تفسیر والمفسرون فی ثوبه القشیب

محمد هادی معرفت

جلد 1 -صفحه : 25/ 3
نمايش فراداده

لا شـك ان اسـتـعارة ((الما المعين )) للعلم النافع , و لا سيما المستند الى وحي السما ـ من نبي او وصي نبي ـ امرمعروف و متناسب لا غبار عليه .

فـكـما ان الما اصل الحياة المادية و المنشا الاول لامكان المعيشة على الارض , كذلك العلم النافع و علم الشريعة بالذات , هو الاساس لامكان الحياة المعنوية التي هي سعادة الوجود و البقا مع الخلود.

(يا ايها الذين آمنوا استجيبوا للّه و للرسول اذا دعاكم لما يحييكم ) ((48)) .

(لـقـد مـن اللّه عـلى المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و ان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ((49)) .

فهنا قد لوحظ الما ـ وهو اصل الحياة ـ في مفهومه العام المنتزع منه الشامل للعلم ,فيعم الحياة المادية و المعنوية .

و ايـضـا قـولـه تعالى : (فلينظر الا نسان الى طعامه ) ((50)) , اي فليمعن النظر في طعامه , كيف عـملت الطبيعة في تهيئته و تمهيد امكان الحصول عليه , و لم ياته عفوا, و من غير سابقة مقدمات و تـمهيدات لو امعن النظر فيها,لعرف مقدار فضله تعالى عليه , و لطفه و رحمته , و بذلك يكون تناول الطعام له سائغا, و مستدعيا للقيام بالشكرالواجب .

هـذا, و قـد روى ثـقـة الاسلام الكليني باسناده الى زيد الشحام , قال : سالت الامام جعفر بن محمد الصادق (ع )قلت : ما طعامه ؟ قال : ((علمه الذي ياخذه عمن ياخذه )) ((51)) .

والـمـنـاسبة هنا ـ ايضا ـ ظاهرة , لان العلم غذا الروح , و لا بد من الاحتياط في الاخذ من منابعه الاصيلة , و لاسيما علم الشريعة و احكام الدين الحنيف .

و ثانيا: مراعاة النظم و الدقة في الغا الخصوصيات المكتنفة بالكلام , ليخلص صفوه و يجلو لبابه في مـفهومه العام , الامر الذي يكفله قانون ((السبر و التقسيم )) من قوانين علم الميزان (علم المنطق ) و الـمـعـبـر عنه في علم الاصول : بتنقيح المناط, الذي يستعمله الفقها للوقوف على الملاك القطعي لحكم شرعي , ليدور التكليف او الوضع معه نفيا و اثباتا, و لتكون العبرة بعموم الفحوى المستفاد,لا بخصوص العنوان الوارد في لسان الدليل و هذا امر معروف في الفقه , و له شرائط معروفة .

و مـثـال تطبيقه على معنى قرآني , قوله تعالى ـ حكاية عن موسى (ع ) ـ : (قال رب بما انعمت على فلن اكون ظهيرا للمجرمين ) ((52)) .

هـذه قـولـة نبي اللّه موسى (ع ) قالها تعهدا منه للّه تعالى , تجاه ما انعم عليه من البسطة في العلم و الـجـسم : (و لمابلغ اشده واستوى آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين ) ((53)) قضى عـلـى عدوله بوكزة وكزه بها, فحسب انه قد فرط منه ما لا ينبغي له , فاستغفر ربه فغفر له فقال ذلـك تـعـهـدا منه للّه , ان لايستخدم قواه و قدره الذاتية , والتي منحه اللّه بها, في سبيل الفساد في الارض , و لا يجعل ما آتاه اللّه من امكانات معنوية و مادية في خدمة اهل الاجرام .

هذا ما يخص الاية في ظاهر تعبيرها بالذات .

و هـل هـذا امـر يـخص موسى (ع ) لكونه نبيا و من الصالحين , ام هو حكم عقلي بات يشمل عامة اصحاب القدرات , من علما و ادبا و حكما و ارباب صنائع و فنون , و كل من آتاه اللّه العلم و الحكمة و فـصـل الـخـطـاب ؟ لا ينبغي في شريعة العقل ان يجعل ذلك ذريعة سهلة في متناول اهل العبث و الاستكبار في الارض ,بل يجعلها وسيلة ناجحة في سبيل اسعاد العباد و احيا البلاد (هو انشاكم من الا رض و استعمركم فيها) ((54)) .

و هذا الفحوى العام للاية الكريمة انما يعرف وفق قانون ((السبر و التقسيم )) و الغاالخصوصيات المكتنفة بالموضوع , فيتنقح ملاك الحكم العام .

وفـي الـقرآن كثير من هذا القبيل , انما الشان في امعان النظر و التدبر في الذكر الحكيم , و بذلك يبدو وجه استفادة فرض الاخماس من آية الغنيمة , و دفع الضرائب من آية الانفاق في سبيل اللّه .

مزاعم في التاويل

هـنـاك مـن حسب من تاويل القرآن شيئا ورا المفاهيم الذهنية او التعابير الكلامية , و كان من نمط الاعـيـان الخارجية , و كان ما ورد في القرآن من حكم و آداب و تكاليف و احكام كلها تعود اليه , اذ تنتزع منه و تنتهي اليه في نهاية المطاف , فكان ذلك تاويلا للقرآن في جميع آياته الكريمة .

و قـد اخـتـلـفـوا فـي تـبيين تلك الحقيقة التي تعود اليها جميع الحقائق القرآنية في اصول معارفه والاحكام :.

ذكـر ابـن تـيمية ـ في رسالة وضعها بشان المتشابه و التاويل ـ : ان التاويل في عرف المتاخرين صـرف الـلـفظ عن معناه الراجح الى معنى مرجوح , لدليل يقترن به فالتاويل ـ على هذا ـ يحتاج الى دليل , والمتاول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يدعيه , و بيان الدليل الموجب للصرف اليه عن المعنى الظاهر.

قـال : و امـا التاويل ـ في عرف السلف ـ فله معينان : احدهما: ما يرادف التفسير والبيان , و هو الذي عناه مجاهد بقوله : ان العلما يعلمون تاويل القرآن , اي تفسيره و تبيينه .

و الثاني : نفس المراد بالكلام , ان كان طلبا فتاويله نفس العمل المطلوب , و ان كان خبرا فتاويله نفس الشي المخبر به .

قـال : و بـيـن هـذا الـمعنى ـ الاخير ـ والذي قبله ـ الذي جا اولا في عرف السلف , والذي جا في عرف المتاخرين ـ بون , فان الذي قبله يكون التاويل فيه من باب العلم و الكلام كالتفسير و الشرح و الايضاح ويكون وجود التاويل في القلب و اللسان , له الوجود الذهني و اللفظي و الرسمي .

و امـا هـذا ـ المعنى الثاني في عرف السلف ـ فالتاويل فيه نفس الامور الموجودة في الخارج , سوا كانت ماضية او مستقبلة فاذا قيل : طلعت الشمس , فتاويل هذا نفس طلوعها.

قـال : و هـذا الـوضـع و الـعـرف الثالث ـ الذي جا ثانيا في عرف السلف ـ هو لغة القرآن التي نزل بها ((55)) .

و قـال فـي تـفـسـير سورة الاخلاص ـ بعد كلام تفصيلي له عن تاويل المتشابه من الايات , و ان الـراسـخـيـن فـي العلم يعلمون تاويله , و استعظام ان يكون جبرائيل و محمد(ص ) و الصحابة و التابعون لهم باحسان و ائمة المسلمين لا يعرفون تاويل متشابه القرآن , و يكون اللّه تعالى قد استاثر بـعـلـم مـعاني هذه الايات كما استاثربعلم الساعة , و انهم جميعا كانوا يقراون الفاظا لا يفهمون لها معنى , كما يقرا احدنا كلاما ليس من لغته فلا يعرف معناه , من قال ذلك فقد كذب على القوم , و الماثور عـنهم متواترا يناقض هذا الزعم , و انهم يفهمون معنى المتشابه كما يفهمون معنى المحكم ـ قال بعد ذلك :.

فان قيل : هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التاويل الذي يراد به التفسير, و بين التاويل الذي في كتاب اللّه .

قـيـل : لا يـقدح في ذلك , فان معرفة تفسير اللفظ و معناه و تصوره في القلب , غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج , المرادة بذلك الكلام .

فـان الـشـي لـه وجود في الاعيان , و وجود في الاذهان , و وجود في اللسان , و وجود في البيان فالكلام لفظ له معنى في القلب , و يكتب ذلك اللفظ بالخط فاذا عرف الكلام و تصور معناه في القلب و عـبـر عنه باللسان , فهذاغير الحقيقة الموجودة في الخارج , و ليس كل من عرف الاول عرف عين الثاني .

مـثـال ذلـك : ان اهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة النبي (ص ) و خبره و نعته , و هذا معرفة الـكـلام و معناه وتفسيره , و تاويل ذلك هو نفس محمد المبعوث , فالمعرفة بعينه معرفة تاويل ذلك الكلام .

و كـذلك الانسان قد يعرف الحج و المشاعر, كالبيت و المساجد و منى و عرفة و مزدلفة , و يفهم معنى ذلك ولايعرف الامكنة حتى يشاهدها, فيعرف ان الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله : (و للّه على الناس حج البيت ) و كذلك ارض عرفات و غيرها.

و كذلك الرؤيا يراها الرجل , و يذكر له العابر تاويلها فيفهمه و يتصوره , ثم اذا كان ذلك فهو تاويل الرؤيا, ليس تاويلها نفس علمه و تصوره و كلامه , و لهذا قال يوسف الصديق : (هذا تاويل رؤياي من قبل ) و قال : (لا ياتيكما طعام ترزقانه الا نباتكما بتاويله قبل ان ياتيكما) فقد انباهما بالتاويل قبل ان ياتي التاويل , فنحن نعلم تاويل ما ذكر اللّه في القرآن من الوعد و الوعيد, و ان كنا لا نعرف متى يقع هذا التاويل المذكور في قوله تعالى : (هل ينظرون الا تاويله يوم ياتي تاويله ) ((56)) .

و قـد اشـاد الـسيد محمد رشيد رضا (منشئ مجلة المنار المصرية ) من هذه النظرة التيمية بشان تـاويل القرآن , واعجبته غاية الاعجاب قال ـ بعد ان نقل عن شيخه الاستاذ محمد عبده , ان التاويل بـمـعـنى ما يؤول اليه الشي وينطبق عليه , لا بمعنى ما يفسر به ((57)) ـ : ليس في كتب التفسير المتداولة ما يروي الغليل في هذه المسالة , و ماذكرناه آنفا هو صفوة ما قالوه , و خيرة كلام الاستاذ الامام و قد راينا ان نرجع بعد كتابته الى كلام في المتشابه والتاويل , لشيخ الاسلام احمد بن تيمية , فـرجعنا اليه و قراناه بامعان , فاذا هو منتهى التحقيق و العرفان , و البيان الذي ليس وراه بيان , اثبت فيه انه ليس في القرآن كلام لايفهم معناه , و ان المتشابه اضافي اذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الـراسـخ , و ان الـتاويل الذي لا يعلمه الا اللّه تعالى هو ما تؤول اليه تلك الايات في الواقع ,ككيفية صـفـاتـه تـعـالـى , و كيفية عالم الغيب , و كيفية قدرته تعالى و تعلقها بالايجاد والاعدام , و كيفية استوائه على العرش و لا كيفية عذاب اهل النار, و لا نعيم اهل الجنة , كما قال تعالى :(فلا تعلم نفس مـا اخـفي لهم من قرة اعين ) ((58)) فليست نار الاخرة كنار الدنيا, و انما هي شي آخر و ليست ثـمـرات الـجنة و لبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم , و انما هو شي آخر يليق بذلك العالم و يناسبه .

قـال : و انـنـا نـبين ذلك بالاطناب الذي يحتمله المقام , مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم , ناقلين بعض ماكتبه ((59)) و جعل ينقل ما سرده ابن تيمية باسهاب .

و هـذا الـذي ذكـره ابن تيمية و اشاد به رشيدرضا, لا يعدو ما يعود اليه امر الشي , اخذا بالمفهوم اللغوي لمادة التاويل اما العين الخارجية بالذات فلعله من اشتباه المصداق بالمفهوم , فان الوجود العيني لـلاشـيا هي عين تشخصاتها المعبر عنها بالمصاديق الخارجية , و لم يعهد اطلاق لفظ ((التاويل )) على المصداق في متعارف الاستعمال الا ان يكون من عرفهما الخاص , و لا مشاحة في الاصطلاح .

و على اى تقدير, فانهما لم ياتيا بشي جديد, فان مسالة الوجودات الاربعة للاشيا(الذهني و اللفظي و الكتبي و العيني ) امر تعارف عليه ارباب المنطق منذ عهدقديم , الا ان الشي الذي لم يتعارف عليه هـو اطلاق اسم ((التاويل )) على العين الخارجية , باعتبارها مصداقاللوجودات الثلاثة المنتزعة عنها, سوى كونه مصطلحا جديدا غير معروف .

و لسيدنا العلامة الطباطبائي كلام تحقيقي لطيف حول مسالة التاويل , يراه متغايرا مع المفاهيم , بعيدا عن جنس الالفاظ و المعاني و التعابير, و انما هي حقائق راهنة , موطنها خارج الاذهان و العبارات .

انه (ره ) تعرض لكلام ابن تيمية , فصححه من جهة , و خطاه من جهة اخرى , صححه من جهة قوله : بـشـمول التاويل لجميع آي القرآن , محكمه و متشابهه , و قوله : بانه خارج الاذهان و العبارات لكن خـطـاه في حصره للتاويل في العين الخارجية البحت , فانه مصداق و ليس بتاويل انما التاويل حقائق راهـنـة , هـي مصالح واقعية واهداف و غايات مقصودة من ورا التكاليف والاحكام , و كذا الحكم و المواعظ والاداب , و حتى القصص والاخبار والاثار التي جات في القرآن .

قال ـ مناقشا لراي ابن تيمية ـ:.

((انـه و ان اصاب في بعض كلامه , لكنه اخطا في بعضه الاخر انه اصاب في القول : بان التاويل لا يـختص بالمتشابه , بل هو عام لجميع القرآن , و كذا القول : بان التاويل ليس من سنخ المدلول اللفظي , بـل هو امر خارجي يبتنى عليه الكلام لكنه اخطا في عد كل امر خارجي مرتبط بمضمون الكلام ـ حتى مصاديق الاخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة ـ تاويلا للكلام )) ((60)) .

ثـم قال : ((الحق في تفسير التاويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية , من حكم او مـوعظة اوحكمة , و انه موجود لجميع الايات القرآنية محكمها و متشابهها, و انه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليهابالالفاظ, بل هي من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ و انـما قيدها اللّه سبحانه بقيدالالفاظ لتقريبها من اذهاننا بعض التقريب , فهى كالامثال تضرب ليقرب بـها المقاصد و توضح , بحسب مايناسب فهم السامع , كما قال تعالى : (والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ((61)) .

و قال ـ في شرح الاية ـ:.

((ان هـنـاك كـتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا, و انما البس لباس القراة و العربية ليعقله الناس , و الا فانه ـوهو في ام الكتاب ـ عند اللّه على لا تصعد اليه العقول , حكيم لا يوجد فيه فصل و فـصل فالكتاب المبين ـ في الاية ـ هو اصل القرآن العربي المبين , و للقرآن موقع هو في الكتاب المكنون , و ان التنزيل حصل بعده , و هوالذي عبر عنه بام الكتاب و باللوح المحفوظ فالكتاب المبين الـذي هو اصل القرآن و حكمه الخالي عن التفصيل , امر ورا هذا المنزل , و انما هذا بمنزلة اللباس لـذاك ان هذا المعنى , اعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة الى الكتاب المبين , و نحن نسميه بـحقيقة الكتاب , بمنزلة اللباس من المتلبس , و بمنزلة المثال من الحقيقة , و بمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام )) ((62)) .

و اضـاف : (( فـالـحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الاحكام او بيان معرفة من المعارف الالهية او وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية , و ان لم تكن امرا يدل عليه بالمطابقة نـفـس الامـر و النهي او البيان او الواقعة الكذائية , الا ان الحكم او البيان او الحادثة , لما كان كل منهاينشا منها و يظهر منها, فهو اثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والاشارة )) ((63)) .

و اخيرا لخص كلامه في بيان التاويل بما يلي :.

((الـتـاويـل فـي عرف القرآن هو الحقيقة التي يتضمنها الشي و يؤول اليها و يبتنى عليها, كتاويل الـرؤيـا, و هـوتـعـبـيرها, و تاويل الحكم , و هو ملاكه , و تاويل الفعل , و هو مصلحته و غايته الحقيقية , و تاويل الواقعة , و هوعلتها الواقعية , و هكذا)) ((64)) .

غير ان وقفة فاحصة عند كلام هذا المحقق العلامة , تجعلنا نتردد في التوافق معه , انه (ره ) لو كان اقـتـصـر عـلـى مـالـخـصه اخيرا, من جعل ملاكات الاحكام و المصالح و الغايات الملحوظة في التشريعات و التكاليف تاويلا, اي اصلا لها و مرجعها الاساسي لكل ذلك المذكور, لامكننا مرافقته .

لـكنه توسع في ذلك , و فرض من تاويل آي القرآن كلها امرا بسيطا ذا احكام رصين , ليس فيه شي مـن هـذه الـتجزئة و التفصيل الموجود في القرآن الحاضر الذي يتداوله المسلمون منذ اول يومهم فـالـى مـا لا نـهـاية , فان ذاك عار عن كونه آية آية و سورة سورة , وجودا واحدا بسيطا صرفا, مستقرا في محل ارفع , في كتاب مكنون لايمسه الا المطهرون .

و فرض من القرآن ذا وجودين : وجودا ظاهريا يتشكل في الفاظ و عبارات ذوات مفاهيم معروفة , و هو الذي يتلى و يقرا و يدرس , و يتداوله الناس حسبما الفوه طوال عهد الاسلام .

و وجـودا آخـر باطنيا, هو وجوده الحقيقي الاصيل , المترفع عن ان تناله العقول والاحلام , فضلا عن الاوهام , و ذلك الوجود الحقيقي الرفيع هو تاويل القرآن , اي اصله و مرجعه الاصيل .

قال ـ بصدد بيان نزول القرآن دفعة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان , و انه لم يكن هذا القرآن المتلو الذي بايدي الناس , فانه نزل تدريجا بلا ريب ـ:.

((و الـذي يـعـطـيه التدبر في آيات الكتاب امر آخر, فان الايات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان او في ليلة القدر انما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة , دون التنزيل , و اعتبار الدفعة اما بلحاظ المجموع اوالبعض , و اما لكون الكتاب ذا حقيقة اخرى ورا ما نفهمه بالفهم العادي , الذي يقضي فيه بالتفرق و التفصيل والانبساط و التدريج , هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي و نـازلا بـالانـزال دون الـتـنـزيل , و هذا هو اللائح من الايات الكريمة : (كتاب احكمت آياته ثم فـصلت ) ((65)) فان هذا الاحكام مقابل التفصيل , و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و قطعة قطعة , فـالاحـكـام كـونه بحيث لا يتفصل فيه جز من جز, و لا يتميز بعض من بعض , لرجوعه الى معنى واحـد لا اجزا فيه و لا فصول و الاية ناطقة بان هذا التفصيل المشاهد في القرآن , انماطرا عليه بـعد كونه محكما غير مفصل , و اوضح منه قوله تعالى : (حم والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و انه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ((66)) فانه ظاهر في ان هناك كتابا مبينا عرض عـلـيه جعله مقروا عربيا, و انما البس لباس القراة و العربية ليعقله الناس , و الا فانه في ام الكتاب عـنـد اللّه عـلـى لا يـصـعـد اليه العقول , حكيم لا يوجد فيه فصل فصل فالكتاب المبين الذي هو اصـل الـقـرآن و حـكـمـه الـخـالـي عن التفصيل امر ورا هذا المنزل و انما هذا بمنزلة اللباس لذاك ((67)) .

ثم احال تمام الكلام الى بيانه الاتي حول آية المتشابهات , قال هناك :.

((الـحـق فـي تفسير التاويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية , و انه موجود لـجـمـيع الايات , وانه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالـفاظ, و انما قيدها اللّه بقيدالالفاظ لتقريبها من اذهاننا, قال تعالى : (انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تـعـقـلـون و انه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ((68)) و في القرآن تصريحات و تلويحات بهذا المعنى ((69)) .

و بـعد, فلنتسال : ما هو السبب الداعي لفرض وجودين للقرآن الكريم : وجودا لديه تعالى في كتاب مـكـنـون , لايـمـسـه الا المطهرون , عاريا عن التجزئة و التفصيل , متعاليا عن شبكات الالفاظ و العبارات , و وجودا ارضيا نزل تدريجا لهداية الناس , و البس لباس العربية لعلهم يعقلونه ؟ و لـعـلـه لـلـنظر الى قوله تعالى : (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ) ((70)) و قوله :(حم و الـكـتـاب الـمـبـيـن انـا انـزلـنـاه فـي ليلة مباركة انا كنا منذرين فيها يفرق كل امر حكيم امرا من عندنا) ((71)) و قوله :(انا انزلناه في ليلة القدر ) ((72)) .

و قـد ورد فـي الحديث ـ من طرق الفريقين ـ : ان القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر, ثم نزل تدريجا طوال عشرين عاما)) ((73)) .

و لذلك فرض علامتنا الطباطبائي وجودين للقرآن الكريم و نزولين و كان نزوله الدفعي بوجوده البسيط الذي كان بمنزلة الروح لهذا القرآن , النازل تدريجا بوجوده التفصيلي .

و بـذلـك نراه قد جمع بين ظواهر الايات و دلالة الروايات , و ايد ذلك بالفارق اللغوي بين لفظتي ((الانزال )) و((التنزيل )).

لكن تشريف شهر رمضان انما كان بنزول هذا القرآن المعهود لدى المخاطبين بهذا الخطاب , لا بامر لا يعرفونه عـلـى ان الـقـرآن الـنـازل فـي هـذا الـشـهـر, قد وصف بكونه (هدى للناس و بينات من الهدى والـفـرقـان ) ((74)) و معلوم ان الهداية و البينات , انما هي بهذا الكتاب الذي يتداولونه , لا بكتاب مكنون عند اللّه محفوظ لديه في مكان على لا تناله الايدي و الابصار.

كـمـا ان الـذي يـبتغيه اهل الزيغ لاجل الفساد في الارض , هو تفسير الايات على غيروجهها, لا وجودا آخر للقرآن , هو في اعلى عليين .

فـقوله (ره ) :((و انه موجود لجميع الايات محكمها و متشابهها, و انه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ)) غير مفهوم لنا.

والفرق بين ((الانزال )) و ((التنزيل )) امر ابدعه الراغب الاصبهاني , و لا شاهد له .

قال : و انما خص لفظ الانزال دون التنزيل , لما روي ان القرآن نزل دفعة واحدة الى سما الدنيا, ثم نـزل نجمافنجما و لفظ الانزال اعم من التنزيل , قال : (لو انزلنا هذا القران على جبل ) ((75)) و لم يقل : لو نزلنا,تنبيها انا لو خولناه مرة ما خولناك مرارا.

و يرد عليه ما حكاه اللّه عن قولة العرب : (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) ((76)) .

و كذلك قوله تعالى : (و قالوا لولا نزل عليه آية من ربه ) ((77)) .

و قوله : (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة ) ((78)) .

و قوله : (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه ) ((79)) .

و قوله : (لنزلنا عليهم من السما ملكا رسولا) ((80)) .

كما جمع بين التعبيرين بشان امر واحد في قوله تعالى : (وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم و لعلهم يتفكرون ) ((81)) .

كما جا استعمال ((الانزال )) بشان التدريجيات ايضا:.

(انزل من السما ما فاخرج به من الثمرات رزقا لكم ) ((82)) .

(هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) ((83)) .

لان الـكتاب الذي منه محكم و متشابه , هو هذا الكتاب الذي نزل تدريجا (افغير اللّه ابتغي حكما و هوالذي انزل اليكم الكتاب مفصلا) ((84)) , اذ الذي نزل مفصلا هو هذا القرآن الذي نزل منجما.

و اخـيـرا فما هي الفائدة المتوخاة من ورا نزول القرآن دفعة واحدة الى السما الدنيا او الى السما الرابعة , في البيت المعمور او بيت العزة ـ على الاختلاف في الفاظ الروايات ـ , ثم نزوله بعد ذلك تدريجا في طول عهدالرسالة ؟.

و هـل لـوجـود الـقرآن بوجوده البسيط الروحاني ـ في ذلك المكان الرفيع ـ فائدة تعودعلى اهل السماوات او سكان الارضين ؟.

و اجـاب الفخر الرازي عن ذلك , و علل وجود القرآن هناك , في مكان انزل من العرش و اقرب الى الارض , ليسهل التناول منه لجبرائيل عند مسيس الحاجة ((85)) .

و عـلـل بـعـض الاساتذة المعاصرين ذلك , بان الرابط بين ذلك القرآن المحفوظ لديه تعالى , و هذا الـقـرآن الـمعروض على الناس , هو ((رابط العلية )) فكل ما في هذا القرآن من حكم و مواعظ و آداب , و تعاليم و معارف و احكام , انما تنشا مما حواه ذلك القرآن , على بساطته و علو رفعته , فهذا اشعاع من ذلك النور الساطع , و افاضة من ذلك المقام الرفيع ((86)) .

غـيـر ان هـذا كله تكلف في التاويل , و تمحل في القول بلا دليل , و لعلنا في غنى عن البسط فيه و التذييل .

و امـا الايـات الـتي استندوا اليها لاثبات وجود آخر للقرآن محفوظ عنداللّه , في كتاب مكنون لا يمسه الاالمطهرون فهي تعني امرا آخر غير ما راموه .

و لـيعلم ان المقصود من الكتاب المكنون , هو: علم الل ه المخزون , المعبر عنه ب (اللوح المحفوظ) ايضا, و هكذاالتعبير ب (ام الكتاب ) كناية عن علمه تعالى الذاتي الازلي , بما يكون مع الابد.

و قـد ذكـر العلامة الطباطبائي ـ في تفسير سورة الرعد حديثا عن الامام الصادق (ع )قال : ((كل امـر يريده اللّه , فهوفي علمه قبل ان يضعه , و ليس شي يبدو له الا و قد كان في علمه )) قال ذلك تفسيرا لقوله تعالى : (يمحواللّه ما يشا و يثبت و عنده ام الكتاب ) ((87)) .

فقوله تعالى : (و انه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ((88)) يعني قضى اللّه في علمه الازلي الحتم ان الـقـرآن ـ فـي مسيرته الخالدة ـ سوف يشغل مقاما عليا, مترفعا عن ان تناله ايدي السفها, حكيما مستحكماقوائمه , لا يتضعضع و لا يتزلزل , يشق طريقه الى الامام بسلام ((89)) .

و كـذا قـولـه : (بـل هـو قـرآن مـجـيـد فـي لـوح مـحفوظ) ((90)) اي هكذا قدر في علمه تعالى المكنون ((91)) .

و هكذا ذكر الطبرسي و غيره في تفسير قوله تعالى : (انه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه الاالـمـطـهـرون ) ((92)) انـه اشارة الى مقامه الرفيع عند اللّه , و قد جرى في علمه تعالى انه محفوظ عن مناوشة المناوئين .

قـال سـيـد قطب : ((انه لقرآن كريم : كريم بمصدره , و كريم بذاته , و كريم باتجاهاته في كتاب مـكنون : مصون , وتفسير ذلك في قوله تعالى بعده : لا يمسه الا المطهرون فقد زعم المشركون ان الـشـيـاطـين تنزلت به , فهذا نفي لهذاالزعم فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم اللّه و حـفـظـه , انـما تنزل به الملائكة المطهرون , و لذلك قال ـ بعدها ـ : تنزيل من رب العالمين , اي لا تنزيل من الشياطين )) ((93)) .

هل يعلم التاويل غير اللّه ؟

سـؤال اثـارتـه ظـاهـرة الـوقـف عـلـى ( الا اللّه ) من قوله تعالى : (و ما يعلم تاويله الا اللّه ) ثم الاستئناف لقوله : (و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) ((94)) .

و مـا ورد فـي بـعـض الاحاديث من اختصاص علم التاويل باللّه تعالى , و ان الراسخين في العلم لا يـعـلـمـون تاويله , و انما يكلون علمه الى اللّه سبحانه , من ذلك ما ورد في خطبة الاشباح من كلام مولانا اميرالمؤمنين (ع ):.

((فـانـظـر ايها السائل , فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به واستضئ بنور هدايته , و ما كلفك الـشـيطان علمه مماليس في الكتاب عليك فرضه , و لا في سنة النبى (ص )و ائمة الهدى اثره , فكل علمه الى اللّه سبحانه فان ذلك منتهى حق اللّه عليك )).

((و اعـلـم ان الـراسـخـيـن في العلم هم الذين اغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب , الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح اللّه تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لـم يـحيطوا به علما, و سمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا, فاقتصر على ذلك , و لا تقدرعظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين )) ((95)) .

هـذه الـخـطـبة من جلائل الخطب و اعلاها سندا, فلا مغمز في صحة اسنادها, و انما الكلام في فحوى المراد منها.

و قد اجمع شراح النهج ((96)) على ان مراده (ع ) بهذا الكلام هو الصفات , و ان صفاته تعالى انما يـجـب التعبد بها والتوقف فيها دون الولوج في معرفة كنهها, اذ لا سبيل الى معرفة حقيقة الصفات , كما لا سبيل الى معرفة حقيقة الذات .

حيث قوله (ع ) : ((فما دلك القرآن من صفته فائتم به , و ما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه )).

اذ من وظيفتنا ان نصفه تعالى بما وصف به نفسه في كلامه : سميع بصير, حكيم عليم , حى قيوم و لم نـكلف الولوج في معرفة حقائق هذه الصفات منسوبة الى اللّه تعالى , اذ ضربت دون معرفتهاالسدد و الحجب , فلا سبيل الى بلوغها, فيجب التوقف دونها.

اذن فـلا مـسـاس لكلامه (ع ) هنا, مع متشابهات الايات التي لاينبغي الجهل بها للراسخين في العلم , حيث تحليهم بحلية العلم هي التي مكنتهم من معرفة التنزيل و التاويل جميعا.

نعم لا نتحاشا القول بانهم في بد مجابهتهم للمتشابهات يقفون لديها, وقفة المتامل فيها, حيث المتشابه مـتـشـابه على الجميع على سوا, لولا انهم بفضل جهودهم في سبيل كشفها و ارجاعها الى محكمات الايـات صـاروايـعـرفونها في نهاية المطاف فعجزهم البادئ كان من فضل رسوخهم في العلم , بان الـمتشابه كلام صادر ممن صدرعنه المحكم , فزادت رغبتهم في معرفتها بالتامل فيها و الاستمداد من اللّه في العلم بها, و من جد في امر وجده بعون اللّه .

فـوجـه تـناسب استشهاده (ع ) بهذه الاية بشان الصفات محضا, هو العجز البادئ لدى المتشابهات , يقربه الراسخون في اول مجابهتهم للمتشابهات , و ان كان الامر يفترق في نهاية المطاف .

قال ابن ابي الحديد: ان من الناس من وقف على قوله : (الا اللّه ) و منهم من لم يقف و هذا القول اقوى من الاول , لانه اذا كان لا يعلم تاويل المتشابه الا اللّه لم يكن في انزاله و مخاطبة المكلفين به فائدة , بل يكون كخطاب العربي بالزنجية , و معلوم ان ذلك عيب قبيح .

و امـا موضع (يقولون ) من الاعراب , فيمكن ان يكون نصبا على انه حال من الراسخين , و يمكن ان يكون كلاما مستانفا, اي هؤلا العالمون بالتاويل , يقولون : آمنا به .

و قـد روي عـن ابـن عـباس انه تاول آية , فقال قائل من الصحابة : ( و ما يعلم تاويله الا اللّه ) فقال ابن عباس : (و الراسخون في العلم ) و انا من جملة الراسخين ((97)) .

و نـحـن قـد تـكـلـمـنـا عـن هـذه الايـة بـتفصيل و توضيح , عند الكلام عن متشابهات القرآن , فراجع ((98)) .

هل التفسير توقيف ؟

ربـمـا كـان بعض السلف يحتشم عن القول في القرآن , خشية ان يكون قولا على اللّه بغير علم , او تـفسيرا برايه الممنوع شرعا و تبعهم على ذلك بعض الخلف , فامسكوا عن تفسير القرآن , سوى ما ورد فيه اثر صحيح و نقل صريح .

فقد اخرج الطبري باسناده الى ابي معمر, قال : قال ابوبكر: ((اي ارض تقلني و اى سما تظلني اذا قـلـت فـي الـقـرآن مـا لا اعـلـم )), و فـي روايـة اخـرى ايـضـا عـنه : ((اذا قلت في القرآن برايي )) ((99)) .

و هذا عند ما سئل عن ((الاب )) في قوله تعالى : (و فاكهة و ابا, متاعا لكم و لانعامكم ) ((100)) , فقداخرج السيوطي باسناده الى ابراهيم التميمي , قال : سئل ابو بكر عن قوله تعالى : (و ابا), فقال : ((اى سماتظلني و اى ارض تقلني اذا قلت في كتاب اللّه ما لا اعلم )) ((101)) .

و هكذا روي عن عمر انه جعل التكلم في الاية تكلفا يجب تركه و ايكاله الى اللّه , اخرج السيوطي بـعدة اسانيدان عمر قرا على المنبر: (فانبتنا فيها حبا و عنبا و قضبا ـ الى قوله ـ و ابا) قال : كل هذا قد عرفناه , فماالاب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده , فقال : هذا لعمرو اللّه هو التكلف , فما عليك ان لا تـدري مـا الاب , اتـبـعـوامـا بـين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به , و ما لم تعرفوه فكلوه الى ربه ((102)) .

و عن عبيد اللّه بن عمر قال : لقد ادركت فقها المدينة , و انهم ليعظمون القول في التفسير, منهم سالم بن عبداللّه , و القاسم بن محمد, و سعيد بن المسيب , و نافع و عن يحيى بن سعيد, قال : سمعت رجلا يسال سعيد بن المسيب عن آية من القرآن , فقال : لا اقول في القرآن شيئا و في رواية اخرى : انه كان اذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال : انا لا اقول في القرآن شيئا, و كان لا يتكلم الا في المعلوم من القرآن قال يزيد: و اذا سالنا سعيداعن تفسير آية من القرآن , سكت كان لم يسمع .

و عن ابن سيرين , قال : سالت عبيدة السلماني عن آية , قال : عليك بالسداد, فقد ذهب الذين علموا فيم انزل القرآن .

و جا طلق بن حبيب الى جندب بن عبد اللّه , فساله عن آية من القرآن , فقال له : احرج عليك ان كنت مسلما,لما قمت عني , او قال : ان تجالسني .

و روي عن الشعبي , قال : ثلاث لا اقول فيهن حتى اموت : القرآن , و الروح , و الراي , و كان يقول : و اللّه ما من آية الا قد سالت عنها, و لكنها الرواية عن اللّه .

و روي عنه انه قال : ادركتهم ـ اي الاوائل ـ و ما شي ابغض اليهم ان يسالوا عنه و لاهم له اهيب , من القرآن ذكره صاحب كتاب المباني .

و رووا فـي ذلك بطريق ضعيف عن عائشة , قالت : ما كان النبى (ص ) يفسر شيئا من القرآن الا آيا تعد, علمهن اياه جبريل ((103)) , اي انه (ص )لم يكن يفسر الا القلائل من الايات , تلك القلائل ايضا كان بوحي و توقيف , و لم يكن عن فهمه .

و روي عن ابراهيم , قال : كان اصحابنا يتقون التفسير و يهابونه .

قال ابن كثير: فهذه الاثار الصحيحة و ما شاكلها عن ائمة السلف , محمولة على تحرجهم عن الكلام فـي الـتـفسيربما لا علم لهم فيه فاما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة و شرعا فلا حرج عليه , و لهذا روي عـن هـؤلا و غـيرهم اقوال في التفسير, و لا منافاة , لانهم تكلموا فيما علموه و سكتوا عما جـهلوه و هذا هو الواجب على كل واحد,فانه كما يجب السكوت عما لا علم به , فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه , لقوله تعالى : (لتبيننه للناس و لا تكتمونه ) ((104)) .

و بعين ذلك ذكر ابن تيمية في مقدمته ((105)) .

و قـال ابـن جرير الطبري : ان معنى ((احجام )) من احجم عن القيل في تاويل القرآن وتفسيره من علما السلف , انما كان احجامه عنه حذرا ان لا يبلغ ادا ما كلف من اصابة صواب القول فيه , لاعلى ان تاويل ذلك محجوب عن علما الامة , غير موجود بين اظهرهم ((106)) .

قـلـت : و الـدلـيل على صحة ذلك ان من تحرج من القول في معاني القرآن من السلف , كانوا هم القلة القليلة من الاصحاب و التابعين , اما الاكثرية الساحقة من علما الامة و نبها الصحابة فقد عنوا بتفسير القرآن و تاويله عناية بالغة , كانت الوفرة الوفيرة من رصيدنا اليوم في التفسير.

قال ابن عطية : و كان جلة من السلف كثير عددهم يفسرونه , و هم ابقى على المسلمين في ذلك .

فاما صدر المفسرين و المؤيد فيهم فعلي بن ابي طالب (ع ), و يتلوه عبد اللّه ابن عباس , و هو تجرد للامر وكمله , و تبعه العلما عليه , كمجاهد, و سعيد بن جبير, و غيرهما و المحفوظ عنه في ذلك اكثر من المحفوظ عن على بن ابي طالب .

و قال ابن عباس : ما اخذت من تفسير القرآن فعن على بن ابي طالب .

و كـان عـلى بن ابي طالب يثني على تفسير ابن عباس , و يحض على الاخذ عنه و كان عبد اللّه بن مسعود يقول :نعم ترجمان القرآن عبد اللّه بن عباس .

و هـو الذي قال فيه رسول اللّه (ص ) : ((اللهم فقهه في الدين )), و حسبك بهذه الدعوة و قال عنه على بن ابي طالب (ع ): ((ابن عباس كانما ينظر الى الغيب من ستر رقيق )).

و يتلوه عبد اللّه بن مسعود, و ابى بن كعب , و زيد بن ثابت , و عبد اللّه بن عمرو بن العاص .

قال : و كل ما اخذ عن الصحابة فحسن متقدم ((107)) .

و امـا حديث عائشة ـ فضلا عن تكلم ابن جرير و ابن عطية و غيرهما في تاويله و ضعف سنده ـ فـالارجـح في تاويله : انه (ص ) كان يفسر لهم القرآن اعدادا فاعدادا, كل فترة عددا خاصا حسبما كان جبرئيل يعلمه عن اللّه ـجل جلاله ـ و لم يكن التعليم فوضى من غير انتظام و سيوافيك حديث ابن مسعود في ذلك : كان الرجل منا اذاتعلم عشر آيات , لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن .

قال صاحب كتاب المباني : و اما ما روي عن عائشة , فان ذلك يدل على انه (ع ) كان يحتاج مع ما انزل عـلـيه من القرآن الى تفسير آيات يعلمهن اياه جبريل (ع ) و تلك آيات معدودة قد اجملت فيها احكام الشريعة , بحيث لايوقف عليه الا ببيان الرسول عن اللّه تعالى .

و امـا ما ذكروه من امتناع من امتنع من القول في التفسير, فان ذلك بمنزلة من امتنع منهم عن الرواية عن رسول اللّه (ص ) الا فيما لم يجد فيه بدا.

و لـذلك قلت روايات رجال من اكابر الصحابة , مثل عثمان و طلحة و الزبير و غيرهم روى عامر بـن عبد اللّه بن الزبير عن ابيه قال : قلت للزبير: ما لي لا اسمعك تحدث عن رسول اللّه , كما اسمع ابـن مـسـعود و فلانا و فلانا؟فقال : اما اني لم افارقه منذ اسلمت , و لكني سمعت رسول اللّه (ص ) يقول : ((من كذب على متعمدا فليتبوا مقعده من النار)).

و قيل لربيعة : انا لنجد عند غيرك من الحديث ما لا نجد عندك مـنـه , و لـكـنـي سـمـعت رجلا من آل الهدير يقول : صحبت طلحة و ما سمعته يحدث عن رسول اللّه (ص ) الا حديثا واحدا.

قال : و هذا عبد اللّه بن عباس , لم يدع آية في القرآن الا و قد ذكر من تفسيرها, على ما روت عنه الرواة , ولذلك قيل : ابن عباس ترجمان القرآن .

و روي عن ابي مليكة قال : رايت مجاهدا يسال ابن عباس في تفسير القرآن و معه الواحه , فيقول ابن عباس : اكتبه , حتى ساله عن التفسير كله .

و روي عن سعيد بن جبير انه قال : من قرا القرآن و لم يفسره كان كالاعمى او كالاعرابي .

و روى مـسـلـم عـن مـسروق بن الاجدع قال : كان عبد اللّه يقرا علينا السورة ثم يحدثنا فيها, و يفسرها عامة النهار.

و عـن ابي عبد الرحمان قال : حد ثونا الذين كانوا يقرئوننا: انهم كانوا يستقرئون من النبى , فكانوا اذا تعلموا عشرآيات لم يخلفوها حتى يعلموا ما فيها من العمل , فيعلموا القرآن والعمل جميعا.

و عن ابن مسعود: كان الرجل منا اذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ((108)) .

و بـعـد, فـقد ذكر الراغب الاصبهاني هنا شرائط يجب توفرها في المفسر, حتى لايكون تفسيره تـفـسيرا بالراي الممنوع شرعا و المقبوح عقلا, نذكره بتفصيله , فان فيه الفائدة المتوخاة في هذا الباب .