فنقول إنّ أفعال نقل القول والكلام وحكايتهما مثل و و تُعدّى بحرف الجرّ عادةً ، يقال و و و .والتجاوز المفروض في ( عن ) ليس متصوّراً بمعناه الحسّيّ الحقيقيّ في هذه الموارد لأنّ الفعل وهو من جنس الكلام لا استقرار له حتّى يُعقل تجاوزه ، بل لا بُدّ أنْ يكون التجاوز معنوياً.لكنّ المتجاوِز والمتجاوَز عنه في هذا المقام يختلفان عمّا سبق ، فليس المتجاوِز هو فاعل الفِعل ، بل هو الحديثُ نفسه - لو فرض - فقول زيد معناه على التجاوز تجاوَزَ الحديثُ بكراً إلى عمرٍو ، وليس هذا موافقا لواقع التجاوز الذي عرفناه في ، و حيث إنّ التجاوزَ فيهما معناه مجرّد ابتعاد عمرٍو عن بكرٍ أو السهم عن القوس ، وانفصاله عنه ، بينما في ليس مجرّد ذلك ، بل فيه الانفصال والوصول إلى غاية ، ولذا لو قال زيد أوصلَ إليَّ عمرٌو حديثاً من بكرٍ ، أو صَحَّ ، وأدّى نفس معنى بلا تفاوت .فالتجاوز المراد من لا يمكن إرادته في مثل لأنّ واقع التجاوز هو الابتعاد والتعدّي والانفصال ، عن المجرور ، من دون ملاحظة بلوغه إلى الاَخر ، والمفروض أنّ الحديث لم ينفصل فقطْ عن بكرٍ ، وإنّما بلغ عَمْراً ، فيكون منتهياً إلى غاية ، وهو معنى فقط كما شرحنا .وهذا المعنى هو الواقع في الأسانيد ، ولذا لا بُدّ من تقدير أفعالٍ من مثل و و وغيرها ، مع كلّ حرف جرّ ( عن ) في السند ليتعلّق به ولا يحتاج إلى واسطة .وبما أنّ معنى التجاوز غير جارٍ في هذا ، فلا بُدّ أن تكون بمعنى التي يُراد بها الابتداء وإنْ كان معنويّاً ، كما ورد عند أئمّة اللغة والنحو .والحاصل أنّ معنى قوله أنّه وَصَلَ إلى عمرِو حديث من مكرِ .وأمّا قول الأصمعيّ يريد عنه . فهذا دليل على استعمال ( من ) بعد حدّثني بمعناها الحقيقيّ وهو الابتداء لوجود غاية ينتهي إليها كما فسّرناه ، إلاّ أنّ ( حدّث ) تتعدّى ( بعن ) في لسان العرب ، فلا بُدّ أن تكون ( عن ) بمعنى ( من ) ، فمراد الأصمعي التعبير عن مقتضى اللفظ .نقول ولِما يُرى من اشتراك و في كون المجرور بهما مُنْطَلَقاً إمّا للابتعاد بلا غاية ، أو للابتداء إلى غاية ، كانَ ذلك موجِباً للتسامح في جواز استعمال أحدهما بدل الاَخر وبمعناه ، فلاحظ .ونقول أيضا ولو فرضنا صحّة استعمال في مثل بمعنى التجاوز ، وهو مجرّد الانفصال من دون غاية ، فلا ريبَ أنّ ذلك مَجازٌ وخلافُ الشائع ، لوضوح صحّة استعماله في المتّصل المباشر ، بكثرة وشيوع ، من دون حاجة إلى قرينة مع العلم بالاتّصال ، بل هو الظاهر من الإطلاق ، فلاحظ .وممّا يقرّب ما ذكرنا استعمال ( عن ) مع فعل الأخذ في موضع ( من ) .قال أبو حمزة الثمالي أخذت هذا الدعاء ( من ) أبي جعفر عليه السلام (19) وفي الكافي ( عن ) أبي جعفر عليه السلام (20) .وهما بمنزلة ما ورد من قول الراوي أعطاني أبو عبد الله عليه السلام هذا الدعاء(21) . ومعنى هذه الموارد صَدَرَ الدعاء من الإمام إلى الراوي ، وليس مجرّد تجاوزه عن الإمام بلا غاية ، فلاحظ .نعم ، لو كان فاعل الحديث مجهولاً ، كما في أمكن تصوّر معنى المجاوزة المعنوية لأنّ الكلام المنقول عن بكرِ قد تجاوزه وابتعد عنه ، لكنّه لم يبلغ غاية معيّنة ، لفرض أنّ الناقل له هو الفاعل المجهول .نعم ، قد بلغ المتكلّمَ بالفعل ، لكنّه لا بصدوره من بكرِ ، فأمره يدور بين ابتداءِ بلا غاية ، وهو التجاوز المراد من وبين انتهاءِ بلا بداية ، وهو ليس مؤدّى ، فلاحظ .ولذا ، فقد حُمِلَ ما ورد بلفظ على الانقطاع والإرسال ، وأُعِلّ الحديث بذلك حتّى ما ورد منه في مثل كتاب البخاري ، على مبالغاتهم فيه .قال ابن حجر في (هدي الساري مقدّمة فتح الباري) في الفصل الرابع الذي عقده لبيان سبب التعليق للأسانيد عند البخاري ما نصّه فأمّا المعلَق من المرفوعات ، فعلى قسمين