وفي البصرة نرى ابن مرجانة يبادر الى تهديد أهلها ويحذّرهم من مغبّة التمرّد والإستجابة لنداء الإمام(عليه السلام) والإنضمام إلى حركته، كما يبادر ابن مرجانة قبيل تركه البصرة الى قتل سليمان بن رزين(قدس سره) رسول الإمام(عليه السلام) إلى أشراف البصرة ورؤساء الأخماس فيها، ثم يبادر مسرعاً لايثنيه شيء في سفره الى الكوفة ليستبق الزمن والأحداث في الوصول إليها، وليدير دفّة الأمور هناك في أصعب
[117]
أيّامه والكوفة تكاد تسقط حينها في يد سفير الإمام(عليه السلام) مسلم بن عقيل رضوان الله تعالى عليه.
نشر ابن مرجانة في الكوفة جوّاً رهيباً من الرعب والخوف وحبس الأنفاس من خلال أعمال منوّعة بادر إليها، منها خطب وبيانات التهديد والوعيد بالتعذيب والتنكيل، ومنها حملة واسعة من ممارسات القمع والاعتقالات، ومنها محاولات اختراق صفوف الثوّار بواسطة جواسيس ذوي خبرة وفنّ من اجل الوصول الى مكان ومخبأ قيادة الثورة في الكوفة، ومنها سلسلة من الإعدامات كان من أبرز ضحاياها نخبة من سفراء النهضة الحسينية، مثل مسلم بن عقيل(عليه السلام)، وقيس بن مسهر الصيداوي (رض)، وعبدالله بن يقطر (رض)، ومن أبرز ضحاياها أيضاً الوجيه الكوفي الصحابي الشيعي المبرز هاني بن عروة المرادي (رض).
هذا استعراض مجمل لأهم معالم تحرّك السلطة الأموية في مواجهة حركة الأحداث الناشئة عن قيام الإمام الحسين(عليه السلام) في الأيام المكيّة من عمر نهضته المباركة.
وفي المتابعة التأريخية لتفاصيل حركة السلطة الأموية في مواجهة قيام الإمام الحسين(عليه السلام) يحسن بنا على ضوء التسلسل التأريخي أن نقرأ حركة الأحداث في إطار الترتيب التالي:
1ـ حركة السلطة الأموية المحلّية في الكوفة.
2ـ حركة السلطة الأموية المركزية في الشام.
3ـ حركة السلطة الأموية المحلّية في البصرة.
4ـ حركة السلطة الأمويّة المحلّية الجديدة في الكوفة.
5ـ حركة السلطة الأمويّة المحلّية في مكّة.
[118]
حركة السلطة الأمويّة المحلّية في الكوفة
كان والي الكوفة حينما دخلها مسلم بن عقيل(عليه السلام) هو النعمان بن بشير،(1) فلمّا رأى النعمان استقبال أهل الكوفة الكبير لمسلم(عليه السلام) وحفاوتهم البالغة به وتجاوبهم الرهيب معه، خرج إلى المسجد وخطب في الناس يحذّرهم من إثارة الفتنة والفرقة وشقّ عصا الأمّة.
يقول الطبري: « .. عن أبي الودّاك قال: خرج إلينا النعمان بن بشير فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعدُ، فاتّقوا الله عبادَ الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيهما يهلك الرجال وتُسفك الدماء وتغصب الأموال ـ وكان حليماً ناسكاً يحبّ العافية ! ـ قال: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لايثب عليَّ، ولا أُشاتمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف(2) ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم
(1) النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، ولد في العام الثاني من الهجرة ـ أو عام الهجرة ـ وعُدَّ من الصحابة الصبيان، وكان من أمراء معاوية، فولاه الكوفة مدّة، ثمّ ولي قضاء دمشق، ثمّ ولي إمرة حمص، وقيل إنه لما دعا أهل حمص إلى بيعة ابن الزبير ذبحوه. وقيل: قُتل بقرية بيرين ـ من قرى حمص ـ قتله خالد بن خَلي بعد وقعة مرج راهط في آخر سنة أربع وستين. (راجع: سير أعلام النبلاء، 3:
412). وهو الذي أخذ أصابع نائلة امرأة عثمان التي قطعت وقميص عثمان الذي قُتل فيه وهرب الى معاوية بالشام، ولم يكن مع معاوية في صفين من الأنصار إلا هو ومسلمة بن مخلّد الأنصاري. (راجع: وقعة صفّين: 445 و 448; ومستدركات علم الرجال، 8:
79).
(2) قرف فلان فلاناً: إذا عابه واتهمه. (مجمع البحرين، 5:
108).
[119]
ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.
قال: فقام إليه عبدالله بن مسلم بن سعيد الحضرمي(1) ـ حليف بني أميّة ـ فقال: إنّه لا يُصلح ما ترى إلا الغشم، إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين !!
فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله.
ثمّ نزل،..
وخرج عبدالله بن مسلم، وكتب إلى يزيد بن معاوية:
أمّا بعدُ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن عليّ، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً، ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيف أو هو يتضعّف !
فكان أوّل من كتب إليه، ثمّ كتب إليه عمارة بن عقبة(2) بنحو من كتابه، ثمّ كتب
(1) عبدالله بن مسلم بن سعيد الحضرمي: كان أحد الذين شهدوا للإيقاع بالشهيد البطل حجر بن عدي (رض). (راجع: وقعة الطف: 101; وتاريخ الطبري 5:
269).
(2) هو أخو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، خرج هو وأخوه الوليد من مكّة إلى المدينة يسألان رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يردّ عليهما أختهما أمّ كلثوم المهاجرة بعد الحديبية، فأبى(صلى الله عليه وآله). وكان منزل عمارة مع أخيه الوليد برحبة الكوفة، وكانت ابنته أمُ أيّوب تحت المغيرة بن شعبة، فلمّا مات تزوّجها زياد بن أبيه، وعمارة هو الذي سعى عند زياد على عمرو بن الحمق (رض)، وكان حاضراً في القصر يوم مقتل مسلم، وهو الذي سعى على المختار عند ابن زياد يوم خروج مسلم. (راجع: وقعة الطفّ:
102).
[120]
إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص(1) بمثل ذلك».(2)
(1) عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهري، المدنيّ، ولد سنة 23 للهجرة يوم مات عمر بن الخطّاب، فيكون عمره يوم كربلاء سنة 61 للهجرة 38 سنة. وهو الذي أطمع أباه في حضور التحكيم، وقال له: ياأبت، اشهدهم فإنك صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأحد الشورى، فاحضر فإنّك أحقّ الناس بالخلافة !!، وهو ممن شهد على حُجر بن عدي، وقد أفشى لابن زياد وصيّة مسلم بن عقيل(عليه السلام) التى أسرَّ إليه بها قبل قتله، فوبّخه ابن زياد قائلاً: لايخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن. وقد أراد ابن الأشعث أن يؤمّره على الكوفة بعد قتل ابن زياد، فجاء رجال بني همدان متقلّدين السيوف، وجاءت نساؤهم يبكين حسيناً(عليه السلام)، وقد بعث إليه المختار أبا عمرة فقتله وجاءه برأسه، ثم قتل ابنه حفص بن عمر،
وقال المختار: والله، لو قتلت ثلاثة أرباع قريش ماوفوا بأنملة من أنامل الحسين(عليه السلام). وبعث برأسيهما إلى المدينة الى محمد بن الحنفية. (راجع: وقعة الطف:
102) و(تاريخ الطبري، 3:
465).
«وروى عبدالله بن شريك العامري قال: كنت أسمع أصحاب عليّ(عليه السلام) إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن علي(عليهما السلام). وذلك قبل أن يُقتل بزمان. وروى سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد للحسين: ياأبا عبدالله، إنّ قبلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك. فقال له الحسين(عليه السلام): إنهم ليسوا بسفهاء، ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لا تأكل من برّ العراق بعدي إلاّ قليلاً.» (الإرشاد: 251; وتهذيب الكمال، 14:
74).
و«عن الأعمش قال: سمعت أبا صالح التمّار يقول:
سمعت حذيفة يقول: سمعت الحسين بن علي يقول: والله ليجتمعن على قتلي طغاة بني
أميّة ويقدمهم عمر بن سعد. ـ وذلك في حياة النبي(صلى الله عليه وآله) ـ فقلت له:
أنبأك بهذا رسول الله ؟ قال: لا. فأتيت النبيّ فأخبرته، فقال: علمي علمه، وعلمه
علمي، وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته.». (دلائل الإمامة:
75). «وعن أصبغ بن نباتة
قال: بينا أمير المؤمنين(عليه السلام) يخطب الناس وهو يقول: سلوني قبل أن تفقدوني،
فوالله لا تسألونني عن شيء مضى ولا عن شيء يكون إلا أنبأتكم به. فقام إليه سعد بن
أبي وقّاص فقال: ياأمير المؤمنين، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة !؟ فقال له:
أما والله لقد سألتني عن مسألة حدّثني خليلي رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنك
ستسألني عنها، ومافي رأسك ولحيتك من شعرة
(2) تأريخ الطبري، 3: 465; وراجع: الإرشاد: 205.
إلاّ وفي أصلها شيطان جالس، وإنّ في بيتك لسخلاً يقتل الحسين إبني ..». (البحار، 44: 256 رقم 5 عن أمالي الصدوق: 115 المجلس 28، حديث رقم
1).
و«روي عن محمد بن سيرين، عن بعض أصحابه قال: قال عليّ لعمر بن سعد: كيف أنت إذا قُمت مقاماً تُخيَّر فيه بين الجنّة والنار فتختار النار.». (تهذيب الكمال، 14:
74).
وكان عمر بن سعد قد تعوّد من قبل على الظلم والقسوة والغشم، و«عن أبي المنذر الكوفي: كان عمر بن سعد بن أبي وقّاص قد اتخذ جعبة، وجعل فيها سياطاً نحواً من خمسين سوطاً، فكتب على السوط عشرة، وعشرين، وثلاثين، إلى خمسمائة على هذا العمل، وكان لسعد بن أبي وقّاص غلام ربيب مثل ولده، فأمره عمر بشيء فعصاه،
فضرب بيده إلى الجعبة فوقع بيده سوط مائة فجلده مائة جلدة، فأقبل الغلام إلى سعد دمه يسيل على عقبيه، فقال: مالك !؟ فأخبره، فقال: اللّهم اقتل عمر، وأرسل دمه على عقبيه. قال فمات الغلام وقتل المختار عمر بن سعد». (تهذيب الكمال 14:
74).
و«عن الفلاس قال: سمعت يحيى بن سعيد القطّان، وحدثنا عن شعبة وسفيان، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حُريث، عن عمر بن سعد. فقام إليه رجل (أي إلى القطّان) فقال: أما تخاف الله تروي عن عمر بن سعد !؟ فبكى وقال: لا أعود أحدّث عنه أبداً !. (تهذيب الكمال، 14:
74).
ومما يؤسف له أنّ بعض الرجاليين السنيّين من أهل التعصب الأعمى يترجم لعمر بن سعد قاتل الحسين(عليه السلام) كما يترجم لمؤمن تقيّ من أهل الجنّة !! هذا الذهبي يقول: «ابن سعد أمير السريّة الذين قاتلوا الحسين، ثم قتله المختار، وكان ذا شجاعة وإقدام، روى له النسائي، قُتل هو وولداه صبراً !» (سير أعلام النبلاء، 4:
350)، ويقول ابن عبدون العجلي: «كان عمر بن سعد يروي عن أبيه أحاديث، وروى عنه الناس، قَتَل الحسين، وهو تابعي ثقة !!». (تهذيب الكمال، 14: 73 رقم
4828)، انظر الى هذا الأحمق الأعمى قلبه كيف يوثّق قاتل سيد شباب أهل الجنّة !!؟
«قال أحمد بن زهير: سألت ابن معين: أعمرُ بن سعد ثقة ؟ فقال: كيف يكون من قتل الحسين ثقة !؟» (ميزان الإعتدال، 3:
198); و(القاموس، 8:
200).
[121]
وفي رواية الدينوري أنّ مسلم بن عقيل(عليه السلام) لمّا وافى الكوفة، نزل في دار المختار، فكانت الشيعة تختلف إليه وهو يقرأ عليهم كتاب الإمام الحسين(عليه السلام)، «ففشا أمره بالكوفة حتى بلغ ذلك النعمان بن بشير أميرها، فقال: «لا أقاتل إلا من
[122]
قاتلني، ولا أثب إلاّ على من وثب عليَّ، ولا آخذ بالقرفة والظنّة، فمن أبدى صفحته ونكث بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم أكن إلاّ وحدي». وكان يحب العافية ويغتنم السلامة.
فكتب مسلم بن سعيد الحضرمي وعُمارة بن عقبة ـ وكانا عيني يزيد بن معاوية ـ إلى يزيد يعلمانه قدوم مسلم بن عقيل الكوفة داعياً للحسين بن عليّ، وأنه قد أفسد قلوب أهلها عليه، فإنْ يكن لك في سلطانك حاجة فبادر إليه من يقوم بأمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإن النعمان رجل ضعيف أو متضاعف، والسلام».(1)
أمّا البلاذري فقد قال في روايته: «فكتب وجوه أهل الكوفة: عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري، ومحمّد بن الأشعث الكندي،(2) وغيرهما إلى يزيد بخبر مسلم
(1) الأخبار الطوال: 231.
(2) محمّد بن الأشعث الكندي: وهو ابن الأشعث بن قيس الذي أُسِرَ في الكفر مرّة وفي الإسلام (منافقاً) مرّة أخرى، وقد اعترض الأشعث على بعض كلام أميرالمؤمنين عليّ(عليه السلام)، فخفض(عليه السلام) إليه بصره ثم قال: «مايُدريك ما عليَّ مما لي !؟ عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين، حائك ابن حائك ! منافق ابن كافر ! والله لقد أسرك الكفر مرّة والإسلام مرّة أخرى ! فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك ! وإنّ امرأً دلَّ على قومه السيف، وساق إليهم الحتف، لحريٌ أن يمقته الأقرب، ولا يأمنه الأبعد !» (نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح: 61 ـ 62 رقم
19)، وقد اشترك هذا الأشعث اللعين في المؤامرة المتعدّدة الأطراف لقتل أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام).
فمحمّد بن الأشعث هذا، أخو جعدة بنت الأشعث التي سمّت الإمام الحسن(عليه السلام)، ومحمد هذا وأخوه قيس ممّن ساهم مساهمة قياديّة فعالة في قتل الإمام الحسين(عليه السلام)، ولمحمّد هذا دور قيادي بارز في قتال مسلم بن عقيل(عليه السلام) في الكوفة.
وروي عن أميرالمؤمنين عليّ(عليه السلام) أنه قال: «إنّ الله لعن أقواماً فسرت اللعنة في أعقابهم، منهم الأشعث ...» (تنقيح المقال، 2:
83).
وكان محمّد بن الأشعث ضعيف النفس يتملّق للسلطان حتى مع مخالفة الأدب فيعرّض نفسه للإهانة ولا يبالي فقد: «وقف الأحنف بن قيس، ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأذن للأحنف، ثم أذن لابن الأشعث، فأسرع فى مشيته حتى تقدّم الأحنف ودخل قبله، فلمّا رآه معاوية غمّه ذلك وأحنقه، فالتفت إليه فقال: والله إني ما أذنت له قبلك ! وأنا أريد أن تدخل قبله، وإنّا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم، ولا يزيد متزيّد في خطوه إلاّ لنقص يجده من نفسه !» (العقدالفريد، 1:
68).
وقال عبيدالله بن زياد في مدحه محمّد بن الأشعث: «مرحباً بمن لايُستَغشُّ ولا يُتَّهم !». (البحار، 44:
352).
كيف لا، فقد كان ابن الأشعث من سواعد ابن زياد في جلّ جرائمه، في مواجهة مسلم(عليه السلام)، وفي مواجهة الحسين(عليه السلام)، وفي مواجهة عبدالله بن عفيف (رض) وجموع الأزد الذين دافعوا عنه، وفي المكر بهاني بن عروة واستقدامه الى ابن زياد، وفي رفع راية أمان ابن زياد الكاذبة لمن جاءه من الناس في الكوفة بعد انتفاضة مسلم(عليه السلام)، ومن قبلُ فى البحث عن حجر بن عدي (أيّام معاوية) لإلقاء القبض عليه !، وغير ذلك من مواطن ومواقف السوء والخزي !
وقيل في موت عدوّ الله هذا ـ وقد كان على رأس ألف فارس في جيش ابن سعد في كربلاء ـ إنّه خاطب الإمام(عليه السلام) يوم عاشوراء قائلاً:
«ياحسين بن فاطمة، أية حرمة لك من رسول الله ليست لغيرك !؟ فتلا الحسين هذه الآية: ( إنَّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) الآية، ثم قال: والله إنّ محمداً لمن آل إبراهيم، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمد، من الرجل ؟ فقيل: محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، فرفع الحسين(عليه السلام) رأسه الى السماء فقال: اللّهم أر محمّد بن الأشعث ذلاً في هذا اليوم لا تُعزّه بعد هذا اليوم أبداً. فعرض له عارض، فخرج من العسكر يتبرّز، فسلّط الله عليه عقرباً فلدغته، فمات بادي العورة. (البحار، 44:
317).
وقيل إنه جاء «فقال: أين الحسين ؟ فقال: ها أنا ذا. قال: أبشر بالنار تردها الساعة. قال: بل أُبشّر برب رحيم وشفيع مطاع، من أنت ؟ قال: أنا محمّد بن الأشعث. قال: اللّهمّ إن كان عبدك كاذباً فخذه الى النار، واجعله اليوم آية لأصحابه !. فما هو إلا أن ثنى عنان فرسه فرمى به، وثبتت رجله في الركاب فضربه حتّى قطعه ووقعت مذاكيره في الأرض ..» (البحار، 45:
31).
لكنّ جلّ المؤرّخين يذكرون أنّ محمّد بن الأشعث بقي الى ما بعد ثورة المختار فهرب منه وانضمّ الى مصعب بن الزبير، وقتل محمد بن الأشعث في المواجهة بين جيش مصعب وجيش المختار. (راجع: الكامل في التاريخ، 3: 13; وتأريخ الطبري، 3: 496; والأخبار الطوال:306; والمعارف:
401).
ويبدو أنّ صاحب قاموس الرجال (التستري) يميل إلى أنّ محمد بن الأشعث لم يشترك في معركة كربلاء في مواجهة الإمام الحسين(عليه السلام)، حيث يقول: «ورد في خبر أنّ محمّد بن الأشعث شرك في دم الحسين(عليه السلام)، إلاّ أنّ الخبر أعمُّ من شهوده حربه !. وذكر أهل السير أنّ أخاه قيس بن الأشعث شهد حربه، وأمّا محمد فإنّما أعطى مسلماً الأمان، ولم يجزه ابن زياد فسلّم (أي رضي وقبل) وأنّ أخاه قيس بن الأشعث قال يوم الطفّ للحسين(عليه السلام): أوَلا تنزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لن يروك إلاّ ماتحبّ ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال له الحسين(عليه السلام): أنت أخو أخيك أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ..» (قاموس الرجال، 9:
123).
ومع أنّ استفادات صاحب القاموس (ره) في هذه المسألة لا تنهض إلى مستوى الدليل على ما يميل إليه، فإنّ مايميل إليه خلاف ظاهر النصوص بل خلاف صريحها.
[123]
[124]
وتقديم الحسين إيّاه إلى الكوفة أمامه، وبما ظهر من ضعف النعمان بن بشير وعجزه ووهن أمره».(1)
تأمّلٌ وملاحظات
1) ـ سكون ما قبل العاصفة في الكوفة
أحدث دخول مسلم بن عقيل(عليه السلام)مدينة الكوفة داعياً للإمام الحسين(عليه السلام)
(1) أنساب الأشراف، 2: 836.
[125]
تحوّلاً كبيراً في ظاهر الحياة السياسية في تلك المدينة بعد أن «انثالت الشيعة على مسلم تبايعه للإمام الحسين(عليه السلام)، وكانت صيغة البيعة الدعوة الى كتاب الله وسنّة رسوله، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسمة الغنائم بين المسلمين بالسوية، وردّ المظالم إلى أهلها، ونصرة أهل البيت(عليهم السلام)، والمسالمة لمن سالموا، والمحاربة لمن حاربوا ..»،(1) حتى كان عدد من بايعه من أهلها على أقل التقادير ثمانية عشر ألفاً، وعلى أعلاها أربعين ألفاً.
وكأنّ الكوفة ـ على أساس هذا التحوّل الظاهري ـ كانت قد سقطت سياسياً وعسكرياً أو تكاد في يد سفير الإمام الحسين(عليه السلام)، ولم يبق دون أن يتحقّق ذلك فعلاً إلاّ أن يأمر مسلم بن عقيل(عليه السلام) بهبوب عاصفة الثورة والتغيير،
لكنّ التزام مسلم(عليه السلام) بحدود صلاحياته التي رسمها الإمام(عليه السلام) حال دون هبوب العاصفة التي تنتزع الكوفة فعلاً من يد الحكم الأموي، فظلّت الكوفة تعيش أيّامها تلك في سكون يُنذر باحتمال هبوب العاصفة في أية لحظة إذا ما أخلّ بذلك السكون سبب غير محتسب.
2) ـ «الغشم» وسيلة خروج الأمويين من مأزقهم الكبير !
فزع الأمويّون وعملاؤهم وجواسيسهم من تجاوب الرأي العام في الكوفة مع مسلم بن عقيل(عليه السلام)، ورأوا أنّ زمام الأمور سيكون بيد الثوّار تماماً إن لم تبادر السلطة الأموية المحلّية في الكوفة إلى اتخاذ التدابير اللازمة الكفيلة بإعادة الوضع الكوفي إلى سابق عهده أو منع تدهوره إلى حدّ سقوط الكوفة فعلاً بيد الثوّار.
ولعلم الأمويين «بالحالة النفسية الكوفية» العامة آنذاك ولخبرتهم الطويلة في التعامل معها، كان رأيهم أنه لا وسيلة لهم للخروج من هذا المأزق الكبير إلاّ
(1) حياة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام)، 2: 345 ـ 346.
[126]
«الغشم» وهو الظلم والغصب، وأنه لابدّ للكوفة من حاكم أمويّ «غشوم» وهو الظالم المبادر بالظلم، الآخذ بالقهر كلَّ ما قدر عليه.
وقد أرادوا من النعمان بن بشير ذي التأريخ الأسود في معاداة أهل البيت(عليهم السلام)أن يكون هو هذا الحاكم الغشوم المنشود، وطلبوا إليه ـ بعد أن أنكروا عليه تراخيه في مواجهة مستجدّات الأحداث ـ(1) أن يبادر إلى تهديد الكوفيين وإرهابهم وقمعهم.
لكنّ الأمويين وعملاءهم في الكوفة أحسّوا بالخيبة حينما خطب النعمان بأهل الكوفة خطبته التي كشف فيها عن ضعفه أو تضاعفه، وجرّأ الكوفيين على مواصلة التعبئة للثورة والتأهب لها، فبادروا ـ وهم على خوف من تسارع الأيام والأحداث ـ إلى رفع تقاريرهم الى السلطة المركزية في الشام، والتي طلبوا فيها من يزيد أن يسارع
إلى إقالة النعمان بن بشير وتعيين حاكم آخر غشوم يأخذ أهل الكوفة بالإحتيال والقوّة والقهر.
3) ـ سرّ التراخي في موقف النعمان بن بشير
للنعمان بن بشير بن سعد الخزرجي ولأبيه بشير تأريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فإنّ أباه بشير بن سعد الخزرجي لحسده سعد بن عبادة على موقعه المرموق في الخزرج خاصة والأنصار عامة، ولبغضه لأهل البيت(عليهم السلام)، كان أوَّل من بادر إلى مبايعة أبي بكر في السقيفة، وظلّ موالياً لحزب السلطة ومعادياً لأهل بيت النبوّة(عليهم السلام)، وابنه النعمان «كان قد ولاه معاوية الكوفة بعد عبدالرحمن بن الحكم،(2) وكان عثمانيّ الهوى، يجاهر ببغض عليّ(عليه السلام)
(1) راجع: حياة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام)، 2: 350.
(2) هرب هو وأخوه (يحيى) يوم الجمل بعد أن شججوا بالجراحات، فأجارهم عصمة بن أبير حولاً. (راجع: تاريخ الطبري، 3:
56).
[127]
ويسيء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصفين، وسعى بإخلاص لتوطيد الحكم لمعاوية، وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابية على بعض المناطق العراقية، ويقول المحقّقون: إنّه كان ناقماً على يزيد، ويتمنّى زوال الملك عنه شريطة أن لا تعود الخلافة إلى آل عليّ(عليهم السلام) ..».(1)
ويُروى أنّ سبب نقمة النعمان على يزيد هو أنّ يزيد كان يبغض الأنصار بغضاً شديداً، ويُغري الشعراء بهجائهم، الأمر الذي أثار حفيظة النعمان بن بشير فطلب من معاوية قطع لسان الشاعر الأخطل النصراني الذي هجاهم، وأجابه معاوية إلى ذلك، لكنّ يزيد أجار الأخطل عند أبيه، فعفا معاوية عن الأخطل بدعوى أنه «لا سبيل إلى ذمّة أبي خالد ـ يعني يزيد»، وكُبت بذلك النعمان، فلم يزل ناقماً على يزيد.(2)
ويروي التأريخ أنّ عمرة بنت النعمان بن بشير كانت زوجة المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي نزل عنده مسلم بن عقيل(عليه السلام)، ويرى بعض المتتبعين أنّ هذه الصلة أيضاً كانت سبباً في تراخي موقف النعمان من الثوار، إضافة إلى السبب الأهم وهو نقمته على يزيد.(3)
ولعلّ بإمكاننا هنا أن نضيف سبباً آخر إلى أسباب تراخي موقف النعمان من الثوار، وهو أنّ النعمان وإن كان أنصارياً إلاّ أنه كان أحد أفراد حركة النفاق، عُرف عنه أنه عثمانيّ الهوى، متفان في حبّ بني أميّة، ومتبّن لسياسة معاوية في قيادة