روى الطبري أنّ مسلم بن عقيل(عليه السلام) كان قد كتب إلى الإمام(عليه السلام) من الكوفة قبل أن يُقتَل لسبع وعشرين ليلة:
(1) انظر: تنقيح المقال 2: 34.
(2) انظر: قاموس الرجال 8: 550، والبحار 44: 381 ـ 382.
(3) تاريخ الطبري 3: 277، وإبصار العين: 112.
«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، إنّ جمعَ أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام عليك»(1).
وفي رواية ابن نما:
«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّ جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاتُه»(2).
وفي رواية الدينوري:
« ... فأقدم، فإنّ جميع الناس معك، ولا رأي لهم في آل أبي سفيان»(3).
وتقول الرواية التأريخية أنّ قيس بن مسهّر الصيداوي حمل هذه الرسالة الى الإمام(عليه السلام) في مكّة، وأصحبه مسلم عابسَ الشاكري وشوذباً مولاه(4).
وقد كان الإمام الحسين(عليه السلام) قد علّق عزمه في التوجّه الى الكوفة على تقرير مسلم عن حال أهل الكوفة، وقد صرّح(عليه السلام) لأهل الكوفة في رسالته الأولى إليهم بذلك حيث قال:
« ... فإن كتب إليَّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً إن
(1) تأريخ الطبري 3: 290.
(2) مثير الأحزان: 32.
(3) الأخبار الطوال: 243.
(4) إبصار العين: 112.
شاء الله...».(1)
وعلى ضوء رسالة مسلم(عليه السلام) عقد الإمام الحسين(عليه السلام) عزمه على التوجّه إلى الكوفة، وكتب رسالته الثانية إلى أهلها(2) في الحاجر من بطن الرمّة(3)، وحملها قيس ابن مسهّر إلى الكوفة، لكنه قبض عليه أثناء هذه السفارة في الطريق، فمزّق الرسالة كي لا تقع في أيدي الأعداء.
من المؤسف أنّ التأريخ لم يسجّل لنا طيلة مكث الإمام(عليه السلام) في مكّة المكرمة إلا خطبته المشهورة التي ورد فيها قوله(عليه السلام) خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وهي الخطبة التي خطبها قبل خروجه من مكّة، وخطبة أخرى قصيرة تضمّنت باقة من قصار الحكم !!
ويصعب على المتأمل أن يقتنع بأنّ الإمام(عليه السلام) طيلة ما يقارب مائة وخمسة وعشرين يوماً في مكّة وفي أيّام موسم الحجّ آنذاك لم يخطب في محافل مكّة إلاّ هاتين الخطبتين، مع ما حدّثنا به التأريخ أنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويلتفون حوله، ويأخذون عنه، ويضبطون ما يسمعونه منه !
فهل يُعقل أنّ الإمام(عليه السلام) لم يستثمر تلك الأجواء الدينية القدسية في بيت الله الحرام للتبليغ بالحقّ والتعريف به وبنهضته المقدّسة !؟
(1) الإرشاد: 204.
(2) أوردناها في ترجمة قيس بن مسهّر الصيداوي، فراجع.
(3) ويضبطها بعضهم (الحاجز)، وبطن الرمّة: منزل يجمع طريق البصرة والكوفة الى المدينة المنورة. (راجع: إبصار العين:
28).
إنها ثغرة من ثغرات التأريخ المبهمة، وعثرة من عثراته المؤلمة !
الخطبة الأولى
قال المحقّق المتتبع الشيخ السماوي(قدس سره): «ولمّا جاء كتاب مسلم الى الحسين عزم على الخروج، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من ذي الحجّة فخطبهم..»(1).
غير أنّ السيد ابن طاووس(قدس سره) لم يذكر أنه خطبها في أصحابه، بل قال: «ورُوي أنه(عليه السلام) لمّا عزم على الخروج الى العراق قام خطيباً...»(2).
وقال ابن نما(قدس سره): «ثم قام خطيباً...»(3).
وقد يستفاد من نص ابن طاووس وابن نما أنّ الإمام(عليه السلام) خطب هذه الخطبة في الناس في مكة لا في خصوص أصحابه.
والخطبة هي:
« الحمد لله، ما شاء الله، ولا قوّة إلاّ بالله، وصلى الله على رسوله، خُطّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن منّي أكرُشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرُّبهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته
(1) إبصار العين: 27.
(2) اللهوف: 126.
(3) مثير الأحزان: 41.
وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً إن شاء
الله تعالى »(1).
(1) اللهوف: 26، ومثير الأحزان: 41، وكشف الغمة 2: 29.
قال الشيخ السماوي:
مخطّ القلادة: يعني موضع خطّ القلادة، وهي في الحقيقة الجلد المستدير من الجيد، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة كذلك الموت على ولد آدم !
هذا إذا قلنا إنّ مخطّ اسم مكان، وإن قلنا إنه اسم مصدر بمعنى خطّ فيعني به أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم من وسطها كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها في حال تقلّده.
ما أولهني: ـ يعني ما أشدَّ شوقي، والوله شدّة الشوق.
خِيرَ لي: ـ يعني خار الله لي مصرعاً، أي اختاره. ويمضي على بعض الألسنة وفي بعض الكتب «خُيِّر» بالتشديد وهو غلط فاحش.
عُسلان الفلوات: بضم العين وسكون السين، جمع عاسل، وهو المهتزّ والمضطرب، يُقال للرمح وللذئب وأمثالهما، والمراد هنا المعنى الثاني.
لا يُقال: إنّ العسلان لا تتسلّط على أوصال صفوة الله، لطفاً من الله وإيثاراً له.
لأنا نقول: إنّ الكلام جرى على القواعد العربية والأساليب الفصيحة كما يقول قائلهم: عندي جفنة يقعد فيها الخمسة،
يعني لو كانت مما يُفعل به ذلك لقعد فيها خمسة رجال. فيكون معنى الكلام: لو جاز ذلك على أوصالي لفُعل بها، وهذا كناية عن قتله وتركه بالعراء.
النواويس: ـ جمع ناوس في الأصل، وهو القبر للنصراني، والمراد به هنا القرية التي كانت عند كربلاء.
جُوفاً: ـ بضم الجيم وسكون الواو، جمع جوفاء، وهي الواسعة، ويجري على بعض الألسن تحريك الواو أو تشديدها وهو غلط.
أجربة سُغُباً: أجربة جمع جراب، كأغلمة وغلام، والمراد به البطن مجازاً، وسغباً جمع سغبى من السَغَب وهو الجوع. ورأيت في نسخة «أحوية» فكأنه جمع لـ حوية البطن وهي أمعاؤها، والمعروف حوايا، فإن وردت أحوية فما أحسبها إلاّ خيراً من أجربة.
لن تشذّ: ـ لن تنفرد وتتفرّق.
لُحمته: ـ بضمّ اللام وهي القرابة. (إبصار العين: 42 ـ
43).
1ـ شبّه الإمام(عليه السلام) حتمية عدم انفلات الإنسان من طوق قهرية الموت بعدم انفلات عنق الفتاة من طوق القلاد المحكم، وتشبيه الموت بالقلادة على جيد الفتاة وهي زينة لها إلفاتة رائعة إلى أنّ الموت خطوة تكاملية في مسار حركة الإنسان التكوينية، وهو زينة للمؤمن خاصة في مسار حركة المصير لكونه معبراً للمؤمن من دار العناء والتزاحم والإبتلاء والشدائد الى دار النعيم والجزاء الأوفى والسعادة الأبدية، ولاشك أنّ الشهادة وهي أفضل وأشرف الموت أحرى بحقيقة الزينة من مطلق الموت، ولا يؤتاها إلا ذو حظّ عظيم.
2ـ في قوله(عليه السلام): «خِيرَ لي مصرع أنا لاقيه» إشارة إلى أنّ هذا المصرع اختيار إلهي لا على نحو القهر والجبر طبعاً،
بل على نحو التشريف بكرامة التكليف في الظروف الصعبة الخاصة المؤدية إلى أنْ يتحرّك الإمام(عليه السلام) نحو هذا المصرع تعبّداً وامتثالاً لأمر الله تعالى في آداء هذا التكليف في مثل تلك الظروف.
كما أنّ في قوله هذا إشارة إلى علمه بمصيره ومآل أمره.
3ـ في قوله(عليه السلام): «لامحيص عن يوم خُطّ بالقلم» إشارة جليّة إلى حتمية وقوع هذا المصرع، وتحقّق ذلك المصير قضاء من الله تعالى، لا على نحو القهر والجبر كذلك، بل على نحو أنّ حركة الأحداث في علم الله تبارك وتعالى ستؤول في النهاية بمشيئة الله تعالى إلى تحقّق هذا المصرع وبالكيفية التي وقع بها.
4ـ في هذه الخطبة ركّز الإمام(عليه السلام) على أن مصيره في التوجه إلى العراق هو القتل، واشار إلى بشاعة القتلة بأنّ أوصاله تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس
وكربلاء، ولعلّ في قوله(عليه السلام) بين النواويس وكربلاء إشارة إلى امتداد الجيش الأموي وكثافته الشديدة على امتداد مابين هاتين المنطقتين..
وشرط على من يلتحق به أن يكون باذلاً في موالاة أهل البيت(عليهم السلام) مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه، أي لا مصير إلاّ القتل والصبر على السيوف والأسنّة !
فماذا اراد الإمام(عليه السلام) من وراء ذلك .. ولماذاـ!؟
إنّ القائد الرباني في حركته نحو تحقيق أهدافه يسعى كغيره من القادة إلى تهيأة العدّة والعدد ويتوسّل الى ذلك بالأسباب الظاهرة المألوفة، ولكنه يختلف عن القادة الساعين الى تحقيق النصر الظاهري فقط في انّه لا يبتغي الأعوان كيفما كانوا، بل القائد الربّاني يبتغي أعواناً ربّانين من نوعه، هدفهم الأساس في كلّ ما هم ساعون إليه مرضاة الربّ تبارك وتعالى،
أعواناً هادين مهديين، مصرّين على المضيّ في طريق ذات الشوكة مع علمهم بمصيرهم، ومن أولئك تتشكّل العدّة الحقيقية للقائد الربّاني التي يرسم بحسبها خطّة الفعل ونوع المواجهة، فهو لا يعتمد في رسم خطط ونوع المواجهة على كلّ من التحق به، وكثير منهم الطامعون وأهل الريبة والعصيان، فلابد من تمحيصهم، ولابدّ من تنقية الركب الحسينيّ من كلّ أولئك قبل الوصول الى ساحة المواجهة، ولذا كان لابدّ من أن يختبر حقيقة النيّات والعزائم بالإعلام والتأكيد على أنّ المصير هو القتل والصبر على السيوف والأسنة، وأنّ ذلك لا يقوى عليه إلاّ باذل في حقيقة الموالاة مهجته، موطّن على لقاء الله نفسه !!
وهذا الإختبار من سنن منهج القيادة الربانيّة، وقد حدّثنا القرآن الحكيم عن هذه السنّة في اختبار النهر على يد طالوت(عليه السلام):
(فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ الله مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس
مني، ومن لم يطعمه فإنه مني، إلاّ من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلاّ قليلاً منهم، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنّون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)(1).
يُضاف الى ذلك أنّ القائد الربّاني حينما يُطلع أنصاره على ما سوف يلقى ويلقونه من مصير وما سوف يواجهونه من شدائد ومكاره يكون بذلك قد فتح لهم باب علّو الدرجة وسمّو المنزلة والمثوبة العليا عند الله تبارك وتعالى في حال إصرارهم على المضيّ على طريق الجهاد في سبيل الله.
والمتأمل في تفاصيل حركة الإمام الحسين(عليه السلام) يرى أنّ الإمام(عليه السلام) كان قد دأب على الإخبار بمصرعه منذ أن كان في المدينة، وفي الطريق الى مكة، وفي مكّة،
وفي منازل الطريق منها الى العراق، مغربلاً بذلك الركب الحسيني من جميع من أرادوا الدنيا من وراء الإلتحاق به، ولم يكتف بذلك بل عرّض حتى الصفوة الخالصة من أنصاره لهذا الاختبار، لتعلو بثباتهم درجاتهم الرفيعة عند الله تبارك وتعالى، وهكذا كان، حتى رأوا منازلهم في الجنّة عياناً تلكم العشيّة، ثمّ في الغد الرهيب نراه(عليه السلام) قد رسم خطّته الحربية على أساس قوّته الحقيقية المؤلّفة من تلكم الصفوة القليلة الخالصة من كل شائبة !
5ـ في قوله(عليه السلام): «لن تشذّ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لُحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده...» إشارة إلى أنّ مسار أهل البيت(عليهم السلام) امتداد لمسار رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهم معه في درجته ومنزلته، وتقرّ عين الرسول(صلى الله عليه وآله) بما
(1) سورة البقرة: 249.
جعل الله لهم وخصّهم به من كرامة الدنيا والآخرة(1). ولعل في قوله(عليه السلام) «وينجز بهم وعده» إشارة إلى أنّ الوعد الإلهي بإظهار دين الله على الدين كلّه على كلّ الأرض سيتحقق في النهاية على يد رجل من أبناء رسول الله(صلى الله عليه وآله)ومن أبناء الحسين(عليه السلام)هو الإمام المهدي المنتظر(عليه السلام)(2).
الخطبة الثانية
إنّ التأمّل في محتوى الخطبة الثانية وعدم ارتباط مضامينها بمضامين الخطبة الأولى يقوّي الظنّ في أنّ مناسبة الخطبة الثانية بعيدة عن مناسبة الخطبة الأولى زماناً ومكاناً، غير أن الحائري صاحب كتاب معالي السبطين أورد الخطبة الأولى نقلاً عن اللهوف لابن طاووس، ثمّ قال بعدها: «وخطب بعدها هذه الخطبة ...» وأورد الخطبة الثانية، علماً بأنّ اللهوف لم يحتو لا على هذه الإشارة ولا على الخطبة الثانية نفسها ! والله العالم عن أيّ مصدر أخذ صاحب معالي السبطين هذه الخطبة وتلكم الإشارة.
ونحن نورد هذه الخطبة هنا بعد الخطبة الأولى، لأنّ هذا الفصل يختصّ بكلّ
(1) عن محمد بن مسلم قال: سمعت أباجعفر وجعفر بن محمد(عليهما السلام) يقولان: إنّ الله تعالى عوّض الحسين(عليه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تُعدّ أيّام زائريه جائياً وراجعاً من عمره.
قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبدالله(عليه السلام): هذه الخلال تُنال بالحسين(عليه السلام)، فماله في نفسه ؟ قال: إنّ الله تعالى ألحقه بالنبيّ فكان معه في درجته ومنزلته، ثمّ تلا أبوعبدالله(عليه السلام): ( والذين آمنوا واتّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيتهم ) الآية». (البحار 44:
221).
(2) والروايات في هذا المعنى كثيرة يجدها من أرادها في الكتب المؤلّفة في غيبته(عليه السلام)، كالغيبة للطوسي، والغيبة للنعماني، وكمال الدين للصدوق، ويحتويها بشكل مجموع كتاب معجم أحاديث المهدي(عليه السلام). فراجع.
ما يرتبط بحركة الإمام(عليه السلام) في مكّة المكرّمة، ولأنّ من المحتمل أن يكون الإمام(عليه السلام)قد اشار عقيب الخطبة الأولى بالإشارات الأخلاقية التي تضمنتها مقاطع الحكم القصار التي احتوتها الخطبة الثانية.
والخطبة الثانية هي:
«إنّ الحلم زينة، والوفاء مروّة، والصلة نعمة، والإستكبار صلف، والعجلة سفه، والسفه ضعف، والغلوّ ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شرّ، ومجالسة أهل الفسق ريبة»(1).
روى الشيخ المفيد(قدس سره)، وكذلك الطبري روى عن أبي مخنف أنّ يوم خروج الإمام الحسين(عليه السلام) من مكّة متجهاً الى العراق كان يوم الثامن من ذي الحجّة: «ثمّ خرج منها لثمان مضين من ذي الحجّة، يوم الثلاثاء، يوم التروية، في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل»(2)، وهذا هو المشهور.
لكنّ المزّي وابن عساكر ذكرا أنّ خروجه(عليه السلام) من مكّة كان في يوم الإثنين في العاشر من ذي الحجّة سنة ستين: «فخرج متوجهاً إلى العراق في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الإثنين في عشر من ذي الحجّة سنة ستين»(3).
لكنّ السيّد ابن طاووس(قدس سره) قال: «كان قد توجّه الحسين(عليه السلام) من مكّة يوم
(1) معالي السبطين 1: 251، ورواها الشبلنجي في نور الأبصار: 277 ولم يذكر قول صاحب معالي السبطين: «وخطب بعدها هذه الخطبة»، ورواها الإربلي في كشف الغمة 2: 242، ووردت في الفصول المهمّة: 178.
(2) الإرشاد: 218 و تاريخ الطبري 3: 301 و 293.
(3) تهذيب الكمال 4: 493 ، وتاريخ دمشق 14: 212.
الثلاثاء لثلاث مضين من ذي الحجّة»(1).
وأمّا سبط ابن الجوزي فقد قال في تذكرة الخواص: «وأمّا الحسين(عليه السلام) فإنه خرج من مكّة سابع ذي الحجّة سنة ستين ...»(2).
ولا يخفى أنّ المشهور هو الصحيح والقول الفصل لأنه ورد عن لسان الإمام(عليه السلام)نفسه في رسالته الثانية إلى أهل الكوفة، حيث قال فيها:
« ... وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ...»(3).
وروى ابن كثير في تاريخه عن الزبير بن بكّار عن محمد بن الضحاك أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لمّا أراد الخروج من مكّة الى الكوفة مرّ بباب المسجد الحرام وقال:
(1) الملهوف: 124.
(2) تذكرة الخواص: 217.
(3) تأريخ الطبري 3: 301.
(4) البداية والنهاية 8: 167، وشرح الأخبار 3: 144 ، وتاريخ دمشق 14: 204. لكن هناك
رواية عن أبي سعيد المقبري (أو المنقري) مفادها أنّ الإمام(عليه السلام) تمثّل بهذين
البيتين في المدينة المنورة حين دخل مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال أبوسعيد: «والله لرأيت
الحسين وإنه ليمشي بين رجلين، يعتمد على هذا مرّة، وعلى هذا مرّة، وعلى هذا أخرى حتى دخل مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يقول من الخفيف (أي وزن الشعر الذي تمثل(عليه السلام) به فعلمت عند ذلك أن لايلبث إلاّ قليلاً حتى يخرج، فما لبث أن خرج حتى لحق بمكّة ..». (مختصر تاريخ دمشق 7: 136أقول: لا مانع من تكرّر تمثله(عليه السلام) بهذين البيتين في الموضعين،
كما أشار إلى ذلك القاضي نعمان المصري بعد شرح مفردات البيتين حيث قال:
«السوام: النعم السائمة، وأكثر ما يقولون هذا الإسم على الإبل خاصة. والسائمة: الراعية التي تسوم الكلأ إذا داومت رعيه، وهي سوام، والرعاة يسومونها أي يرعونها. وفي رواية أخرى: تمثّل بهذين البيتين بالمدينة. وهذان البيتان لابن المفرغ الحميري، تمثل بهما الحسين(عليه السلام) .. (ثم قال): وقد يكون قال ذلك في الموضعين جميعاً». (شرح الأخبار 3:
145).
وهناك رواية أوردها الشيخ عباس القمي هكذا: «روي»: عن ابن عبّاس قال:
«رأيت الحسين(عليه السلام) قبل أن يتوجّه الى العراق على باب الكعبة وكفّ جبرئيل(عليه السلام) في كفّه، وجبرئيل ينادي: هلمّوا إلى بيعة الله عزّوجلّ» (نفس المهموم:
163).
ولا يخفى على متأمّل أنّ ما ورد في متن هذه الرواية ليس بعزيز على الإمام(عليه السلام) ولا مستغرب وهو زين السماوات والأرض كما ورد عن لسان جدّه(صلى الله عليه وآله)، وجبرئيل(عليه السلام) والملأ الأعلى يتشرّفون بخدمته، لكن الملاحظ على هذه الرواية قول ابن عبّاس «رأيت» فهل كان (رض) مؤهلاً لمثل هذه الرؤية
(رؤية جبرئيل(عليه السلام))، أم أنّه رآه بإذن خاص من الإمام(عليه السلام) في تلك الواقعة، أم أنه رآه متمثّلاً بشراً سوياً، ثمّ عرّفه الإمام(عليه السلام) أن هذا الذي رآه هو جبرئيل(عليه السلام) ؟ او أن الإمام(عليه السلام) أخبر ابن عباس ثم بعد ذلك حكاه ابن عباس للناس.
وملاحظة أخرى: إذا كان ابن عباس (رض) قد شاهد هذا الأمر، فهل بايع ؟ وإذا كان قد بايع فكيف اطاق التخلّف عن الإلتحاق بركب سيّد الشهداء(عليه السلام) ؟ حتى على فرض معذوريّته في ذلك.
وملاحظة أخرى: هل انكشف أمر هذه الرؤية لابن عبّاس (رض) فقط ؟ أم أنّ «هلمّوا إلى بيعة الله عزّوجلّ» كاشفة عن أنّ الخطاب موجّه للناس الآخرين ؟ فهل سمعوا النداء ؟ وماذا كانت الإجابة !؟
أم أنّ تلكم الرؤية كانت رؤيا منام ؟ وهناك تساؤلات أخرى.
في حركة أحداث النهضة الحسينية هناك مجموعة من الوقائع ملفتة للإنتباه
ومثيرة للإستغراب وداعية إلى التساؤل عن العلّة من ورائها، ومن أبرز هذه الوقائع خروج الإمام الحسين(عليه السلام) من مكّة في يوم التروية، وللمؤرّخين والمحققين والفقهاء تعاليق وآراء في صدد هذه الواقعة نورد منها هنا ثلاثة أقوال، أحدها للعلاّمة المجلسيّ (ره) والثاني للشيخ التستري (ره) والثالث للسيّد المرتضى (ره)، ولنا بينها رأي وإيضاح:
تعليقة العلاّمة المجلسى(قدس سره)
قال العلامة المجلسى فى بحار الأنوار: « قد مضى في كتاب الإمامة وكتاب الفتن أخبار كثيرة دالّة على أنّ كلاّ منهم(عليهم السلام)كان مأموراً بأمور خاصة مكتوبة فى الصحف السماوية النازلة على الرسول(صلى الله عليه وآله)فهم كانوا يعملون بها. ولاينبغي قياس الأحكام المتعلّقة بهم على أحكامنا، وبعد الاطّلاع على أحوال
الانبياء(عليهم السلام)، وانّ كثيراً منهم كانوا يبعثون فرادى على ألوف من الكفرة، .....
ويدعونهم الى دينهم ، ولايبالون بماينالهم من المكاره والضرب والحبس والقتل والإلقاء في النار وغير ذلك. لاينبغي الاعتراض على أئمّة الدين فى أمثال ذلك، مع أنه مع ثبوت عصمتهم بالبراهين والنصوص المتواترة لا مجال للإعتراض عليهم، بل يجب التسليم لهم فى كلّ ما يصدر عنهم.
على أنّك لو تأملت حقّ التأمّل علمت أنه(عليه السلام) فدى نفسه المقدسّة دين جده، ولم يتزلزل أركان دولة بني أميّة إلاّ بعد شهادته، ولم يظهر للناس كفرهم وضلالتهم إلاّ عند فوزه بسعادته. ولوكان(عليه السلام) يسالمهم ويوادعهم كان يقوى سلطانهم، ويشتبه على الناس أمرهم، فتعود بعد حين أعلام الدين طامسة، وآثار الهداية مندرسة، مع أنه قد ظهر لك من الاخبار السابقة أنه(عليه السلام) هرب من المدينة
خوفاً من القتل الى مكّة، وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنّة أنهم يريدون غيلته وقتله، حتّى لم يتيسّر له ـ فداه نفسي وأبي وأمي وولدي ـ أن يتمّ حجّه،(1) فتحلّل وخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كانوا لعنهم الله ضيّقوا عليه جميع الأقطار، ولم يتركوا له موضعاً للفرار.
ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولاّه أمر الموسم، وأمّره على الحاجّ كلهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين(عليه السلام) سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة، ثمّ إنه دسَّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الحسين(عليه السلام) على أي حال اتفق، فلمّا علم الحسين(عليه السلام) بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة.(2)
وقد روي بأسانيد أنّه لمّا منعه(عليه السلام)محمد بن الحنفية عن الخروج الى الكوفة قال:
والله ياأخي لو كنت في حُجر هامة من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه
حتى يقتلوني!(3)
بل الظاهر أنّه صلوات الله عليه لو كان يسالمهم ويبايعهم لايتركونه لشدّة عداوتهم وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكلّ حيلة، ويدفعونه بكلّ وسيلة، وإنّما كانوا يعرضون البيعة عليه أوّلاً لعلمهم بأنّه لا يوافقهم في ذلك، ألا ترى إلى مروان لعنه الله كيف كان يشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه، وكان عبيدالله بن زياد عليه لعائن الله إلى يوم التنادِ يقول: إعرضوا عليه فلينزل على أمرنا ثمّ نرى فيه رأينا، ألا ترى كيف أمّنوا مسلماً ثم قتلوه !!
[74]
[75]
خُطَبُ الإمام(عليه السلام) في مكّة المكرّمة
[76]
[77]
[78]
ملاحظات مستفادة من هذه الخطبة الشريفة:
[79]
[80]
[81]
[82]
يوم الخروج من مكّة المكرّمة
[83]
[84]
لماذا أصرَّ الإمام(عليه السلام) على مغادرة مكّة أيّام الحج ؟
[85]
[86]