذا طار لك صيت بين الحصاده، فاكسر منجلك.
و قال مطرف بن الشخير: ما سمعت من ثناء احد على، او مدحه احد لى، الا و تصاغرت الى نفسى.
و قال زياد بن ابى مسلم: ليس احد سمع ثناء احد عليه الا و ترائى له شيطان، و لكن المومن يراجع.
فلما ذكر كلامهما لابن المبارك قال: صدقا، اما قول زياد فتلك قلوب العوام، و اما قول مطرف فتلك قلوب الخواص.
قد تقدم لنا قول مستقصى فى هذا النحو، و فى الحوائج و قضائها و استنجاحها.
و قد جاء فى الحديث المرفوع: (استعينوا على حاجاتكم بالكتمان، فان كل ذى نعمه محسود).
و قال خالد بن صفوان: لاتطلبوا الحوائج فى غير حينها، و لاتطلبوها الى غير اهلها، و لاتطلبوا ما لستم له باهل فتكونوا للمنع خلقاء.
و كان يقال: لكل شى ء اس، و اس الحاجه تعجيل اروح من التاخير.
و قال رجل لمحمد بن الحنفيه: جئتك فى حويجه، قال: فاطلب لها رجيلا!.
و قال شبيب بن شبه بن عقال: امران لايجتمعان الا وجب النجح، و هما العاقل لايسال الا ما يجوز، و العاقل لايرد سائله عما يمكن.
و كان يقال: من استعظم حاجه اخيه اليه بعد قضائها امتنانا بها فقد استصغر نفسه.
و قال ابوتمام فى المطل: و كان المطل فى بدء و عود دخانا للصنيعه و هى نار نسيب البخل مذ كانا و الا يكن نسب فبينهما جوار لذلك قيل: بعض المنع ادنى الى جود، و بعض الجود عار
المحل: المكر و الكيد، يقال محل به اذا سعى به الى السلطان، فهو ماحل و محول، و المماحله: المماكره و المكايده.
قوله: (و لايظرف فيه الا الفاجر)، لايعد الناس الانسان ظريفا الا اذا كان خليعا ماجنا متظاهرا بالفسق.
و قوله: (و لايضعف فيه الا المنصف)، اى اذا راوا انسانا عنده ورع و انصاف فى معاملته الناس عدوه ضعيفا، و نسبوه الى الركه و الرخاوه، و ليس الشهم عندهم الا الظالم.
ثم قال: (يعدون الصدقه غرما)، اى خساره، و يمنون اذا وصلوا الرحم و اذا كانوا ذوى عباده استطالوا بها على الناس و تبجحوا بها، و اعجبتهم انفسهم، و احتقروا غيرهم.
قال: فعند ذلك يكون السلطان و الحكم بين الرعايا بمشوره الاماء... الى آخر الفصل، و هو من باب الاخبار عن الغيوب و هى احدى آياته، و المعجزات المختص بها دون الصحابه.
قد تقدم القول فى هذا الباب، و ذكرنا ان الحكماء و العارفين فيه على قسمين: منهم من آثر لبس الادنى على الاعلى، و منهم من عكس الحال، و كان عمر بن الخطاب من اصحاب المذهب الاول، و كذلك اميرالمومنين، و هو شعار عيسى بن مريم (ع)، كان يلبس الصوف و غليظ الثياب، و كان رسول الله (ص) يلبس النوعين جميعا، و اكثر لبسه كان الجيد من الثياب مثل ابراد اليمن، و ما شاكل ذلك، و كانت ملحفته مورسه حتى انها لتردع على جلده كما جاء فى الحديث.
و رئى محمد بن الحنفيه (ع) واقفا بعرفات على برذون اصفر، و عليه مطرف خز اصفر، و جاء فرقد السبخى الى الحسن و على الحسن مطرف خز، فجعل ينظر اليه و على فرقد ثياب صوف، فقال الحسن: ما بالك تنظر الى و على ثياب اهل الجنه، و عليك ثياب اهل النار! ان احدكم ليجعل الزهد فى ثيابه و الكبر فى صدره، فلهو اشد عجبا بصوفه من صاحب المطرف.
و قال ابن السماك لاصحاب الصوف: ان كان لباسكم هذا موافقا لسرائركم فلقد احببتم ان يطلع الناس عليها، و لئن كان مخالفا لها لقد هلكتم.
و كان عمر بن عبدالعزيز على قاعده عمر بن الخطاب فى ملبوسه، و كان قبل الخلافه يلبس الثياب المثمنه جدا، كان يقول: لقد خفت ان يعجز ما قسم الله لى من الرزق عما اريده من الكسوه، و ما لبست ثوبا جديدا قط الا و خيل لى حين يراه الناس انه سمل او بال فلما ولى الخلافه ترك ذلك كله.
و روى سعيد بن سويد، قال: صلى بنا عمر بن عبدالعزيز الجمعه، ثم جلس و عليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه و من خلفه، فقال له رجل: ان الله اعطاك يا اميرالمومنين، فلو لبست، فنكس مليا ثم رفع راسه فقال: ان افضل القصد ما كان عند الجده، و افضل العفو ما كان عند المقدره.
و روى عاصم بن معدله: كنت ارى عمر بن عبدالعزيز قبل الخلافه فاعجب من حسن لونه و جوده ثيابه و بزته، ثم دخلت عليه بعد ان ولى، و اذا هو قد احترق و اسود و لصق جلده بعظمه، حتى ليس بين الجلد و العظم لحم، و اذا عليه قلنسوه بيضاء قد اجتمع قطنها و يعلم انها قد غسلت، و عليه سحق انبجانيه قد خرج سداها، و هو على شاذ كونه، قد لصقت بالارض تحت الشاذكونه عبائه قطوانيه من مشاقه الصوف، و عنده رجل يتكلم، فرفع صوته، فقال له عمر: اخفض قليلا من صوتك، فانما يكفى الرجل من الكلام قدر ما يسمع صاحبه.
و روى عبيد بن يعقوب ان عمر بن عبدالعزيز كان يلبس الفرو الغليظ من الثياب، و كان سراجه على ثلاث قصبات فوقهن طين.
هذا الفصل بين فى نفسه لايحتاج الى شرح، و ذلك لان عمل كل واحد من الدارين مضاد لعمل الاخرى، فعمل هذه: الاكتساب، و الاضطراب فى الرزق، و الاهتمام بامر المعاش، و الولد و الزوجه، و ما ناسب ذلك.
و عمل هذه: قطع العلائق، و رفض الشهوات، و الانتصاب للعباده، و صرف الوجه عن كل ما يصد عن ذكر الله تعالى، و معلوم ان هذين العملين متضادان، فلا جرم كانت الدنيا و الاخره ضرتين لايجتمعان!.
قال صاحب الصحاح: نوف البكالى كان صاحب على (ع).
و قال ثعلب: هو منسوب الى قبيله تدعى بكاله، و لم يذكر من اى العرب هى، و الظاهر انها من اليمن، و اما بكيل فحى من همدان، و اليهم اشار الكميت بقوله: فقد شركت فيه بكيل و ارحب.
فاما البكالى فى نسب نوف فلا اعرفه.
قوله: ام رامق، اى ام مستيقظ ترمق السماء و النجوم ببصرك.
قوله: قرضوا الدنيا، اى تركوها و خلفوها وراء ظهورهم، قال تعالى: (و اذا غربت تقرضهم ذات الشمال) اى تتركهم و تخلفهم شمالا، و يقول الرجل لصاحبه: هل مررت بمكان كذا، يقول: نعم قرضته ليلا ذات اليمين، و انشد لذى الرمه: الى ظعن يقرضن اجواز مشرف شمالا و عن ايمانهن الفوارس قالوا: مشرف و الفوارس: موضعان، يقول: نظرت الى ظعن يجزن بين هذين الموضعين.
قال الله تعالى: (لاتسالوا عن اشياء ان تبد لكم تسوكم).
و جاء فى الاثر: ابهموا ما ابهم الله.
و قال بعض الصالحين لبعض الفقهاء: لم تفرض مسائل لم تقع و اتعبت فيها فكرك! حسبك بالمتداول بين الناس.
قالوا: هذا مثل قولهم فى باب المسح على الخفين: فان مسح على خف من زجاج، و نحو ذلك من النوادر الغريبه.
و قال شريك فى ابى حنيفه: اجهل الناس بما كان، و اعلمهم بما لم يكن.
و قال عمر: لاتتنازعوا فيما لم يكن فتختلفوا، فان الامر اذا كان اعان الله عليه، و انتهاك الحرمه: تناولها بما لايحل، اما بارتكاب ما نهى عنه، او بالاخلال بما امر به.
مثال ذلك انسان يضيع وقت صلاه الفريضه عليه، و هو مشتغل بمحاسبه وكيله و مخافته على ماله، خوفا ان يكون خانه فى شى ء منه، فهو يحرص على مناقشته عليه، فتفوته الصلاه.
قال (ع): من فعل مثل هذا فتح الله عليه فى امر دنياه و ماله ما هو اضر عليه مما رام ان يستدركه باهماله الفريضه.
قد وقع مثل هذا كثيرا، كما جرى لعبدالله بن المقفع، و فضله مشهور، و حكمته اشهر من ان تذكر، و لو لم يكن له الا كتاب "اليتيمه" لكفى.
(محنه المقفع) و اجتمع ابن المقفع بالخليل بن احمد، و سمع كل منهما كلام الاخر، فسئل الخليل عنه فقال: وجدت علمه اكثر من عقله، و هكذا كان، فانه كان مع حكمته متهورا، لا جرم تهوره قتله! كتب كتاب امان لعبدالله بن على عم المنصور و يوجد فيه خطه، فكان من جملته: و متى غدر اميرالمومنين بعمه عبدالله، او ابطن غير ما اظهر او تاول فى شى ء من شروط هذا الامان فنساوه طوالق، و دوابه حبس، و عبيده و اماوه احرار، و المسلمون فى حل من بيعته.
فاشتد ذلك على المنصور لما وقف عليه، و سال: من الذى كتب له الامان؟ فقيل له: عبدالله بن المقفع كاتب عميك عيسى و سليمان، ابنى على بالبصره، فكتب المنصور الى عامله بالبصره سفيان بن معاويه يامره بقتله.
و قيل: بل قال، اما احد يكفينى ابن المقفع!.
فكتب ابوالخصيب بها الى سفيان بن معاويه المهلبى امير البصره يومئذ- و كان سفيان واجدا على ابن المقفع لانه كان يعبث به و يضحك منه دائما، فغضب سفيان يوما من كلامه، و افترى عليه، فرد ابن المقفع عليه ردا فاحشا، و قال له: يابن المغتلمه! و كان يمتنع و يعتصم بعيسى و سليمان ابنى على بن عبدالله بن العباس، فحقدها سفيان عليه- فلما كوتب فى امره بما كوتب اعتزم قتله، فاستاذن عليه جماعه من اهل البصره، منهم ابن المقفع، فادخل ابن المقفع قبلهم، و عدل به الى حجره فى دهليزه، و جلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان، فصادف ابن المقفع فى تلك الحجره سفيان بن معاويه، و عنده غلمانه و تنور نار يسجر، فقال له سفيان: اتذكر يوم قلت لى كذا! امى مغتلمه ان لم اقتلك قتله لم يقتل بها احد، ثم قطع اعضائه عضوا عضوا، و القاها فى النار و هو ينظر اليها حتى اتى على جميع جسده، ثم اطبق التنور عليه، و خرج الى الناس فكلمهم، فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج، فمضى و اخبر عيسى بن على و اخاه سليمان بحاله، فخاصما سفيان بن معاويه فى امره، فجحد دخوله اليه، فاشخصاه الى المنصور، و قامت البينه العادله ان ابن المقفع دخل دار سفيان حيا سليما و لم يخرج منها.
فقال المنصور: انا انظر فى هذا الامر ان شاءالله غدا، فجاء سفيان ليلا الى المنصور فقال: يا اميرالمومنين، اتق الله فى صنيعتك و متبع امرك، قال: لاترع، و احضرهم فى غد، و قامت الشهاده، و طلب سليمان و عي سى القصاص، فقال المنصور: ارايتم ان قتلت سفيان بابن المقفع، ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب- و اوما الى باب خلفه- من ينصب لى نفسه حتى اقتله بسفيان؟ فسكتوا، و اندفع الامر، و اضرب عيسى و سليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها، و ذهب دمه هدرا.
قيل للاصمعى: ايما كان اعظم ذكاء و فطنه الخليل ام ابن المقفع؟ فقال: كان ابن المقفع افصح و احكم، و الخليل آدب و اعقل، ثم قال: شتان ما بين فطنه افضت بصاحبها الى القتل، و فطنه افضت بصاحبها الى النسك و الزهد فى الدنيا! و كان الخليل قد نسك قبل ان يموت.
روى: (قعد به الضعف).
و النياط: عرق علق به القلب من الوتين، فاذا قطع مات صاحبه، و يقال له النيط ايضا.
و البضعه بفتح الباء: القطعه من اللحم، و المراد بها هاهنا القلب، و قال: يعتور القلب حالات مختلفات متضادات، فبعضها من الحكمه، و بعضها- و هو المضاد لها- مناف للحكمه، و لم يذكرها (ع)، و ليست الامور التى عددها شرحا لما قدمه من هذا الكلام المجمل، و ان ظن قوم انه اراد ذلك، الا ترى ان الامور التى عددها ليس فيها شى ء من باب الحكمه و خلافها!.
فان قلت: فما مثال الحكمه و خلافها، و ان لم يذكر (ع) مثاله؟.
قلت: كالشجاعه فى القلب و ضدها الجبن، و كالجود و ضده البخل، و كالعفه و ضدها الفجور، و نحو ذلك.
فاما الامور التى عددها (ع) فكلام مستانف، انما هو بيان ان كل شى ء مما يتعلق بالقلب يلزمه لازم آخر نحو الرجاء، فان الانسان اذا اشتد رجاوه اذله الطمع، و الطمع يتبع الرجاء، و الفرق بين الطمع و الرجاء ان الرجاء توقع منفعه ممن سبيله ان تصدر تلك المنفعه عنه، و الطمع توقع منفعه ممن يستبعد وقوع تلك المنفعه منه، ثم قال: و ان هاج به الطمع قتله الحرص، و ذلك لان الحرص يتبع الطمع، اذا لم يعلم الطامع انه طامع، و انما يظن انه راج.
ثم قال: و ان ملكه الياس، قتله الاسف، اكثر الناس اذا يئسوا اسفوا.
ثم عدد الاخلاق و غيرها من الامور الوارده فى الفصل الى آخره، ثم ختمه بان قال: (فكل تقصير به مضر، و كل افراط له مفسد)، و قد سبق كلامنا فى العداله، و انها الدرجه الوسطى بين طرفين هما رذيلتان، و العداله هى الفضيله، كالجود الذى يكتنفه التبذير و الامساك، و الذكاء الذى يكتنفه الغباوه.
و الجربزه، و الشجاعه التى يكتنفها الهوج و الجبن، و شرحنا ما قاله الحكماء فى ذلك شرحا كافيا، فلا معنى لاعادته.