مع الرکب الحسینی من المدینة الی المدینة

نجم الدین طبسی

جلد 2 -صفحه : 31/ 3
نمايش فراداده
لكنّ المؤسف فعلاً ـ كما قلنا في بداية هذه المقدّمة ـ أنّ التأريخ لم يسجل لنا عن هذه الأيام المكيّة إلاّ ملاحظات عامّة غضّت الطرف وأغمضته عن كثير من التفاصيل التأريخية اللازمة في الإجابة على كثير من التساؤلات التي تنقدح في ذهن المتأمل حول تلك الفترة وما جرى فيها وبعدها. ويمكن للمتتبع أن يحدّد المحاور العامة التي سجلها التأريخ لهذه الفترة المكيّة بما يأتي:

1ـ إنشداد الناس في مكّة الى الإمام(عليه السلام) واحتفاؤهم به، وتضايق عبدالله بن الزبير والسلطة الأموية المحلّية في مكّة لذلك.

2ـ محاولات بعض وجهاء الأمّة لثني الإمام(عليه السلام) عن التوجّه الى العراق في إطار لقاءات ومحاورات النصح والمشورة وبعض المكاتبات في هذا الصدد.

3ـ رسائل أهل الكوفة الى الإمام(عليه السلام)، ورسائل الإمام(عليه السلام) إليهم والى أهل البصرة. 4ـ إرسال الإمام(عليه السلام) مسلم بن عقيل(عليه السلام) إلى أهل الكوفة. 5ـ خطب الإمام(عليه السلام) قبيل مغادرة مكّة، والمحاولات الأخيرة لثنيه عن التوجّه

[19]

الى العراق. ومجموع الروايات التأريخية الواردة في إطار هذه المحاور تعتبر نزراً قليلاً جداً إذا قيست إلى ما يمكن أن تتضمّنه فترة لا تقلّ عن مائة وخمسة وعشرين يوماً من وقائع وأحداث، خصوصاً في مدينة مكّة المكرّمة وفي أيّام كانت هذه المدينة قد غصّت بجموع غفيرة من معتمرين وحجّاج وفدوا إليها من شتى أنحاء العالم الإسلامي، وفيهم شخصيات مهمة كثيرة يستبعد المتأمّل ألا تكون لها لقاءات كثيرة وطويلة مع الإمام الحسين(عليه السلام) الذي هو آنذاك الرمز الديني والروحي لهذه الأمّة. ومن أجل جبران هذا النقص في المادّة التأريخية لفترة الأيام المكيّة من عمر النهضة الإسلامية رأينا أن نتابع وقائع وأحداث هذه الفترة من خلال الزوايا الثلاث التالية:

1ـ حركة الإمام الحسين(عليه السلام) في هذه الفترة. 2ـ حركة السلطة الأموية في مواجهة الإمام(عليه السلام). 3ـ حركة الأمّة إزاء قيام الإمام(عليه السلام). وقد حاولنا ـ فضلاً عن الروايات المبذولة في إطار هذه الزوايا الثلاث ـ أن نلتقط كلّ الشوارد والإشارات التأريخيّة المتفرّقة في كتب التأريخ والتراجم وغيرها ونجمعها في متجهاتها كيما نزيح بأضواء جديدة بعض الغموض الجاثم على مساحة كبيرة من تلك الفترة، لنكون بذلك قد قدّمنا جديداً في إطار هذه الدراسة التأريخية التحليلية النقدية. تُرى هل وفّقنا الى ذلك ؟ التقييم في ذلك متروك الى القاريء الكريم.

[20]

وفي الختام: أود أن أتقدم بالشكر والتقدير الفائق إلى صاحب الفضيلة الأستاذ المحقّق علي الشاوي المحترم حيث أتحفنا بملاحظات قيمة، مع بذل غاية جهده في تنظيم وترصين هذا الجهد المتواضع: كتاب «الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينيّة» فله الفضل عليَّ والأيادي. واستميح سيّدي الوالد المرحوم آية الله الطبسي عذراً إذ لم أوفّق حتّى الآن لتنفيذ ما أوصى به إلينا من تحقيق وطبع ونشر مؤلّفه القيّم ـ المخطوط ـ مقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، وعسى أن يكون هذا الجهد المتواضع بداية خير لإنجاز ما طلبه منّا في قريب عاجل إن شاء الله تعالى.

نجم الدين الطبسي قم المقدّسة 19/محرّم الحرام/1419 هـ . ق

[21]

الفصل الأول

حركة الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) في مكّة

[22]

[23]

ورود الإمام الحسين(عليه السلام) مكّة المكرّمة

سار الإمام(عليه السلام) بالركب الحسينيّ من المدينة المنورة حتى وافى مكّة المكرّمة، فلمّا نظر إلى جبالها من بعيد جعل يتلو هذه الآية الكريمة: (ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل)،(1) وذلك ما قاله رسول الله موسى بن عمران(عليه السلام) حينما خرج من مصر إلى مدين. وقيل: إنه لمّا قدم مكّة قال: «اللّهمَّ خِرْ لي واهدني سواء السبيل».(2) وقد دخل(عليه السلام) مكّة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان .(3) أو دخلها(عليه السلام)يوم الجمعة،(4) ومكث فيها أربعة أشهر وخمسة أيّام. الإستقبال الحافل والحفاوة البالغة قال ابن كثير: «وعكف الناس بمكّة يفدون إليه، ويجلسون حواليه،

(1) سورة القصص: الآية 22. (2) الفتوح، 6: 25; وروضة الواعظين: 172. (3) إعلام الورى: 223; والبداية والنهاية: 160; وأنساب الأشراف، 3:1297. (4) مقتل الحسين(عليه السلام) للمقرم: 141.

[24]

ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون ما يروون عنه».(1) وقال الشيخ المفيد(قدس سره): «فأقبل أهلها يختلفون إليه، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ...».(2) وقال ابن الصباغ: «فأقبل الحسين حتى دخل مكّة المشرّفة ونزل بها، وأهلها يختلفون إليه ويأتونه، وكذلك من بها من المجاورين والحجاج والمعتمرين من سائر أهل الآفاق».(3) وذكر بعض المؤرّخين أنّ أهل مكّة فرحوا به(عليه السلام) فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّاً.(4) ويبدو أنّ بعض المتتبعين المعاصرين ـ كباقر شريف القرشيّ ـ قد استفاد

من مجموع مثل هذه النصوص أنّ المكيّين أنفسهم هم الذين احتفوا بالإمام(عليه السلام)وكانوا يختلفون إليه بكرة وعشياً، فأطلق القول هكذا: «وقد استقبل الإمام(عليه السلام)استقبالاً حافلاً من المكيّين، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّاً، وهم يسألونه عن أحكام دينهم وأحاديث نبيّهم».(5) لكننا نرجّح ـ كما قدّمنا في مقدمة الكتاب ـ أنّ الذين احتفوا بالإمام الحسين(عليه السلام)وكانوا يفدون إليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون مايروون عنه، هم أهل الأقطار الأخرى من

(1) البداية والنهاية، 8: 153. (2) الإرشاد: 223. (3) الفصول المهمة: 183. (4) راجع: الفتوح، 5: 26; وإعلام الورى: 223. (5) حياة الإمام الحسين(عليه السلام)، 2: 803.

[25]

المعتمرين والحجاج المتواجدين آنذاك في مكّة، وفيهم من المكيين القليل ممن ليسوا من بطون قريش، ممن سكن مكّة بعد الفتح وبعد انتشار الإسلام في الأرض، ذلك لأنّ قريشاً توارثت العداء لعليّ وآل عليّ(عليهم السلام)، والظاهر أنّ جلّ المكيّين آنذاك هم من قريش، ولا ننسى قول الإمام السجاد(عليه السلام): «ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا ...».(1) منزل الإمام الحسين(عليه السلام) بمكّة صرّح الذهبي بأنّ الإمام الحسين(عليه السلام) «نزل بمكّة دار العبّاس»،(2) وكذلك قال المزّي،(3) ومن قبلهما ابن عساكر،(4)

غير أنّ بعضاً آخر من المؤرخين ذكروا أنه(عليه السلام)«نزل في شِعب عليّ(عليه السلام)»،(5) ولامنافاة بين القولين و لأنّ دارالعبّاس بن عبدالمطلب كانت فى شعب عليّ(عليه السلام). لكن السؤال الذي قد يفرض نفسه هنا هو: لماذا اختار الإمام الحسين(عليه السلام) دار العبّاس بن عبدالمطّلب ؟ هل هناك غرض سياسي أو اجتماعي أو تبليغي من وراء ذلك ؟ أم أنه(عليه السلام) لم يُرد أن يكون لأحد عليه منّة بذلك ؟ أو أنّه(عليه السلام) خشي أن ينزل على أحد فيكلّف المنزول به ثمناً باهضاً وحرجاً شديداً، لأنّ السلطة الأموية بعد ذلك سوف تضطهد صاحب المنزل بأشدّ عقوباتها ؟ أو أنه(عليه السلام) لم يُرد أن يمنح رجلاً من أهل

(1) الغارات: 393; وشرح النهج لابن أبي الحديد، 4:104. (2) تأريخ الإسلام: حوادث سنة 61، صفحة 8. (3) تهذيب الكمال، 4: 489. (4) تأريخ دمشق، 14: 182. (5) الأخبار الطوال: 229، وحياة الإمام الحسين 2: 308.

[26]

مكّة بنزوله عنده اعتباراً اجتماعياً ومنزلة في قلوب الناس لا يستحقّها أو يستثمرها بعد ذلك لمنافعه الخاصة ؟ أم أنّ الإمام(عليه السلام) لم ينزل من دور بني هاشم في مكّة إلا دار العباس بن عبدالمطلب لأنّ بني هاشم لم تبق لهم دار في مكّة إلاّ دار العبّاس، ذلك لأنّ عقيل ابن أبي طالب كان قد باع دور المهاجرين من بني هاشم خشية أنّ تستولي عليها قريش وتصادرها، لأنّ قريشاً عمدت حينذاك الى مصادرة منازل المهاجرين من المسلمين الى المدينة انتقاماً وإرهاباً، ولم يكن العبّاس بن عبدالمطلب قد هاجر آنذاك على فرض إسلامه حين هجرة النبي(صلى الله عليه وآله) ـ فسلمت داره من المصادرة. يقول الواقدي: «قيل للنبي: ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ قال: فهل ترك لنا عقيل منزلاً ؟ وكان عقيل قد باع(1)

منزل رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكّة ».(2) ويعلل السيد علي خان الشيرازي هذه المصادرة قائلاً: «كان عقيل قد باع دور بني هاشم المسلمين بمكّة، وكانت قريش تعطي من لم يُسلم مال من أسلم، فباع دور قومه حتى دار رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فلما دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله) مكّة يوم الفتح قيل: ألا تنزل دارك يارسول الله(صلى الله عليه وآله) ؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار ؟».(3) أمّا الشيخ الطوسي فيعلّل هذه المصادرة بسبب الهجرة لا بسبب الإسلام فقط حيث يقول: « .. قول النبي(صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكّة وقد قيل له: ألا تنزل دارك ؟ فقال:

(1) ولعل عقيلاً قد قام بذلك برضا أصحاب المنازل من بني هاشم أو محرزاً لرضاهم وتوكيلهم إيّاه، لأنّ عقيلاً أجل شأناً وأنزه من أن يدفع غصباً بغصب. (2) المغازي 2: 829. (3) الدرجات الرفيعة: 154. وراجع الذريعة 8: 60.

[27]

وهل ترك لنا عقيل من ربع ؟ لأنه كان قد باع دور بني هاشم لمّا خرجوا الى المدينة .. ».(1) وفي الإجابة عن السؤال المثار حول سبب اختيار الإمام(عليه السلام) دار العبّاس بن عبدالمطّلب نقول: مما لاشك فيه أنّ سبب هذا الإختيار لاينحصر في كون دار العبّاس هي الدار السانحة آنذاك، وذلك لأنّ الإمام(عليه السلام) كان مقتدراً ذا سعة، وكان بإمكانه بل من اليسير عليه أن يهيأ داراً أو أكثر من دار في مكة له ولغيره من أفراد الركب الحسينيّ، ونرى ألا منافاة بين جميع الدواعي المعقولة لهذا الإختيار، سواء التي ذكرناها في معرض التساؤل أو التي لم نذكرها، فمن الممكن أن يجتمع السبب السياسي مع السبب الاجتماعي مع السبب التبليغي مع الأسباب الأخرى وتتعاضد جميعها في متّجه واحد لتشكّل العلّة التامّة لهذا الإختيار.

رسائل الإمام(عليه السلام) إلى الولايات الأخرى

رسالته(عليه السلام) إلى البصرة كانت الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) على صلة بالإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) رغم الإضطهاد والإرهاب والمراقبة الشديدة من قبل الحكم الأمويّ على محبّي أهل البيت(عليهم السلام)، فكانت الشيعة في أنحاء البلاد الإسلامية تبعث الى الإمام الحسين(عليه السلام) المكاتيب وتسأله عمّا يهمّها من أمور دينهم، وكان للبصرة نصيبها من الصلة بالإمام(عليه السلام)، وقد أثبت التأريخ بعض رسائل شيعتها إليه، كالرسالة التي بعثوا بها إلى الإمام(عليه السلام) يسألونه فيها عن معنى الصمد، وبعث إليهم

(1) التبيان 9: 369، ومجمع البيان 9: 147.

[28]

بجوابها ...(1) لكنّ الملفت للإنتباه في الرسالة التي بعث بها الإمام(عليه السلام) إلى اشراف البصرة ورؤساء الأخماس(2) فيها هو أنَّ الإمام(عليه السلام) كان الباديء بالمكاتبة، وقد دعا فيها أولئك الأشراف والرؤساء ومن يتبعهم من أهل البصرة إلى نصرته، في وقت لم يكن أحدٌ من أولئك قد بعث من قبل إلى الإمام(عليه السلام) بكتاب يدعوه فيه إلى القيام والنهضة ضد الحكم الأموي، كما فعل أشراف الكوفة ووجهاؤها وكثير من أهلها الذين كانت رسائلهم تنهال على مكّة حتى بلغت في يوم واحد ستمائة رسالة ! فما هي علّة مبادرة الإمام(عليه السلام) الى الكتابة إلى أشراف البصرة ورؤسائها ؟ لايشك مطّلع على التأريخ الإسلامي بالأهمية الخاصة التي كانت تتمتع بها كلٌ من ولايتي الكوفة والبصرة وأثرهما البالغ

على حركة أحداث العالم الإسلامي آنذاك، خصوصاً وأنّ هاتين الولايتين المهمتين لم تنغلقا لصالح الحكم الأموي كما انغلق الشام تماماً لصالحه آنذاك، فمحبّو أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم في كلّ من هاتين الولايتين برغم الإرهاب والقمع الأمويّ كانت لهم اجتماعاتهم ومنتدياتهم السريّة، وتطلّعاتهم الى يوم الخلاص من كابوس الحكم الأمويّ. نعم، هناك فارق واضح بين الكوفة والبصرة من حيث تأريخ كلّ منهما في نصرة أمير المؤمنين(عليه السلام)، ومن حيث عدد الشيعة في كلّ منهما، ومن حيث درجة

(1) راجع: مكاتيب الأئمّة 2: 48 نقلاً عن التوحيد: 90 / وكذلك: سير أعلام النبلاء 3:293. (2) أخماس البصرة: كانت البصرة قد قسّمت خمسة أقسام، ولكل خمس منها رئيس من الأشراف. (وقعة الطف:

104) / وأخماس البصرة خمسة: فالخمس الأوّل: العالية، والخمس الثاني: بكر بن وائل، والخمس الثالث: تميم، والخمس الرابع: عبدالقيس، والخمس الخامس: الأزد. (لسان العرب: مادة خَمَسَ: 6:

71).

[29]

تحفّزهم للتحرّك ضد الحكم الأمويّ. ويُضافُ الى ذلك أنّ البصرة آنذاك كانت تحت سيطرة وال ق