هذا من باب الامر بالمعروف و النهى عن المنكر، و الكلمه تتضمن استعاره تدل على الفصاحه، و المعنى ان من ارهف عزمه على انكار المنكر، و قوى غضبه فى ذات الله و لم يخف و لم يراقب مخلوقا، اعانه الله على ازاله المنكر، و ان كان قويا صادرا من جهه عزيزه الجانب، و عنها وقعت الكنايه باشداء الباطل.
ما احسن ما قال المتنبى فى هذا المعنى: و اذا لم يكن من الموت بد فمن العجز ان تكون جبانا كل ما لم يكن من الصعب فى الان فس سهل فيها اذا هو كانا و قال آخر: لعمرك ما المكروه الا ارتقابه و اعظم مما حل ما يتوقع و قال آخر: صعوبه الرزء تلقى فى توقعه مستقبلا و انقضاء الرزء ان يقعا و كان يقال: توسط الخوف تامن.
و من الامثال العاميه: ام المقتول تنام، و ام المهدد لاتنام.
و كان يقال: كل امر من خير او شر فسماعه اعظم من عيانه.
و قال قوم من اهل المله و ليسوا عند اصحابنا مصيبين: ان عذاب الاخره المتوعد به اذا حل بمستحقيه وجدوه اهون مما كانوا يسمعونه فى الدنيا، و الله اعلم بحقيقه ذلك.
الرئيس محتاج الى امور، منها الجود، و منها الشجاعه، و منها- و هو الاهم- سعه الصدر، فانه لاتتم الرئاسه الا بذلك.
و كان معاويه واسع الصدر كثير الاحتمال، و بذلك بلغ ما بلغ.
(سعه الصدر و ما ورد فى ذلك من حكايات) و نحن نذكر من سعه الصدر حكايتين دالتين على عظم محله فى الرئاسه، و ان كان مذموما فى باب الدين، و ما احسن قول الحسن فيه و قد ذكر عنده عقيب ذكر ابى بكر و عمر، فقال: كانا و الله خيرا منه، و كان اسود منهما.
الحكايه الاولى: وفد اهل الكوفه على معاويه حين خطب لابنه يزيد بالعهد بعده، و فى اهل الكوفه هانى ء بن عروه المرادى- و كان سيدا فى قومه- فقال يوما فى مسجد دمشق و الناس حوله: العجب لمعاويه يريد ان يقسرنا على بيعه يزيد، و حاله حاله، و ما ذاك و الله بكائن، و كان فى القوم غلام من قريش جالسا، فتحمل الكلمه الى معاويه، فقال معاويه: انت سمعت هانئا يقولها؟ قال: نعم، قال: فاخرج فات حلقته، فاذا خف الناس عنه فقل له: ايها الشيخ، قد وصلت كلمتك الى معاويه، و لست فى زمن ابى بكر و عمر، و لااحب ان تتكلم بهذا الكلام فانهم بنواميه، و قد عرفت جراتهم و اقدامهم، و لم يدعنى الى هذا القول لك الا النصيحه و ال اشفاق عليك، فانظر ما يقول، فاتنى به.
فاقبل الفتى الى مجلس هانى ء، فلما خف من عنده دنا منه فقص عليه الكلام و اخرجه مخرج النصيحه له، فقال هانى ء: و الله يابن اخى ما بلغت نصيحتك كل ما اسمع، و ان هذا الكلام لكلام معاويه اعرفه! فقال الفتى: و ما انا و معاويه! و الله ما يعرفنى، قال: فلا عليك، اذا لقيته فقل له: يقول لك هانى ء: و الله ما الى ذلك من سبيل، انهض يابن اخى راشدا!.
فقام الفتى فدخل على معاويه فاعلمه، فقال: نستعين بالله عليه.
ثم قال معاويه بعد ايام للوفد: ارفعوا حوائجكم- و هانى ء فيهم- فعرض عليه كتابه فيه ذكر حوائجه، فقال: يا هانى ء، ما اراك صنعت شيئا، زد، فقام هانى ء فلم يدع حاجه عرضت له الا و ذكرها، ثم عرض عليه الكتاب فقال: اراك قصرت فيما طلبت، زد، فقام هانى ء فلم يدع حاجه لقومه و لا لاهل مصره الا ذكرها، ثم عرض عليه الكتاب، فقال: ما صنعت شيئا، زد، فقال: يا اميرالمومنين، حاجه بقيت، قال: ما هى؟ قال: ان اتولى اخذ البيعه ليزيد ابن اميرالمومنين بالعراق، قال: افعل، فما زلت لمثل ذلك اهلا، فلما قدم هانى ء العراق قام بامر البيعه ليزيد بمعونه من المغيره بن شعبه و هو الوالى بالعراق يومئذ.
و اما الحكايه الثانيه: كان م ال حمل من اليمن الى معاويه، فلما مر بالمدينه وثب عليه الحسين بن على (ع)، فاخذه و قسمه فى اهل بيته و مواليه، و كتب الى معاويه: من الحسين بن على الى معاويه بن ابى سفيان، اما بعد، فان عيرا مرت بنا من اليمن تحمل مالا و حللا و عنبرا و طيبا اليك لتودعها خزائن دمشق، و تعل بها بعد النهل بنى ابيك، و انى احتجت اليها فاخذتها.
والسلام.
فكتب اليه معاويه: من عند عبدالله معاويه اميرالمومنين الى الحسين بن على: سلام عليك، اما بعد، فان كتابك ورد على تذكر ان عيرا مرت بك من اليمن تحمل مالا و حللا و عنبرا و طيبا الى لاودعها خزائن دمشق، و عل بها بعد النهل بنى ابى، و انك احتجت اليها فاخذتها و لم تكن جديرا باخذها اذ نسبتها الى لان الوالى احق بالمال، ثم عليه المخرج منه، و ايم الله لو ترك ذلك حتى صار الى، لم ابخسك حظك منه، و لكنى قد ظننت يابن اخى ان فى راسك نزوه و بودى ان يكون ذلك فى زمانى فاعرف لك قدرك، و اتجاوز عن ذلك، و لكنى و الله اتخوف ان تبتلى بمن لاينظرك فواق ناقه، و كتب فى اسفل كتابه: يا حسين بن على ليس ما جئت بالسائغ يوما فى العلل اخذك المال و لم تومر به ان هذا من حسين لعجل قد اجزناها و لم نغضب لها و احتملنا من حسي ن ما فعل يا حسين بن على ذا الامل لك بعدى وثبه لاتحتمل و بودى اننى شاهدها فاليها منك بالخلق الاجل اننى ارهب ان تصلى بمن عنده قد سبق السيف العذل و هذه سعه صدر و فراسه صادقه.
قد قال ابن هانى ء المغربى فى هذا المعنى: لولا انبعاث السيف و هو مسلط فى قتلهم قتلتهم النعماء فافصح به ابوالعتاهيه فى قوله: اذا جازيت بالاحسان قوما زجرت المذنبين عن الذنوب فما لك و التناول من بعيد و يمكنك التناول من قريب
هذا يفسر على وجهين: احدهما انه يريد: لاتضمر لاخيك سوئا، فانك لاتضمر ذاك الا يضمر هو لك سوئا، لان القلوب يشعر بعضها ببعض، فاذا صفوت لواحد صفا لك.
و الوجه الثانى ان يريد: لاتعظ الناس و لاتنههم عن منكر الا و انت مقلع عنه، فان الواعظ الذى ليس بزكى لاينجع وعظه، و لايوثر نهيه.
و قد سبق الكلام فى كلا المعنيين.
هذا مشتق من قوله (ع): (لاراى لمن لايطاع)، و ذلك لان عدم الطاعه هو اللجاجه، و هو خلق يتركب من خلقين: احدهما الكبر، و الاخر الجهل بعواقب الامور و اكثر ما يعترى الولاه لما ياخذهم من العزه بالاثم.
و من كلام بعض الحكماء: اذا اضطررت الى مصاحبه السلطان، فابدا بالفحص عن معتاد طبعه، و مالوف خلقه، ثم استحدث لنفسك طبعا ففرغه فى قالب ارادته، و خلقا تركبه مع موضع وفاقه حتى تسلم معه، و ان رايته يهوى فنا من فنون المحبوبات فاظهر هواك لضد ذلك الفن، ليبعد عنك ارهابه، بل و يكثر سكونه اليك، و اذا بدا لك منه فعل ذميم فاياك ان تبداه فيه بقول ما لم يستبذل فيه نصحك، و يستدعى رايك، و ان استدعى ذاك فليكن ما تفاوضه فيه بالرفق و الاستعطاف، لا بالخشونه و الاستنكاف، فيحمله اللجاج المركب فى طبع الولاه على ارتكابه، فكل وال لجوج، و ان علم ما يتعقبه لجاجه من الضرر، و ان اجتنابه هو الحسن
هذا المعنى مطروق جدا، و قد سبق لنا فيه قول شاف.
و قال الشاعر: تعفف و عش حرا و لاتك طامعا فما قطع الاعناق الا المطامع و فى المثل: اطمع من اشعب، راى سلالا يصنع سله، فقال له: اوسعها، قال: ما لك و ذاك، قال: لعل صاحبها يهدى لى فيها شيئا.
و مر بمكتب و غلام يقرا على الاستاذ: (ان ابى يدعوك)، فقال: قم بين يدى حفظك الله و حفظ اباك، فقال: انما كنت اقرا وردى، فقال: انكرت ان تفلح او يفلح ابوك!.
و قيل: لم يكن اطمع من اشعب الا كلبه، راى صوره القمر فى البئر فظنه رغيفا، فالقى نفسه فى البئر يطلبه فمات.
قد سبق من الكلام فى الحزم و التفريط ما فيه كفايه.
و كان يقال: الحزم ملكه يوجبها كثره التجارب، و اصله قوه العقل، فان العاقل خائف ابدا، و الاحمق لايخاف، و ان خاف كان قليل الخوف، و من خاف امرا توقاه، فهذا هو الحزم.
و كان ابوالاسود الدولى من عقلاء الرجال و ذوى الحزم و الراى، و حكى ابوالعباس المبرد قال: قال زياد لابى الاسود- و قد اسن-: لولا ضعفك لاستعملناك على بعض اعمالنا، فقال: اللصراع يريدنى الامير! قال زياد: ان للعمل مئونه، و لااراك الا تضعف عنه، فقال ابوالاسود: زعم الامير ابوالمغيره اننى شيخ كبير قد دنوت من البلى صدق الامير لقد كبرت و انما نال المكارم من يدب على العصا يابا المغيره رب امر مبهم فرجته بالحزم منى و الدها و كان يقال: من الحزم و التوقى ترك الافراط فى التوقى.
لما نزل بمعاويه الموت و قدم عليه يزيد ابنه فرآه مسكتا لايتكلم، بكى و انشد: لو فات شى ء يرى لفات ابو حيان لا عاجز و لا وكل الحول القلب الاريب و لا تدفع يوم المنيه الحيل
قد تكرر ذكر هذاالقول، و تكرر مناشرحه و شرح نظائره.
و كان يقال : ما الانسان لو لا اللسان الا بهيمه مهمله،او صوره ممثله.
و كان يقال : اللسان عضو ان مرنته مرن، و ان تركته خزن.
هذا عند اصحابنا مختص باختلاف الدعوه فى اصول الدين، و يدخل فى ذلك الامامه، لانها من اصول الدين، و لايجوز ان يختلف قولان متضادان فى اصول الدين فيكونا صوابا، لانه ان عنى بالصواب مطابقه الاعتقاد للخارج، فمستحيل ان يكون الشى ء فى نفسه ثابتا منفيا، و ان اراد بالصواب سقوط الاثم- كما يحكى عن عبيد بن الحسن العنبرى- فانه جعل اجتهاد المجتهدين فى الاصول عذرا، فهو قول مسبوق بالاجماع.
و لايحمل اصحابنا كلام اميرالمومنين (ع) على عمومه، لان المجتهدين فى فروع الشريعه و ان اختلفوا و تضادت اقوالهم ليسوا و لا واحد منهم على ضلال، و هذا مشروح فى كتبنا الكلاميه فى اصول الفقه.