[311]
ثم نظر إليَّ من هناك رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقبض على يد الحسين(عليه السلام)وقال: يا جابر، هذا ولدي معي ها هنا، فسلّم له أمره ولاتشكّ لتكون مؤمناً.
قال جابر: فعميت عيناي إن لم أكن رأيتُ ما قُلت من رسول الله(صلى الله عليه وآله).».(1)
لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء!
روى ابن رستم الطبري (ره) قائلاً: «حدّثنا أبو محمّد سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن الأعمش، قال: قال لي أبو محمّد الواقدي وزرارة بن جلح:
لقينا الحسين بن عليّ(عليهما السلام) قبل أن يخرج الى العراق بثلاث ليال، فأخبرناه بضعف الناس في الكوفة، وأنَّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه! فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبواب السماء، ونزل من الملائكة عدد لايحصيهم إلاّ الله، وقال:
«لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكن أعلمُ علماً أنّ من هناك مصعدي، وهناك مصارع أصحابي، لاينجو منهم إلاّ ولدي عليٌّ !.».(2)
تأمّلٌ وملاحظات:
1) ـ من هو هذا الواقدي في سند هذه الرواية؟ ومن هو زرارة هذا؟
أمّا الواقدي، فإن كان هو محمّد بن عمر بن واقد، أبو عبدالله الأسلمي المدني
(1) الثاقب في المناقب: 323 حديث 266 ومدينة المعاجز:3:488 ونفس المهموم: 77.
(2) دلائل الإمامة: 182 حديث رقم 98/3، وعنه السيد ابن طاووس (ره) في اللهوف: 125، وفيه «وزرارة بن خلج»، وفيه ايضاً: «قبل أن يخرج الى العراق فأخبرناه.. ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي..»، وبحار الانوار:44:364 عن اللهوف، وفيه «زرارة بن صالح».
[312]
الواقدي، فولادته سنة عشرين بعد المائة، فهو لم يدرك عصر الحسين(عليه السلام) !(1)
وإن كان هو واقد بن عبدالله التميمي الحنظلي، فقد توفي أيام عمر بن الخطاب،(2) فهو لم يدرك أيضاً أيّام النهضة الحسينية عام ستين للهجرة!
وأمّا زرارة، فهو مهمل سواء كان ابن خلج او حلح (كما في دلائل الإمامة)
أو صالح!
وعن النمازي في مستدركات علم الرجال: أنّ ابن خلج من أصحاب الحسين(عليه السلام) ورأى معجزته وإخباره إيّاه بشهادته وشهادة أصحابه، وأمّا ابن صالح فقد تشرّف بلقاء الحسين(عليه السلام) قبل خروجه الى العراق بثلاثة أيام!(3)
لكنّ النمازي (ره) لم يأتِ بأكثر مما في رواية الطبري، ولم يخرج زرارة هذا عن الجهالة والإهمال!
وربما كان في السند حذف وإرسال، وكان اللذان التقيا بالإمام(عليه السلام) هما غير الواقدي وزرارة، وقد حُذف إسماهما، والله العالم.
2) ـ في متن هذه الرواية صورة من صور الإرادة والقدرة التكوينية التي يتمتع بها الإمام المعصوم(عليه السلام)، وهذا من صلب اعتقاداتنا، فالإمام(عليه السلام) إذا أشار الى جبل لزال من مكانه، كما في الحديث الوارد عن الإمام الصادق(عليه السلام)،(4) وأنّ الكون ـ
(1) سير أعلام النبلاء 9:454.
(2) مستدركات علم الرجال 8:98.
(3) مستدركات علم الرجال 3:425 وراجع: تهذيب الكمال 6:297 و19:363.
(4) عن الحسن بن عطية، قال: كان ابو عبدالله(عليه السلام) واقفاً على الصفا، فقال له عبّاد البصري: حديث يروى عنك؟ قال: وما هو؟ قال: قلتَ حرمة المؤمن اعظم من حرمة هذه البنية قال: قد قلت ذلك، إنَّ المؤمن من لو قال لهذه الجبال: أقبلى، أقبلت. قال: فنظرت الى الجبال قد اقبلت! فقال لها: على رسلك إنّي لم أردك. (الاختصاص:
325).
[313]
أعمّ من العالم العلويّ والسفلي ـ تحت تصرف الإمام(عليه السلام) تفضّلاً من الله تبارك وتعالى، والأئمّة(عليهم السلام) مختلف الملائكة، تتنزّل عليهم وتطوف بهم، وأمّا في نهضة الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) فقد نزلت إليه أفواج من الملائكة في طريقه من المدينة الى مكّة وعرضت عليه استعدادها لنصرته والقتال بين يديه!(1)
أمّا ماهو مراده صلوات الله عليه في قوله: «لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر»؟ فلعلّ من مراده(عليه السلام) في «تقارب الأشياء»: أنه لو توسّل في تحقيق أهدافه بالخوارق والمعاجز دون الأسباب الطبيعية لتحقّق له ذلك عاجلاً وعلى أحسن وجه ـ والله غالب على أمره ـ لكنّ ذلك خلاف للإرادة الإلهية في امتحان الخلق وابتلائهم في مجاري الأسباب والإقتضاءات والعلل الطبيعية العادية،
ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيَّ عن بيّنة، ولتكون الحجّة البالغة للّه على خلقه، هذا فضلاً عن أنّ الأعمال والإنجازات العظيمة التي يمكن للناس جميعاً أن يتأسّوا بها هي الأعمال والبطولات التي تتمّ في إطار السنن الطبيعية والمجاري العادية المألوفة لا الخوارق والمعاجز ـ التي لا يُلجأُ إليها إلاّ إذا دعت الضرورة إليها ـ ذلك لأنّ استخدام المعاجز وخوارق العادة ليس ميسوراً لجميع الناس، وامتحان الخلق ـ في إطار التأسيّ بالقادة الربانيين ـ إنّما يصح إذا كان الإختبار والتكليف بما يستطيعونه لا بما يعجزون عنه.
ويؤيد هذا قوله(عليه السلام) لمؤمني الجنّ الذين عرضوا عليه نصرتهم قائلين:
«يا مولانا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوّ
(1) راجع: اللهوف: 129 / الهامش; وعنه البحار 44:330.
[314]
لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك!».(1)
فجزاهّم خيراً وقال لهم فيما قال:
«.. فإذا أقمتُ في مكاني فبمَ يُمتحن هذا الخلق المتعوس وبماذا يُختبرون!؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي؟ وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحا الأرض، وجعلها معقلاً لشيعتنا ومُحبّينا، تقبل أعمالهم وصلواتهم، ويجاب دعاؤهم، وتسكن شيعتنا فتكون لهم أماناً في الدنيا وفي الآخرة..».(2)
أمّا مراده(عليه السلام) من «حبوط الأجر» فلا شكّ أنّ الأجر مرتبط بالنيّة ودرجة المشقّة ومستوى أثر العمل، ولا شكّ أن العمل الذي يتمّ بالخوارق والمعاجز ليس كالعمل المتحقق في إطار السنن الطبيعية من حيث درجة المشقّة فيه! كما أنّ الأثر والفتح المترتب على شهادته(عليه السلام) هو أعظم أثر وفتح متصوَّر من حيث النتائج والبركات المترتبة عليه بالنسبة الى الاسلام والإمة الإسلامية، والإنسان المسلم خاصة، والإنسانيّة عامة! ولعلّ هذا من أسرار قول الرسول(صلى الله عليه وآله) له(عليه السلام): «يا حسين أُخرج! فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً!»(3) و«وإنّ لك في الجنّة درجات لا تنالها إلاّ بالشهادة!».(4)
(1) و(2) اللهوف: 129 / الهامش.
(3) اللهوف: 128 / ونذكّر أنّ هذا الإستظهار إنّما هو بحسب فهمنا القاصر، ومن الأكيد أنّ ثمّة معاني ومقاصد فيه هي فوق منال أفهامنا القاصرة.
(4) أمالي الصدوق: 130 المجلس 30، حديث رقم 1 / وقال العلاّمة المجلسي (ره) في (البحار 45:
74): قوله(عليه السلام): «لولا تقارب الأشياء» أي قرب الآجال، أو إناطة الأشياء بالأسباب بحسب المصالح، أو أنّه يصير سبباً لتقارب الفرج وغلبة أهل الحقّ ولمّا يأتِ أوانه. وفي بعض النسخ لولا تفاوت الأشياء، أي في الفضل والثواب. انتهى.
[315]
ولأبي سعيد الخدري مشورة أيضاً
روى إبن كثير: أنّ أبا سعيد الخدري (ره) لقي الإمام الحسين(عليه السلام) وحذّره من أهل الكوفة، إذ قال: «جاءه أبوسعيد الخدري فقال: يا أبا عبدالله، إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك الى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم! فإني سمعتُ أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملّوني وأبغضوني! وما يكون منهم وفاء قطّ! ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله مالهم نيّات ولا عزم على أمر، ولا صبرٌ على السيف!.».(1)
وروى ابن كثير أيضاًنصّاً آخر عن لسان أبي سعيد الخدري (ره) أنه قال: «غلبني الحسين على الخروج، وقلت له: إتّقِ اللّه في نفسك! والزم بيتك ولاتخرج على إمامك!!».(2)
تأمّلٌ وملاحظات:
1)
ـ هذان النصّان لم يرد أيّ ذكر لهما في التواريخ الشيعية، فهما سنيّا المنبع، وإذا كان المتأمّل لايجد بأساً في قبول النصّ الأوّل مع ما فيه من بعض الهنات، فإنه يقف ذاهلاً متحيّراً في دهشته إزاء النصّ الثاني لأنه يشبه تماماً في محتواه ـ من حيث الجسارة وسوء الأدب في مخاطبة الإمام(عليه السلام) ـ خطابات قتلة الإمام(عليه السلام)الذين تالّبوا وتآزروا على قتله في كربلاء! أمثال شمر وعزرة بن قيس وغيرهم من مسوخ هذه الأمة! الذين اتهموا الإمام(عليه السلام) بالخروج على (إمامهم!) يزيد.
(1) البداية والنهاية 8:163 ـ وتأريخ الإسلام / حوادث سنة 60، ص9 ـ وتهذيب تأريخ دمشق 8:138 / ويظهر من كلامه أنّ هذا اللقاء كان في المدينة وعلى عهد معاوية، لكنّ ابن كثير وغيره ذكروه ضمن حوادث مكّة.
(2) البداية والنهاية 8:163.
[316]
ولذا فالمتأمّل المنصف العارف لايتردد في ـ بل يقطع ـ أنّ النصّ الثاني من مكذوبات مرتزقة الإعلام الأمويّ أعداء أهل البيت(عليهم السلام) ليزيّنوا للسذّج من هذه الأمّة أنّ جمعاً من صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ذوي المكانة المرموقة قد أنكروا على الإمام الحسين(عليه السلام) خروجه وقيامه، واتهموه بشقّ عصا الطاعة وتفريق كلمة الأمة! فهذا نصّ مفترى على أبي سعيد الخدري (ره)، ومرّ بنا من قبل هذا نصٌ مفترىً آخر على جابر بن عبدالله الأنصاري (ره)، والأمثلة كثيرة!
2) ـ ولكي يطمئنّ القاريء تماماً إلى أنّ هذا النصّ مكذوب على أبي سعيد ومفترىً عليه، يحسن هنا أن نقدّم صورة مباركة موجزة عن هذا الصحابي الجليل العارف بحقّ أهل البيت(عليهم السلام)، المتأدّب في محضر من شهد منهم:
إنّه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي، من مشاهير أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ونجباء الأنصار وعلمائهم، شهد مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) إثنتي عشرة غزوة أوّلها الخندق، وتوفي عام 64 أو 74.(1)
وولاؤه لأمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) معروف، فهو من السابقين الذين رجعوا اليه، ورواياته في فضائل عليّ(عليه السلام) كثيرة، وكذلك رواياته عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) في فضائل وأسماء الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام).(2)
كما ورد عن الامام الصادق(عليه السلام) في مدحه أنّه «رُزق هذا الأمر، وكان مستقيماً».(3)
(1) راجع: سير أعلام النبلاء 3:171 وسفينة البحار 4:161.
(2) انظر: بحار الانوار 39: 289 و40:9 و27:201 و36:290 والكافي 3:125 حديث رقم 1 كتاب الجنائز، وكفاية الاثر: 28 ـ 34.
(3) رجال الكشّي: 38 رقم 78 وبحار الأنوار: 81:237 رقم 18.
[317]
كما ذكره الإمام الرضا(عليه السلام) ضمن من لم يتغيّروا ولم يبدّلوا،(1) فهو من الذين تجب ولايتهم، والمستفاد من هذا وثاقته وجلالته.
هذا وقد مدحه علماء الرجال والتراجم:
فقد قال فيه الشيخ عبّاس القميّ (ره): «كان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين، وكان من اصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان مستقيماً.».(2)
وذكر السيّد الخوئي (ره) إطراء الرجاليين وثناءهم عليه ولم يذكر أي قدح فيه أو ذمّ له!(3)
وقد دافع التستري عنه حينما عدّه المسعودي فيمن تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين(عليه السلام)
قائلاً: «إلاّ أنه بعد اتفاق أخبارنا على استقامته وقوله بإمامة أمير المؤمنين(عليه السلام) وجب القول إمّا باستبصاره بعدُ، أو باشتباه المسعودي وأنه رأى تخلّف سعد بن مالك ـ أي سعد بن أبي وقّاص ـ فتوّهمه الخدري! ـ فكلٌّ منهما سعد بن مالك.».(4)
2) ـ قد ينقدح في ذهن المتأمّل سؤال حول سرّ عدم إلتحاق أبي سعيد بالإمام(عليه السلام) مع ماله من معرفة بحقّ أهل البيت(عليهم السلام) وولائه لهم؟
وهل يمكن القول: إنّ ذلك لايضرُّ بحسنه واستقامته!؟
قال النمازي: «ولانعلمُ علّة عدم حضوره لنصرة الحسين(عليه السلام)، فلا يضرُّ ذلك
(1) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2:125 باب 35حديث رقم 1.
(2) سفينة البحار 4:160.
(3) معجم رجال الحديث 8:47.
(4) قاموس الرجال 5:16.
[318]
في حسنه واستقامته».(1)
وقال المامقاني: «إنّ بعض الأواخر قد استشكل في حسن عاقبة الرجل بكونه لم يشهد مع الحسين(عليه السلام) طفّ كربلاء، مع أنّه ممن سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. وهذا إشكال واه ضعيف، إذ لم يُحرز علمُه بخروجه(عليه السلام) الى كربلاء! ولا عُلِمَ عدم عذره لو كان عالماً، وليس كلّ متخلف عنه(عليه السلام) هالكاً، نعم لاينال تلك الدرجات الرفيعة المعدّة لأصحابه، وقد نبّهنا على ذلك في فوائد المقدّمة.».(2)
كلام المامقاني (ره) في الفائدة السادسة والعشرين:
ويحسن هنا أن نقرأ ماقاله المامقاني (ره)، في الفائدة السادسة والعشرين: قال (ره): «إذا ثبت حسنُ حال الرجل أو عدالته وثقته، لم يمكن المناقشة في ذلك بحياته في زمان وقعة الطفّ وتركه الحضور لنصرة سيّد المظلومين(عليه السلام)، ضرورة أنّ عدم الحضور فعل مجمل لايحمل على الفاسد إلاّ إذا اُحرز فيه جهة الفساد.
وسبب الحمل على الصحة في ذلك واضح لائح، ضرورة أنّ الرجل إن كان كوفياً فإنّ ابن زياد قد حبس أربعمائة وخمسين رجلاً من الشيعة والموالين حتى لايحضروا النصرة! فلعلّ الرجل كان فيهم.
وأيضاً فقد صدَّ على الطرق حتى لايصل أحدٌ الى كربلاء!
ومن حضر الطفّ: بين من كان معه، ومن خرج في عسكر ابن سعد ولمّا بلغ
(1) مستدركات علم رجال الحديث 4:22.
(2) تنقيح المقال 2:11.
[319]
كربلاء انصرف الى الحسين(عليه السلام).
ولعلّ من لم يحضر لم يلتفت إلى إمكان هذه المكيدة الحسنة: أعني الخروج بعنوان عسكر ابن سعد واللحوق في كربلاء بالحسين(عليه السلام).
وإن كان الرجل من غير أهل الكوفة فلأنه مضافاً الى رصد الطرق، لم تطل المُدَّة ولم يمهل ابن زياد حتى يبلغهم الخبر، فإنّ أسباب وصول الخبر يومئذ من البريد والبرق لم يكن متهيئاً، ورصد الطرق أوجب تأخير وصول الخبر، ولذا لم يدر الأغلب بالوقعة إلاّ بعد وقوعها، فعدم الحضور غير قادح في الرجل بعد إحراز وثاقته أو حسن حاله،
إلاّ إذا ثبت علمه بالحال وقدرته على الحضور وتخلّفه عنه كما لايخفى.
وأمّا المتخلّفون عنه عند حركته من المدينة، فلأنّ الحسين(عليه السلام) حين حركته وإن كان يدري هو وجمع من المطّلعين على إخبار النبيّ الأمين بمقتضى خبره(صلى الله عليه وآله) أنه يستشهد بالعراق إلاّ أنّه في ظاهر الحال لم يكن ليمضي الى الحرب حتى يجب على كلّ مكلّف متابعته، وإنّما كان يمضي للإمامة بمقتضى طلب أهل الكوفة، فالمتخلّف عنه غير مؤاخذ بشيء! وإنّما يؤاخذ لترك نصرته من حضر الطفّ او كان قريباً منه على وجه يمكنه الوصول إليه ونصرته، ومع ذلك لم يفعل وقصّر في نصرته، فالمتخلّفون بالحجاز لم يكونوا مكلّفين بالحركة معه حتى يوجب تخلّفهم الفسق، ولذا فإنّ جملة من الأخيار الأبدال الذين لم يكتب الله تعالى لهم نيل هذا الشرف الدائم بقوا في الحجاز، ولم يتأمّل أحدٌ في عدالتهم كابن الحنفية وأضرابه!».(1)
(1) تنقيح المقال 1:212.
[320]
مناقشة كلام المامقاني (ره)
1) ـ إنّ الإخبارات الكثيرة التي أُثرت عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وعن أمير المؤمنين(عليه السلام)، (ومنها قليلٌ عن الحسن(عليه السلام))، وعن الحسين(عليه السلام) نفسه، كانت قد شخّصت زمان استشهاده(عليه السلام)، ومكان الوقعة التي يستشهد فيها، بل وشخّصت الحاكم الآمر بقتله(عليه السلام) وهو يزيد، وأمير جيشه عمر بن سعد، بل وشخّصت حتى صفة القاتل المباشر للذبح شمر بن ذي الجوشن، وكانت هذه الإخبارات على كثرتها ووفرة تفصيلاتها قد انتشرت في أوساط الصحابة خاصة وفي كثير من أوساط الأمّة عامة، فمن البعيد ألاّ يكون المخلصون من الصحابة (فضلاً عن سواهم من الصحابة الذين كانوا يعملون في خطّ حركة النفاق) قد علموا ـ أو توقّعوا على الأقلّ ـ أنّ الإمام(عليه السلام) في خروجه من المدينة ثمّ في خروجه من مكّة الى العراق ماض إلى حرب وقتال! نعم، قد يُعذر المتخلّفون عنه عند خروجه من المدينة بأنهم ربّما لم يعلموا بخروجه لأنّ خروجه من المدينة تمّ بسرعة ولم يعلم به إلاّ المقرّبون منه(عليه السلام)،
أو لأنهم لم يكونوا آنذاك في المدينة، ولكن ما عذرهم في عدم الالتحاق به(عليه السلام) في مكّة وقد أقام فيها ما يقرب من مائة وخمسة وعشرين يوماً!؟ خصوصاً وأنه قد شاع في أواخر تلك الأيام بين الناس في الحجاز أنّ أهل الكوفة قد كاتبوه وأنه(عليه السلام) عازم على التوجّه الى العراق، بما يكفي لمن يُريد الإلتحاق به أن يلتحق به حتى وإن تحرّك إليه من المدينة.
2) ـ من هنا وجب أن نبحث عن عذر كلّ واحد من هؤلاء المخلصين في تخلّفه عن الإلتحاق بالامام(عليه السلام) على حدة، فإن علمنا عذره في عدم إلتحاقه بالامام(عليه السلام) فبها ونعمت، وإن علمنا بأنه لا عذر له في تخلّفه وانّه قصّر عن نصرة الإمام(عليه السلام) وقعد عن الجهاد معه عمداً فلا يمكننا حينذاك أن نقول بحسنه وعدالته، وإن لم نعلم بعذره أو عدم عذره استصحبنا حسن حال الرجل أو عدالته
[321]
ووثاقته إذا ثبت ذلك من مجموع تأريخ سيرته، خصوصاً إذا أثنى(عليه السلام) الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام) أو أحد ممن جاء من بعده من الأئمة(عليهم السلام).
3) ـ لم ينجُ أحدٌ من أعلام الأمّة ممن بقي في الحجاز ولم يلتحق بالإمام(عليه السلام)من التأمّل في عدالته من خلال التساؤل عن سرّ عدم التحاقه، ولعلّ أكثر من تعرّضوا للتأمّل في عدالتهم المتخلّفين من بني هاشم، كابن عبّاس وابن جعفر وابن الحنفيّة، ولعلّ الأخير أكثر المتعرضين لهذا التأمّل منذ أيّام الأئمة(عليهم السلام)(1)
وإلى الآن، مع أنّ المأثور أنّ ابن الحنفيّة (رض) أقعده وأعجزه المرض عن الإلتحاق بالإمام(عليه السلام)، وورد أنّ ابن جعفر كان مكفوفاً، وتحقّق عندنا أنّ ابن عبّاس (رض) كان عذره في كونه مكفوفاً أو ضعيف البصر جدّاً آنذاك.(2)
فالأمر ليس كما ذهب إليه المامقاني (ره) بقوله: «.. ولم يتأمّل أحدٌ في عدالتهم كابن الحنفية وأضرابه!».
4) ـ أمّا فيما يتعلّق بأمر أبي سعيد الخدري (ره)، فقد وردت روايات عن الإمامين الصادق والرضا(عليهما السلام) تثني عليه وتمدحه، كقول الإمام الصادق(عليه السلام) فيه: «رُزق هذا الأمر، وكان مستقيماً»(3)، وعدّه الإمام الرضا(عليه السلام) فيمن لم يُغيّروا ولم يبدّلوا، وهذا يكفي في الإطمئنان الى حسن حاله ووثاقته وعدالته.
(1) راجع: بصائر الدرجات 10:481 باب 9 حديث 5: والبحار 44:330 باب 37.
(2) راجع بحث تحرّك كلِّ من هؤلاء الثلاثة (رض) فيما تقدّم من هذا الفصل.
(3) ولقد حسّن العلامة المجلسي (ره) هذه الرواية (راجع: مرآة العقول 13:
281).
[322]
رسالة المسْور بن مخرمة
روى ابن عساكر أنّ المسور بن مخرمة كتب الى الإمام الحسين(عليه السلام) رسالة يقول فيها: «إيّاك أن تغترَّ بكتب أهل العراق، ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك! إيّاك أن تبرح الحرم، فإنّهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتّى يوافوك! فتخرج في قوّة وعدّة.».(1)
«فجزّاه الحسين خيراً وقال: أستخير الله في ذلك!».2
تأمّلٌ وملاحظات:
1) ـ إنّ محتوى هذه الرسالة كاشف عن أنّ المسور بن مخرمة بعث بها إلى الامام(عليه السلام) في مكّة،
بدليل قوله: «إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق! ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك!»، ذلك لأن كتب أهل الكوفة لم تصل إلى الامام(عليه السلام) إلاّ في مكّة، كما أنّ ابن الزبير لم يُشر على الامام(عليه السلام) بالتوجّه الى العراق إلاّ في مكة المكرّمة، هذا فضلاً عن الدليل الواضح في قوله: «إيّاك أن تبرح الحرم!».
2) ـ صاحب هذه الرسالة هو المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري، وأمّه عاتكة أخت عبدالرحمن بن عوف وهي زهرية أيضاً، ولد بعد الهجرة بسنتين، وكان من صغار الصحابة، قدم دمشق بريداً من عثمان يستصرخ معاوية، وكان ممن يلزم عمر بن الخطّاب ويحفظ عنه، وقد انحاز الى مكّة مع ابن الزبير وسخط إمرة يزيد، وقد أصابه حجر منجنيق في الحصار فبقي ايّاماً ومات، وكانت
(1) و (2) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الامام الحسين(عليه السلام) / تحقيق المحمودي): 202 رقم 255; وراجع تهذيب تاريخ دمشق 7:140 والبداية والنهاية 8:165.
[323]
الخوارج تغشاه وتنتحله.(1)
وأمّا عندنا فهو مجهول، وذكر السيّد الخوئي (ره) أنّ الشيخ عدّه في أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) تارة، وأخرى في أصحاب عليّ(عليه السلام) قائلاً: المسور بن مخرمة كان رسوله(عليه السلام) الى معاوية،(2) وقد روى الشيخ الطوسي رحمه الله في الأمالي رواية يُشَمُّ منها ضعف المسور بن مخرمة،(3) ونقل القرشيّ عن كتاب الإصابة أنه كان من أهل الفضل والدين،(4) كما نقل الأميني (ره) عن كتاب أنساب الأشراف قائلاً: «وكان مسور بن مخرمة الصحابيّ ممّن وفد الى يزيد، فلمّا قدم شهد عليه بالفسق وشرب الخمر، فكُتب الى يزيد بذلك، فكتب الى عامله يأمره أن يضرب مسوراً الحدَّ،
فقال أبوحرّة:
أيشربُها صهباء كالمسكِ ريحها
أبوخالد، والحدَّ يُضربُ مسورُ»(5)
أبوخالد، والحدَّ يُضربُ مسورُ»(5)
أبوخالد، والحدَّ يُضربُ مسورُ»(5)
3) ـ قد يُستفاد من بعض الأقوال التي أوردناها في النقطة الثانية أنّ المسور بن مخرمة كان عمريّ الميْل عثماني الهوى، كما قد يُستفاد من نقل الشيخ (ره) أنه كان رسول عليٍّ(عليه السلام) إلى معاوية، ومن رواية البلاذري أنه شهد على يزيد بالفسق وشرب الخمر، ومن قول الذهبي أنه سخط إمرة يزيد، أنّ المسور بن مخرمة ربّما كان ذا شيء من التدين، وعلى هذا يحتمل أنه كتب رسالته الى الامام(عليه السلام) بدافع الشفقة والخوف عليه من غدر أهل الكوفة، ويساعد على هذا الإحتمال ما ورد في
(1) راجع: سير أعلام النبلاء 3:393 والإصابة: 3:419.
(2) معجم رجال الحديث 18:161 رقم 12359.
(3) أمالي الشيخ الطوسي: 727 مجلس 44 حديث رقم 1530/5، وفي خلاصة الرسائل العشر للميلاني ص40: أنّه كان إذا ذكر معاوية صلّى عليه!!
(4) حياة الامام الحسين بن علي(عليهما السلام) 3:24 / الهامش.
(5) الغدير 10:33 / والصهباء: الخمر، وأبوخالد يعني يزيد.
[324]
آخر رواية ابن عساكر أنّ الإمام(عليه السلام) جزّاه خيراً، هذا على فرض صحة الرواية أصلاً!!
كما يظهر من متن الرسالة أنّ المسور كان عارفاً بمكر ابن الزبير حيث يقول: «ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك!» لكنّ العجيب أنّ الذهبي يذكر أنه انحاز بعد ذلك إلى مكّة مع ابن الزبير، وقتله حجر منجنيق أصابه في الحصار!