<a name=aaa6> </a> الإسلام منهج الحياة - إسلام، حیاة أفضل نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إسلام، حیاة أفضل - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

وللأسف فمنذ القرن الرابع الهجري انتشرت بين المسلمين الروح الصوفية بمفهومها السلبيّ، هذه الروح التي حوّلت النشاط والعمل والاجتهاد إلى أوهام وخرافات وتخيلات وهروب من الحياة، ومنذ ذلك اليوم بدأت المسيرة العكسية في حضارة المسلمين؛ أي إن هذه الحضارة بدأت بالهبوط والانهيار، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.

وعلى سبيل المثال فإن الفلاح المسلم الذي كان يقوم مبكّراً بعد أن يؤدّي صلاة الفجر ليتجه إلى مزرعته، ويشق الأرض، ويشرف عليها حتّى حلول الظلام. غير أن حبه لأرضه وعمله، قد إنعدم من حياته الآن تقريباً، لأن ديدن الفلاحين اليوم في البلدان المسلمة أن يتركوا أراضيهم، ويتوجّهوا نحو المدن بحثاً عن الرفاهية الأكثر والعمل الأقل.

إنّ هذه الروح المتكاسلة المتقاعسة هي التي جعلتنا نعيش هذه الأوضاع المتردّية، وبصفتنا حملة رسالة، ودعاة إلى الإسلام لابد أن ننمّي في أنفسنا روح العمل وهمّته وحبّه.

طالب العلم والعمل

وللأسف هناك من طلاّب العلم من يتصور أنّ العمل غير واجب عليه، وأن وظيفته تقتصر على طلب العلم فحسب، في حين إنّ الإنسان الخامل الذي يتصوّر أن العلم يقتصر على قراءة الكتب لا يمكن أن يصبح عالماً، لان العلم ليس بكثرة الدراسة والقراءة. فالإنسان الذي يتحرك في الحياة، ويعمل فيها بجدّ ونشاط بامكانه أن يحصل على العلم، ويكتسب الخبرات والتجارب بصورة أفضل من طالب العلم الذي يستنكف من العمل.

ومن خصائص وميزات التقدم التكنلوجي في العالم اليوم ربط العلم بالعمل، ففي كلّيات الطب -مثلاً- توجد مستشفيات خاصة للتجربة والتطبيق، وفي معاهد إعداد المعلّمين لابد أن يدخل الطالب الذي يريد أن يصبح معلّماً بعد تخرّجه دورة تطبيقية، وهكذا الحال بالنسبة إلى الكليات والمعاهد الاخرى.

ضرورة تطوير الفقه

ونحن أيضاً علينا أن نطوّر الفقه، وفهم الإسلام. فالمتفقّه في الدين لابد أن يتفقّه الساحة أيضاً، فإن أراد -مثلاً- أن يدرس مسائل الذبح فعليه أن يذهب إلى المسلخ ليتعرّف عن كثب على هذه العملية. فهناك الكثير من المسلمين قد يعرفون المسائل الشرعية المتعلقة بالحج - مثلاً- ولكنّهم قد يتورطون في ذبح ذبيحة، فلا يعرفون ماذا يصنعون.

وهكذا الحال بالنسبة إلى دراسة مسائل القضاء، فالطالب عندما يريد أن يدرس مسائل الحقوق والعقود والايقاعات، لابدّ له من أن يذهب إلى المحاكم، ويجلس مع الحاضرين فيها ليتعرّف على طبيعة الخلافات التي تحدث في المجتمع، والطريقة المثلى لحلّها. أمّا أن نجلس، ونحيط أنفسنا بمجموعة من الكتب، فإنّ هذا السلوك غير صحيح، فلابّد لنا من أن نجعل فقهنا عملياً، وننمّي في أنفسنا الطاقات العملية النشيطة.

وقد ذكرت في أكثر من موضع كيف أن علماءنا الماضين كانوا يصرّون على ان يؤدّوا أعمالهم بأيديهم من جمع فراش النوم إلى تنظيف البيت وما إلى ذلك من الأعمال، مستلهمين هذا السلوك من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله الاطهار عليهم السلام.

العمل مقدّس

انّ العمل مقدّس مهما كان مادام يؤدّي الإنسان من خلاله الخدمة إلى مجتمعه، حتى وإن كان هذا العمل متمثلاً في القيام بأعمال البيت. ففي هذا المجال يقول الإمام عليّ عليه السلام: " صدّيق امتي من يعين أهله في بيته". ومن الخطأ بمكان أن يتصوّر الواحد منا أنه إذا أصبح عالماً، فإنّ عليه أن يجلس في مكان واحد، ويتحرّج من القيام بالأعمال العمليّة.

إنّ الدراسة مطلوبة، ولكن ضمن حدودها المعقولة. والأئمة عليهم السلام على الرغم من أنّهم كانوا يقودون المجتمع، ويجيبون على المسائل المختلفة للناس، ويؤدّون أدوارهم السياسية.. نرى أنهم لم يكونـوا يستنكفون من العمل، فكانوا يستصلحون الأرض، ويقومون بالاعمال التجارية.

إنّ الذي أريد ان أقوله هنا: إنّ الواحد منّا لابد أن يكون انموذجاً يتجسد فيه جميع جوانب الإسلام، فلا يجوز لنا ان نقول اننا نكتفي بهذا الجزء من الإسلام، ونترك الأجزاء الاخرى، فمثل هذا الموقف لا يجوز أن يصدر من الإنسان المسلم.

وهكذا فمن المتعيّن علينا أن نكثّف الانتاج ونزيده، فلا شك ان مثل هذا العمل سيسجّل في قائمة أعمالنا الصالحة. فخدمة المجتمع ولو بسقاية الماء والأعمال الاخرى التي نتصوّر أنها لا تنفعنا في الآخرة، من شأنها أن تتراكم وتتكثّف لترجح كفّة حسناتنا في يوم القيامة، كما يشير إلى ذلك ربنا تعالى في قوله: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ» (الزلزلة/7-8).

وكما يقول عز وجل في موضع آخر: «اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ» (الحشر/18)

الإسلام منهج الحياة

عندما يتأمل الإنسان المؤمن في آيات الذكر الحكيم، يلاحظ انّه قائم على بصيرة مزج الحقائق مع بعضها؛ فليست هناك مسافات شاسعة بين العقائد والاخلاق، وبين الاخلاق والشرائع والوصايا، ولا بين الاصول والفروع، والماضي والحاضر، والحاضر والمستقبل، وبالتالي بين الدنيا والآخرة.

وهذه النظرة الشمولية التي زوّدنا بها القرآن الكريم عبر آياته الكريمة تجعلنا نهيمن على الواقع؛ فان نظرتنا إلى جانب منه لا تعني غفلتنا عن الجوانب الاخرى، واذا عملنا في بعد منه فاننا سوف لا نهمل سائر الابعاد، وإذا تحرّكنا في المجال السياسي، فلن نغفل المبادئ الاخلاقية، وإذا ما ربطنا بين السياسة وهذه المبادئ فإننا سوف لا نترك شرائع الدين وأحكامه وحدوده. فالحدود والاحكام والوصايا والأخلاق السامية والمبادئ العليا، كلّها يضعها القرآن الكريم في إطار واحد.

قصة موسى عليه السلام تجسيد للسنن الإلهية

وفي القرآن الكريم وبالذات سورة إبراهيم عليه السلام يحدثنا الله عز وجل عن مشهد من صورة كبيرة؛ هي صورة الصراع بين بني اسرائيل بقيادة نبيّهم موسى عليه السلام، وبين جنود الطاغوت بقيادة فرعون، وقد تمثّلت في هذا الصراع كلّ السنن الإلهية؛ أي انّ هذه السنن لو طبّقت اليوم لتمخّضت عن ذات الحقيقة والواقع.

لقد كان فرعون بشراً كسائر البشر؛ إلا أنّه ظهر في بيئـة يعيـش فيها مجتمع من النوع الغافل الذي لا يمتلك ذهنيّة ولا فكراً ولا قيـادة، كما يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَاَطَاعُوهُ» (الزخرف/54)؛ أي إنّ فرعون بدأ يذكر لهم أفكاراً خاطئة وأكاذيب فانخدعوا بها، والتفّوا حوله. وهذه السلوكيّة التي صدرت من فرعون من الممكن أن تتكرّر كلّ يوم، ولذلك فإنّ القرآن الكريم يضرب لنا الامثال من قصص الماضين، لارتباطها المباشر بحياتنا.

قضايا رئيسية

ولذلك فانّ القرآن الكريم لم يذكر لنا جزئيات وتفاصيل حياة الفراعنة -على سبيل المثال-، ولكنّه يذكر لنا القضايا الرئيسية التي تمثل سنناً من الممكن أن تتكرّر. ومن ضمن هذه القضايا ان فرعون كان منبهراً بحب الرئاسة، مشغوفاً بها، كما يشعر بذلك قوله تعالى على لسان هذا الملك الطاغية: «فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى»(النازعات/24)

وفي الحقيقة فانّ مثل هذه الظاهرة موجودة في قلب كلّ إنسان، فكلّ واحد منّا يمتلك أو يُبطن فرعوناً صغيراً في نفسه، كما جاء في الحديث الشريف: "كلّ بني آدم يضمرون ما أظهره فرعون"، وهذا يعني أنّ فرعون عبّر عن حبّه للرئاسة صراحة عندما رأى الظروف مهيّأة لذلك، أمّا بالنسبة إلى سائر الناس فإنّ مثل هذه الظروف لم تتوفّر لهم.

ولذلك فانّ على الإنسان ان يسأل خالقه أن لا يمتحنه بما لا يطيقه، فلو أصبح الحمل أثقل ممّا يتحمّله فإنّه سينهار. ولذلك كان علماؤنا رضوان الله عليهم يجأرون إلى بارئهم أن لا يبتليهم بالرئاسة عملاً بالوصية المعروفة للامام الصادق عليه السلام: "واهرب من الفتيا هربك من الاسد". ([13]) وبالطبع فإنّ العالم لا يمكنه أن يتهرّب من المسؤولية إذا تعيّن عليه أن يتحمّلها، لانّها مسؤوليّة إلهية.

وللأسف فانّنا نهتمّ ببناء البيوت التي هي فوق الأرض، في حين أنّ بيوتنا الحقيقية تحت التراب. فلنعمر هذه البيوت ونهتمّ بها، لأننا سوف نخرج منها إلى النشور، وهول المطلع.

وهذه هي مفردة من مفردات النظرة الشمولية للاسلام، ومن هذا المنطلق يجدر بالإنسان المؤمن أن يأخذ بنظر الاعتبار الآخرة وهو يعمل لدنياه.

الإسلام يدعونا إلى النظرة الشمولية

وعلى هذا فانّ النظرة الإسلامية هي نظرة شمولية تدعونا إلى ملاحظة القضايا والظواهر دون تجزئة. فالإنسان المؤمن عندما ينظر إلى قضيّة سياسة ينظر إليها من منظار التقوى، وإذا نظر إلى قضيّة دينيّة فانّه يأخذ بنظر الاعتبار الوضع السياسيّ.. فالإنسان المؤمن يجب أن يكون متمتّعاً ببعد النظر الشمولي في جميع الجوانب لا في جانب واحد على حساب الجوانب الاخرى.

وهنا أضرب مثلاً من قصّة فرعون التي يأتي بها القرآن الكريم، ويدخلها في وعينا وكأنّها قضيّة نعايشها اليوم، إذ يحثّنا على استلهام العبر منها؛ هذه العبر التي تضيء الطريق، وتعلّمنا كيف نتحرّك. وعلى الرغم من انّ هذه القصة ذات بعد سياسيّ من خلال وجود الصراع فيها، وعمليّة تغيير النظام، الا انّ القرآن الكريم لا ينظر اليها من زاوية سياسيّة فحسب، وإنما يتعمّق في طرحها ليحوّلها إلى قضيّة تربوية.

وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم على لسان النبي موسى عليه السلام: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ» (المائدة/20)؛ أي إن الإنسان يجب أن يذكر الله تعالى، لا من خلال ترديد الأذكار فحسب؛ بل عليه ان يتذكّر، ويعي، ويستوعب نعم الله عز وجل عليه.

ثم يضيف السياق القرآني الكريم محدّداً نوع النعمة التي أنعم الله بها على بني إسرائيل: «إِذْ أَنجَاكُم مِنْ ءَالِ فِرْعَـوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَـذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلآءٌ مِن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ» (اِبراهيم/6)؛ أي إنّ هذا العذاب الذي كان يعاني منه بنو إسرائيل كان نتيجة لسوء علاقتهم بالله جل وعلا، فسلّط عليهم فرعون وملأه.

ثم يقول تعالى: «وَإِذْ تَاَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ» (اِبراهيم/7). فالرضا والشكر يقفان على رأس الفضائل، فيجب أن نشكر الله تعالى على نعمه، وعلى الانتصارات التي نحققها لكي يبارك لنا الخالق فيها. أمّا إذا كفرنا بها، فانّها سوف تتحول إلى هزائم.

بعد ذلك يشير عز وجل في قوله: «وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» (اِبراهيم/8). الأمم التي عاشت قبل عصر موسى عليه السلام من مثل قوم نوح وعاد وثمود الذين دخلوا في صراع حادٍّ مع انبيائهم، بالرغم من إنّ أنبياء الله كانوا يأتون اليهم بالآيات والدلالات الواضحة، إلاّ أنّهم كانوا يشكّون في وجود الخالق تعالى شأنه؛ أي الإنسان من الممكن أن ينتهي به الامر إلى الكفر والضلالة. فهو قد لا يعلن بصراحة عن كفره، إلاّ أنّ طلبه من الأنبياء أنّ يقدموا الدليل على كونهم مرسلين من قبل الله هو بحدّ ذاته كفر، خصوصاً وأنّ الأنبياء عليهم السلام قدّموا الأدلة الكافية في هذا المجال. وهنا أوحى الله سبحانه وتعالى إلى الانبياء انّ النصيحة لا تنفع مع اقوامهم، فأمرهم حينئذ بالتوكل عليه.

التوكل زاد الإنسان الرسالي

وهكذا يقدّم لنا القرآن الكريم صفة أخرى من الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان المؤمن خلال الصراع، وهي التوكل على الله عـز وجل، وهذه الصفة تعني أن يشحذ الإنسان ارادته.

صحيح إنّنا ضعفاء، وانّ الحمل ثقيل، والظروف تعاكسنا، ولكن الله تعالى وعدنا بالنصر قائلاً: «إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ» (محمد/7). فلنقتحم -إذن-؛ فان روحيّة الاقتحام والجدّ في العمل تصنع المعاجز، وهذا هو معنى التوكّل المشار إليه في الآية الكريمة: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (آل عمران/122).

وبناء على ذلك، فما دمنا مؤمنين بالله، وبقدرته وهيمنته، ووعده بالنصر، فلماذا لا نتحرك؟ علماً إنّ التوكل عليه سبحانه لا يقتصر على عمل معين بذاته فحسب، بل يتجلّى في كلّ عمل. فلو كنّا نمتلك التوكّل الحقيقيّ فاننا سنقوم بزيادة اعمالنا الصالحة، وسوف لا نبقى مترددين نخشى الفشل وكلام الناس ضدّنا أو نفاد أموالنا، بل سننبذ الخوف جانباً، وسنتمتع بروح الاقدام، فاننا حتى لو فشلنا في المشاريع التي نقوم بها فانّ هذا أفضل من أن نجلس ساكتين.

إنّنا مسؤولون في يوم القيامة عن الفرائض التي تركناها كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقديم المساعدات إلى الفقراء والمحتاجين، واخواننا المسلمين الذين يعيشون المحنة في هذه المنطقة أو تلك من العالم الإسلاميّ وغيره، فعلينا أن نفكّر في تقديم الخدمات إليهم، وان لا نتذرّع بانّنا فقراء معدمون لا نمتلك شيئاً نقدّمه.

فعلينا الاهتمام بالآخرين أينما كانوا، ونشارك في المشاريع الخيريّة، لانها تمثّل صدقة جارية. وعندما نسهم في هذه الصدقة الجارية، فإن الله عز وجل بدوره سوف يعيننا في حياتنا، ويرزقنا من حيث لا نحتسب.

الإسلام كلّ لا يتجزأ

إنّ الإسلام كلّ لا يتجزأ؛ فهو عقائد، وأخلاق، وشرائع، ووصايا، وآداب، وكلّ هذه الجوانب يجب أن يلتزم بها الإنسان المؤمن. فالإنسان المجاهد لا يمكن - على سبيل المثال- أن يتعامل مع والده باسلوب غير مهذّب، لأنّ هذا الإنسان مهذّب ومؤدّب بالإسلام. كما لا يجوز للانسان المؤمن أن يخرج عن حدود الله مهما كانت بسيطة، فالشيء الكبير لا يمنع من الالتزام بالشيء الصغير، فحتى لو كان المؤمن يقاتل في ساحة الصراع فانّ عليه ان يعمل بالمستحبّات، كأن يقرأ القرآن، ولا يترك صلاة الليل.. فمثل هذه الاعمال من شأنها أن تعود علينا بالنفع، وعلينا ان لا نستصغرها بحجة نظرتنا الشمولية للاسلام.

الإسلام نظام الحياة

يتساءل البعض عن الطريق الأفضل والأقرب إلى تنمية الايمان؟ وعن التزود في هذه الدنيا بالتقوى لضمان العاقبة؟ ذلك ان التزود بالتقوى هو الوظيفة الأولى والمهمة الرئيسية التي يتوجب على الإنسان إنجازها في الدنيا؛ فالدنيا مزرعة الآخرة، ومن استطاع النجاح في انجاز مهمته فهو في خير ما فوقه خير، ومن تثاقل عنها فهو في خسران ليس دونه خسران.

والله سبحانه وتعالى أقسم بالعصر بأن الإنسان في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، فغير هؤلاء الذين حدَّدهم القرآن الكريم أحاط بهم الخسران المبين إحاطة السوار بالمعصم.. شاؤوا أم أبوا؛ فالحقيقة الالهية وسر الوجود والخلقة يفرض نفسه فرضا على بني البشر.

إن التساؤل المطروح تكمن فيه الخطورة مجسمةً تمام التجسم، إذ في الاجابة عليه يتحدد مصير الإنسان.

ولتسليط مزيد من الاضواء على ذلك، نؤكد بأن قرار ومصير الإنسان لا ينبغي أن يشوبه التهاون والضِّعة، ولا أن يقاس بمقاييس التمني والتظني، بل لابد لذلك من رغبة حقيقية صادقة في تبيين الأمور، ومعرفة الطرق الكفيلة بنجاح القرار المتبنى على اسس معرفية مستقاة من التعاليم الدينية الأصيلة التي أوضحتها لنا الآيات القرآنية الكريمة وسنة أهل البيت المطهرة.

فالطريق السليم والمستقيم لا يرسمه الإنسان، والوسائل الصالحة لا يوجدها هو، بل هي مرسومة من قبل الشريعة البيضاء والدين الحنيف. والوسائل بدورها بمثابة النعمة الربانية على الناس، وهؤلاء ما عليهم إلا التبيّن في الطريق والانتخاب في الوسائـل. والله قد قال في كتابه المجيد: «لَيْسَ بِاَمَانِيِّكُمْ وَلآ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَاب» (النساء/123).

إذن؛ فالدين ليس تلاوة القرآن بقدر ماهو العمل به، وليس هو ترديد الأذكار والاوراد الخالية عن الفهم العقلي والتضامن القلبي والسلوك الحسي. حيث قال صلى الله عليه وآله: "رب تال القرآن والقرآن يلعنه". ([14]) وربما يكون الإنسان كما الحمار الذي يحمل أسفاراً، لا يعي ما فيها، بل ولا يدرك سبب حمله إياها...

وهذه هي العبرة العظيمة التي ينبغي أن نتبصرها من خلال توجيه الرسول صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام، حينما رآه قد أجهد نفسه بالعبادة فقال له: "يا علي إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق..". ([15])

وهكذا المثل في بقية أئمة أهل البيت عليهم السلام، الذين كان الواحد منهم يتبتل إلى ربه تبتيلاً في الليل طلباً لمرضاته، وفي النهار كان يصل الرحم ويهتم بالفقراء والمساكين ويعلم الناس ويقف بوجه الظالم ويطالبه بكل ما أوتي من قوة بتحقيق العدالة.

ولقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يصلي في الليلة الواحدة ألف ركعة خالصة لوجه الله تعالى، فإذا أصبح الصباح مشى إلى فراشه حبواً، لأن ركبتيه ما كانتا تحملانه إلى الفراش من كثرة ما تعبد وأجهد نفسه بالعبادة. ولكن لم تكن هذه الصلوات حركته الوحيدة في حياته، وإنما كان من سيرته الطاهرة المباركة أنه أخذ على نفسه الزكية أن يعتق كل عام مائة من العبيد، بعد ان يشتريهم ويعلمهم ويزكيهم بانتخاب وانتقاء بالغين. فإذا بالواحد منهم يصبح بمفرده أمة صالحة، قادر على أن يكوّن البنية التحتية للمجتمع. وكان عليه السلام يعارض ويقاوم الطغاة من خلال نشر رسالة وأهداف الإمام الحسين عليه السلام، وغيرها من الأعمال الفذة التي تعجز الأقلام والألسن عن حصرها.

ومن هنا؛ فإن القضية الأولى في حديثنا تتجسد في القول بأن الدين نظام شامل للحياة بكل تفاصيلها.. ومن الخطأ القاتل بأن يؤخذ الدين أو يفهم من زاوية واحدة. أو أن يعمد الناس إلى تقطيع أوصال الدين، كل يكتفي بقطعة.

فالدين كل لا يتجزأ أبداً، والدليل الأكبر على ذلك هو ما تعيشه المجتمعات البشرية من مآسٍ وويلات. فالشيطان الرجيم إختط لها طريقة بلهاء تمثلت في عزل الدين عن حياتها، إلا ما يساعد على تحقيق مصالحها أو ينعدم تأثيرها فيها. ففصل الدين عن السياسة والتجارة والتربية والعلاقات، ولم يبق منه سوى لقلقة اللسان والرسوم المشوهة. وهذا ما بينه الأئمة المعصومون فيما يتصل برواياتهم حول أشراط الساعة وأحوال آخر الزمان.

فالدين هو الدين الذي ينفع الحياة، هو الدين الذي لا يفرق بين بعض الكتاب وبعضه، ولا يتّخذ القرآن عضين. فالدين الذي لا بد وأن يطبقه الناس والحكومات في السياسة والاجتماع والتاريخ وخطط الحاضر والمستقبل وكل بعد من أبعاد الحياة، انما يجب أن يحكم حتى يسمو بالإنسان إلى الدرجات الرفيعة التي وعده الله تعالى.

ولقد استطاع المسلمون في صدر الإسلام أن يفتحوا العالم في فترة قياسية جداً على رغم صعوبة المواصلات ووعورة الطرق وانقطاع الاخبار شبه التام، فوصلوا إلى الصين شرقاً والأندلس غرباً، لأنهم تعاملوا مع التعاليم الدينية تعاملا واسعا وشاملا. والآن وقد وضع الناس دينهم وراء أظهرهم، فقد ابتلوا بما لم يكن في حساباتهم، وهو الأمر الذي حذرهم منه القرآن الكريم نفسه، حيث قال:« وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً» (طه/124)؛ أي إنه سيفتقر إلى المنهج القويم فيكون كمن يركض وراء سراب، وبذلك تكون معيشة في تعب وضنك دائمين.

مسؤولية كبرى

من المسؤوليات الكبرى المفروضة على العلماء، هي إعادة لُحمة الدين إلى أصله وسابق وحدته الواحدة. ولو لم يستطيع العلماء أن يحولوا أنفسهم رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فان الجهود ستذهب سدى؛ لان شجرة العلم عاجزة تمام العجز عن إعطاء الثمرة، ما لم يقف على أمر مداراتها أناس يمتازون بخصائص فذّة؛ خصائص حددها القانون الرباني، وأولها هي الصدق في الجذور والفروع والأغصان...

من هنا يتأكد على العلماء دور تحويل المجتمع بسائر طبقاته وأبعاده إلى كيان ديني عريق، بدءاً بعلاقة الإنسان بنفسه؛ ومروراً بعلاقة الفرد بأقرانه كمجتمع، وانتهاءً بوضع قانون فاعل يحدد نوع العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

وفي القرآن إشارات واضحة ومباشرة تؤكد أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله صنع النموذج الأصدق للحاكم، إنطلاقاً من كونه قد صدق فيما عاهد الله عليه. لذلك فإننا نرى الله سبحانه وتعالى قد جعله القدوة الحسنة للمؤمنين، بل وللناس جميعاً.

فهو لم يكن عالةً على المجتمع؛ يجمع الأموال ويترف بها دون الناس، ولم يكن يوجه النصح للناس دون أن يلتزم بها قبلهم.. فهو كان يعرف حق المعرفة أن أدنى محاولة لتهرّبه عن عهده مع الله سبحانه، يؤدي إلى أن يكون لسيرته مردوداً عكسياً تماماً، إذ لا يسع الناس - بأي حال من الأحوال - أن يقتدوا بمن يقول ما لا يفعل.

ان الفترة الزمنية التي تعيشها مجتمعاتنا المسلمة وما فيها من تكالب أجنبي عليها تدعو العلماء إلى أن يجسدوا - ما وسعهم - تعاليم الدين في أنفسهم، ثم ينتقلوا إلى الناس ويحملوهم على الالتزام الديني، لتكون البلاد الإسلامية عبارة عن مدرسة للخير والعطاء ومقارعة وساوس الشيطان.

إن واقع الأمر والتجربة يؤكدان بما لا يدع مجالا للشك، بأن تطبيق الدين لا يتوقف على إذاعة وبث برامج تلفزيونية أو مقالات صحافية، بقدر ما يتوقف على ظهور نماذج حقيقية من العلماء العاملين بالدين، همهم صناعة مجتمع حي مفعم بروح القرآن.

إن صدق العهد يعني الشدة والعزم والطموح السامي الصادر عن الرجال، وما تحمله كلمة "رجال" من معاني المروءة والالتزام والرغبة في التفوق باتجاه الله جل وعلا. فالرجل ومعاني الرجولة تأبى على الإنسان أن يولد صغيراً ويموت صغيراً.. تمنعه عن أن يولد خادماً عند سلطان ويموت عبداً ذليلا عند سلطان آخر، أو بين يدي هوى نفسه الأمارة بالسوء.. بل هي تأمره بأن يسمو إلى الأفق الأعلى لتكون نفسه مطمئنة فتدخل جنة ربها بعد العمل الصالح.

الرجل النموذج

قرأ أحدهم كتاب "تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، المعروف بـ" مجموعة ورّام" وهو من تأليف العالم الرباني (ورام بن ابي فراس) المشهور بالورع والتقوى وخدمة الناس. فأراد القارئ أن يختبر المؤلف ويطلع على حياته وسيرته عن قرب ومدى تطابق سيرة الكاتب مع ما جاء من تعاليم وأفكار في الكتاب. فالتقاه جالساً في قصر كبير وحوله الخدم، فقال لـه (القارئ) مستاءً: إنك نصحت بالتزام الزهد والتقوى في كتابك، وأراك تملك ما لا يملكه إلاّ الأثرياء؟! فقال له العالم: إن الزهد أن لا يملك شيء، لا ان لا تملك شيئاً. فقال له (القارئ): وما دليل قولك هذا؟

قال: تعال معي لنذهب خارج المدينة، بعيداً عن كل هذه الأموال والأملاك.. نعبد ربنا عز وجل. فوافق العالم على هذا الاقتراح، فأخذ من ساعته بيد ضيفه إلى العراء وهمّا بالخروج من المدينة، ولكن (القارئ) استوقفه قائلا: لقد نسيت مسبحتي في قصرك، وأنا لا أقدر على العبادة دونها (!) فقال له العالم ورّام: إنك تعجز عن ترك مسبحة لا تساوي من المال شيئا، وقد خرجت أنا من كل ما أملك دون ان يخطر ذلك على بالي هذا هو حقيقة الزهد، كما قال أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام: " ليس الزهد أن لا تملك الشيء وإنما الزهد أن لا يملكك الشيء " فتركه وانصرف...

وثمة قصة عن ذلك الشاب المنشغل بدراسة العلوم الدينية الـذي دخلت

عليه فتاة بارعة الجمال في غرفته ليلاً قائلة: لقد خرجت من بيتي لقضاء عمل معين، فحاصرني الظلام وأخاف الرجوع، فلجأت مضطرّة إلى مدرستكم لأحتمي بظلها على أن أعود إلى بيتي مع حلول الصباح. فرحّب بها الشاب وأعدّ لها مكاناً تنام فيه. فانزوت الفتاة، ولكن ما أثار فضولها بشدّة رائحة لحم مشوي ملأت جو الغرفة حتى الصباح، وفي اليوم الثاني غادرت الفتاة الغرفة.. وبعد ساعات امتلأت المدرسة بالحرس الملكي الذين جاءوا يسألون عن الشاب للمثول بين يدي الملك. وحينما امتثل سأله الملك: ما قصتك في الليلة البارحة؟ فأجاب الشاب: لقد استجارت بي فتاة فأجرتها. فسأله الملـك: ما قصة رائحة الشواء في غرفتك حتى الصباح؟ فاستعفى الشاب عن الاجابة، فأصر الملك على الجواب، فقال الشاب: لقد هجم الشيطان عليَّ بحضور الفتاة في غرفتي، ورأيت أن لا خلاص من الشيطان إلا بأن أوقد الشمعة وأضع يدي في نارها لأتذكر عذاب جهنم، وهذه يدي قد احترقت. فتعجب الملك لهذه القصة، وقال: إعلم إن فتاة أمسك هي بنتي، وأنا لا أرى كفؤاً غيرك لتتزوجها. فتزوجها الشاب وأصبح هذا الشاب يدعى بـ "مير داماد" أي صهر الملك، وهو من كبار العلماء العارفين.

إن نشر رسالات الله بحاجة إلى زهد كزهد العالم ورام، وإلى صمود كصمود هذا الشاب العارف العالم، تماما كما علّمنا أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال في هذا الاطار: "وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر". ([16])

فالمهم في رجال الله هو سعيهم الحثيث نحو الله، والتجرد عن الدنيا وزخارفها لتتحقق بذلك الضمانة الأولى، دون انحراف المجتمع الذي قد يأخذه الباطل فيصور الدين في غير صورته؛ فيأخذ ما يشتهي، ويدع ما لا يرتضي زوراً وبطلاناً.

وإيمان هؤلاء الرجال الصادقين بمثابة الروح المحركة. فيا ترى كيف نوجد هذه الروح في داخلنا؟

وفي معرض الاجابة لابد من القول: بان هذه الروح المرجوة لا تتواجد بالطرق التي نخترعها لأنفسنا، وانما بالطرق التي رسمها لنا القرآن الكريم، لاسيما في قوله تعالى:« لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ اِلآَّ اِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا *ّلِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ اِنَّ اللَّه كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً» (الاحزَاب21-24)، ومن صفات هذه الطرق:

1- «لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأَخِرَ» فالانطلاقة الايمانية يجب أن تكون من حيث الله، والاعتقاد بأن ثَم يوم توفّى فيه كل نفس ما عملت.

2- « وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» وعي التوحيد وتفعيله باستمرار.

3- الصمود في المواجهة، ولا سيما في حال الهزيمة التي توضح بجلاء حقيقة الإنسان وحقيقة الايمان الذي يدعيه. وهذا يعني إن الايمان الأصيل هو إيمان الاستقامة عند هزيمة الآخرين، إيمان الامام علي عليه السلام الذي أحجم جميع المسلمين عن مقارعة عدوهم يوم الخندق وبقي وحيداً يطلب الإذن من رسول الله صلى الله عليه وآله في مقاتلة رأس الأعداء، حتى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله: " برز الايمان كله إلى الشرك كله"([17]) وحينما انتصر أمير المؤمنين على عمرو بن ود قال الرسول الأكرم قولته المشهورة: " لضربة علي خيرٌ من عبادة الثقلين". ([18])

نعم؛ فان رجاء الله واليوم الآخر والاستمرار العملي في ذكر الله، إنما يزيد المؤمن إيمانا بالحقائق والتسليم للحكمة الالهية، ومضاعفة التمسك بالعهد مع الله والوفاء به.

ولقد جسد أمير المؤمنين عليه السلام هذا التسليم والتصديق إلى حدود يعجز الإنسان عن وصفها. ولا عجب من ذلك، إذ هو في الواقع بطل القصة القرآنية التي تحويها آيـات سورة الأحزاب، وهو بسيرته الفذة استحق الوسام الرفيع الذي قلدته إياه آيات القرآن المجيد فهو عليه السلام كان رغم ما تصيبه من جراحات بليغة في المعارك - على قلة عدد جند المسلمين وتكالب وتظافر الأعداء عليهم- كان يرجع أسفاً منكسر الخاطر، لأنه لم ينل سعادة الشهادة، ويقول لسيده: "يا رسول الله؛ أوَ ليس قد قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة فشقّ ذلك عَليَّ فقلت لي أبشر فان الشهادة من ورائك". ([19])

الإسلام قيم الحياة

من النعم التي منَّ الله تعالى بها على البشر، نعمة الرسالة. والملاحظ إن التعبير القرآني بـ (المنة) لم يأت إلاّ في نعمة الرسالة، فمن دونها لا يمكن أن تنفع النعم الأخرى إن لم نقل أنها قد تنعكس وتنقلب لتصبح نقماً على الإنسان.

فالمال هو نعمة، ولكن الذي لا يعرف كيف يتصرف فيه يتحول بالنسبة إليه إلى نقمة. وهكذا الحال بالنسبة إلى النعم الأخرى كالشباب، والحرية، والعلم... بل إن النعمة كلما كبرت وعظمت فانها تكون أخطر على الإنسان.

لماذا الرسالة أصل النعم

وعلى هذا فان السبب في كون الرسالة نعمة يمن الله بها على الإنسان، أنها تكمل سائر النعم الإلهية، وتجعل النعم الأخرى مفيدة بالنسبة إلى الإنسان. ومن هنا فان القرآن الكريم يؤكد على هذه الناحية مبيناً أن هذه النعمة نعمة الرسالة هي أعظم وأكبر نعمة أنعم بها علينا، كما يشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى: «كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ..» (البقرة/151).

وعلى هذا لابد أن نذكر الله تعالى، ونشكره على نعمة الرسالـة، ولا نكفر بها، وقد دعانا ربنا إلى ذلك بقوله: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ» (البقرة/152). أما عن كيفية هذا الشكر والذكر، وعدم الكفر بهذه النعمـة الالهية فان الآيات التالية تبيـن ذلك: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (البقرة/153).

وبعد فهذه هي البرامج العملية لشكر النعمة؛ فالصلاة هي عمود الدين، وهي ذكر الله، وهي الحبل الموصل بين الإنسان وبين الله، وهي تحتوي على آية وعلامة من كل عمل خير في حياة الإنسان.. ففي الصلاة دلالة على سائر أحكام الدين؛ فمنها الطهارة، والحلال والحرام، والحقوق الشرعية، وحقوق الآخرين.. فالـذي يصلي يطبق عادة سائر التعاليم الدينية، فيكون طاهراً، يفتش عن مكان طاهر ونظيف، ويهتم بالحلال والحرام، ولا يغتصب حقوق الناس، لأن الأكل الذي يتناوله سيصبح حراماً، وكذلك البيت الذي يشتريه بالأموال المغصوبة، بل إن الذي يأكل لقمة من المال الحرام فان صلاته لا تقبل إلى أربعين يوماً، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأمور الأخرى كالحقوق الشرعية، وحقوق الوالدين، فالإنسان المصلي يهتم بها، ويحرص على تطبيقها.

وهكذا فان علينا أن نبلغ للصلاة وندعو إليها، لأن الصلاة تدعو الناس إلى سائر الأعمال الصالحة؛ إلى الحضور في المساجد، إلى الاهتمام بواجباتهم الشرعية، وما إلى ذلك. ومن أهم الواجبات في هذا الصدد أن نعلم أولادنا الصلاة في سن مبكرة، لأنهم إذا تعودوا على الصلاة فانهم سيطبقون سائر التعاليم.

وهنا أريد أن أقف وقفة عند الآية: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» وذلك بعد أن أوضح ماذا تعني نعمة الرسالة.

أبعاد ثلاثة لنعمة الرسالة

إن الآيات السابقة تبين ثلاثة أبعاد لنعمة الرسالة؛ البعد الأول يتمثل في قوله تعالى: «يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا» أي أنه بعد تلاوة آيات الله وتلاوة الكتاب.

البعد الثاني هو التزكية: «وَيُزَكِّيكُمْ». والبعد الثالث هو بعد التعليم: «وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ». وهذه هي مسؤوليات الرسول؛ فكل رسول يقوم في أمته بهذه الواجبات الثلاث؛ تلاوة الآيات، وتزكية النفوس، وتعليم الناس التعاليم الضرورية. وهذه الأمور الثلاثة هي في الواقع اصول الإسلام. ففيما يتعلق بتلاوة الآيات فان الإسلام لا يجبر الناس على التقوى، وإنما يغير نفوسهم بآيات الله. فالقرآن الكريم هو أصل كل خير، ففي اليوم الذي نبتعد فيه عن القرآن الكريم علينا أن نقرأ الفاتحة على كل القيم والرسالات والجوانب المشرقة في حياتنا.

إن تلاوة القرآن تعني أن نتدبر في الآيات القرآنية، لأن القرآن يذكرنا بالله، وبالموت، وبالعقل الذي جعله الله فينا فنستثير هذا العقل، وننميه. وهذه هي الوطيفة الأولى، أما الوظيفة الثانية التي هي (التزكية) فان معناها أن الرسول صلى الله عليه وآله يقوم بتصفية قلب الإنسان من الرواسب؛ من الحقد والحسد والعصبية والضغينة والأنانية ومن كل الصفات السيئة التي جبل عليها الإنسان.

ففي ضمير الإنسان مجموعتان من الصفات؛ الصفات الايجابية، والصفات السلبية. والرسول صلى الله عليه وآله يربي الناس على الصفات الايجابيـة ويزكيهم؛ أي يطهر نفوسهم من تلك الصفات السلبية.

الواجب الثالث هو واجب التعليم؛ أي إن النبي صلى الله عليه وآله يقوم بمهمة تبيين وتفسير تلك الآيات. وهذا يدل على أن الإنسان بحاجة إلى من يفسر القرآن، فلقد بعث الله تعالى الأنبياء مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، وفي هذا دلالة على أننا بحاجة إلى من يفسر الكتاب حتى بعد الرسول. فالرسول وحده لا يكفي من دون الكتاب، والكتاب أيضاً وحده لا يكفي. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي"، ([20]) ذلك لان الكتاب بحاجة إلى إمام، وقد كان الرسول في وقت حياته هو الإمام.

وما زلنا حتى الآن ونحن نعيش في عصر الغيبة بحاجة إلى فقيه. فالذي يدعي أنه في غنى عن الفقيه، وأنه يستطيع الاستغناء عنه بالرسالة العملية هو مخطئ. وللاسف فان هذه النظرية شاعت في بعض الأيام وفي بعض المحافل، فبدأ البعض يطلق شعار إننا لا نحتاج إلى علماء، لأن لدينا كتاباً نقرؤه ونصبح متدينين من خلاله، فلا مرجعية ولا علماء.

إن هـذه النظرية نظرية فاشلة وبعيدة عن الواقعيـات، فبالرغم مـن وجـود هؤلاء العلماء الأعلام، ومع ما يتمتعون به من علم، وتقوى، وزهد، وجهاد في سبيل الله، تجد الناس منحرفين، فكيف إذا لم يكونوا موجودين؟!

فنظرية "حسبنا كتاب الله" هي نظرية مغلوطة سواء في زمان الرسول صلى الله عليه وآله أم بعده. فالرسول صلى الله عليه وآله يقوم بالتعاليم، والتعليم يعني توضيح وتفسير القرآن. فالرسول صلى الله عليه وآله يعلم أمرين؛ الكتاب، والحكمة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»؛ أي إنه يوضح هذا الكتاب ويفسره.

والتأريخ يثبت لنا أن المسلمين كانوا يقرؤون القرآن، وعندما يصادفون آيات لا يستطيعون فهمها فانهم يعودون إلى الرسول صلى الله عليه وآله ليفسر لهم تلك الآيات.

ماهي الحكمة

أما الحكمة فهي أن تتعلم اسلوب العيش. فالكتاب يرتبط بالدين والشريعة والأحكام والاخلاق، أما الحكمة فانها تتصل بحياة الإنسان. فالإسلام ليس مقتصراً على ما بعد الحياة والموت، بل هو دين الحياة ودين ما بعد الحياة في نفس الوقت. فالحديث الشريف يقول: "من لا معاش له لا معاد له"، بل إنه يقول: "اللهم بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبين الخبز فلولا الخبز ما صمنا ولا صلينا ولا أدينا فرائض ربنا" ([21]) أي إن الإنسان يأكل الخبز ليتقوى على عبادة ربه، والقرآن الكريم يقول: «وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا» (القصص/77) و «وَمِنْهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً» (البقرة/201).

وهكذا فان الأمر الأول الذي يؤكد عليه ربنا عز وجل هو جانب الدنيا: «رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً...»، لأن الإنسان الذي يمتلك في الدنيا الصحة والعافية والرفاه والسعادة والعزة والاحترام والكرامة والحرية... فان هذا الإنسان سيعبد ربه حق العبادة. أما الإنسان الذي يعش في الذل والفقر، والذي فكره مشغول بهموم الدنيا، فانه لا يستطيع عبادة ربه.

إن الدين هو أن يعيش الإنسان سعيداً في الدنيا والآخرة، والقرآن يبين لنا هذه الحقيقة في تلك الآية الكريمة.

وهنا أعود لأقول إن الحكمة تتصل بالحياة، فاذا رأينا إن المسلمين يعيشون اليوم أوضاعاً متدهورة، فلنعلم إننا إما أن نكون قد تركنا الدين كله، وإما أن نكون قد أخذنا بجزء منه وتركنا الجزء الآخر.

ولتوضيح ذلك اضرب لكم أمثلة ثلاثة، هي التي تهمني في الواقع:

1- لقد أمرنا القرآن الكريم بصريح العبارة بالتعاون في قوله تعالـى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» (المائدة/2)، فهل نحن منفذون لهذا الأمر أم لا؟ في حين إن الإسـلام لم يأمرنا بالوحدة فقط في قولـه تعالـى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا» (آل عمران/103)، بل إنه أمرنا أيضاً بالتعاون، لأنه التعاون درجة متقدمة من الوحدة. فالمجتمع يتحد في البدء، ومن ثم يتعاون، وقد أمرنا القرآن بالتعاون في قولـه تعالـى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى».

2- إن القرآن أمرنا بالمسارعة في الخيـرات: «وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالأرض» (آل عمران/133)، «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً» (البقرة/148)، وأمرنا بالحركة والنشاط والفاعليـة: «يَآ أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلـى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ» (الانشقاق/6)، «وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى» (النجم/39)، كما وأمرنا القرآن بالعمل الصالح ولو بمقدار ذرة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» (الزلزلة/7)، فحتى لو كانت عندك ذرة واحدة من النعم، فعليك أن لا تقصر فيها، بل أضفها إلى قائمة أعمالك.

بل إن بصيرة القرآن تهدينا أساساً إلى هذه الحقيقة، فتقول إن الإنسان يوم القيامة ستكون أمامه كفتان؛ كفة الحسنات، وكفة السيئات. وإن من الواجب عليه أن يقوم بحسنات أكثر، لكي ترجح عنده كفتها فيدخل الجنة. فلنحاول أن نقوم بأي عمل صالح، لان هذه الأعمال الصالحة سوف تجتمع شيئاً فشيئاً في كفة الحسنات.

إن هذه البصيرة القرآنية تجعل الإنسان دائم الحركة، لأنه سيفكر في أن يحصل على حسنات أكثر فأكثر، فتراه في حالة استباق ومسارعة. فان حضر جلسة قرآن - مثلاً- تراه يستمع إلى القرآن ويسبح في نفس الوقت، ولذلك فان الإنسان المؤمن تراه دائم التوجه، ودائم الحركة والنشاط.

3- أما الصفة الثالثة التي تشكل ثلاثي الحكمة في الحياة فهي صفة الواقعية، وهي بالتعبير القرآني (الحق)؛ أي أن يكون الإنسان مع الحق، وأن يعطي الآخرين حقوقهم، ويعترف بها. فكما إنك موجود فإن الآخرين موجودون أيضاً، وكلمة الحق تعبر عن هذا الواقع.

الحكمة سر تقدم الأمة

إن هذا الثلاثي هو الذي يستطيع أن يخلق من الأمة الإسلامية أمة نشيطة ومتقدمة، ولكننا فقدنا هذه الصفات الثلاث للأسف الشديد. ومن أجل توضيح ذلك أضرب فيما يلي بعض الأمثلة؛ المثال الأول عن الدوائر الحكومية، فانت تذهب إلى الدائرة لأجل معاملة معينة، ومن مشاكل العاملين في هذه الدوائر أنهم يقولون لك بكل بساطة إننا لا نستطيع تمشية معاملتك اليوم فراجعنا غداً. ذلك لأن هذا الموظف الذي يجب عليه أن يعمل ثماني ساعات، لا تراه يعمل إلاّ ربع ساعة. وبالطبع فانه لا يستطيع إنجاز أعمال الناس في الربع ساعة هذه.

هذا في حين إن تقرير الأمم المتحدة يشير إلى أن خلاصة عمل المواطن الياباني تصل إلى سبع ساعات من مجموع ثماني ساعات، أما الأميريكي فانه يعمل ست ساعات من مجموع ثماني ساعات.

ولنترك الآن الموظف لنذهب إلى عالم الدين، ولنرى أنه يعاني من نفس المشكلة. فعالم الدين الذي يقيم في الاسبوع مجلساً واحداً، ويؤلف خلال سنة كاملة كتاباً واحدة.. هو غير العالم الذي لا ينام ليله إلاّ وقد أنهى تأليف كتاب، وقد بلغت تآليف بعض علمائنا مئات الكتب، ومثل هذا العالم يختلف بالطبع عن ذلك الذي لا يؤلف طيلة حياته سوى كتاب واحد، في حين ان عالم الدين يجب أن يكون نشيطاً ومتحركاً.

وعلى هذا فان القضية المهمة الأولى هي الفاعلية، ثم التعاون. فما الذي يمنع من أن نعمل مع بعضنا، والى متى هذه التفرقة والأفكار المختلفة؟ في حين إن القرآن يحثنا على الوحدة، ويعتبر التفرقة من الدوافع الشيطانيـة: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنـزَغُ بَيْنَهُمْ» (الاسراء/53)؛ أي إن الشيطان يقوم بدور تفتيت وتقسيم وإبعاد المسلمين عن بعضهم.

أما الأمر الثالث فيتمثل كما قلت في الواقعية. فكل إنسان يريد أن يعترف بنفسه على حساب الاعتراف بالآخرين، فاذا كنا نعيش مع بعض فلا بد أن نحترم الآخرين، ولا بد أن يحترم كل واحد منا الآخر، كما يقول تعالى: «وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ» (الاعراف/85).

فكل انسان له حق، وله دور في هذه الحياة، ولا بد أن يكون رأيه محترماً. أما أن يفكر كل واحد في حدود نفسه، ولا يفكر في الآخرين، فهذا ما يؤدي إلى هذا الواقع المنظور.

وخلاصة القول؛ إن هناك ثلاثة أمور من الحكمة الإلهية، وهي:

1- الفاعلية والحيوية والنشاط.

2- التعاون.

3- الواقعية.

ومن خلال هذه الأمور سنجد الطريق إلى تغيير واقعنا إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني

الإسلام بين الأصالة والتطوير

كلّما تجدّدت الروح الإسلامية في النفوس، وحدث التحوّل والتطوّر في الظروف؛ كلّما ازداد طرح هذا السؤال المهـمّ؛ ما هي الحـدود الواضحة بين التطوير والاصالـة، وبين التغييّر والثبات؟

لا ريب أنّ الدين ذو جانبين؛ جانب ثابت، وجانب متطوّر. وعلى سبيل المثال: فان الصلاة، والصيام، والحج، وسائر الشعائر تمثّل جوانب ثابتة في الشريعة الإسلامية، ولكنّ المسجد الذي يصلّي فيه الإنسان المسلم، والملابس التي يرتديها وما إلى ذلك، لا بدّ أن تختلـف من زمـن لآخر.. وكمثال آخر؛ فان الإسلام يهدف إلى تطبيق العدالـة الإجتماعية، ويريد للانسان التقدم والرفاه والكرامة، ويبغي توفـير الوسائل المادية المريحة للإنسان إلى جانب الروح المعنوية العالية، ويريـد بناء الشخصية الإنسانية المتكاملة... ولكن هل من الممكن أن تطبق هذه القيم في كل عصر باسلوب متشابه، وكيفية متماثلـة؟

الجواب بالنفي طبعـاً؛ وبناءً على ذلك، فمتى يجب علينا أن نأخـذ بالنصّ، ومتى يصبح من المتعيّن علينا أن نطوّر النص باجتهادنـا وتفكيرنـا؟

الفهم الخاطئ للإسلام

وبناءً على ذلك فقد أثبتت التجارب أنّ هناك جانباً متطوّراً في الإسلام علينا ان نلتفت إليه، وبالإضافة إلى ذلك فقد ثبتت حقيقة أخرى وهي أنّ هناك فئات عديدة من المثقفين أو حتّى من الذين كانوا يدرسون في الحوزات العلميّة أخذوا من الإسلام جانباً، وخلطوه بالأفكار الأخرى، سواء كانت اشتراكية أو رأسمالية.

وللأسف فانّ البعض من الناس يتصوّرون انّ هذه المشكلة مشكلة عابرة من الممكن تجاوزها بسهولة، فيتوهّمون ان من الممكن ان يراجعوا الرسالة العمليّة، او أحد الكتب الفقهية المفصّلة، ليجدوا فيها شروطاً وافية حول هذه الأفكار المتطرّفة ذات اليمين، وذات الشمال.

وفي الواقع فانّ القضيّة ليست بهذه السهولة، علماً انّ هناك أشخاصاً لم ينحرفوا بكامل وعيهم بل بسبب جهلهم بالإسلام، رغم انّهم قرأوا هذه الكتب التي نقرؤها، وبالرغم من انّهم يتلون القرآن، ويدرسونه.

وبناء على ذلك، فليس من السهل بمكان ان يفهم الإسلام الفهم الصحيح، فمن الممكن بل من المؤكدّ أنّ هناك جماعات تتعّمد التحريف، ومن الناحية التاريخيّة كان هناك الخوارج الذين التزموا بالكثير من المظاهر الدينية، كما انّ الذين خرجوا لمحاربة الإمام الحسين عليه السلام كانوا هم أيضاً يؤدّون الفرائض والواجبات الدينية.

وعلى هذا فان فهم الإسلام الأصيل البعيد عن الأفكار الغربية والشرقية الدخيلة ليس عمليّة بسيطة، فمن الممكن ان يعبد الإنسان شيئاً ما يتصوّر أنه الله تعالى، ولكنّه بعد سبعين سنة من العبادة حسب تصوّره يكتشف إنه كان يعبد الطاغوت، والأهواء، أو الشيطان، أو كلهم مجتمعين...

والسبب في ذلك انّ الإنسان المسلم لا يعرف بالضبط هل إنّ عليه أن يلتزم التزاماً حرفيّاً بالنصوص؟ فان أراد أن يلتزم بهذا الشكل، فانه سرعان ما يكتشف أنّ هناك ظواهر واحداثاً جديدة تطرح على الساحة لا يدري ما رأي الإسلام فيها، وللأسف فإنّنا نجد بعض الناس يفسّرون القرآن الكريم حسب أفكار وتصوّرات معيّنة يحملونها، فيتّبعون اهواءهم دون هدى الله.

الإسلام ومسؤولية العلماء

ترى كيف يجب ان نحلّ هذه المشكلة، ومن الذي يجب ان يتحمّل هذه المسؤولية؟

إنّ من الطبيعي ان يضطلع بهذه المسؤولية الخطيرة علماء الدين الواعون، الملتصقون بالنصوص الدينية، والعارفون بالروح الحقيقيّة للاسلام، والقيم التي ينشروها، والمطّلعون على الأسلوب الذي يستخدمه القرآن، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة المعصومون، والفقهاء الكبار.

هؤلاء العلماء هم المسؤولون عن حلّ تلك المعضلات، وهم الذين جاءت فيهم الرواية الصحيحة التي تقول: "وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانّهم حجّتي عليكم، وانا حجّة الله"، ([22]) فهم الذين يستطيعون التمييز بين الحلال والحرام، وبين التطوير والتغيير والتقدّم، وبين الانحراف والشذوذ والضلالة والبدعة.

ومن الطبيعي أن يكون بين طلاّب المدارس العلميّة وهم يدرسون الآن الكتب الفقهية والدينية من يجب أن يتحمّل هذه المهمّة الصعبة فـي المستقبل، فهناك الآن قوانين عديدة ومختلفة في العالم؛ هناك مثلاً: القوانين التجارية، والزراعية، والصناعية..وما إلى ذلك، والآن يوجد في العالم أكثر من سبعين ألف قانون، وهي قوانين متطوّرة وبحاجة إلى من يعرف الإسلام حقّاً، ويعرف طبيعة المجال الذي وضعت فيه، ثم يستلهم من القيم الإسلامية بحيث تصبح هذه القوانين منسجمة مع أحكام الشريعة الإسلامية. ولذلك فانّنا بحاجة إلى المجتهدين والمفكّرين، وهذه الحاجة ليست آنية عاجلة، بل هي دائمة ومتطوّرة.

من هنا ليس من السهولة بمكان ان نعي حقيقة أحكام الإسلام لأسباب منها:

1- انّ المسلمين أهملوا فهم الإسلام، والتعمّق فيه.

2- انّ الإسلام بمصادره الأصيلة الخالصة بعيد عن عصرنا بمقدار أربعة عشر قرناً، فالمفسّرون الحقيقيون للقرآن ليس لهم وجود بيننا، وكتب الفقهاء ليست بتلك السهولة والبساطة بحيث يستطيع الإنسان العادي أن يستقي منها المعلومات، كما إن الأحاديث والروايات متداخلة، ولغتها مختلفة عن لغتنا، وليس من السهولة أن نفهم أساليبها، والدليل على ذلك إن المجتهدين والفقهاء يتعبون أنفسهم لسنين طويلة، ويواصلون البحث والتحقيق ليل نهار، ومع ذلك فانّهم قد لا يصلون إلى نتائج أكيدة في بعض المسائل، ولذلك فإنّنا كثيراً ما نجد في كتبهم، ورسائلهم العملية كلمات من مثل: الأحوط، والأقوى، والأولى...

وفي المقابل فإذا أراد شخص ان يدوّن الإسلام الذي في ذهنه فان باستطاعته ان يأخذ قلماً ويكتب مواد قانونيّة، ويبدّل، ويغيّر دون الإلتزام بنصوص، إلا أنّ هذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو الضلال بعينه ولا يمكن ان ينفع الأمة الإسلامية، اما الإسلام الذي نريد ان نستنبطه من القرآن فانّنا لا نستطيع الوصول إليه إلا إذا تدبّرنا- على الأقلّ- في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته، وعرفنا الكلمات والمصطلحات القرآنية معرفة دقيقة.

وهناك بعض الآيات القرآنية يتوقف عندها المفسِّرون ويصفونها بأنّها من الآيات المتشابهة التي تحتاج إلى التأويل، وهكذا الحال بالنسبة إلى الروايات والتأريخ الإسلامي، فاننا يجب ان نحيط بهما علماً.

انّني أريد أن أستنتج من كلّ ذلك حقيقة واحدة؛ وهي إن الذي يريد أن يقوم بهذا الدور البنّاء العظيم- أي دور استنباط الأحكام الشرعيّة- ويكيفها مع حاجات ومقتضيات العصر، والذي يريد أن يهدي الناس إلى القوانين الإلهية، ويصبح وريثاً للأنبياء عليهم السلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أن العلماء ورثة الأنبياء"، ([23]) ويكون نظيراً لانبياء بني إسرائيل كما جاء في حديث آخر: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، ([24]) والذي يريد أن يكون ممثلاً لحكم الله في الأرض، وحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام... انّ الذي يطمح إلى بلوغ هذه المرتبة العالية عليه أن يخصّص لهذا الطموح العالي المقدار المناسب له من الإمكانيات، والارادة، والعزم، والتصميم.

فمن يريد الوصول إلى السوق القريب من منطقته، فانّه يحتاج إلى ارادة بقدر مائة خطوة يخطوها إلى السوق. أمّا الذي يريد أن يصل إلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية، فيجب أن تكون إرادته أكبر حسب بعد المكان الذي يطمح أن يصل إليه. فالذي يطمح أن يكون خطيباً بارعاً، ومؤلّفاً ومفكّراً وقائداً، يجب أن تكون ارادته بقدر ما يطمح إليه، وكما قال الشاعر:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

فبقدر عزيمة، وارادة، وتصميم وعطاء الإنسان يكون طموحه، وتطلّعه، وبلوغه الاهداف، وتحصيله للعلم. ومن هنا فانّ الدراسات التقليدية هي أشبه ما تكون بالسدود المنيعة والحصينة التي تمنع تسرب الأفكار المغلوطة إلى أذهاننا، وعقولنا. فبقدر ما نقرأ الجرائد، ونستمع إلى الإذاعات، ونتعرّف على الأفكار الحديثة، فان هناك خطر احتمال تسرّب الأفكار الباطلة إلينا، كما تسرّبت هذه الأفكار إلى الكثير من الذين انحرفوا فيما بعد رغم ادائهم للفرائض والعبادات.

وهكذا فإنّنا بحاجة إلى سدود تمنع عنّا تلك التيارات الفاسدة، وإلى حصون تحول دون تسرّب الأفكار والثقافات الدخيلة إلى اذهاننا، وهذه الحصون تتمّثل في تطوير العلوم الدينيّة، وتقديم تفاسير مفهومة وواضحة للقرآن الكريم، وتدوين وتبويب متون الأحاديث والروايات الشريفة، وتذليل المشاكل الفقهية والاصوليّة حتى تتحقق تلك الطموحات.

وفي هذا المجال نحن بحاجة إلى جهود متواصلة دؤوبة لكي نستطيع فهم القرآن، والأحاديث الثابتة السند؛ أي أن نتدبّر تدبّراً عميقاً في مصادرنا الدينية مثل؛ القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، ونهج البلاغة، والصحيفة السجاديّة، والأدعية وما إلى ذلك، من أجل استخلاص روحها وقيمها. وعلى سبيل المثال؛ فانّ في القرآن ستة آلاف آية، كل آية إذا أردنا أن نتفكر فيها لمدة ساعة فاننا نكون بحاجة إلى ستة آلاف ساعة لكي نفهم القرآن الكريم.. ومع ذلك فان هناك هوامش غير واضحة تبقى بعد عمليّة التدبّر. فمن الممكن ان يتدبّر الواحد منّا في آية ويبحث فيها، ويكتب عنها، وإذا به بعد أن يتدبّر في نفس الآية من جديد يستلخص منها أفكار جديدة لم تكن قد خطرت على باله من قبل.

وعلى هذا فانّ علينا أن لا نملّ من كثرة الدراسة والتحقيق، أو أن نعتبر الدروس والكتب التي نقرؤها روتينية، بل أنّها تحتاج إلى جهد واستمرارية، ومطالعات مكثفة، وإرادة قوية، وعزم راسخ.

الدراسة الدينية ورسالة الأنبياء

الدراسة الدينية أشبه ما تكون برسالة الأنبياء التي يقول عنها تعالى فيما يتعلق برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً» (المزمِل/5). فليس تحمّل رسالة الأنبياء بالأمر الهيّن، حتّى إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يشفق من الرسالة التي تحمّلها، وفي كلّ مرة كان الوحي يتنزل عليه فيها، كانت هناك حالة جديدة تعتريه. والله سبحانه وتعالى لم يكن يحمّل انبياءه رسالاته، إلا بعد أن يمرّرهم بتجارب واختبارات صعبة.

وبناءً على ذلك فأنّ الذي يريد أن يقتدي بالأنبياء والأئمة، فانّ عليـه أن يستعدّ، ويزكّي نفسه بحيث لا يكون صدره ضيقاً، وصبره محدوداً، واستعداده ضعيفاً. فالأجر أنما يؤتى على قدر المشقّة، وخير الأمور أصعبها. ونحن لم نأت إلى هذه الحياة لكي نستريح فيها، بل لكي نحقّق الطموح والتطلع اللذين خلقنا الله عز وجل من أجلهما في المستوى الإنساني المطلوب.

منـزلة العالم في الإسلام

فلنصمّم، ولنعقد العزم الراسخ على الوصول إلى ذلك المستوى، وإذا ما استطعنا النجاح في هذه المهمّة سنكون مصداق الحديث النبوي الشريف: "يا علي نوم العالم أفضل من عبادة العابد الجاهل"، ([25]) والحديث القائل: "حضور العالم خير من شخوص الجاهل" والحديث: "إن فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب". ([26])

إنّ علينا أن نفكّر في هذه الأحاديث، فهي لم تولِ هذا الاهتمام للعالم، ولم تفضّله على الشرائح الاخرى إلا لانّ العالم يبذل من الجهود أكثر مما يبذله العابد. فالاستمرار في الصلاة، والصيام والحج.. ليس كصعوبة الدراسة الواعية في سبيل الله تعالى؛ فمن الممكن ان يخدعنا الشيطان، والنفس الأمّارة بالسوء، بالإضافة إلى أنّ هناك عوامل كثيرة تمنعنا من مواصلة الدراسة، فلكل شيء آفة، ولكنّ للعلم آفات.

إن هذه الصعوبات التي يواجهها كلّ من العالم وطالب العلم، لابد وأن تتمخّض عن ثواب جزيل. فكلمة علم واحدة يكتبها عالم الدين من الممكن أن تتحوّل في المستقبل إلى رسالة لآلاف الملايين من البشر، فكلّ من تعبّد في تطبيق شيء ما، فانّ ثوابه سيسجّل له.

وعلى هذا فانّ التعب الذي نعاني منه في هذا الطريق وراءه ثواب جزيل، والأكثر من ذلك إنّنا سنحلّ مشكلة حقيقية تواجه المسلمين، فلقد ظهرت الآف البدع، وعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فلعنة الله عليه. وأنا أشير هنا إلى واقع مأساة نعيشها، وأخشى أن تعمّ هذه المأساة المسلمين أجمعهم؛ فلقد انتشرت الأفكار المنحرفة التي ترى أن الإسلام له صبغة غربية أو شرقية.. وقد انتشرت هذه الأفكار المنحرفة الشاذّة بسبب عدم وجود مقدار كاف من الوعي الديني بين أفراد الامة، وخصوصاً بين الطبقة المثقّفة، وعدم وضوح الرؤية تجاه الكثير من القضايا. وفي المستقبل من الممكن ان تتورّط قطاعات أوسع من المسلمين في مثل هذه المشاكل.

ولكي نحول دون انتشار هذه الإنحرافات لابدّ أن نفهم الإسلام، ولكي نفهمه يتعيّن علينا أن نبذل الجهد من أجل فهم النصوص الدينيّة المتمثّلة في القرآن الكريم، والأحاديث والروايات الشريفة، لكي يكون بمقدورنا إشباع حاجات الإنسان المعاصر، وتكييف الشريعة الإسلاميّة وفق الحاجات المتجدّدة للعصر الراهن.

الإسلام بين النظرية والتطبيق

العقل هو الحجّة البالغة بين الله تقدّست اسماؤه وبين خلقه. فهو تعالى اودع في ضمير الإنسان نوراً يستطيع به أن يميّز الحق عن الباطل، وهو يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقل.

الدعوة الإسلامية دعوة عقل

وفي هذا المجال صعد رسول الله ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟ قال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ([27])

وهكذا نرى كيف انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبل أن يكشف لهم عن الدعوة الإلهية، والرسالية الربانية، أوضح لهم فكرة، وعرض عليهم الدعوة من خلال مخاطبة عقولهم، فأثبت لهم أوّلاً كيف أنه صادق أمين، وكيف أنهم يعرفونه بالصدق والأمانة.. وبناءً على ذلك فانّ ما سيقوله لهم لابدّ وأن يكون حقاً. وبذلك فقد عرفه الناس بعقولهم، وهذه هي الحجّة بين الله تبارك وتعالى وبين جميع الخلق.

الاستجابة للإسلام

وهنا يتبادر إلى الاذهان السؤال المهم التالي: نحن ندعوا إلى الإسلام وإلى رسالات الله، فما هو السبب في عدم استجابة الناس لنا، أو ليست رسالة الإسلام صادقة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتحثّ على الحسنات، وتردع عن السيّئات، فلماذا -إذن- تعرض الغالبيّة العظمى من الناس عن آيات الله جل وعلا؟

في هذا الفصل سوف نركز على مناقشة هذه النقطة الحساسة، ونحاول أن نجيب على التساؤلات السابقة.

في اليوم الأوّل من البعثة النبوية الشريفة، وعندما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإسلام بادروا إلى الالتفاف حول هذه الرسالة، فعندما حمل جعفر الطيار رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة سأله ملك الحبشة قائلاً: ما هي هذه الرسالة؟ فقرأ له جعفر آيات من القرآن الكريم، وإذا بهذا الملك يقع على الأرض ساجداً، ويسلم على يدي جعفر بن أبي طالب كما في رواية ابن مسعود حيث قال -بعد كلام طويل-: فتناول النجاشي عوداً من الأرض فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزنّ هذا... ثم قال النجاشي: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه الذي بشّر به عيسى بن مريم.. ([28])

ترى ماذا عدا عمّا بدا اليوم؟! انّ القرآن الكريم يقرأ بكرة وعشياً في الإذاعات، ومحطّات التلفزيون، وتطبع نسخه بالملايين، وتوزّع في كلّ انحاء العالم، علماً انّ هذا القرآن هو نفس القرآن الذي نزل على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما هو السبب الذي يكمن وراء عدم التزام الناس به والاقبال عليه؟

من أجل عرض اجابة صحيحة ومقنعة على هذا السؤال نقول: إنّ الرسالة عندما يدعو إليها أحد، فانّ الناس يستمعون إلى كلام في البدء، ويدقّقون في ألفاظه، ثم يطالبونه بعد ذلك بالعمل، بحيث تكون اعماله مطابقة لكلامه، لانّ الناس لا ينظرون إلى الكلام فقط.

النبي (ص) النموذج الاسمى

والرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما دعا قومه إلى الإسلام فانّ دعوته لم تكن مجرّد كلمات، بل كانت كلمات وراءها عمل. فلقد دعاهم إلى عبادة الله وكان في نفس الوقت أكثر الناس عبادة، حتّى تورّمت قدماه من كثرة العبادة، وكان لديه حجر يسمّى بـ (حجر الجوع) يربطه على وسطه لفرط جوعه ثم يقف للعبادة، فإذا ضعف ولم يستطع حمل هذا الحجر، ربط جسمه بحبل إلى السقف لكي لا يسقط من شدّة الضعف، حتى نزل بحقَّه قوله تعالى: «طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى» (طه/1-2).

كما دعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى البرّ وكان أبرّ الناس، وإلى صلة الرحم وكان أوصلهم للرحم، وإلى خدمة المجتمع والصدق والاحسان.. وإلى جميع المكرمات، وكان أوّل العاملين بها. ثم بنى بعد ذلك مجتمعاً في المدينة على أساس الاخوّة والمساواة أمام القانون..

قال أبو جعفر عليه السلام: "إن رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر أتى رسول الله صلى الله عليه وآله منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان، فضمّه رسول الله صلى الله عليه وآله لحال غربته وعراه وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر، وكساه شملتين، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل،.... رسول الله صلى الله عليه وآله نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقّة عليه، فقال: يا جويبر لو تزوّجت امرأة فعفّفت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك، فقال له جويبر: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي من يرغب فيَّ؟ فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأية امرأة ترغب فيَّ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جويبر إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً،.... ثم قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم فقل له: إنّي رسول رسول الله إليك وهو يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء، قال: فانطلق جويبر برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى زياد بن لبيد وهو في منـزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن فاُعلم فأذن له وسلّم عليه، ثم قال: يا زياد بن لبيد إنّي رسول رسول الله صلى الله عليه وآله إليك في حاجة فأبوح بها أم أسرّها إليك؟ فقال له زياد: بل بح بها فإن ذلك شرف لي وفخر فقال له جويبر: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء، فقال له زياد: أرسول الله أرسلك إليَّ بهذا يا جويبر؟ فقال له: نعم ما كنت لأكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال له زياد: إنّا لا نزوّج فتياتنا إلاّ أكفاءنا من الأنصار فانصرف يا جويبر حتى ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله فاُخبره بعذري، فانصرف جويبر وهو يقول: والله ما بهذا اُنزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوّة محمد صلى الله عليه وآله، فسمعت مقالته الدلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها أدخل إليَّ، فدخل إليها فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً؟ فقال لها: ذكر لي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أرسله، وقال: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وآله: زوّج جويبراً ابنتك الدلفاء، فقالت له: والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله بحضرته فابعث الآن رسولاً يردّ عليك جويبراً، فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً فقال له زياد: يا جويبر مرحباً بك، اطمئن حتّى أعود إليك، ثم انطلق زياد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: بأبي أنت وأمّي إنّ جويبراً أتاني برسالتك، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: زوّج جويبراً ابنتك الدلفاء، فلم ألن له في القول، ورأيت لقاءك ونحن لا نزوّج إلاّ أكفاءنا من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا زياد جويبر مؤمن، والمؤمن كفو للمؤمنة، والمسلم كفو للمسلمة، فزوّجه يا زياد ولا ترغب عنه، قال: فرجع زياد إلى منـزله ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالت له: إنك إن عصيت رسول الله صلى الله عليه وآله كفرت، فزوّج جويبراً فخرج زياد فأخذ بيد جويبر ثم أخرجه إلى قومه فزوّجه على سنّة الله وسنّة رسوله". ([29])

بناء المجتمع الجديد

وهكذا استطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبني مجتمعاً جديداً. فالإسلام عندما جاء أدّى إلى بناء مجتمع قائم على أساس الفضيلة، والتقوى، والمحبة. وعلى سبيل المثال؛ فانّ الامام زين العابدين عليه السلام زوّج المرأة التي قامت بتربيته من عبد له، كما كانت له امة اطلق حرّيتها في سبيل الله تعالى ثم تزوّجها بعد ذلك. فما كان من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان إلاّ أن بعث إليه برسالة انتقده فيها على تصرّفه هذا، فرّد عليه الامام عليه السلام بانّ الله وضع بالإسلام كلّ عزيز، وأعزّ كلّ ذليل، ولا لوم إلاّ لوم الجاهليّة؛ أي انّه افهم الحاكم الأمويّ بطريقة غير مباشرة انّه انسان جاهليّ، لانّه ما يزال يحمل في نفسه حميّة الجاهليّة، والإسلام ليست فيه مثل هذه الحمية المرفوضة.

إنّ الإسلام بنى المجتمع الرسالي المتكامل القائم على التقوى والاحسان والاخوّة، وعندما رأى الناس هذا النموذج الإسلامي المثالي انطلقوا إليه، وآمنوا به وبدينه، علماً إنّ الإسلام لم يفتح الجزيرة العربية بالسيف، فلقد كان أهلها محاربين شجعاناً، بل فتح قلوبهم.

/ 5