( الجزء الرابع و العشرون من ) كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي و كتب ظاهر الرواية أتت ستا و بالاصول أيظا سميت صنفها محمد الشيباني حرر فيها المذهب النعماني الجامع الصغير و الكبير و السير الكبير و الصغير ثم الزيادات مع المبسوط تواترت بالسند المضبوط و يجمع ألست كتاب الكافي للحاكم الشهيد فهو الكافي أقوى شروحه الذي كالشمس مبسوط شمس الامة السرخسي ( تنبيه ) قد بأشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم و الله المستعان و عليه التكلان دار المعرفة بيروت - لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم ( كتاب الاشربة ) ( قال ) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة و فخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسي رحمه الله إملاء إعلم ان الخمر حرام بالكتاب و السنة أما الكتاب فقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا انما الخمر و الميسر إلى أن قال فهل أنتم منتهون و سبب نزول هذه الآية سؤال عمر رضي الله عنه على ما روى انه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم الخمر مهلكه للمال مذهبة للعقل فادع الله تعالى يبينها لنا فجعل يقول أللهم بين لنا بيانا شافيا فنزل قوله تعالى يسألونك عن الخمر و الميسر قيل فيهما إثم كبير و منافع للناس فامتنع منها بعض الناس و قال بعضهم نصيب من منفاعها و ندع المأثم فقال عمر رضى الله عنه أللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فامتنع بعضهم و قالوا لا خير لنا فيما يمنعنا من الصلاة و قال بعضهم بل نصيب منها في وقت الصلاة فقال عمر أللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى انما الخمر و الميسر الآية فقال عمر رضى الله عنه انتهينا ربنا و الخمر هو النئ من ماء العنب المشتد بعد ما غلى و قذف بالزيد اتفق العلماء رحمهم الله على هذا ودل عليه قوله تعالى انى أراني أعصر خمرا أى عنبا يصير خمرا بعد العصر و الميسر القمار و الانصاب ذبائحهم بإسم آلهتهم في أعيادهم و الازلام القداح واحدها زلم كقولك قلم و أقلام و هذا شيء كانوا يتعادونه في الجاهلية إذا أراد أحدهم أمرا أخذ سهمين مكتوب على أحدهما أمرني ربي و الآخر نهانى ربي فجعلهما في و اعاء ثم أخرج أحدهما فان خرج الامر وجب عليه مباشرة ذلك الامر و ان خرج النهى حرم عليه مباشرته و بين الله تعالى ان كل ذلك رجس و الرجس ما هو محرم العين و انه من عمل الشيطان يعنى أن من لا ينتهى عنه متابع للشيطان مجانب لما فيه رضا الرحمن و فى قوله عز وجل فاجتنبوه أمر بالاجتناب منه و هو نص في التحريم ثم بين المعنى فيه بقوله عز و جل انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة
و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة و كان هذا اشارة إلى الاثم الذي بينه الله تعالى في الآية الاولى بقوله عز و جل و إثمهما أكبر من نفعهما و فى قوله فهل أنتم منتهون أبلغ ما يكون من الامر بالاجتناب عنه و قال تعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الاثم من أسماء الخمر قال القائل شربت الاثم حتى ضل عقلي كذاك الاثم يذهب بالعقول و قيل هذا اشارة إلى قوله و إثمهما أكبر من نفعهما و السنة ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لعن الله من الخمر عشرا الحديث و ذلك دليل نهاية التحريم و قال عليه الصلاة و السلام شارب الخمر كعابد الوثن و قال عليه الصلاة و السلام الخمر أم الخبائث و قال عليه الصلاة و السلام إذا وضع الرجل قدحا في خمر على يده لعنته ملائكة السموات و الارض فان شربها لم تقبل صلاته أربيعن ليلة و ان داوم عليها فهو كعابد الوثن و كان جعفر الطيار رحمه الله يتحرز عن هذا في الجاهلية و الاسلام يقول العاقل يتكلف ليزيد في عقله فانا لا أكتسب شيأ يزيل عقلي و الامة أجمعت على تحريهما و كفى بالاجماع حجة هذه حرمة قوية باتة حتى يكفر مستحلها و يفسق شاربها و يجب الحد بشرب القليل و الكثير منها و هي نجسة نجاسة غليظة لا يعفى عن أكثر من قدر الدرهم منها و لا يجوز بيعها بين المسليمن لقوله عليه الصلاة و السلام ان الذي حرم شربها حرم بيعها و أكل ثمنها و تبض المعتزلة يفصلون بين القليل و الكثير منها في حكم الحرمة و يقولون المحرم ما هو سبب لوقوع العدواة و البغضاء و الصد عن ذكر الله تعالى و عن الصلاة و ذلك الكثير دون القليل و عند أهل السنة و الجماعة القليل منها و الكثير في الحرمة و جميع ما ذكرنا من الاحكام سواء لقوله عليه الصلاة و السلام حرمت الخمر لعينها قليها و كثيرها و المسكر من كل شراب ثم في تناول القليل منها معنى العداوة و الصد عن ذكر الله تعالى فالقليل يدعو إلى الكثير على ما قيل ما من طعام و شراب الا و لذته في الابتداء تزيد على اللذة في الانتهاء الا الخمر فان اللذة لشاربها تزداد بالاستكثار منها و لهذا يزداد حرصه على شربها إذا أصاب منها شيأ فكان القليل منها داعيا إلى الكثير منها فيكون محرما كالكثير ( ألا ترى ) أن الربا لما حرم شرعا حرم دواعيه أيضا و ان المشي على قصد المعصية معصيه و أما السكر فهو النئ من ماء التمر المشتد و هو حرام عندنا و قال شريك بن عبد الله هو حلال لقوله تعالى و من ثمرات النخيل و الاعناب تتخذون منه سكرا و رزقا
حسنا و الرزق الحسن شرعا ما هو حلال و حكم المعطوف و المعطوف عليه سواء و لان هذه الاشربة كانت مباحة قبل نزول تحريم الخمر فيبقى ما سوى الخمر بعد نزول تحريم الخمر على ما كان من قبل ( ألا ترى ) أن في الآيات بيان حكم الخمر و ما كان يكثر وجود الخمر فيهم بالمدينة فانها كانت تحمل من الشام و انما كان شرابهم من التمر و فى ذلك ورد الحديث نزل تحريم الخمر و ما بالمدينة يؤمئذ منها شيء فلو كان تحريم سائر الاشربة مرادا بالآية لكان الاولى التنصيص على حرمة ما كان موجودا في أيديهم لان حاجتهم إلى معرفة ذلك و حجتنا في ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال الخمر من هاتين الشجرتين الكرم و النخل و لم يرد به بيان الاسم لغة لانه ما بعث مبينا لذلك و بين أهل اللغة اتفاق أن الاسم حقيقة للتي من ماء العنب و واضع اللغة خص كل عين بإسم هو حقيقة فيه و ان كان قد يسمى الغير به مجازا لما في الاشتراك من اتهام غفله الواضع و الضرورة الداعية إلى ذلك و ذلك متوهم هنا فعرفنا أن المراد حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في حكم الحرمة و لما سئل ابن مسعود رضى الله عنه عن شرب المسكر لاجل الصفر قال ان الله تعالى لم يجعل شفاء كم فيما حرم عليكم فاما قوله تعالى تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا فقد قيل كان هذا قبل نزول آية التحريم و قيل في الآية إضمار و هو مذكور على سبيل التوبيخ أى تتخذون منه سكرا و تدعون رزقا حسنا فان طبخ من العنب أدنى طبخه أو ذهب منه بالطبخ أقل من الثلثين ثم اشتد و غلا و قذف بالزبد فهو حرام عندنا و قال حماد بن أبى سليمان رحمه الله إذا طبخ حتى نضج حل شربه و كان بشر المريسي يقول إذا طبخ أدنى طبخه فلا بأس بشربه و كان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا إذا صبخ حتى ذهب منه النصف فلا بأس بشربه ثم رجع فقال ما لم يذهب منه الثلثان بالطبخ لا يحل شربه إذا اشتد و هو قول أبى حنيفة رحمه الله و عن محمد رحمه الله انه كره الثلث أيضا و عنه انه توقف فيه و عنه انه حرم ذلك كله إذا كان مسكرا و هو قول مالك و الشافعي و طريق من توسع ففى هذه الاشربة ما ذكرنا ان قبل نزول التحريم كان الكل مباحا ثم نزل تحريم الخمر و ما عرفنا هذه الحرمة الا بالنص فبقى سائر الاشربة بعد نزول تحريم الخمر على ما كان عليه قبل نزوله و من أثبت التحريم في الكل قال نص التحريم بصفة الخمرية و الخمر ما خامر العقل و كل ما يكون مسكرا فهو مخامر للعقل فيكون النص متناولا له و لكنا نقول الاسم للتي من ماء العنب حقيقة و لسائر الاشربة مجازا
و متى كانت الحقيقة مرادة باللفظ تنحى المجاز وهبك أن الخمر يسمي لمعنى مخامرة العقل فذلك لا يدل على أن كل ما يخامر العقل يسمى خمرا ( ألا ترى ) أن الفرس الذي يكون أحد شقيه أبيض و الآخر أسود يسمى أبلق ثم الثوب الذي يجمتع فيه لون السواد و البياض لا يسمى بهذا الاسم و كذلك النجم يسمى نجما لظهوره قالوا نجم أى ظهر ثم لا يدل ذلك على ان كل ما يظهر يسمى نجما و امامنا فيما ذكرناه من إباحة شرب المثلث عمر رضى الله عنه فقد روى عن جابر بن الحصين الاسدى رحمه الله ان عمار بن ياسر رضى الله عنه أتاه بكتاب عمر رضى الله عنه يأمره ان يتخذ الشرب المثلث لاستمراء الطعام و كان عمار بن ياسر رضى الله عنه يقول لا أدع شربها بعد ما رأيت عمر رضى الله عنه يشربها و يسقيها الناس و قد كان عمر رضى الله عنه هو الذي سأل تحريم الخمر فلا يظن به أنه كان يشرب أو يسقى الناس ما تناوله نص التحريم بوجه و لا يجوز أن يقال انما كان يشرب الحلو منه دون المسكر بدليل قوله قد ذهب بالطبخ نصيب الشيطان و ربح جنونه و هذا لانه انما كان يشرب ذلك لاستمراء الطعام و انما يحصل هذا المقصود بالمشتد منه دون الحلو و قد دل على هذه الجملة الآثار التي بدأ محمد رحمه الله بها الكتاب فمن ذلك حديث زياد قال سقاني ابن عمر رضى الله عنه شربة ما كدت أهتدى إلى منزلي فغدوت عليه من الغد فاخبرته بذلك فقال ما زدناك على عجوة و زبيب و ابن عمر رضى الله عنه كان معروفا بالزهد و الفقه بين الصحابة رضى الله عنهم فلا يظن به انه كان يسقى غيره ما لا يشربه و لا أنه كان يشرب ما يتناوله نص التحريم و قد ذكرنا ان ما سقاه كان مشتدا حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله و انما قال هذا على طريق المبالغة في بيان التأثير فيه لا حقيقة السكر فان ذلك لا حيل و فى قوله ما زدناك على عجوة و زبيب دليل على أنه لا بأس بشرب القليل من المطبوخ من ماء الزبيب و التمر و ان كان مشتدا و انه لا بأس بشرب الخليطين بخلاف ما يقوله المتقشفة أنه لا يحل شراب الخليطين و ان كان حلوا لما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن شراب الخليطين و تأويل ذلك عندنا ان ذلك كان في زمان الجدب كره للاغنياء الجمع بين النعمتين و فى الحديث زيادة فانه قال و عن القرآن بين النعمتين و عن الجمع بين نعمتين و الدليل على انه لا بأس بذلك في زمان القحط حديث عائشة رضى الله عنها قالت كنت أنبذ لرسول الله صلى الله عليه و سلم تمرا فلم يستمرئه فأمرني فألقيت فيه زبيبا و لما جاز اتخاذ الشرب من كل واحد منهما بانفراده جاز الجمع بينهما بمنزلة ماء السكر و الفانيد
و عن ابن عمر رضى الله عنه انه سئل عن المسكر فقال الخمر ليس لها كنية و فيه دليل تحريم السكر فان مراده من هذا الجواب ان السكر في الحرمة كالخمر و ان كان اسمه اسم الخمر فكانه أشار إلى قوله عليه الصلاة و السلام الخمر من هاتين الشجرتين قال و سئل عن الفضيخ قال مراده بذلك الفضوخ و الفضيخ الشراب المتخذ من التمر أى يشدخ ثم ينقع في الماء ليستخرج الماء حلاوته ثم يترك حتى يشتد و فيه دليل عن أن التي من شراب التمر إذا اشتد فهو حرام سكرا كان أو فضيخا فان السكر ما يسيل من التمر حين يكون رطبا و فى قوله بذلك الفضوح بيان انه يفضح شاربه في الدنيا و الآخرة لارتكابه ما هو محرم قال و سئل عن النبيذ و الزبيب يعتق شهرا أو عشرا قال الخمر اخبتها و فى رواية اجتنبها أى هى في الحرمة كالخمر فاجتنبها فظاهر هذا اللفظ دليل لما روى عن أبى يوسف قال لا يحل ماء الزبيب ما لم يطبخ حتى يذهب منه الثلثان فان قوله الخمر اجتنبها اشارة إلى ذلك أى الزبيب إذا أنقع في الماء عاد إلى ما كان عليه قبل ان يتزبب فكما ان لا يحل قبل أن يتزبب بالطبخ ما لم يذهب منه الثلثان فكذلك الزبيب بخلاف ماء التمر و لكن في ظاهر الرواية نبيذ التمر و ماء التمر سواء إذا طبخ أدنى طبخه يحل شربه مشتدا بعد ذلك ما لم يسكر منه و مراد ابن عمر رضى الله عنه تشبيهه التئ منه بالخمر في حكم الحرمة و عن معاذ بن جبل رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما وجهه إلى اليمن قال انههم عن نبيذ السكر و المراد النئ من ماء التمر المشتد و قد عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم عادة أهل اليمن في شرب ذلك فلهذا خصه بالامر النهى عنه و سماه نبيذ الحمرة في لونه و عن حصين بن عبد الرحمن قال كان لابى عبيدة كرم بزبالة كان يبيعه عنبا و إذا أدرك العصير باعه عصيرا و فى هذا دليل على أنه لا بأس ببيع العصير و العنب مطلقا ما دام حلوا كما لا بأس ببيع العنب و أخذ أبو حنيفة رحمه الله بظاهره فقال لا بأس ببيع العصير و العنب ممن يتخذ خمرا و هو قول إبراهيم رحمه الله لانه لا فساد في قصد البائع فان قصده التجارة بالتصرف فيما هو حلال لاكستاب الربح و انما المحرم قصد المشترى اتخاذ الخمر منه و هو كبيع الجارية ممن لا يستبرئها أو يأتيها في المأتي و كبيع الغلام ممن يصنع به ما لا يحل و عن الضحاك قال قال رسو ل الله صلى الله عليه و سلم من بلغ حدا في حد فهو من المعتدين معناه فهو من الظالمين المجاوزين لحدود الله تعالى قال الله تعالى و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه و فيه دليل انه لا يجوز أن يبلغ بالتعزير الحد الكامل لان