مع الرکب الحسینی من المدینة الی المدینة جلد 2

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مع الرکب الحسینی من المدینة الی المدینة - جلد 2

نجم الدین طبسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
يقول ابن كثير: «فعكف الناس على الحسين يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد، وأمّا ابن الزبير فإنّه لزم مصلاّه عند الكعبة، وجعل يتردّد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولايمكنه أن يتحرّك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه عليه.. بل الناس إنّما ميلهم إلى الحسين لأنّه السيّد الكبير وابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يساميه ولايساويه..».(2)




(1) قدّمنا في مقدّمة هذا الكتاب وفي الفصل الأول أنّ المراد بالناس في النصوص التي تتحدث في حفاوة الناس في مكّة بالإمام(عليه السلام) هم جموع الوافدين من المعتمرين والحجّاج ونزر من أهل مكّة قليل من الذين لايحملون بغضاً لعليّ وآل عليّ(عليهم السلام)، فراجع تفصيل هذه الحقيقة في موقعها هناك.
(2) البداية والنهاية، 8: 151.




[211]


وقال الدينوري: «واختلف الناس إليه، فكانوا يجتمعون عنده حلقاً حلقاً، وتركوا عبدالله بن الزبير، وكانوا قبل ذلك يتحفّلون إليه، فساء ذلك ابن الزبير، وعلم أنّ الناس لايحفلون به والحسين مقيم بالبلد، فكان يختلف الى الحسين رضي الله عنه صباحاً ومساءً.».(1)
وجهاء الأُمّة.. مشورات ونصائح
طيلة المدّة التي أقام الإمام(عليه السلام) فيها بمكّة المكرّمة كان(عليه السلام)، قد التقى مجموعة منوّعة المشارب والميول والأفكار من وجهاء مرموقين ومعروفين في أوساط الأمّة الإسلامية، وقد عرض هؤلاء على الإمام(عليه السلام) مشوراتهم ونصائحهم واعتراضاتهم، كلّ منهم على هدي مشربه وميله وطريقة تفكيره، ولئن اختلفت تلك المشورات والنصائح والإعتراضات في بعض تفاصيلها،


فقد اشتركت جميعها في منطلق التفكير والنظرة الى القضية، إذ إنّ جميعها كان يرى الفوز والنصر في تسلّم الحكم والسلامة والعافية والأمان الدنيوي، ويرى الخسارة والإنكسار في القتل والتشرّد والبلاء والتعرّض للإضطهاد، فمن هذا المنطق انبعثت جميع تلك الإعتراضات والمشورات والنصائح.
وكم هو الفرق كبير والبون شاسع بين هذا المنطق وبين منطق العمق الذي كان قد جعل أساس حساباته مصير الإسلام والأمة الإسلامية، ولم يغفل في نظرته إلى متّجه حركة الأحداث عن «أنّ معاوية بن أبي سفيان (الذي انتهت إليه قيادة حركة النفاق آنذاك) قد أضلّ جُلّ هذه الأمّة إضلالاً بعنوان الدين نفسه! حيث عتّم على ذكر أهل البيت(عليهم السلام) وعلى ذكر فضائلهم تعتيماً تاماً، وافتعل من خلال وُضّاع




(1) الأخبار الطوال: 229.




[212]


الأحاديث ـ افتراءً على النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ قداسة مكذوبة(1) له ولبعض مَن مضى مِن الصحابة الذين قادوا حركة النفاق أو ساروا في ركابها، وتآزروا على غصب أهل البيت(عليهم السلام) حقّهم الذي فرضه الله لهم، وخدّر معاوية بن أبي سفيان الأمّة المسلمة عن القيام والنهوض ضدّ الظلم من خلال تأسيس فرق دينية تقدّم للناس تفسيرات دينية تخدم سلطة الأمويين وتبرّر أعمالهم، كما في مذهب الجبر ومذهب الإرجاء، وأعانه على ذلك مابذله من جهد كبير في تمزيق الأمّة قبلياً وطبقياً، وفي اضطهاد الشيعة اضطهاداً كبيراً.
ومع طول مدّة حكمه انخدع جُلّ هذه الأمّة بالتضليل الديني الأمويّ، واعتقدوا أنّ حكم معاوية حكم شرعي، وأنه امتداد للخلافة الإسلامية بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)،


وأنّ معاوية إمام هذه الأمّة، وأنّ من ينوب عنه في مكانه إمام هذه الأمّة وامتداد لأئمتها الشرعيين!! ومن المؤسف حقّاً أنّ جُلّ هذه الأمّة خضع خضوعاً أعمى لهذا التضليل وانقاد له، فلم يعد يبصر غيره، بل لم يعد يصدّق أنّ الحقيقة شيء آخر غير هذا!!... ولقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار الديني هو أن يثور عليه رجلٌ ذو مركز دينيّ مسلّم به عند الأمّة الإسلامية، فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تمزّق الرداء الديني الذي يتظاهر به الحكّام الأمويون، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته، وجاهليته، وبُعده الكبير عن مفاهيم الإسلام، ولم يكن هذا الرجل الإّ الحسين(عليه السلام)، فقد كان له في قلوب الأكثرية القاطعة من المسلمين رصيد كبير من الحبّ والإجلال والتعظيم... ولو لم تكن واقعة كربلاء لكان




(1) قال ابن تيمية: .. طائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبيّ في ذلك كلّها كذب.
وقال الشوكاني: إتفق الحفّاظ على أنه لم يصح في فضل معاوية حديث. (انظر: الفوائد


المجموعة: 403 ـ


408).




[213]


الأمويون قد واصلوا حكم الناس بإسم الدين، حتى يترسّخ في أذهان الناس بمرور الأيام والسنين أنه ليس هناك إسلام غير الإسلام الذي يتحدّث به الأمويون ويؤخذ عنهم!! وعلى الإسلام السلام!.
لو لم تكن واقعة عاشوراء لما كان بالإمكان فصل الإسلام والأموية عن بعضهما البعض، ممّا يعني أنّ زوال الأمويّة يوماً ما كان سيعني زوال الإسلام أيضاً! ولكانت جميع الإنتفاضات والثورات التي قامت على الظلم الأمويّ تقوم حين تقوم على الإسلام نفسه! لكنّ الفتح الحسيني في عاشوراء هو الذي جعل كلّ هذه الإنتفاضات والثورات التي قامت بعد عاشوراء إنّما تقوم باسم الإسلام على الأموية!.».(1)
اشارة:
ونلفت الإنتباه هنا إلى أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) في الوقت الذي كان يتحرك بالفعل


على أساس منطق العمق هذا ـ منطق الفتح بالشهادة ـ كان يتعاطى أيضاً بمنطق الحجج الظاهرة في تعامله مع منطق الظاهر، منطق تكلم المشورات والنصائح، كما أنه(عليه السلام) كان يراعي في ردوده وإجاباته في محاوراته مع أصحاب تلك المشورات والنصائح نوع المخاطَب من حيث قدر عقله ومستوى بصيرته ودرجة ولائه لأهل البيت(عليهم السلام) ونوع اعتقاده بهم ومدى علاقته بأعدائهم.
فنراه(عليه السلام) مثلاً يردّ على أم سلمة (رض) ومحمد بن الحنفية (رض) وعبدالله بن عبّاس (رض) ردوداً تختلف عن ردوده على عبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن مطيع العدوي وأمثالهم.




(1) راجع الجزء الأوّل، عنوان: (آفاق الفتح الحسيني): 172 ـ 176.




[214]


هذه الحقيقة لابدّ من استحضارها وعدم الغفلة عنها في قراءتنا لمحاوراته(عليه السلام) حتّى نفهم سرّ التفاوت الظاهري في إجاباته وردوده(عليه السلام).



تحرّك عبدالله بن عبّاس


سجّل لنا التأريخ أكثر من محاورة تمّت بين الإمام(عليه السلام) وبين عبدالله بن عبّاس، وقد كشفت هذه المحاورات في مجموعها عن أنّ ابن عبّاس (رض) كان قد تحرّك في حدود السعي لمنع الإمام(عليه السلام) من الخروج الى العراق ـ لا من القيام والثورة على الحكم الأمويّ ـ ، وكانت حجّته في اعتراضه على خروج الإمام(عليه السلام)إلى الكوفة أنّ على أهل الكوفة ـ قبل أن يتوجّه إليهم الإمام(عليه السلام) ـ أن يتحرّكوا عملياً لتهيئة الأمور وتمهيدها للإمام(عليه السلام)، كأن يطردوا أميرهم الأمويّ أو يقتلوه،


وينفوا جميع أعدائهم من الأمويين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة، ويضبطوا إدارة بلادهم، وآنئذ يكون من الرشاد والسداد أن يتوجّه إليهم الإمام(عليه السلام)، وإلاّ فإنّ خروج الإمام(عليه السلام) إليهم ـ وهم لم يحرّكوا ساكناً بعدُ ـ مخاطرة لاتكون نتيجتها إلاّ القتل والبلوى، ومما قاله ابن عبّاس للإمام(عليه السلام) في صدد هذه النقطة:
«أخبرني رحمك الله، أتسير الى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم!؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فَسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك الى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك!.».(1)




(1) تاريخ الطبري، 3: 294.




[215]


وقال له ايضاً: «.. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا ـ فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلاّ أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، وتبثّ دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.».(1)
هذه أهمّ نقطة أثارها عبد الله بن عبّاس في مجموع محاوراته مع الإمام(عليه السلام)، وهي كاشفة عن محور أساس في تفكير ابن عبّاس يتلخّص في تأييده لقيام الإمام(عليه السلام) واعتراضه فقط على الخروج الى العراق قبل تحرّك أهله وقيامهم، وهذا فارق كبير من مجموع الفوارق بين موقف ابن عباس وموقف عبدالله بن عمر الذي كان يعترض على أصل القيام ضد الحاكم الأموي الجائر.
لكنّ هذه النقطة بالذات كاشفة أيضاً


عن انتماء ابن عباس الى مجموعة الناصحين والمشفقين الذين نظروا الى القضية بمنظار النصر الظاهري الذي لم تكن متطلّباته لتخفى على الإمام(عليه السلام) لو كان قد تحرّك بالفعل للوصول الى ذلك النصر.
والآن فلنأتِ الى نصوص محاورات ابن عباس مع الإمام(عليه السلام):
المحاورة الأولى:
وهي محاورة ثلاثية كان عبدالله بن عمر، الثالث فيها، ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت في الأيام الأولى من إقامة الإمام الحسين(عليه السلام) في مكّة المكرّمة، وكان بها يومئذ ابن عباس وابن عمر (وقد عزما أن ينصرفا الى المدينة)، ونحن نركّز هنا على نصوص التحاور فيها بين الإمام(عليه السلام) وبين ابن عباس لأننا الآن




(1) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام)): 204، رقم 255.




[216]


بصدد تشخيص أبعاد موقفه وتحرّكه.
وقد ابتدأ ابن عمر القول في هذه المحاورة محذّراً الإمام(عليه السلام) من عداوة البيت الأموي وظلمهم وميل الناس الى الدنيا، وأظهر له خشيته عليه من أن يُقتل، وأنه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله إلى يوم القيامة»،(1) ثمّ أشار على الإمام(عليه السلام) أن يدخل في صلح ما دخل فيه الناس وأن يصبر كما صبر لمعاوية!!(2)
فقال له الحسين(عليه السلام): «أبا عبدالرحمن! أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبيّ(صلى الله عليه وآله) فيه وفي أبيه ما قال!؟
فقال ابن عباس: صدقتَ أبا عبدالله، قال النبيّ(صلى الله عليه وآله) في حياته: مالي وليزيد، لا بارك الله في يزيد!،


وإنّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين(عليه السلام)، والذي نفسي بيده لايُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم!
ثم بكى ابن عباس، وبكى معه الحسين(عليه السلام).
وقال: «يا ابن عباس، تعلمُ أنّي ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)!
فقال ابن عباس: أللّهمّ نعم، نعلمُ ونعرف أنّ ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) غيرك، وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لايقدر أن يقبل أحدهما دون الأخرى!
قال الحسين(عليه السلام): يا ابن عباس، فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) من داره وقراره ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره، ومولده،




(1) الفتوح، 5: 26 ـ 27.
(2) سوف نكشف عن سرّ منطق ابن عمر هذا في تحليلنا لشخصيته، فتابع.




[217]


ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لايستقرّ في قرار ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله!.
فقال ابن عباس: ما أقول فيهم إلاّ (إنّهم كفروا بالله وبرسوله ولايأتون الصلاة إلاّ وهم كُسالى)،(1) (يُراؤون الناس ولايذكرون الله إلاّ قليلاً، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يُضلل اللهُ فلن تجد له سبيلا)،(2) وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأمّا أنت يا ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) فإنك رأس الفخار برسول الله(صلى الله عليه وآله) وابن نظيرة البتول، فلا تظنّ يا ابن بنت رسول الله أنّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك


، وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد(صلى الله عليه وآله) فماله من خلاق.
فقال الحسين(عليه السلام): أللّهمَّ اشهد.
فقال ابن عباس: جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك! والله الذي لا إله إلاّ هو أن لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممن أوفّي من حقّك عشر العشر وها أنا بين يديك مرني بأمرك.
وهنا يتدخل ابن عمر ليغيّر مجرى الحوار ـ حين أحسَّ أنّ الكلام بلغ الدرجة الحرجة بقول الإمام(عليه السلام) «أللّهمّ اشهد» أنّ الحجّة قائمة على المخاطب، وصار الحديث على لسان ابن عباس الذي أدرك مغزى «أللّهمّ اشهد» في وجوب نصرة الإمام(عليه السلام) ووجوب الإنضمام إلى رايته في القيام ضد الحكم الأموي، الأمر الذي




(1) سورة التوبة، الآية 45.
(2) سورة النساء، الآية 142.




[218]


يعني أنه (أي ابن عمر) مقصود أيضاً بالإمتثال لهذا الواجب ـ فقال لابن عباس: مهلاً، ذرنا من هذا يا ابن عباس!!
ثمّ عطف يخاطب الإمام(عليه السلام) داعياً إيّاه الى الرجوع الى المدينة والتخلّي عمّا عزم عليه من القيام، وطالباً منه الدخول في صلح القوم، والصبر حتى يهلك يزيد!! ، ويدّعي ابن عمر هنا أنّ الإمام(عليه السلام) متروك ولابأس عليه إن هو ترك القيام حتى وإنْ لم يبايع!!
وهنا يُظهر الإمام(عليه السلام) تبّرمه من منطق ابن عمر، ثم يُلزمه بالتسليم لحقيقة أنّ ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في طهره ورشده ومنزلته الخاصة ليس كيزيد بن معاوية، ويُعلمه أنّ الأمويين لايتركونه حتى يبايع أو يقتل، ثمّ يدعوه إلى نصرته، فإن لم ينصره فلا أقلّ من أن لايسارع بالبيعة!!
ثمّ أقبل الإمام الحسين(عليه السلام)


على ابن عباس رحمه الله..
فقال: يا ابن عباس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنت مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ الى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شيءٌ من أخبارك، فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمتُ بالكلمة التي قالها إبراهيم الخليل(عليه السلام) يومَ أُلقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل) فكانت النار عليه برداً وسلاماً.
.. فبكى ابن عباس وابن عمر في ذلك الوقت بكاءً شديداً، والحسين(عليه السلام)




[219]


يبكي معهما ساعة، ثمّ ودّعهما، وصار ابن عمر وابن عباس الى المدينة.(1)
تأمّل وملاحظات:


1) ـ أكّد ابن عباس (رض) ـ في أوّل ما نطق به خلال هذه المحاورة ـ أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان قد بلّغ الأمّة بأنّ يزيد قاتل الحسين(عليه السلام)، وأنّ على الأمّة أن تحمي الإمام(عليه السلام) وتنصره، وقد حذّر(صلى الله عليه وآله) الأمّة بأنّ الإمام(عليه السلام) لايُقتل بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم! وقد أكّد ابن عمر أيضاً على وقوع هذا التحذير والإنذار النبوي حيث قال إنه سمع الرسول(صلى الله عليه وآله) يقول: «حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله الى يوم القيامة»، وهذا يعني أنّ الأمّة كان قد شاع في أوساطها خبر ملحمة مقتل الحسين(عليه السلام)


وأنّ يزيد قاتله، وأنّ على الأمّة التحرك لحماية الإمام(عليه السلام) ونصرته!! لكنّ الأمّة بعد خمسين سنة من ارتحال الرسول(صلى الله عليه وآله) أعمتها أضاليل حركة النفاق عامة وفصيل الحزب الأموي منها خاصة، فتناءت عن وصايا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتحذيراته، الأمر الذي استشعر ابن عباس مرارته ونتائجه الخطيرة فبكى، وشاركه الإمام(عليه السلام) في البكاء!


2) ـ أكّد ابن عباس (رض) في هذه المحاورة على معرفته بمقام الحسين(عليه السلام)وضرورة موالاته ونصرته، بدليل قوله: «.. وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة..»، وفي قوله: «.. لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتى





(1) راجع: الفتوح، 5: 26 ـ 27 ومقتل الحسين(عليه السلام) للخوارزمي، 1: 278 ـ 281 / لقد تفرّد ابن أعثم الكوفي في كتابه «الفتوح» برواية تمام هذه المحاورة، ونقلها عنه الخوارزمي في كتابه «مقتل الحسين(عليه السلام)»، وقد تضمّنت هذه المحاورة بعض الفقرات التي لايمكن للمتتبع المتأمّل إلاّ أن يتحفّظ حيالها إنْ لم يقطع بكذبها ورفضها، خصوصاً في بعض نصوص التحاور بين الإمام وبين ابن عمر، وقد أرجأنا الكلام فيها الى حيث موقع دراسة موقف ابن عمر ونوع تحرّكه وحقيقة انتمائه.




[220]


انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عشر العشر..».


3) ـ كما أكّد (رض) على معرفته بكفر الأمويين ونفاقهم، وأنّهم ومن أطاعهم في محاربة الإمام(عليه السلام) ممّن لانصيب لهم من الخير في الآخرة.


4) ـ قد يُستفاد من قوله (رض): «كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك... الى قوله: وها أنا بين يديك مُرني بأمرك» أنّه وإن كان كبير السنّ يومذاك لكنّه كان صحيح القُوى سليم الجوارح وإلاّ لما عرض استعداده للنصرة والجهاد، فلم يكن مكفوف البصر مثلاً ـ كما يُستفاد ذلك من رواية لقائه بأمّ سلمة (رض) بعد سماع صراخها تنعى الحسين(عليه السلام)(1) ـ نعم يمكن القول إنّ الإمام(عليه السلام) في جميع محاوراته مع ابن عباس لم يطلب منه الالتحاق به ونصرته،


مما يقويّ القول بأنه كان ضعيف البصر جداً أو مكفوفاً آنذاك، ومعذوراً عن الجهاد إلاّ أنه (رض) عرض للإمام(عليه السلام) استعداده للجهاد والتضحية بين يديه استشعاراً منه لوجوب نصرة الإمام(عليه السلام) والذبِّ عنه وإنْ كان معذوراً.


5) ـ وقد يُستفاد أيضاً من أحد نصوص هذه المحاورة أنّ الإمام(عليه السلام) رخّص لابن عباس (رض) بالبقاء وعدم الالتحاق بركبه، حيث قال(عليه السلام) له: «فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شيء من أخبارك».


6) ـ أخبر الإمام(عليه السلام) ابن عباس (رض) ـ في الأيام الأولى من إقامته في مكّة المكرّمة ـ أنّ الأمويين يريدون قتله وسفك دمه! ، والإمام(عليه السلام) بهذا ربّما أراد أن يُخبر عن وجود خطة وضعتها السلطة الأموية المركزية بالفعل لقتله في المدينة أو في مكّة، أو أراد أن يُخبر عن حقيقة أنّة (ما لم يبايع يقتل)، مؤكّداً بذلك على عدم صحة دعوى بعض من يقول ـ كابن عمر مثلاً ـ إنه(عليه السلام) لابأس عليه ولاخطر إن




(1) أمالي الطوسي: 314 ـ 315، المجلس 11، الحديث 640/ 87.




[221]


ترك المعارضة وصبر حتى وإن لم يبايع!


7) ـ ومع علمه(عليه السلام) بأنّه مالم يبايع يقتل! ومع إصراره على أن لا يكون هو الذي تستباح بقتله حرمة البيت الحرام! يمكننا أن نفهم قوله(عليه السلام) لابن عباس (رض) في ختام هذه المحاورة: «فإنّي مستوطن هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيت أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم..» أنه(عليه السلام) أراد أن يطمئن ابن عباس (والمحاورة في أوائل الأيّام المكيّة) أنه باق أيّاماً غير قليلة في مكّة، وأنّ هنالك متسعاً من الوقت،


وإلاّ فإنّ الإمام(عليه السلام) قد جعل استيطانه الحرم مشروطاً بحبّ أهله إيّاه ونصرتهم له! وهو(عليه السلام) يعلم أنه ليس في (المكيّين) إلا نزر قليل جداً ممّن يحبّ أهل البيت(عليه السلام)،(1) فليس له في مكّة قاعدة شعبية تحميه وتنصره في مواجهة السلطة الأموية.
المحاورة الثانية:
ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت بين ابن عباس (رض) وبين الإمام(عليه السلام) بعد رجوع ابن عباس من المدينة الى مكّة المكرّمة مرّة أخرى، إذ تقول الرواية التأريخية: «وقدم ابن عباس في تلك الأيّام الى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مسلّماً.
ثم قال له: جُعلتُ فداك، إنه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائر الى العراق! فبيّن لي ما أنت عليه؟(2)




(1) عن الإمام السجّاد(عليه السلام) أنه قال: «ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا..»، (كتاب الغارات: 393، وشرح النهج لابن أبي الحديد، 4:


104).
(2) في تاريخ الطبري، 3: 294; «فبيّن لي ما أنت صانع؟».




[222]


فقال: نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي(1) هذه إن شاء الله، ولاحول ولاقوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
فقال ابن عباس: أُعيذك بالله من ذلك، فإنك إنْ سرت الى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، واتقوا عدوّهم،(2) ففي مسيرك إليهم لعمري الرشاد والسداد، وإن سرت إلى قوم دعوك إليهم وأميرهم قاهر لهم، وعمّالهم يجبون بلادهم،(3) فإنّما دعوك الى الحرب والقتال! وأنت تعلمُ أنه بلدٌ قد قُتل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله(!) وعبيد الله في البلد يفرض ويُعطي


، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن تُقتل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم، فإن كنت على حال لابدّ أن تشخص فَصِرْ إلى اليمن فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعة لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.
فقال الحسين(عليه السلام): لابُدَّ من العراق!
قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءَك فيُقال إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوالله ما آمَنُ أن تُقتل ونساؤك ينظرن كما قُتل عثمان.
فقال الحسين(عليه السلام): والله يا ابن عم، لئن أُقتل بالعراق أحبّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر




(1) وفيه أيضاً: «قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين...».
(2) وفيه أيضاً: «أخبرني رحمك الله أتسير الى قوم... ونفوا عدوّهم، فإنْ كانوا قد فعلوا ذلك


فَسِرْ إليهم...».
(3) في تاريخ الطبري، 3: 294، «.. وعمّاله تجبي بلادهم، فإنهم إنّما دعوك الى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك...».




[223]


مايكون».(1)



تأمّلٌ وملاحظات:



1) ـ يمكن تشخيص تأريخ هذه المحاورة من قرائن متون روايتها أنّها حصلت في الأيام الأخيرة من إقامة الإمام(عليه السلام) في مكّة، بدليل قوله(عليه السلام) «قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه..»، أو أنها حصلت في اليوم الأخير أو اليوم الذي قبله، بدليل قوله(عليه السلام) كما في رواية الطبري: «قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين..».


2) ـ تؤكّد نصوص هذه المحاورة أنّ تصميم الإمام(عليه السلام) على التوجّه الى العراق قد شاع في الناس في مكّة وغيرها، خصوصاً في الأيّام الأواخر من إقامته فيها، وهذا لاينافي أن يبقى موعد السفر سرّياً لو أراد الإمام(عليه السلام) ذلك، مع أن نفسموعد سفر الركب الحسيني من مكّة لم يكن سرّياً إذ كان الإمام(عليه السلام) قد أعلن عنه في خطبته قبيل سفره حين قال فيها: «... من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى.».(2)


/ 31