وفي جواب الإمام(عليه السلام) دلالة قاطعة على أنّ السلطة الأموية كانت قد أرادت بالإمام(عليه السلام) سوءً في المدينة المنوّرة، كأن تفرض عليه الإقامة الجبرية مثلاً أو تغتاله أو تُلقي عليه القبض فتدفع به الى يزيد، ولذا فقد خرج منها خائفاً يترقب، وقد أشرنا من قبل إلى أنّ خوفه على نفسه وإن كان سبباً في خروجه منها إلا أنه يقع في طول السبب الأهم وهو خوفه على ثورته من أن تؤسر في حدود المدينة أو تخمد في مهدها قبل اندلاعها فلا تصلُ إشعاعاتها المباركة الى حيث أراد(عليه السلام)، هذا فضلاً عن حرصه(عليه السلام) ألا تهتك حرمة حرم الرسول(صلى الله عليه وآله) بقتله.
(1) تذكرة الخواص: 214.
[195]
سفر الأشدق الى المدينة المنوّرة وتهديده أهلها
تتحدث روايات تأريخية عديدة عن قدوم عمرو بن سعيد الأشدق الى المدينة المنورة في شهر رمضان سنة ستّين للهجرة، والظاهر أنّ سفر هذا الطاغية الى المدينة كان بعد عزل الوليد بن عتبة عن منصب الولاية عليها في شهر رمضان نفسه، والأظهر أنّ سفر هذا الطاغية الأمويّ الى المدينة كان من مكّة إليها لأنّ جلّ المؤرّخين ذكروا أنه كان والياً على مكّة عند موت معاوية وأضيفت إليه ولاية المدينة بعد عزل الوليد عنها.
و«قدم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق المدينة أميراً، فخرج إلى منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقعد عليه وغمض عينيه، وعليه جُبّة خزّ قرمز، ومُطرَف خزّ قرمز، وعمامة خزّ قرمز، فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجاباً بها،
ففتح عينيه فإذا الناس ينظرون إليه، فقال: مابالكم ياأهل المدينة ترفعون إليَّ أبصاركم، كأنّكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم ! أغرّكم أنّكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم ! أما إنّه لو أُثبتُم بالأولى ما كانت الثانية ! أغرّكم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرنا منّا رفيقاً، قد فَني غضبه، وبَقي حلمُه ! إغتنموا أنفسكم فقد والله ملكناكم بالشباب المقتبل، البعيد الأمل، الطويل الأجل حين فرغ من الصغر، ودخل في الكبر، حليمٌ حديدٌ، ليّن شديد، رقيق كثيف، رفيق عنيفٌ، حين اشتدّ عَظْمهُ، واعتدل جسمه، ورقى الدهرَ ببصره، واستقبله بأسره، فهو إن عضَّ نهس، وإن سطا فرس لايقلقل له الحصى، ولا تُقرع له العصا، ولا يَمشي السُّمَهى. قال: فما بقيَ (أي يزيد) بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر حتى قصمه الله !».(1)
«وعرض في خطابه لابن الزبير فقال: فوالله لنغزونّه، ثمّ لئن دخل الكعبة
(1) العقد الفريد، 4: 132.
[196]
لنحرقنّها عليه، على رغم أنف من رغم ..
ورعف الطاغية على المنبر، فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها دمَه، فقال رجل من خثعم: دم على المنبر في عمامة ! فتنة عمّت وعلا ذكرها وربّ الكعبة !».(1)
وقد أُثر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: «ليرعفنّ على منبري جبّار من جبابرة بني أميّة فيسيل رعافه !».».(2)
وقال ابن عبد ربه الأندلسي: «قدم عمرو بن سعيد أميراً على المدينة والموسم، وعزل الوليد، فلمّا استوى على المنبر رعف، فقال أعرابي: مه ! جاءنا بالدم !. فتلقّاه رجل بعمامته، فقال: مه ! عمَّ الناسَ واللهِ ! ثمّ قام فخطب فناولوه عصا لها شعبتان، فقال: تشعّبَ واللهِ ..».(3)
والملفتُ للإنتباه هنا هو أنّ الأشدق في هذه الخطبة بعد تهديده أهل المدينة وإرعابهم،(4) وتذكيرهم بِتِرَةِ دم عثمان الذي قتله الصحابة،(5) وبعد مدحه يزيد وثنائه عليه وتحذير أهل المدينة من بأسه، نراه لا يتطرّق بشيء إلى قضية الإمام
(1) حياة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) 2: 316 ـ 317; وقد أخذ متن الخطبة عن تأريخ الإسلام للذهبي، 2: 268; وقصة الرعاف عن سمط النجوم العوالي، 3: 57.
(2) مجمع الزوائد، 5: 240.
(3) العقد الفريد، 4: 376.
(4) حيث ضرب عبيدالله بن أبي رافع مائتي سوط، ثم شفع فيه أخوه. (راجع: المعارف:
145); و«ذكر محمّد بن عمر أنّ عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق قدم المدينة في رمضان سنة ستين فدخل عليه أهل المدينة، فدخلوا على رجل عظيم الكبر... فأرسل الى نفر من أهل المدينة فضربهم ضرباً شديداً!» (تأريخ الطبري، 3:
272).
(5) أورد الشيخ الأميني في كتابه الغدير، 9:195 ـ 163; قائمة بأسماء ستين صحابياً شاركوا في قتل عثمان.
[197]
الحسين(عليه السلام) بصورة مباشرة، وإن كان تهديده أهل المدينة كاشفاً عن خوفه من تأييده أهل المدينة للإمام(عليه السلام) خاصة ولكل معارض عامة، ولعلّ سبب عدم تعرّضه مباشرة لقضية الإمام(عليه السلام) هو معرفته بمكانة الإمام(عليه السلام) وقدسيته في قلوب الأمّة، فهو يخشى أن يهيج قلوب الناس على السلطة الأموية بما يدفع الناس عملياً نحو الإلتفاف حول الإمام(عليه السلام)، ثمّ نرى الأشدق يُعلن صراحة عن عزم السلطة على قتل ابن الزبير، ولعلّ علمه بأنّ ابن الزبير لايتمتع بمكانة ومنزلة خاصة في قلوب الناس هو الذي جرّأه على تلك الصراحة، لكننا نجدهذا الجبّار الأموي لايتورّع عن سحق مشاعر الأمّة في إجلالها لحرمة الكعبة حين يهدّد بإحراقها على رغم أنف من رغم ! وفي هذا مؤشر واضح على الدرجة الخطيرة التي بلغها مرض الشلل النفسي والروحي في كيان الأمّة، حيث تسمع مثل هذا التحدّي لمشاعرها في مقدّساتها ولا تثور على مثل هذا الجبّار العنيد !
تنفيذ أمر يزيد باعتقال الإمام(عليه السلام) أو اغتياله في مكّة
قلنا فيما مضى ـ في متابعتنا لحركة السلطة الأموية المركزية في الشام ـ تحت عنوان (التخطيط لاغتيال الإمام(عليه السلام) أو اعتقاله في مكّة): إنّ هذه الخطة من المسلّمات التأريخية التي يكاد يجمع على أصلها المؤرّخون، وقدّمنا هناك مجموعة كافية من الدلائل التأريخية على وجود هذه الخطة التي كانت السبب الصريح لمبادرة الإمام(عليه السلام) الى الخروج من مكّة يوم التروية كما هو المشهور والصحيح، إضافة الى الأسباب الأخرى الداعية الى مبادرة الخروج والتي تقع في طول ذلك السبب الصريح.
ويهمّنا هنا في متابعتنا لحركة السلطة الأموية المحلّية في مكّة المكرّمة أن نتعرّف على حدود مسؤولية هذه السلطة المحلية في تنفيذ خطة السلطة المركزية لاغتيال الإمام(عليه السلام) أو إلقاء القبض عليه في مكة المكرمة.
[198]
إنّ المتأمّل في النصوص الواردة عن الإمام(عليه السلام) نفسه في هذا الصدد يرى أنه(عليه السلام) يُلقي بمسؤولية هذه الخطّة على النظام الأموي ككل وينسب هذه المسؤولية صراحة الى يزيد، كما في قوله لأخيه محمد بن الحنفية (رض): «يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت»،(1) وفي قوله(عليه السلام) للفرزدق «لو لم أعجل لأُخذتُ».(2)
وفي قوله(عليه السلام) لابن الزبير: «لأن أُقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ من أن أُقتل خارجاً منها بشبر،
وأيمُ الله، لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم !».(3)
لكنّ متوناً تأريخية أخرى تصرّح بأن المكلّف بتنفيذ هذه الخطة والإشراف عليها في مكّة هو واليها عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق)، يقول الطريحي في تعليله لعدم أداء الإمام(عليه السلام) مناسك الحج تلك السنة: «..وذلك لأنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولاّه أمر الموسم، وأمّره على الحاج كلّه، وكان قد أوصاه بقبض الحسين سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة. ثمّ إنّه لعنه الله دسّ مع الحجّاج في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الحسين على كلّ حال اتفق ..».(4)
ومن قبله كان السيّد ابن طاووس(قدس سره) قد أشار إلى ذلك قائلاً: «فلمّا كان يوم التروية قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى مكّة في جند كثيف، قد أمره يزيد أن
(1) اللهوف: 128.
(2) الإرشاد: 201.
(3) نور الأبصار: 258.
(4) المنتخب: 243; والبحار، 45: 99.
[199]
يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه، أو يقاتله إن قدر عليه، فخرج الحسين يوم التروية».(1)
ولاشك أنّ تصحيفاً وقع من سهو النسّاخ في بعض نسخ كتاب السيّد ابن طاووس(قدس سره)، حيث ورد فيه إسم (عمر بن سعد بن أبي وقّاص) بدلاً من (عمرو بن سعيد بن العاص)، ذلك لأنّ الثابت والمشهور تأريخياً أنّ عمر بن سعد كان في الكوفة في الأيام التي كان فيها الإمام(عليه السلام) في مكّة.(2)
ويذكر السيّد المقرّم (ره): «أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاج، وولاّه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد ..».(3)
مما مرّ يتضح أنّ والي مكّة آنذاك عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق) كان مأموراً بتنفيذ خطة اغتيال الإمام(عليه السلام) أو إلقاء القبض عليه في مكّة سرّاً أو في مواجهة عسكرية علنية.
لكنّ لنا تحفّظاً على هذه المتون في نقطتين هما:
1) ـ أنّ المستفاد من متون تأريخية أخرى هو أنّ عمرو الأشدق كان في مكّة
(1) اللهوف: 127.
(2) كان عمر بن سعد في الكوفة في الأيّام التي كان فيها مسلم بن عقيل(عليه السلام) منذ كان النعمان بن بشير والياً عليها، لأنّه أحد الذين كتبوا إلى يزيد حول ضعف النعمان ليستبدله بوال غيره، وبقي عمر في الكوفة الى يوم التروية وما بعده لأنه كان في مجلس عبيدالله حينما جيء بمسلم(عليه السلام) أسيراً، وقد أوصى إليه مسلم(عليه السلام) لكنه خان الوصية، فالثابت أنّ عمر كان في القصر ساعة مقتل مسلم(عليه السلام).
(3) مقتل الحسين(عليه السلام) للمقرّم: 165.
[200]
منذ أوّل يوم دخل إليها الإمام الحسين(عليه السلام) ،(1) وقد كان هذا الأشدق والياً على مكّة منذ أيّام معاوية، وعلى هذا جُلّ المؤرّخين. ولم نعثر على نصّ تأريخي يفيد أنّ الأشدق سافر الى الشام ثم عاد الى مكّة في المدّة التي كان الإمام(عليه السلام) فيها بمكّة.
ولذا فإنّ ماورد في نصّ الطريحي أنّ «يزيد أنفذ عمرو» يحمل على معنى أنّ يزيد أمر عمرو، وما ورد في نصّ ابن طاووس أنّ عمرو قدم الى مكّة يوم التروية قد يحمل على عودته من المدينة إلى مكّة بعد أن سافر إليها لإرعاب أهلها، ومع هذا فإنّ من المستبعد جدّاً أن يعود الأشدق إلى مكّة يوم التروية ويتركها أياماً طويلة والإمام(عليه السلام) فيها ووفود الناس تقبل عليه وتلتفّ حوله !
2) ـ ورد في بعض هذه المتون أنّ يزيد أنفذ الأشدق في
عسكر عظيم أو في جند كثيف، لكنّ المستفاد من دلائل تأريخية أخرى هو أن والي مكة الأشدق لم تكن لديه تلك القوّة العسكرية المبالغ فيها، بل كان لديه جماعة من الجند والشرطة قد تكفي لضبط الأمور الإدارية داخل مكّة ولتنظيم حركة الحجيج آنذاك وحراسة السلطان فقط، وسنأتي على ذكر بعض هذه الدلائل التأريخية لاحقاً في متابعتنا لمحاولة عمرو بن سعيد الأشدق منع الإمام(عليه السلام) من الخروج عن مكّة.
ويؤكّد صحة مانراه: أنّ الأشدق لم يحقّق ما أمر به من إلقاء القبض على الإمام(عليه السلام) داخل مكّة، أو الفتك به سرّاً، أو جهراً في مواجهة علنية !
ولعلّ قائلاً يقول: إنّ وجود الحماية الكافية التي كان الإمام(عليه السلام) يتمتّع بها حيثما حلّ في مكّة كان السبب في عجز الأشدق عن تنفيذ ما أُمر به !
ولا يخفى أنّ هذا القول اعتراف ضمني بعدم كفاية القوّة الأموية !
(1) راجع مثلاً: تذكرة الخواص: 214.
[201]
أو يقول: إنّ عمرو بن سعيد الأشدق تحاشى الفتك بالإمام(عليه السلام) في مواجهة علنية لأنه يخشى من تفاقم الأمر على السلطة الأمويّة بسبب تواجد جموع الحجيج العامرة قلوبهم بحبّ الإمام(عليه السلام) وتقديسه !
ولا يخفى أنّ هذا القول صحيح لو لم تكن هناك أوامر صريحة وصارمة من قبل يزيد بضرورة تنفيذ المؤامرة، أو أنّ عمرو الأشدق لم يكن ذلك الطاغية الجبّار الأرعن الذي لم يتورّع أمام أهل المدينة عن إعلان استعداده لحرق الكعبة إذا تحصّن بها ابن الزبير رغم أنف من رغم ! غير مبال بقداسة الكعبة وحرمتها ولا بمشاعر الأمّة !
ويؤيّد مانراه أيضاً ماورد في نفس نصّ ابن طاووس (ره) أنّ يزيد أمر الأشدق بمناجزة الحسين(عليه السلام) (إن هو ناجزه !) أو يقاتله (إن هو قدر عليه !)،
وفي هذا إشعار كاف بخوف يزيد من عدم كفاية القوّة الأموية، فأين إذن ذلك العسكر العظيم والجند الكثيف.
وينبغي التأكيد هنا: أنّ كلّ ما قدّمناه لاينافي كون أنّ هذه الخطة والمؤامرة كانت السبب الصريح في مبادرة الإمام(عليه السلام) الى الخروج من مكّة يوم التروية (قبيل الشروع بمراسم الحج)، وذلك لأنّ أعوان السلطة وعملائها قد يتمكنون من اغتيال الإمام(عليه السلام) أثناء الحجّ حيث يكون هو وأنصاره وجميع الحجيج عُزّلاً من السلاح.
محاولة عمرو الأشدق لمنع الإمام(عليه السلام) من الخروج عن مكّة
يحدّثنا التأريخ عن أسلوبين سلكتهما السلطة الأمويّة المحليّة في مكّة لمنع الإمام(عليه السلام) من الخروج عن مكّة، أحدهما كان أسلوباً سلميّاً عرض فيه عمرو بن سعيد الأشدق الأمان والبر والصلة للإمام(عليه السلام) في رسالة وجهها إليه، والآخر كان
[202]
أسلوباً قمعياً وعسكرياً حيث تصدّت جماعة من جند السلطة للركب الحسيني لمنع حركته في الخروج عن مكّة.
ويبدو أنّ الأسلوب الأوّل أي أسلوب بذل الأمان والصلة كان قبل الأسلوب القمعي، كما هي العادة في مثل هذه الوقائع.
تقول رواية تأريخية أنّ الأشدق لما بلغه عزم الحسين(عليه السلام) على مغادرة مكّة بعث إليه رسالة ورد فيها: «إنّي أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق ! وإني أُعيذك بالله من الشقاق، فإنّك إن كنت خائفاً فأقبل إليَّ فلك عندي الأمان والبرّ والصلة !».(1)
قد يُستفاد من قوله: «بلغني أنك قد عزمت على الشخوص ..» أنّ هذه الرسالة كتبها الأشدق والإمام(عليه السلام) في مكّة قبل شخوصه إلى العراق،
لكنّ قوله الآخر فيها: «فإنك إن كنت خائفاً فأقبل إليّ» مشعر بأنّ الأشدق قد كتبها إلى الإمام(عليه السلام) وقد خرج بالفعل عن مكة.
لكنّ رواية الطبري تصرّح بأنّ الأشدق بعث بهذه الرسالة إلى الإمام(عليه السلام) بعد خروجه باقتراح من عبدالله بن جعفر، وأنّ الذي تولّى أمر كتابة هذه الرسالة بالفعل هو عبدالله بن جعفر ثمّ ختمها الأشدق بختمه، يقول الطبري:
«وقام عبدالله بن جعفر الى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه، وقال: أكتب إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال عمرو بن سعيد: أكتب ماشئت وأتني به حتى أختمه. فكتب عبدالله بن جعفر الكتاب،(2) ثمّ أتى به عمرو بن سعيد،
(1) البداية والنهاية، 8: 165.
(2) إنَّ العارف بشخصية عبدالله بن جعفر (رض) وبسيرته وعلاقته ومعرفته بالإمام الحسين(عليه السلام)، والمتأمل بمحتوى هذا الكتاب، يستبعد كثيراً أن يكون هذا الكتاب من إنشاء عبدالله بن جعفر لما فيه من مضامين الجسارة والجهل بمقام الإمام(عليه السلام).
[203]
فقال له: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنّه أحرى أن تطمئن نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك. ففعل».(1)
ويتابع الطبري روايته قائلاً: « ..فلحقه يحيى وعبدالله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأُمرتُ فيها بأمر أنا ماض له عليَّ كان أو لي ! فقالا له: فما تلك الرؤيا ؟ قال: ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربي !
قال وكان كتاب عمرو بن سعيد
إلى الحسين بن عليّ(عليه السلام):
بسم الله الرحمن الرحيم
«من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي: أمّا بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجّهت إلى العراق، وإني أُعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبدالله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك الله عليّ بذلك شهيد وكفيل ومراع ووكيل. والسلام عليك».(2)
ولا يخفى على ذي بصيرة مافي هذه الرسالة وأشباهها من رسائل السلطة الأموية الظالمة من مفردات متكررة مقصودة، فالخروج على النظام الظالم فيها من الموبقات، ومن الشقاق، وسعيٌ في تفريق كلمة الأمّة والجماعة، وما الى ذلك من أسلحة إعلامية لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والإصلاح !
(1) تأريخ الطبري، 3: 297.
(2) تأريخ الطبري، 3: 297.
[204]
ويذكر الطبريّ أنّ الإمام(عليه السلام) كتب إليه:
« ..أمّا بعدُ: فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عزّوجلّ وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وقد دعوتَ الى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافه في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبري فجُزيت خيراً في الدنيا والآخرة والسلام».(1)
ويبدو أنّ الأشدق لمّا آيس من أسلوب عرض الأمان(2) على الإمام(عليه السلام) لجأ
(1) تأريخ الطبري، 3: 297.
(2) ولاشك أنّ الإمام(عليه السلام) أعرف من سواه بحقيقة ومصداقية الأمان الذي يبذله بنو أميّة، إذ طالما خان معاوية عهد الأمان الذي بذله لمعارضيه كمثل حُجر بن عدي (رض)، إنّ الأمان عند حكّام بني أميّة وولاتهم خدعة من خدع مصائدهم، أفلم يُرسل ابن زياد إلى هاني من يؤمنه ويرغّبه في زيارته ثم اعتقله وعذّبه وقتله !؟ أوَلَمْ يخن ابن زياد الأمان الذي بذله لمسلم(عليه السلام) ممثّله محمّد بن الأشعث !؟
إنّ الأشدق وهو طاغية وجبار من جبابرة بني اميّة لا يختلف عن ابن زياد في قدرته على الغشم والظلم والفتك والغدر، ويحدّثنا التأريخ أنّ ابن زياد أرسل الى الأشدق من يبشّره بقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، والأشدق هو الذي أعلم الناس بالمدينة بقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، وأظهر فرحه لذلك ودعا ليزيد، ولما سمع واعية بني هاشم في دورهم على الحسين(عليه السلام) حين سمعوا النداء بقتله تمثل الأشدق بقول عمرو بن معدي كرب:
عجّت نساء بني زياد عجّة
كعجيج نسوتنا غداة الأرنبِ
كعجيج نسوتنا غداة الأرنبِ
كعجيج نسوتنا غداة الأرنبِ
465).
وروي أنه لما انهزم الناس في وقعة مرج راهط قال له عبيدالله بن زياد: إرتدف خلفي. فارتدف، فأراد عمرو بن سعيد أن يقتله، فقال له عبيدالله بن زياد: ألا تكفّ يالطيم الشيطان !!؟ (العقد الفريد، 4:
397).
وقد ذاق هذا الأشدق في نهاية مطاف حياته مرارة الغدر الأموي نفسه بعدما بذل له عبدالملك بن مروان (الأمان الأموي !) حيث قتله بيده ذبحاً (راجع: قاموس الرجال، 8:
103)، وقد روى الذهبي تفصيل قصة قتله أنه: «استخلفه عبدالملك على دمشق لمّا سار ليملك العراق، فتوثّب عمرو على دمشق وبايعوه، فلمّا توطّدت العراق لعبدالملك وقُتل مصعب، رجع وحاصر عمرواً بدمشق، وأعطاه أماناً مؤكّداً !! فاغترّ به عمرو، ثمّ بعد أيام غدر به وقتله. (سير أعلام النبلاء، 3:
449). [205]إلى ما تعوّد عليه من الأساليب القمعية في المواجهة، فقد روى الطبري عن عقبة بن سمعان قال: «لمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه رسلُ عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف، أين تذهب !؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط، ثمّ إنّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قويّاً، ومضى الحسين(عليه السلام) على وجهه، فنادوه: ياحسين، ألا تتقي الله، تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة !؟ فتأوّل حسين قول الله عزّوجلّ (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون)».(1)
وتقول رواية الدينوري: «ولما خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد ابن العاص في جماعة من الجند، فقال: إنّ الأمير يأمرك بالإنصراف، فانصرف وإلاّ منعتك !
فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.
وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل الى صاحب شُرَطهِ يأمره بالإنصراف !».(2)
والمتأمّل في هذين النصّين يستشعر بوضوح أنّ القوّة العسكرية الأموية لم
(1) تأريخ الطبري، 3: 296.
(2) الأخبار الطوال: 244.
[206]
تكن كافية لمنع الإمام(عليه السلام) من الخروج، والمفروض في مثل هكذا مواجهة تقع خارج حدود المدينة مع الركب الحسيني الكبير نسبياً حتى ذلك الوقت) أن يستعمل الأشدق كلّ ما لديه من قوّة في مواجهة الإمام(عليه السلام) لمنعه من الخروج، غير أنّ الحال لم تعدُ أن تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط ثمّ خاف الأشدق من تفاقم الأمر ! وأمر (رسله) أو (جماعة من جنده) بالإنصراف خائبين.
[207]
الفصل الثالث
حركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية
[208]
سفـيــدصفحه 208
[209]
سجّل لنا التأريخ في المدّة التي قضاها الإمام الحسين(عليه السلام) في مكّة المكرّمة وقائع كثيرة وصوراً مهمة لحركة الأمّة أفراداً وجماعات على صعيد مواقفهم التي اتخذوها إزاء قيام الإمام الحسين(عليه السلام) ـ سلباً أو إيجاباً ـ في أهمّ مدن العالم الإسلامي التي يمكن آنذاك فيها لحركة المعارضة إذا اشتدّت شوكتها أن تؤثّر في تغيير مجرى حركة الأحداث أو ترسم للعالم الإسلامي مستقبلاً آخر.
وعدا دمشق ومدن الشام الأخرى التي كانت مغلقة سياسياً وإعلامياً ـ بشكل عام ـ لصالح الحكم الأمويّ، فإنّ أهمّ مدن قلب العالم الإسلامي التي يمكن أن تتحرك فيها المعارضة السياسية آنذاك بصورة خطيرة هي الكوفة والبصرة والمدينة ومكّة.
وفي متابعتنا هنا لحركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية نرى من الأفضل ـ رعاية لترتب بدء التحرك تأريخياً ـ أن نبدأ أوّلاً في قراءة حركة الأمّة في الحجاز (في أهمّ مدنه: مكة والمدينة)، ثمّ نتابع هذه الحركة في الكوفة، ثمّ في البصرة.
[210]
حركّة الأمّة في الحجاز
سجّل لنا التأريخ على صعيد حركة الأمة في الحجاز مجموعة من حوادث ووقائع وصُوَر في أهمّ حاضرتين فيه آنذاك وهما مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، نقرأها هنا على النظم التالي:
إحتفاء الناس في مكّة المكرّمة بالإمام(عليه السلام)
استقبل الناس(1) في مكّة المكرّمة خبر قدوم الإمام الحسين(عليه السلام) استقبال البشرى، واحتفوا به حفاوة بالغة، فكانوا يفدون ويختلفون إليه ويحوطونه دون غيره، إذ كان(عليه السلام) يومذاك بقيّة الرسول(صلى الله عليه وآله) في هذه الأمّة، وسيّد العرب والحجاز خاصة وسيّد المسلمين والعالم الإسلاميّ عامة، فما كان ثَمَّ مَن ينازعه يومذاك من الناس سموّ مرتبته وعلوّ مقامه وشرف منزلته في قلوب المسلمين.