(1) و(2) سيأتي في ص93، أنّ الدليل التأريخي والفقهي يُثبت أنه(عليه السلام) أحرم منذ البدء لعمرة مفردة لا لعمرة التمتع.
(3) انظر تاريخ الطبري 3: 296 و 300.
[87]
فأمّا معاوية لعنه الله فإنه مع شدّة عداوته وبغضه لأهل البيت(عليهم السلام)كان ذا دهاء ونكراء وحزم، وكان يعلم أنّ قتلهم علانية يوجب رجوع الناس عنه وذهاب ملكه وخروج الناس عليه، فكان يداريهم ظاهراً على أيّ حال، ولذا صالحه الحسن(عليه السلام)ولم يتعرّض له الحسين، ولذلك كان يوصي ولده اللعين بعدم التعرّض للحسين(عليه السلام)لأنه كان يعلم أنّ ذلك يصير سبباً لذهاب دولته ...»(1).
تعليل الشيخ جعفر التستري(قدس سره)
وللشيخ التستري كلام عميق في تفسير سرّ إصدار الإمام الحسين(عليه السلام)
على مغادرة مكّة أيّام الحجّ والخروج الى العراق، يقول(قدس سره):
«كان للحسين(عليه السلام) تكليفان واقعي وظاهري:
أمّا الواقعيّ الذي دعاه للإقدام على الموت، وتعريض عياله للأسر وأطفاله للذبح مع علمه بذلك، فالوجه فيه أنّ عتاة بني أميّة قد اعتقدوا أنهم على الحق وأنّ علياً وأولاده وشيعتهم على الباطل(2) حتى جعلوا سبّه من أجزاء صلاة الجمعة، وبلغ الحال ببعضهم أنّه نسي اللعن في خطبة الجمعة فذكره وهو في السفر فقضاه ! وبنوا مسجداً سمّوه «مسجد الذكر»، فلو بايع الحسين(عليه السلام) يزيد وسلّم الأمر إليه لم يبق من الحقّ أثر، فإنّ كثيراً من الناس يعتقد بأنّ المحالفة لبني أميّة دليل استصواب رأيهم وحسن سيرتهم، وأمّا بعد محاربة الحسين(عليه السلام) لهم وتعريض نفسه المقدّسة وعياله وأطفاله للفوادح التي جرت عليهم فقد تبين
(1) بحار الأنوار 45: 98 ـ 100.
(2) الأمر ليس كما ذهب إليه الشيخ التستري (ره)، بل بنو أميّة عرفوا الحقّ وأنّ أهله محمد وآله(صلى الله عليه وآله)، ولكنهم جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، حسداً لأهل البيت(عليهم السلام) لما فضّلهم الله به على الناس أجمعين، فأصرّوا على الصدّ عن الحق بكل ما أوتوا من حيلة وقوّة.
[88]
لأهل زمانه والأجيال المتعاقبة أحقيّته بالأمر وضلال من بغى عليه.
وأمّا التكليف الظاهري فلأنه(عليه السلام)سعى في حفظ نفسه وعياله بكلّ وجه فلم يتيسّر له، وقد ضيّقوا عليه الأقطار حتى كتب يزيد إلى عامله على المدينة أن يقتله فيها، فخرج منها خائفاً يترقّب، فلاذ بحرم الله الذي هو أمن الخائف وكهف المستجير، فجدّوا في إلقاء القبض عليه أو قتله غيلة ولو وجد متعلّقاً بأستار الكعبة، فالتزم بأن يجعل إحرامه عمرة مفردة وترك التمتع بالحجّ، فتوجّه إلى الكوفة لأنهم كاتبوه وبايعوه وأكّدوا المصير إليهم لإنقاذهم من شرور الأمويين، فألزمه التكليف بحسب الظاهر الى موافقتهم إتماماً للحجّة عليهم لئلا يعتذروا يوم الحساب بأنّهم لجأوا إليه واستغاثوا به من ظلم الجائرين فاتهمهم بالشقاق ولم يُغثهم، مع أنه لو
لم يرجع إليهم فإلى أين يتوجّه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو معنى قوله لابن الحنفية: لو دخلتُ في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني !»(1).
تمام الحق في القول...
وأقول: لاشك في دقّة جلّ المضامين التي طرحها الشيخ التستري أعلى الله مقامه، خصوصاً في الإلفات إلى أنّ للإمام(عليه السلام) تكليفين أحدهما ظاهري وآخر واقعي هما في طول بعضهما ولا تنافي بينهما، وقد أجاد(قدس سره) في تفصيل هذه الإلتفاتة التي هي من جديد ما قدّمه الشيخ التستري في وقته، لكنّ لنا تحفّظاً على قوله(قدس سره): «مع أنه لو لم يرجع إليهم ـ أي إلى أهل الكوفة ـ فإلى أين يتوجّه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ...» ذلك لأنّ هناك أكثر من رواية تأريخية تفيد أنه كان بإمكانه(عليه السلام) أن يتوجّه إلى اليمن مثلاً ومناطق أخرى غيرها، فهذا محمّد بن
(1) الخصائص الحسينية: 83.
[89]
الحنفيه يقول له:
«تخرج إلى مكة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنهم أنصار جدّك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنت بك الدار وإلا بالرمال وشعوب الجبال، وجزت من بلد الى بلد، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين»(1).
وهذا الطرمّاح يقول له:
«فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى (أجأ)، فأسير معك حتى أُنزلك (القُرَيّة)».(2)
وفي نصّ آخر:
«فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل (أجأ) فإنه جبل منيع، والله ما نالنا فيه ذلٌ قطّ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم».(3)
إذن فالحقّ في هذه النقطة ليس كما ذهب إليه الشيخ التستري(قدس سره) في أنه(عليه السلام)لم يكن له ملجأ يتوجّه إليه من مكّة إلا الكوفة.
ولعلّ الصواب في هذه المسألة إضافة إلى ما تفضّل به العلامة المجلسي(قدس سره)والشيخ التستري(قدس سره) هو: أنّ الإمام(عليه السلام) أراد أن (ينجو) من أن يُقتل في المدينة أو
(1) الفتوح 5: 22.
(2) تاريخ الطبري 3: 308.
(3) مثير الأحزان: 39 ـ 40.
[90]
في مكّة خاصة، قتلةً يُقضى بها على ثورته في مهدها، وتهتك بها حرمة البيت:
«ياأخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.»(1)، حيث يتمكّن الأمويون في كلّ ذلك أن يدّعوا أنهم بريئون مما جرى على الإمام(عليه السلام) سواء في المدينة أو في مكّة أو في الطريق، فيحافظوا بذلك على الإطار الديني لحكمهم، أو أن تزداد المصيبة سوءً حين يطالبون هم بدم الإمام(عليه السلام)، فيقتلون من أمروه هم بقتله ! أو يتّهمون بريئاً ليقتلوه! فيخدعون الناس بادعائهم أنهم أصحاب دمه الآخذون بثأره،
فيزداد الناس انخداعاً بهم ومحبّة لهم وتصديقاً بما يستظهرون من التدين والإلتزام، فتكون المصيبة على الإسلام والأمة الإسلامية أدهى وأمرّ !!... فحيث إن لم يبايع يقتل، فقد سعى(عليه السلام) ألاّ يقتل في ظروف زمانية ومكانية وبكيفية يختارها ويخطط لها ويعدّها العدوّ، وسعى(عليه السلام)بمنطق الشهيد الفاتح أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه على أرض يختارها هو، ولا يستطيع العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه، فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان الأمة ويحرّكها بالإتجاه الذي أراده الحسين(عليه السلام)، كما سعى(عليه السلام) أن تجري وقائع المأساة في وضح النهار لا في ظلمة الليل ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكّن العدوّ من أن يعتّم على هذه الوقائع الفجيعة ويغطّي عليها، ولعل هذا هو الهدف المنشود من وراء العامل الإعلامي والتبليغي في طلب الإمام(عليه السلام) عصر تاسوعاء أن يمهلوه إلى صبيحة عاشوراء !»(2). فتأمّل !
(1) اللهوف: 27.
(2) راجع الجزء الأوّل من هذا الكتاب: مقالة بين يدي الشهيد الفاتح: 156.
[91]
قول السيد المرتضى(قدس سره)
وللسيّد الشريف المرتضى أعلى الله مقامه في سرّ إصرار الإمام(عليه السلام) على التوجّه الى الكوفة رأي غريب حيث قال(قدس سره): «فإن قيل: ما العذر في خروجه صلوات الله عليه من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة، والمستولي عليها أعداؤه، والمتأمرّ فيها من قبل يزيد اللعين، منبسط الأمر والنهي !؟ وقد رأى صنع أهل الكوفة بأبيه وأخيه صلوات الله عليهما، وأنّهم غادرون خوّانون، وكيف خالف ظنّه ظنّ جميع نصحائه في الخروج، وابن عبّاس رحمه الله يشير بالعدول عن الخروج ! ويقطع على العطب فيه ! وابن عمر لمّا ودّعه(عليه السلام) يقول له: «أستودعك الله من قتيل» إلى غير ذلك ...
الجواب: قلنا قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنه أنه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوِّض إليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلك وإن كان فيه ضرب من المشقّة يتحمّل مثلها، وسيّدنا أبوعبدالله(عليه السلام) لم يسرِ طالباً الكوفة إلا بعد توثّق من القوم، وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه(عليه السلام)
طائعين غير مكرهين، ومبتدئين غير مجيبين، وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها تقدّمت إليه في أيّام معاوية، وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن(عليه السلام) فدفعهم وقال في الجواب ما وجب، ثمّ كاتبوه بعد وفاة الحسن(عليه السلام) ومعاوية باق، فوعدهم ومنّاهم، وكانت أيّام معاوية صعبة لايطمع في مثلها، فلما مضى معاوية وأعادوا المكاتبة وبذلوا الطاعة وكرّروا الطلب والرغبة، ورأى(عليه السلام) من قوّتهم على ما كان يليهم في الحال من قبل يزيد، وتسلّطهم عليه، وضعفه عنهم ما قوي فيه ظنّه أنّ المسير هو الواجب، تعيّن عليه ما فعله من الإجتهاد والتسبّب، ولم يكن في حسبانه(عليه السلام) أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهل الحقّ عن نصرته، ويتّفق ما اتفق من الأمور الغريبة، فإنّ
[92]
مسلم بن عقيل لمّا دخل الكوفة أخذ البيعة على أكثر أهلها !...»(1).
وواضحٌ أنّ جواب السيد الشريف المرتضى(قدس سره) قائم على مبنى أهل التسنن في أنّ الإمام(عليه السلام) كغيره من الناس يعمل على أساس ما يؤدّي إليه الظن، وهو مأجور على اجتهاده أخطأ أم اصاب إلاّ أنّ أجره على الصواب أجران ! وأنّ الإمام لم يكن يعلم منذ البدء بمصيره ! وأنّه إنّما قام بسبب رسائل أهل الكوفة !
ويبدو أن الشريف المرتضى(قدس سره) ـ وهو من أكابر متكلّمي الشيعة ـ قد اعتمد هذا اللون من الإجابة على تلك التساؤلات ليخاطب به العقل السنّي في بغداد آنذاك، والمتسننون آنئذ هم الأكثرية فيها ..
وإلاّ فإنّ هذا الجواب مخالف لاعتقاداتنا بالإمامة وأنّ الأئمّة(عليهم السلام) يعلمون ما كان وما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة علماً موهبياً من الله تبارك وتعالى، هذا فضلاً عن الروايات التأريخية الكثيرة التي مفادها أنّ الإمام(عليه السلام) كان يعلم بمصيره ومصرعه، وأنه كان يخبر عن ذلك حتى في أيّام طفولته.
ثمّ إنّ قيام الإمام الحسين(عليه السلام) ورفضه البيعة ليزيد لم يكن بسبب رسائل أهل الكوفة إليه بعد موت معاوية، ذلك لأنّ الثابت أنّ هذه الرسائل لم تصل إليه إلاّ بعد رفضه البيعة وقيامه وخروجه من المدينة ووروده مكّة، وهي لم تصل إليه إلاّ بعد حوالي أربعين يوماً من أيامه في مكّة !
(1) بحار الأنوار 45: 96 ـ 98 عن كتاب تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى (ره).
[93]
عمرة التمتع أم عمرة مفردة؟
هل بدّل الإمام(عليه السلام) إحرامه من عمرة التمتّع إلى العمرة المفردة ؟
أم أنه(عليه السلام) ابتداءً دخل في إحرام العمرة المفردة لعلمه بأنّ الظالمين سوف يصدّونه عن إتمام حجّه !؟
إنّ الذي يظهر من بعض المتون التأريخية(1) ومن صريح أقوال بعض المحدّثين هو أنّ الإمام(عليه السلام) قد بدّل إحرامه من الحجّ أو من عمرة التمتع إلى العمرة المفردة.
ولكنّ ظاهر بل صريح بعض النصوص ـ ومنها نصوص صحيحة ـ هو أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد دخل في إحرام العمرة المفردة ابتداءً ولم يكن ثمّة تبديل في الإحرام، وقد تبنّى هذا القول من الفقهاء السيّد محسن الحكيم(قدس سره) والسيّد
(1) «قال الطبرسي لمّا أراد الخروج الى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة لأنه لم يتمكّن من إتمام الحجّ مخافة أن يقبض عليه بمكة ...». (إعلام
الورى:
230).
«وقال ابن فتّال وأحلَّ من إحرامه وجعلها عمرة لأنه لايتمكن من إتمام الحج ...». (روضة الواعظين:
177).
وظاهرهما أنّ الإمام(عليه السلام) قد بدّل نيّة إحرامه لعمرة التمتع إلى المفردة.
ولكن عبارة الشيخ المفيد (ره) في (الإرشاد:
218): «لأنه لم يتمكّن من تمام الحجّ» لا تفيد أنه أحلّ إحرام الحجّ.
وقد فرّق بعض المحققين المعاصرين بين عبارتي (تمام) و(إتمام) فذهب إلى أنّ مفاد الإتمام أنه(عليه السلام) قد تلبّس بإحرام الحج حيث قال: «لأنّ كلمة الإتمام تفيد أنه(عليه السلام) قد تلبّس بإحرام الحج دون كلمة تمام الحجّ». (وقعة الطف:
149).
[94]
الخوئي(قدس سره) والسيد السبزواري(قدس سره)، وأشار إليه بعض المؤرّخين(1).
لقد تعرّض الفقهاء لهذا البحث في مسألة حكم الخروج من مكّة لمن أتى بالعمرة المفردة فأقام الى هلال ذي الحجّة، فقد ذهب بعضهم الى القول بوجوب أداء الحجّ فيما لو أدرك يوم التروية، وهو رأي ابن البرّاج(2) وهو قول نادر. كما ذهب بعض آخر الى القول بالاستحباب خصوصاً إذا أقام إلى هلال ذي الحجّة ولاسيّما إذا أقام في مكّة الى يوم التروية وهو اليوم الثامن، وهو قول صاحب الجواهر(3).
وبعض الروايات التي مفادها حرمة الخروج حملت على الكراهة استناداً الى روايات أخرى منها خبر اليماني في أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) خرج قبل يوم التروية بيوم وقد كان معتمراً.
وفيما يلي النصوص ثم كلمات الفقهاء:
1ـ الكليني: «علي بن ابراهيم، عن أبيه، ومحمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسى، عن ابراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه سُئل عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً ثم رجع الى بلاده ؟ قال: لابأس وإن حَجَّ في عامه ذلك وأفرد الحجّ، فليس عليه دم، فإنّ الحسين بن علي(عليهما السلام) خرج
(1) قال الشيخ باقر شريف القرشي: «وهذا ـ أي التبديل ـ لا يخلو من تأمّل، فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي حسب ما نصّ عليه الفقهاء لا بقلب إحرام الحجّ إلى عمرة، فإنّ هذا لايوجب الإحلال من إحرام الحج». (راجع: حياة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) 3:
50).
(2) راجع: المهذّب 1: 272 «من اعتمر عمرة ـ غير متمتع بها الى الحج ـ في شهور الحج ثم أقام بمكة إلى أن أدرك يوم التروية كان عليه أن يحرم بالحج ويخرج الى منى ...».
(3) راجع: جواهر الكلام 20: 461 و انظر: الدروس 1: 336.
[95]
قبل التروية بيوم الى العراق وقد كان دخل معتمراً»(1).
ومفاد هذا الخبر: أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يكن يوم خروجه من مكّة محرماً حتى بإحرام العمرة، بل كان قد أحرم للعمرة يوم وروده مكّة المكرّمة. فتأمل.
وقد عبّر المجلسي في المرآة عن هذا الحديث بالحسن كالصحيح(2).
ولقد روى الشيخ الطوسي هذا الحديث في التهذيب عن الكليني، غير أنّ فيه: «إنّ الحسين خرج يوم التروية»(3).
وعبّر المجلسيُ عنه أيضاً في ملاذ الأخيار بالحسن الصحيح(4).
وقال صاحب الجواهر: «وفي التهذيب: خرج يوم التروية، ولعلّه الأصحّ لصحيح معاوية ...»(5).
2ـ الكليني: «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن اسماعيل بن مرّار، عن يونس، عن معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): من أين افترق المتمتّع والمعتمر ؟ فقال: إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسين بن علي في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولابأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ.»(6).
(1) الكافي 4: 535 حديث رقم 3 وعنه الوسائل 14: 310 باب 7 حديث رقم 2 / و10:246.
(2) مرآة العقول 18: 234.
(3) التهذيب 5: 436 حديث رقم 162، والاستبصار 2: 327 رقم 1160.
(4) ملاذ الأخيار 8: 459.
(5) جواهر الكلام: 20:461.
(6) الكافي 4: 535 حديث رقم 4 باب العمرة المقبولة في أشهر الحجّ. وعنه الوسائل 14: 310 باب 7 حديث رقم 3 (باب أنه يجوز أن يعتمر في أشهر الحج عمرة مفردة ويذهب حيث شاء، ويجوز أن يجعلها عمرة التمتّع إن أدرك الحج).
[96]
وعبّر عنها المجلسي في الملاذ: «مجهول» وقال: «قوله: وقد اعتمر: لعلّ المراد أنّ عمرة التمتع أيضاً إذا اضطر الإنسان يجوز أن يجعلها عمرة مفردة كما فعله الحسين(عليه السلام)، ويحتمل أن يكون(عليه السلام) لعلمه بعدم التمكّن من الحجّ نوى الإفراد ولعلّه من الخبر أظهر.»(1).
إذن فالمجلسي يرى في الحديث احتمالين:
الأوّل: التبديل من عمرة التمتع الى عمرة مفردة.
الثاني: أنّه(عليه السلام) منذ البدء قد نوى الإفراد، وليس ثمّ تبديل.
ويرى المجلسي أنّ الإحتمال الثاني أظهر من الخبر، لكنه في البحار يصرّح بالإحتمال الأوّل حيث يقول: «ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة ... حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة.»(2)
وقال في نفس الصفحة من كتابه قبل هذا: «وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنه أنهم يريدون غيلته وقتله، حتى لم يتيسّر له ـ فداه نفسي وأبي وأمي وولدي ـ أن يتمّ حجّهُ، فتحلّل وخرج منها خائفاً يترقّب ...»(3).
كلمات بعض الفقهاء
1ـ قال السيد محسن الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: « ... وأمّا مافي
(1) ملاذ الأخيار 8: 461، وعن التستري: «فالتزم بأن يجعل إحرامه عمرة مفردة وترك التمتع بالحج.» (الخصائص الحسينيّة:
32).
(2) البحار 45: 99.
(3) نفس المصدر.
[97]
بعض كتب المقاتل من أنّه(عليه السلام) جعل عمرته عمرة مفردة، ممّا يظهر منه أنها كانت عمرة تمتّع وعدل بها إلى الافراد، فليس مما يصحّ التعويل عليه في مقابل الأخبار المذكورة التي رواها أهل البيت(عليهم السلام)»(1).
2ـ ويقول السيد السبزواري(قدس سره) في مهذّب الأحكام: « ... كما يسقط بهما ـ أي رواية اليماني ورواية معاوية بن عمار ـ مافي بعض المقاتل من أنّ الحسين(عليه السلام)بدّل حجّة التمتّع الى العمرة المفردة، لظهورهما في أنه(عليه السلام) لم يكن قاصداً للحجّ من أوّل الأمر، بل كان قاصداً للعمرة المفردة، فلا يبقى موضوع للتبديل حينئذ.»(2).
3ـ وقال السيّد الخوئي في معتمد العروة الوثقى: «لاريب في أنّ المستفاد من الخبرين أنّ خروج الحسين(عليه السلام) يوم التروية كان على طبق القاعدة لا لأجل الإضطرار(3)، ويجوز ذلك لكلّ أحد وإن لم يكن مضطرّاً، فيكون الخبران ـ أي خبر اليماني وخبر معاوية ـ قرينة على الإنقلاب الى المتعة قهراً والإحتباس بالحجّ إنّما هو فيما إذا أراد الحجّ، وأمّا إذا لم يرد الحجّ فلا يحتبس بها للحجّ ويجوز له الخروج حتى يوم التروية.»(4).
وممّا يضعّف القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة قول المشهور بعدم جواز التبديل الى العمرة المفردة.
(1) مستمسك العروة الوثقى 11: 192.
(2) مهذّب الأحكام 12: 349 / ومثله علماء آخرون، أنظر: كتاب الحج: تقريرات السيّد الشاهرودي: 2:312 وتقريرات الحج للگلبايگاني:1:58، والمحقّق الداماد:كتاب الحج:1:333.
(3) خلافاً لما احتمله المجلسي في مرآة العقول 18: 234 حيث قال: «وفي رواية عمر بن يزيد إذا أهلّ عليه هلال ذي الحجة، ويحمل على الندب، لأن الحسين(عليه السلام) خرج بعد عمرته يوم التروية وقد يجاب بأنه مضطّر.».
(4) معتمد العروة الوثقى 2: 236.
[98]
قال الشيخ الوالد(قدس سره): «المشهور بين الأصحاب رضوان الله عليهم أنّ من دخل مكّة بعمرة التمتع في أشهر الحج لم يجز له أن يجعلها مفردة، ولا أن يخرج من مكّة حتّى يأتي بالحجّ لأنها مرتّبة (مرتبطة) بالحجّ، نعم عن ابن إدريس القول بعدم الحرمة وأنه مكروه، وفيه أنه مردود بالأخبار.»(1).
كما يضعّف أيضاً القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة هو أنه لو كان لأجل الصدّ ومنع الظالم فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي كما أشار إليه الشهيد الأوّل في الدروس(2) والشهيد الثاني في المسالك(3).
فلابدّ إذن من تأويل العبارات التي ظاهرها التبديل، والمهمّ المعوَّل عليه هو عبارة الشيخ المفيد(قدس سره) في الإرشاد: «لأنه لم يتمكّن من تمام الحج»، وأمّا القول الوارد في بعض الكتب من أنّه(عليه السلام): «لم يتمكن من إتمام الحجّ» فهو مما ورد بعد زمان كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد(قدس سره)، ولعلّه وقع بسبب تصحيف غير مقصود، أو بسبب تصرّف مقصود قام على عدم التفريق بين «التمام» و«الإتمام»، والله العالم.
هل خرج الإمام(عليه السلام) من مكّة سرّاً !؟
قال المرحوم المحقّق الشيخ السماوي في كتاب (إبصار العين): «ولمّا جاء كتاب مسلم إلى الحسين عزم على الخروج، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من
(1) ذخيرة الصالحين 3: 124.
(2) «قال الشهيد الأول: اذا منع المحرم عدو من إتمام نسكه كما مرّ في المحصر، ولا طريق غير موضع العدو .. ذبح هديه أو نحره مكان الصدّ بنية التحلل فيحل على الإطلاق» (الدروس 1:
478).
(3) مسالك الأفهام 2: 388.
[99]
ذي الحجّة، فخطبهم فقال: ..»(1)، ثم أورد خطبته المعروفة بعبارتها الشهيرة «خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة» والتي ورد في آخرها قوله(عليه السلام):
«فمن كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى ».
وقد يُستفاد من قول الشيخ السماوي(قدس سره): «فجمع أصحابه ..» أنّ هذه الخطبة التي أعلن فيها الإمام(عليه السلام) عن موعد ارتحاله عن مكّة لم تكن أمام محضر عام، بل كانت في اجتماع خاص اقتصر على أصحابه(عليه السلام) فقط،
فموعد السفر لم يعلم به إلاّ أصحابه، ولم يخرج الموعد إذن عن كونه سراً من أسرار حركة الركب الحسيني من مكّة، أي أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان قد خرج بركبه من مكّة الى العراق سرّاً !
لكنّ الملفت للإنتباه أنّ الشيخ السماوي(قدس سره) لم يذكر المصدر الذي أخذ عنه قوله «فجمع أصحابه ..»، كما أننا لم نعثر على مصدر من المصادر التأريخية المعروفة والمعتبرة ـ والتي يحتمل أنّ الشيخ السماوي(قدس سره) قد أخذ عنها ـ كان قد ذكر هذه العبارة «فجمع أصحابه .. ».
بل إنّ المصادر التي ذكرت هذه الخطبة بالذات لم تذكر تلكم العبارة، ففي اللهوف: «وروي أنّه(عليه السلام) لمّا عزم على الخروج الى العراق قام خطيباً فقال: .. »(2)، وفي مثير الأحزان: «ثم قام خطيباً فقال: .. »(3)، وفي كشف الغمة: «ومن كلامه(عليه السلام)لمّا عزم على الخروج الى العراق، قام خطيباً فقال: .. »(4).
(1) إبصار العين: 27.
(2) اللهوف: 126.
(3) مثير الأحزان: 41.
(4) كشف الغمة 2: 241 / دار الكتاب الإسلامي ـ بيروت.
[100]
هذه هي المصادر الأساسية التي نعلم أنها ذكرت هذه الخطبة ..
ومع هذا، فإنّ خروج الإمام(عليه السلام) من مكّة لم يكن سرّاً حتى على فرض أنّ الإمام(عليه السلام)كان قد خطب هذه الخطبة في أصحابه فقط، ذلك لأنّ الذين كانوا ملتفّين حول الإمام(عليه السلام) وهو في مكّة كثيرون، وفيهم من يريد الدنيا وفيهم من يريد الآخرة، ولم يُغربل هذا الجمع الكبير إلاّ في منازل الطريق إلى العراق منزلاً بعد منزل حتى لم يبق معه إلا الصفوة التي استشهدت بين يديه في الطف. فمن البعيد جداً أن تكون حركة الركب الحسيني من مكّة إلى العراق سرّاً، والمحيطون بالإمام(عليه السلام) في مكّة آنذاك خليط من أناس نواياهم شتّى، ثمّ هل يُتصوَّر أنّ حركة الركب الحسيني وهو كبير نسبياً في مكّة المكرّمة وهي آنذاك صغيرة نسبياً ـ بكلّ ما تستلزمه حركة مثل هذا الركب الكبير من مقدّمات واستعدادات ـ تخفى عن أعين السلطة الذين كانوا يتحسسون الصغيرة والكبيرة من حركة الإمام(عليه السلام)!؟