رسالة عمرة بنت عبدالرحمن
وروى ابن عساكر أيضاً قائلاً: «وكتبت إليه عمرة بنت عبدالرحمّن، تعظّم عليه ما يريد أن يصنع ]من إجابة أهل الكوفة[، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة! وتخبره أنّه إنّما يُساق الى مصرعه وتقول: اشهد لحدّثتني عائشة أنها سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: يُقتل حسين بأرض بابل! . فلمّا قرأ ]الحسين(عليه السلام)[ كتابها قال: فلابُدَّ لي إذن من مصرعي! ومضى.».(1)
إشارة:
عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد الأنصارية المدنية، لم يرد لها ذكر في كتبنا الرجالية ولا التراجم، لكنّ كتب السنّة ترجمت لها بإطراء وثناء عليها! فها هو الذهبي يقول فيها: «الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها... كانت عالمة، فقيهة، حجّة، كثيرة العلم، وحديثها كثير في دواوين الإسلام، توفيت عام ثمان وتسعين.».(2)
(1) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الامام الحسين(عليه السلام) / تحقيق المحمودي): 202 رقم 255; وانظر: تهذيب الكمال 4:49; وتاريخ الاسلام (حوادث عام
60) ص9; وتهذيب تاريخ دمشق لابن منظور 7:140.
(2) سير أعلام النبلاء 4:509; وانظر: تهذيب التهذيب 12:466.
[325]
ويُغنينا قول الذهبي فيها إنها تربية عائشة وتلميذتها عن كلّ تعليق!
ذلك لأنّ كراهية عائشة لأهل البيت(عليهم السلام) وحقدها عليهم أمر أوضح من الشمس في رابعة النهار، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء وظغن غلا في صدرها كمرجل القين!»،(1) ولم تتورّع عائشة عن إعلان هذه الكراهية في مواقف كثيرة، وهل ينسى منعها دفن الإمام الحسن(عليه السلام) إلى جوار جدّه(صلى الله عليه وآله)وقولها: «تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبّ!»(2) وقولها: «نحّوا ابنكم عن بيتي!».(3)
فإذا كان هذا حال الأستاذة فما حال مريدتها وربيبتها!؟ وهل يُتوقَّع منها غير أن تأمر الإمام(عليه السلام) بإطاعة يزيد وعدم شقّ عصا الجماعة! والقعود عن أيّ قيام في وجه الطاغوت!
حركة الأمّة في الكوفة
كان الكوفيون يكاتبون الإمام الحسين(عليه السلام) ـ بعد استشهاد الامام الحسن(عليه السلام) ـ باذلين له الطاعة ويدعونه الى القيام والنهضة ضد معاوية، فقد روى البلاذري أنّه: «لمّا توفي الحسن بن عليّ اجتمعت الشيعة، ومعهم بنو جعدة بن هبيرة بن أبي
(1) نهج البلاغة: 218 الخطبة 156 / ويقول ابن أبي الحديد: «.. ثمّ ماتت فاطمة فجاء نساء رسول الله(صلى الله عليه وآله) كُلهنَّ إلى بني هاشم في العزاء إلاّ عائشة فإنّها لم تأتِ، وأظهرت مرضاً! ونُقل إلى عليّ(عليه السلام)عنها كلام يدلّ على السرور!» (راجع: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 9:
198).
(2) أمالي الطوسي:161 المجلس 6 حديث رقم 267 / 19; وعنه البحار 44:153.
(3) الكافي 1:302; وعنه البحار 44:143.
[326]
وهب المخزومي،(1) وأمُّ جعدة أمّ هاني بنت أبي طالب، في دار سليمان بن صرد، وكتبوا إلى الحسين كتاباً بالتعزية، وقالوا في كتابهم: إنّ الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك. وكتب إليه بنو جعدة يخبرونه بحسن رأي
(1) جعدة بن هبيرة المخزومي: هو ابن أخت أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام)، وأمّه أمُّ هاني بنت أبي طالب(عليه السلام)، وُلد جعدة في عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فهو من الصحابة، ونزل الكوفة، وكان فارساً شجاعاً، شريفاً فقيهاً، وكان والياً على خراسان من قبل أمير المؤمنين(عليه السلام). وقال له عتبة بن أبي سفيان: إنّما لك هذه الشدّة في الحرب من قبل خالك ـ يعني عليّاً(عليه السلام) ـ فقال له جعدة: لو كان لك خال مثل خالي لنسيتَ أباك !
وله رواية عن أمّه حول قصة الهجرة ومبيت أمير المؤمنين(عليه السلام) في فراش الرسول(صلى الله عليه وآله)، ويروي بعض قضايا يوم شهادة عليّ(عليه السلام).
قال عتبة بن أبي سفيان في يوم من أيام صفين: إنّي لاق بالغداة جعدة بن هبيرة! فقال له معاوية: بخ بخ! قومه بنو مخزوم، وأمّه أمّ هاني بنت أبي طالب، وأبوه هبيرة بن أبي وهب، كفؤ كريم... (راجع: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 18:308 ومستدركات علم الرجال 2:
130).
وكان لجعدة في قريش شرف عظيم، وكان له لسان، وكان من أحبّ الناس إلى عليّ(عليه السلام). (راجع: وقعة صفين:
463).
ويبدو من ظاهر خبر الإجتماع في دار سليمان بن صرد أنّ جعدة أيّام النهضة الحسينية لم يكن في الأحياء، بدليل الإشارة الى أبنائه فقط «ومعهم بنو جعدة بن هبيرة...».
أمّا أبناؤه، فيحيى (وله رواية عن الحسين(عليه السلام) وهو من رواة الغدير)، وعبدالله (وهو الذي فتح القهندر وكثيراً من خراسان)، وقيل إنّ له ولداً آخر اسمه عمر. (راجع: مستدركات علم الرجال 2:131 و8:193 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18:
308).
ولم نعثر على خبر تأريخي يحدّثنا عن بني جعدة وما حلّ بهم في الفترة ما بين انعقاد هذا الاجتماع في دار سليمان بن صرد إلى يوم عاشوراء يوم مقتل الإمام(عليه السلام)، وبهذا تبقى أسئلة كثيرة تتدافع في صدر المتتبّع حولهم بلاجواب.
[327]
أهل الكوفة فيه، وحبّهم لقدومه، وتطلّعهم إليه، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه من يُرضى هديه ويُطمأنّ إلى قوله، ويُعرف نجدته وبأسه، فأفضَوا إليهم ماهم عليه من شنآن ابن أبي سفيان والبراءة منه، ويسألونه الكتاب إليهم برأيه...»،(1) وكذلك نقل الشيخ المفيد (ره) عن الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير أنّهم قالوا: «لمّا مات الحسن(عليه السلام) تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين(عليه السلام) في خلع معاوية، والبيعة له...»(2) وكان الإمام الحسين(عليه السلام) في كلّ ذلك يمتنع عليهم، ويذكر لهم أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لايجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك.
لكنّ الثابت ـ من قرائن تأريخية عديدة ـ أنّ نبأ موت معاوية وصل الى أهل الكوفة بعد وصول الامام الحسين(عليه السلام) إلى مكّة المكرّمة أو وهو في الطريق إليها، ومعنى هذا: أنه لم تصل الى الامام(عليه السلام) وهو في المدينة ـ في غضون أيّام إعلانه رفض البيعة ليزيد إلى حين خروجه عنها ـ أيّة رسالة من أهل الكوفة تُنبيء عن علمهم بموت معاوية، وعن دعوتهم الإمام(عليه السلام) إليهم، ولا من أهل مكّة أيضاً، ولا من سواهما.(3)
(1) أنساب الاشراف 3:151 ـ 152 حديث 13.
(2) الإرشاد: 200.
(3) هناك ثلاث روايات يوحي ظاهرها بأنّ الإمام(عليه السلام) كانت قد وصلت إليه رسائل في المدينة في الأيام التي أعلن فيها عن رفضه البيعة ليزيد بعد وصول نبأ موت معاوية، الأولى: رواية ابن عساكر للقاء عبدالله بن مطيع العدويّ مع الإمام(عليه السلام) في الطريق من المدينة الى مكّة، حيث ذكر ابن عساكر في جملة اعتراضية أنّ الإمام(عليه السلام) ذكر للعدويّ فيها أنه كتب إليه شيعته بها «أي مكّة!» (راجع: تاريخ ابن عساكر «ترجمة الامام الحسين(عليه السلام)» / تحقيق المحمودي: 222 حديث رقم 203 / مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ـ قم)، والثانية: رواية ابن عبد ربّه الأندلسي في (العقد الفريد 4:352 / دار إحياء التراث العربي)، وهي رواية خلط فيها الراوي بين اللقاء الأوّل لعبدالله بن مطيع العدويّ مع الإمام(عليه السلام)
في الطريق من المدينة الى مكة، وبين لقائهما الثاني بعد خروجه(عليه السلام) من مكّة إلى العراق! مما يوهم القاريء أنّ الإمام(عليه السلام) قبل وصوله الى مكّة كان قد أخبر العدويّ عن رسائل كثيرة وصلت إليه من أهل الكوفة!، والثالثة: هي الروايةالتي حكاها صاحب كتاب (أسرار الشهادة:
367) عن بعض الثقات الأدباء الشعراء من تلامذته العرب ـ حسب قوله! ـ وأنّ هذا الثقة قد ظفر بها في مجموعة تنسب إلى فاضل أديب مقريء! فنقلها عنه! وفيها يقول الراوي: «خرجت بكتاب من أهل الكوفة الى الحسين(عليه السلام)، وهو يومئذ بالمدينة، فأتيته فقرأه وعرف معناه، فقال أنظرني إلى ثلاثة ايّام، فبقيت في المدينة، ثمّ تبعته الى أن صار عزمه بالتوجّه الى العراق...»، ولقد نوقشت هذه الروايات الثلاث نقاشاً تحقيقياً في الجزء الأوّل من هذه الدراسة (الركب الحسيني من المدينة الى المدينة) أثبت عدم جدارتها للإعتماد على ما ورد فيها بهذا الصدد، فراجع الجزء الأوّل 423 ـ 426 / عنوان: هل وصلت إلى الامام(عليه السلام) رسائل قُبيل رحيله عن المدينة!؟
[328]
أوّل اجتماع للشيعة في الكوفة بعد هلاك معاوية
روى الطبري قائلاً: «فلمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجف أهل العراق بيزيد، وقالوا: قد امتنع حسينٌ وابن الزبير ولحقا بمكّة، فكتب أهل الكوفة الى حسين...»، وروى ايضاً عن أبي مخنف، عن الحجّاج بن عليّ، عن محمّد بن بشر الهمداني(1) قال: «اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد،(2) فذكرنا هلاك
(1) محمد بن بشر الهمداني: كان في الكوفة في جمع قرأ عليهم مسلم كتاب الإمام الحسين(عليه السلام)، ولم يقل شيئاً!
وقع في طريق (سند) الشيخ الصدوق (ره) في كتاب التوحيد، باب معنى الحجزة عن أبي الجارود، عنه، عن محمّد بن الحنفية، عن أمير المؤمنين(عليه السلام).
وفي سند غيبة الطوسي ص277، عن أبي الجارود، عن محمد بن بشر، عن أمير المؤمنين(عليه السلام). (راجع: مستدركات علم الرجال 6:
480)
وروى أبو مخنف، عن الحجّاج بن علي، عن محمّد بن بشر ـ كما في تأريخ الطبري ـ قصة اجتماع الشيعة في منزل سليمان بن صُرَد لدعوة الحسين(عليه السلام) إليهم في الكوفة، وإرساله(عليه السلام)مسلماً(عليه السلام)، وأنّ مسلماً(عليه السلام) قرأ كتاب الحسين(عليه السلام) إليهم، فقام عابس الشاكري ثم حبيب بن مظاهر ثم سعيد بن عبدالله الحنفي، وأخبروا عن أنفسهم بالجدّ في الجهاد معهم.
وقال الحجّاج: فقلتُ لمحمّد: فهل كان منك قول؟ فقال: إن كنتُ لأحبُّ أن يُعزَّ الله أصحابي بالظفر،
وماكنت لأُحبَّ أن أُقتلَ، وكرهتُ أن أكذب!! (راجع: الطبري 5:352 وقاموس الرجال 9:
134).
(2) سليمان بن صُرد الخزاعي: من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليّ والحسن والحسين(عليهم السلام) وكان اسمه في الجاهلية يساراً فسمّاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) سليمان، وكان خيّراً فاضلاً، سكن الكوفة وابتنى بها داراً في خزاعة، وكان نزوله بها في أوّل ما نزلها المسلمون، وكان له سنٌّ عالية وشرف، وقدر كلمة في قومه، شهد مع عليّ صفين، وهو الذي قتل حوشباً ذا ظليم بصفين مبارزة ثمّ اختلط الناس يومئذ (راجع: الاستيعاب: 3:210 رقم
1061).
وروى نصر بن مزاحم في كتابه عن عبدالرحمن بن عبيد بن أبي الكنود: أنّ سليمان بن صرد الخزاعي دخل على عليّ بن ابي طالب بعد رجعته من البصرة، فعاتبه وعذله وقال له: ارتبتَ وتربّصتَ وراوغت! وقد كنت من أوثق الناس في نفسي، وأسرعهم ـ فيما أظنّ ـ الى نصرتي، فما قعد بك عن أهل بيت نبيّك وما زهّدك في نصرهم!؟
فقال: يا أميرالمؤمنين، لا تردنّ الأمور على أعقابها، ولا تؤنّبني بما مضى منها: واستبقِ مودّتي يخلص لك نصيحتي، وقد بقيت أمورٌ تعرف فيها وليّك من عدوّك. فسكت عنه، وجلس سليمان قليلاً، ثمَّ نهض فخرج الى الحسن بن عليّ وهو قاعد في المسجد، فقال: ألا أُعجبّك من أمير المؤمنين وما لقيتُ منه من التبكيت والتوبيخ؟ فقال له الحسن: إنّما يُعاتب من تُرجى مودّته ونصيحته. فقال: إنه بقيت أمور سيستوسق فيها القنا ويُنتضى فيها السيوف، ويُحتاج فيها إلى أشباهي، فلاتستغشّوا عتبي، ولاتتّهموا نصيحتي.
فقال له الحسن: رحمك الله، ما أنت عندنا بالظنين.» (وقعة صفين: 6 ـ
7).
وراوي هذه القصة عبدالرحمن بن عبيد ـ أو عبد ـ بن أبي الكنود: مجهول الحال (راجع: تنقيح المقال 2:
145)، وذكره رجاليون آخرون دون التعرض له بمدح أو بذم (راجع: قاموس الرجال 6:125 ومعجم رجال الحديث 9:335 و 337 رقم 6392 و 6400 ومستدركات علم الرجال 4:
407).
وقد روى ابن عبد ربه رواية نفس هذا العتاب بتفاوت وإجمال مرسلة «وهي رواية عاميّة» (راجع: العقد الفريد 4:
330).
لكنّ المامقاني أنكر تخلّف سليمان يوم الجمل، واستدلّ بقول ابن الأثير انه شهد مع عليّ(عليه السلام)مشاهده كلّها (راجع: تنقيح المقال 2:
63)، وقد قال ابن سعد أيضاً أنه شهد الجمل وصفين مع عليّ(عليه السلام) (راجع: الطبقات الكبرى 4:
292).
لكنّ التستري ردَّ إنكار المامقاني معتمداً على رواية كتاب وقعة صفين. (قاموس الرجال: 5:
279).
كما ذهب المامقاني إلى أنّ ابن زياد لمّا أطلع على مكاتبة أهل الكوفة للحسين(عليه السلام) حبس أربعة آلاف وخمسمائة من أصحاب أمير المؤمنين وأبطاله، منهم سليمان بن صرد، وابراهيم الأشتر، وصعصعة، ولم يكن لهم سبيل الى نصرة الحسين(عليه السلام) (راجع: تنقيح المقال 2:
63).
ونقل القرشي أيضاً عن كتاب (الدرّ المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء 1:190 / مخطوط) أنّ سليمان بن صرد الخزاعي، والمختار، وأربعمائة من أعيان ووجوه الكوفة كانوا من بين المعتقلين في سجون ابن زياد (راجع: حياة الامام الحسين بن علي(عليهما السلام) 2:
416).
ويُمكن أن يُردَّ على ذلك: أنّ الأمر إذا كان كذلك،
ولم يكن له ذنب وتقصير في تخلّفه عن نصرة الإمام الحسين(عليه السلام)، ففيم كانت توبته ولماذا كانت قيادته لحركة التوّابين!؟
إنّ المتأمّل في خطب سليمان ـ في جموع التوّابين ـ لايجد أيّة إشارة إلى أنه كان معتقلاً! بل يجد سليمان يدين نفسه وأصحابه بالتواني والتقصير والعجز والمداهنة والتربّص! ها هو يقول: «.. إنّا كُنّا نمدُّ أعناقنا إلى قدوم آل بيت نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله) نمنيّهم النصر، ونحثّهم على القدوم، فلمّا قدموا ونَينا وعجزنا وأدهنّا وتربّصنا حتى قُتل ولد نبيّنا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه...» (الكامل في التأريخ 3:333 وانظر: تأريخ الطبري 3:
391).
وقد يُردُّ على ذلك بأنّ كتب التواريخ والتراجم السنيّة هي التي اتهمت سليمان بن صرد بالتقصير والشك والمداهنة والعجز،
فإضافة إلى ما أورده الطبري وابن الأثير، يقول الذهبي: «قال ابن عبدالبر: كان ممّن كاتب الحسين ليبايعه، فلمّا عجز عن نصره، ندم وحارب..» (سير اعلام النبلاء 3:
395).
وقال ابن سعد: «وكان فيمن كتب الى الحسين(عليه السلام) يسأله القدوم عليهم الكوفة، فلمّا قدم الحسين الكوفة اعتزله فلم يكن معه، فلمّا قتل الحسين ندم من خذله وتابوا من خذلانه..» (الطبقات الكبرى 6:
25)، وقال أيضاً: «وكان فيمن كتب الى الحسين بن عليّ أن يقدم الكوفه، فلما قدمها أمسك عنه ولم يقاتل معه، كان كثير الشكّ والوقوف، فلما قُتل الحسين ندم..» (الطبقات الكبرى 4:292 وانظر الوافي بالوفيّات 15:
393).
لقد كانت ثورة التوّابين ردَّ فعل خالصاً لثورة الإمام الحسين(عليه السلام)، إذ لم يكن لغير ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) اثرٌ فيها، وقد انبعثت نتيجة الشعور بالإثم والندم والحسرة على عدم نصرة الامام الحسين(عليه السلام)، وقد رأى الثوّار فيها أنه لا يغسل عارهم والإثم عنهم إلاّ قتل من قتل الإمام(عليه السلام)
أو القتل في هذا الأمر، وكان زعيم هذه الثورة سليمان بن صرد الخزاعي، وقد ابتدأ الإعداد لهذه الثورة اجتماعياً وعسكرياً بعد عاشوراء سنة إحدى وستين للهجرة، وكان هذا الإعداد سريّاً حتى مات يزيد، فخرجوا بعد موته من السرّ الى العلن، فتوجهوا سنة خمس وستين للهجرة الى قبر الامام الحسين(عليه السلام)... ثمّ توجّهوا الى الشام والتحموا مع كتائب الجيش الأمويّ في منطقة (عين الوردة) في وقعة دمويّة رهيبة هزّت نتائجها الفادحة اركان الحكم الأموي هزّاً عنيفاً (راجع: الركب الحسينى من المدينة الى المدينة / الجزء الأوّل: 179 وتاريخ الطبري 3:
408).
وقد قُتل التوّابون جميعاً في هذه المعركة التي دامت ثمانية ايام في مواجهة مائة ألف فارس كانوا مقدّمة للجيش الأموي،
وقد نقل المامقاني أنّ سليمان رأى في المنام في الليلة الثامنة خديجة الكبرى وفاطمة الزهراء والحسن والحسين(عليهم السلام) فقالت له خديجة: شكر الله سعيك يا سليمان ولإخوانك، فإنكم معنا يوم القيامة. وقالوا له: أبشر فأنت عندنا غداً عند الزوال، ثم ناولته إناءً فيه ماء وقالت: أفضه على جسدك! فانتبه فرأى إناءً عند رأسه فيه ماء، فأفاضه على جسده، وترك الإناء الى جنبه فالتحمت جراحاته، واشتغل يلبس ثيابه وغاب القدح فكبّر، فانتبه اصحابه من تكبيره، وسألوه عن السبب فبيّن لهم، فلمّا أصبحوا قاتلوا جيش ابن زياد حتى قُتلوا عن آخرهم... (راجع: تنقيح المقال 2:
63).
وقال المامقاني في ختام كلامه: «وقد تلخّص من جميع ما سطّرناه أنّ سليمان بن صُرَد شيعي مخلص في الولاء،
وأنا اعتبره ثقة مقبول الرواية، واسأل الله تعالى أن يحشرني معه ومع أصحابه بجاه الحسين(عليه السلام)». (تنقيح المقال 2:
63).
ونختم هذا المقام بهذه الرواية:
روى نصر بن مزاحم المنقري في كتابه عن عون بن أبي جُحيفة قال:
«أتى سليمان بن صُرد عليّاً أمير المؤمنين بعد الصحيفة ووجهه مضروب بالسيف، فلمّا نظر إليه عليٌّ قال: فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا، فأنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدّل. فقال: يا أمير المؤمنين، أما لو وجدتَ أعواناً ما كتبت هذه الصحيفة أبداً! أما والله لقد مشيتَ في الناس ليعودوا الى أمرهم الأوّل فما وجدتَ أحداً عنده خيرٌ إلاّ قليلاً!» (وقعة صفين:
519).
[329]
[330]
[331]
[332]
معاوية فحمدنا الله عليه.
فقال لنا سليمان بن صرد: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج الى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!
قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه!
قال: فاكتبوا إليه.
فكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم.
لحسين بن عليّ، من سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة،(1) ورفاعة بن
(1) المسيّب بن نجبة: كان من التابعين الكبار ورؤسائهم وزهّادهم، وكان من رؤساء الجماعة الذين خفّوا لنصرة عليّ(عليه السلام) من الكوفة الى البصرة، ووجهّه الإمام عليّ(عليه السلام) مع بشر كثير من قومه لمقاومة غارة عبدالله بن مسعدة الفزاري. وكان قائد التوّابين بعد سليمان بن صُرد، وقتل معهم سنة 65 هـ (راجع: رجال الكشّي: 69 وتاريخ الطبري 4:448 و5:
135).
[333]
شدّاد،(1) وحبيب بن مظاهر،(2) وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.
سلام عليك. فإنّا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو.
أمّا بعدُ: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها وغصبها فيأها وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى
(1) رفاعة بن شدّاد: كان قاضياً من قبل أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) على الأهواز، وكان على جناح عسكره يوم صفّين، وروي أنّه لمّا ورد الإمام الحسين(عليه السلام) الى كربلاء دعا بدواة وبيضاء وكتب الى أشراف الكوفة منهم رفاعه بن شدّاد.
وذهب المامقاني الى أنّ رفاعة كان يوم الطفّ محبوساً أو معتقلاً في سجن ابن زياد، فلم يستطع الخروج الى الحسين(عليه السلام)، ولم يسمع واعيته.
وهو من الذين وفّقوا مع مالك الأشتر لتجهيز أبي ذرّ وتكفينه ودفنه. (راجع: مستدركات علم الرجال 3:
402).
(2) حبيب بن مُظهَّر (مظاهر)، أبوالقاسم، الأسدي الفقعسي: كان صحابياً رأى النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وكان من أصحاب عليّ والحسن والحسين(عليهم السلام)، وصحب عليّاً في حروبه كلّها، وكان من خاصّته وحملة علومه،
وكان عنده علم المنايا والبلايا، وهو قرين ميثم التمّار ورشيد الهجري في غاية الجلالة والنبالة، وكان حبيب (رض) ممن كاتب الحسين(عليه السلام). وكان حبيب ومسلم بن عوسجة يأخذان البيعة للحسين(عليه السلام) في الكوفة، حتى إذا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة وخذّل أهلها عن مسلم وفّر أنصاره حبسهما عشائرهما وأخفياهما، فلمّا ورد الحسين كربلا خرجا إليه مختفين يسيران الليل ويكمنان النهار حتى وصلا إليه. وذكر الطبري وغيره (المفيد في الإرشاد والدينوري في الأخبار الطوال) أنّ حبيباً كان على ميسرة الحسين(عليه السلام). وروى أبومخنف أنه لمّا قُتل حبيب بن مظهّر هدَّ ذلك الحسين(عليه السلام) وقال: «عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي». (راجع: إبصار العين: 100 ـ 106 ومستدركات علم الرجال 2:
302).
[334]
شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود.
إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولانخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام ورحمة الله عليك.».(1)
رسل الكوفة إلى الإمام(عليه السلام)
«ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبدالله بن مسمع الهمداني،(2) وعبدالله بن وال،(3)
(1) تأريخ الطبري 3:277، والإرشاد: 203، ووقعة الطفّ: 92، كما رواها السيد ابن طاووس في اللهوف: 104 بتفاوت، وروى البلاذري هذه الرسالة ايضاً بتفاوت في أنساب الأشراف 3:369 / دار الفكر ـ بيروت.
(2) عبدالله بن مسمع الهمداني: لم يرد له ذكر في الكتب الرجالية ولا في التواريخ سوى ما ذكره الطبري و الشيخ المفيد (ره) أنه وعبدالله بن وال حملا كتاب أهل الكوفة إلى الإمام(عليه السلام)، وذكره ابن كثير: «عبدالله بن سبع الهمداني» (البداية والنهاية 7:
154).
(3) عبدالله بن وال (وأل): كوفيٌّ من بني تميم، وقيل من آل بكر بن وائل، من وجوه الشيعة بالكوفة، ومن خيار أصحاب عليّ(عليه السلام) (أنظر: الغارات:226 / الهامش).
وقيل هو عبدالله بن وأل التيمي من بني تيم اللاّت بن ثعلبة. (البحار 45:
355).
وهو الذي كان يقول: أللّهمّ إنّي لعليّ وليٌّ، ومن ابن عفّان بريء (الغارات:
364).
وهو الذي بعثه عليٌّ(عليه السلام) بكتابه إلى زياد بن خصفة ـ في قصة بني ناجيه ـ يقول هو: فأخذت الكتاب منه ـ وخرجت من عنده ـ وأنا يومئذ شابّ حدث، فمضيت به غير بعيد، فرجعت إليه فقلتُ: يا أمير المؤمنين ألا أمضي مع زياد بن خصفة إلى عدوّك إذا دفعتُ إليه الكتاب؟ فقال: يا ابن أخي، إفعل، فو الله إنّي لأرجو أن تكون من أعواني على الحقّ، وأنصاري على القوم الظالمين. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا والله كذلك، ومن أولئك، وأنا واللّه حيث تحبّ!
قال ابن وأل: فواللّه ما أُحبّ أنّ لي بمقالة عليّ(عليه السلام) تلك حُمر النعم!» (الغارات:
229)، وحمر النعم: الإبل الحمراء، وهي أنفس الأموال يومئذ، والمثل هذا يُضرب في كلّ نفيس.
وكان عبدالله بن وأل من أمراء التوّابين، قال ابن الأثير يصف لقطة من لقطات معركة التوّابين ضد الجيش الأموي: «فلمّا كان المساء تولّى قتالهم أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله فوصل ابن محرز الى ابن وأل وهو يتلو (ولاتحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً) الآية، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه فضرب يده فأبانها ثم تنحّى عنه وقال: إنّي أظنّك وددت أنّك عند أهلك!
قال ابن وأل: بئسما ظننت، والله ما أحبّ أنّ يدك مكانها ألاّ يكون لي من الأجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري! فغاظه ذلك أيضاً فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول! وكان ابن وأل من الفقهاء العُبّاد..» (الكامل في التأريخ 2:641 وأنظر قاموس الرجال 6:644 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3:
132).