<a name=aaa12> </a> الإسلام بين الأهداف والوسائل - إسلام، حیاة أفضل نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إسلام، حیاة أفضل - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

ولقد هرع كلّ من سمع بانّ في الجزيرة مجتمعاً جديداً إلى المدينة ليرى الحضارة والمدنيّة والتقدم والمحبّة والمواسات والرحمة... فلم يَرَ فقيراً ولا مسكيناً، ولا طبقيّة، ولا عنصريّة، بـل رأى انّ المجتمع مجتمع فاضل، ووجد أنّ من الأفضل له أن يكون ضمن هذا المجتمع، فدخل الجميع في دين الله كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله: «إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً» (النصر)

فالقرآن الكريم لم يقل (يُدْخَلـون) - بضمّ الياء وفتح الخاء - بل قال (يَدْخُلـون) -بفتح الياء وضمّ الخاء-؛ أي انّهم دخلوا في الإسلام طواعيـة.

الجماهير تنظر إلى أعمالنا

وهكذا فان أخـلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وسلـوك المسلمين، ونموذج المجتمّع الإسلامي، كلّ ذلك هو الذي جذب الناس إلى الإسلام. ونحن اليوم ندعو إلى الإسلام والناس يوجّهون أنظارهم بدقّة إلى أعمالنا وواقعنا المتردّي البعيد عن الإسلام؛ فإذا بالكذب متفشّ، وحالة التفرقة والغيبة والتهمة والفحشاء قائمة وشائعة، والناس كسالى ليس لهم اندفاع إلى التحرّك والعمل، وليسوا حضارييّن ولا عقلانيّين.. فما الذي يجذب الناس في مجتمعنا حتى يكونوا مؤمنين، وهل الإسلام يقتصر على هذه الركعات القليلة التي نؤدّيها؟

الجواب بالنفي طبعاً، فنحن عندما ندعو الناس إلى الإسلام، فانّ علينا أن ندعوهم في نفس الوقت إلى العمل؛ أي أنّ يكون المجتمع الذي نريد بناءه مجتمعاً حضارياً. فعلينا عندما نريد - مثلاً- ان نؤسس مجتمعاً باسم حركة، أو تنظيم، أو جمعيّة، أو مؤسّسة خيريّة.. أن يكون هذا المجتمع أوّلاً وقبل كلّ شيء متّسماً بالفضائل والمكرمات، التي أمر بها الإسلام. أمّا اذا ظهرت الخلافات والنـزاعات بيننا منذ بدء تأسيسنا للتجمّع، ولسان حال كلّ واحد منّا يقول: أن تنظيمي أحسن من تنظيمك، وجماعتي أفضل من جماعتك، ورحنا ننادي بالفخر، والعصبيّة والحميّة، والنيل من شخصيّات الآخرين، فانّ هذا الكيان لا يمكن أن يكون إسلاميّاً، ولا يكفي أن نطلق عليه صفة الإسلام ليكون إسلامياً، بل يجب ان يكون مطبّقاً لأحكام وتعاليم الإسلام.

وبطبيعة الحال فانّهم عندما رأوا ذلك من الحركات الإسلامية فانّهم تنحّوا جانباً، وقالوا: إذا كان الإسلام هكذا فنحن لا نريده. فالمنتمون إلى الحركات الإسلامية يملكون عقلاً، وهذا العقل يقول لهم أنّ الاختلاف والصراع، والمشاكل والسباب، والغيبة والتهمة، والفردّية والذاتية.. ليس من الدين في شيء. فالله سبحانه وتعالى هو ارحم الراحمين، وهو للناس كلّهم، وليس لجماعة دون أخرى.

وهكذا فإنّ السمة الأساسيّة لمجتمعاتنا هي التخلّف، حتّى يبدو وكأنّ الإسلام إذا انتشر في بلد ما فأنّه ينشر التخلّف والكسل والتقاعس؛ وهذا في حين انّ المجتمع الإسلامي هو مجتمع البناء والتحرّك والنهضة ومجتمع الحركة والعمل.

ولعلّ السبيل الوحيد لتطوّرنا وتقدمنا هو ان تسودنا روح التعاون والتلاحم، ولكنّ مجتمعاتنا - للأسف الشديد- ترى الاختلافات، والصراعات سائدة بين أفرادها؛ فالأب لا يعمل مع ولده، والأخ لا يعمل مع أخيه، لانّهم غير متّفقين. في حين أنّ القرآن الكريم يأمرنا بالتعاون قائلاً: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة/2)

إلا أنّنا نعيش منعزلين عن بعضنا البعض، فإذا بالتنظيم يصبح تنظيمين، والتنظيمين يتحوّلان إلى عشرة تنظيمات، فنحن نعيش حالة دائمة من الفرقة والتمزّق. ومن المعلوم إنّ هذا السلوك بعيد كلّ البعد عن الإسلام، وأننا مهما دعونا الناس إلى الدين فإنّهم سوف لا ينصتون إلى كلامنا، لانّهم ينظرون إلى سلوكنا وأعمالنا قبل كل شيء.

وفي هذا المجال يقول الإمام الصادق عليه السلام: "كونوا دعاة للناس بغير السنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية"، ([30]) أي بالعمل والسلوك المطابق لتعاليم الدين، ثم يقول عليه السلام في حديث آخر قائـلاً: ".. فأنّ الرجل إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر". ([31])

الدولة الإسلامية قائمة على القيم

وبعد أن نتحول إلى اناس صادقين مع بعضنا وفي أعمالنا، فإنّنا نستطيع حينئذ أن نطبق مشروع الحكم الإسلامي، لأنّ الدولة الإسلامية قائمة على أساس القيم والمحبّة المتبادلة بين الرئيس واجهزة الدولة من جهة، وبينه وبين أفراد المجتمع من جهة اُخرى، وذلك على أساس القانون والرحمة والمروّءة. اما إذا بنينا نظام حكم يفتقر إلى هذه المزايا والمواصفات، فإنّ هذا النظام لا يمكن أن يوصف بأنّه دولة إسلامية.

إنّ فكرة تغليف أي شيء بغلاف ووضع كلمة الإسلام عليه دون وجود واقع إسلامي سليم، هي فكرة مغلوطة من الأساس. وحتّى لو افترضنا انّ هذا الشيء قد اكتسب صفة التحقق فانّ الناس سوف لا يصدّقون أنّه إسلامي، كما انّ الله تعالى سوف لن يقبله منّا، فيضحى الأمر مجرّد خداع ذاتي.

وبناء على ذلك، فإنّ علينا أن نكون نموذجاً ممتازاً لتلك الرؤية التي نقدّمها إلى الناس، وللدعوة التي تدعوهم اليها. فالكلام وحده لا يكفي، لأنّ بإمكان كلّ إنسان أن يتكلّم، فالمطلوب هو العمل، وانّ تسودنا القيم الإلهيّة، وان يفكر كلّ إنسان مسؤول يجلس وراء طاولة في تقديم الخدمات الصادقة إلى أبناء مجتمعه. فمن المخزي حقاً أن ينتبه الآخرون إلى أنّ هناك في أوساطنا ارتشاء، وسرقة، وخيانة، وصراعات...

الدين هو العمل

إنّ حديث الدين هو حديث العمل والتطبيق، كما هو حديث النظرية. وفي هذا المجال يقول الإمام الصادق عليه السلام: "الإيمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل"، ([32]) والله سبحانه وتعالى يحدثنا في سورة السجدة عن المؤمنين الذين تحوّلوا إلى أئمة وقادة يدعون إلى الهدى والخير قائلاً: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ» (السجدة/24).

وهؤلاء المؤمنون انّما جعلهم الله عز وجل أئمة وقادة، لأنّهم يتميزون عن غيرهم بصفتين أساسيتين أشارت إليهما الآية الكريمة، وهما: الصبر واليقين، أي أنّهم يمتلكون الصبر واليقين.

حقيقتان مهمّتان

وقبل الآية السابقة يذكّرنا سبحانه وتعالى بحقيقيتين مهمّتين: إنّ الإنسان الذي لا يفتح قلبه على الحقائق، ويبقيه مغلقاً ومحجوباً، فإنّه يظلم نفسه في الحقيقة، بل هو أشدّ الناس ظلماً لنفسه، وهو يشبه إلى حدّ كبير ذلك الشخص الذي يمشي في الشارع مغمضاً عينيه. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِاَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ» (السجدة/22).

فمثل هذا الإنسان ظالم أوّلاً، وهو أظلم ثانياً، لأنّ الإنسان الظالم يظلم الآخرين، والإنسان الظالم يظلم نفسه، بل وجميع أجزاء وجوده كقلبه وعينه وروحه. فالذي يغلق قلبه عن الحقائق، ولا يكترث بما يقال له، فإنه إنسان ظالم كما تصرّح بذلك الآية الكريمة السابقة. فهذا الإنسان ينتهي أمره إلى الاجرام، وارتكاب الكبائر. ومن المعلوم إنّ الله ربنا سبحانه وتعالى ينتقم من المجرمين: «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ» (السجدة/22).

الحقيقة الثانية هي تلك التي يشير إليها الله عز شأنه في قوله: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِن لِّقَآئِهِ» (السجدة/23)، فعلينا أن لا نتصوّر أنّ الإنسان يبقى خالداً في هذه الدنيا، وأنّ الدنيا دائميّة لا تنتهي. فهناك يوم للجزاء والحساب يجب أن نقف فيه لنتعرّض للمحاسبة الدقيقة الشاملة، والناقد بصير. فالمسؤولية مترتّبة على كلّ قول وفعل حتّى على وسوسة الصدر، كما يقول تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ» (ق/16).

فلنأخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار، لكي تتجسّد فينا الرسالة، ونكون مصاديق حقيقيّة للرسالة الإسلاميّة، وجاذبين للناس إليها من خلال سلوكنا وافعالنا.

الإسلام بين الأهداف والوسائل

للشريعة الإسلامية أهداف، ولها وسائل للوصول إلى هذه الأهداف؛ فالأهداف نطلق عليها اسم (القيم)، في حين نسمّي الوسائل بـ (الأحكام). وبعبارة أخرى، فانّ الأهداف هي الهدى في حين إنّ الوسائل هي البصائر والبيّنات.

وعلى سبيل المثال؛ فإنّ توحيد الله تعالى في الأرض والذي يعني إقامة حكمه في الأرض، وحذف الأنداد، وتحطيم الأصنام، وتجاوز الطغاة والمترفين، هو واحد من تلك القيم، بل هو الأعلى والأسمى في سلسلة القيم.

قيم الوحي

والتوحيد هو أساس الدين، والصبغة العامة للحياة، والكلمة الواحدة التي تنبسط على كل القرآن. وحرّية الإنسان تنبعث من هذه القيمة، لتشكل هي الأخرى قيمة مستقلّة تستوجب من الإنسان ان لا يكون عبداً للشهوات والطغاة والخرافات والأساطير، لأن الله سبحانه خلقه حرّاً. وهذه قيمة، ومقصد من مقاصد الشريعة، وهدف من أهداف الدين المقدّس.

وكمثال آخر؛ فإنّ العدالة هي أن لا تسمح للآخرين بأن يهضموا حقوقك، وأن يعتدوا عليك، ويتجاوزوا حدودهم.. وأن لا تعتدي أنت بدورك على الآخرين، ولا تظلمهم. فهي -أي العدالة- قيمة من قيم الوحي، وهدف من أهداف الدين، ومقصد من مقاصد الشريعة.

والإصلاح بين الناس أن يعيشوا في سلام وحب وأمان، وأن لا يعانوا من الحروب والصراعات، ولا يعيشوا الإختلافات والنـزاعات، والأحقاد والضغائن، وهي الأخرى قيمة وهدف ومقصد.

وسائل تحقيق الأهداف

أمّا الوسائل التي تؤدّي إلى تلك الأهداف فحدّث عنها ولا حرج؛ فكل الأحكام الشرعية، وأبواب الفقه تهدف للوصول إلى هذه الغايات والقيم. فمثلاً؛ نحن نقرّر أن العدالة قيمة وهدف، ولكن ما هي الوسائل المتاحة للإنسان المسلم لكي يبلغ هذه القيمة، ويحقّق هذا الهدف؟

للإجابة على هذا السؤال لابد أن نقول: انّ القضاء الإسلامي الواحد بما فيه من أحكام وقوانين تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، وأحكام الخمس والزكاة وسائر الحقوق الشرعية.. كل ذلك يمثل وسائل لتحقيق الهدف الأسمى الذي نطلق عليه اسم (العدالة). فلولا القضاء، ولولا أحكام الشرع في الحدود والديات والغرامات والضمان، ولولا أحكام الشريعة في الحقوق الشرعية مثل الزكاة والكفارات والنذور وما إلى ذلك.. أقول: لولا هذه المجموعة المتكاملة من الأحكام فإنّنا سوف لا نستطيع أن نحقّق العدالة، ونقضي على الفقر، والفاقة، والحاجة، والبؤس.

التشبث بالوسائل

والقضيّة الأساسية في هذا الموضوع إنّ الأمة الإسلامية ولأسباب عديدة تشبّثت بالوسائل، وتركت التفكير في الأهداف. وفيما يلي سوف اضرب مثلاً من واقع يذكره أحد المؤلفين الذي كتب يقول: ذهبت إلى مسجد في أحد البلدان الإسلامية، فرأيت لافتة عريضة كتب عليها (النظافة من الإيمان)، ولمّا دخلت المسجد رأيت العجب العجاب من تراكم الأوساخ، في حين انّ هناك العشرات، بل المئات من الأحكام الشرعية التي تحدّثنا عن النظافة. فهل قرأنا كتاب الطهارة في الفقه الذي يحتوي على ذكر وتفصيل المطهّرات والنجاسات، علماً إنّ هذه الأحكام تشمل ثلث الفقه. فكم هناك من أحكام وروايات وأحاديث ونصوص في القرآن، وبحوث معمّقة حول الطهارة تهدف إلى تحقيق قيمة الطهارة والنظافة في الواقع؟ فكيف نجد بلداً إسلامياً يعيش هذه الأحكام، ويقرأ هذه المجموعة المتكاملة من التشريعات، ولكنّه يعيش حالة الابتعاد عن النظافة، وعدم الالتزام بها؟

ترى أين هذه الأحكام من الواقع الذي نعيشه، ولماذا حدثت هذه المفارقة بين الأهداف والوسائل.؟

ولإيضاح ذلك لا بأس أن أضرب مثلاً آخر؛ نحن نعلم أنّ كثيراً من الأحكام الشرعية تهدف إلى تأمين صحة جسم الإنسان، فالله سبحانه لم يحرّم الخبائث إلا لأنّها تضرّ بجسم الإنسان وعقله، بل إنّ من الأمور الفطريّة التي أكدت عليها الشريعة المقدّسة، إنّ الإنسان مكلّف في أن يحافظ على جسمه، فهو لا يجوز له ان يعرّض نفسه للخطر. وعلى سبيل المثال، فمن غير الجائز له أن يصوم في شهر رمضان، إن كان الصوم يسبّب له الضرر الجسمي.

وباختصار فانّ هناك العشرات من الأحكام الشرعيّة حول جسم الإنسان، والمحافظة عليه، ولكنّنا -للأسف- عندما نطبّق هذه الأحكام فانّنا لا نفكّر في هدفها، فإذا كنّا نفكر في هدف هذه الأحكام - وهو طهارة الجسم وبالتالي تأمين الصحة والعافية له- لكنّا نعلم أنّ ما يضرّ الجسم من سائر الأمور المتجدّده هو حرام أيضاً.

القيم الشرعية واجبة

ترى لماذا -نحن المسلمين- لا نعتبر القيم الشرعية التي امرنا بها واجبة، بل نحاول أن (ندحرجها) إلى باب الأخلاق، لنقول أنّها مجرّد وصايا أخلاقية غير ضرورية. أليس في القرآن كلمة تأمرنا بالعدالـة، وهـي: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» (المائدة/8)

ألا يقـول القرآن الكريم: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» (الحجرات/10)، ألا يقول تعالى: ]فَاعْلَمْ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ» (محمد/19)، ويقول: ]صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً» (البقرة/138).

إنّ تلك الآيات وغيرها تدعو إلى قيم من مثل قيمة الحرية، والعدالة، والإصلاح بين الناس، فلماذا لا تأخذ تلك الأمور دليلاً على الوجوب؟

وعلى سبيل المثال أفلا تدل آية ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» على الوجوب؟ فلماذا -عندما نصل إلى الأهداف والقيم- ندّعي انها تعاليم ووصايا أخلاقية، ولكننا عندما نتحدّث عن الأحكام فانّنا نهتم بها؟

فلعلّ الواحد منا يجلس شهراً كاملاً ليبحث - مثلاً- في موضوع هل أنّ كلّ زيادة في الصلاة توجب سجدتي السهو، والحكم الصريح في هذا المجال هو أنّ كل زيادة ونقيصة في الصلاة توجب سجدة السهو. ولكنّك ترى ذلك الشخص غير مستعدّ ولو ليوم واحد أن يجلس ويتفكر في ستراتيجية الأمة الإسلامية اليوم، وهل علينا أن نحارب أم نهادن..؟

في الحقيقة أنا لم أجد بحوثاً في هذا المجال. نعم هناك في الاندية، والاوساط السياسية بحوث، ولكنّها لا تكفي لوحدها. فالفقهاء الذين هم مراجع هذه الأمة، ومدار الأمور بأيديهم، عليهم أن يفتوا في الحوادث الواقعة، وأن يبيّنوا ما هي قيم الدين، وما هي الاولويات في الشريعة المقدسة. وعلى سبيل المثال فهل أنّ الملكية الفردية واجبة، أم هي جزء من أحكام الدين؟ فقوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ» (البقرة/188)، يؤكد على مبدأ الملكية الفردية، ولكنّ الآية: «وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً» (النساء/5) تدلّ على الدور الاجتماعي للملكية، فلماذا لا نبحث في حدود الملكية الفردية وقوانينها على ضوء هاتين الآيتين الكريمتين؟

وكنموذج آخر فانّ قوله سبحانه وتعالـى: «وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرض بَعْدَ اِصْلاَحِهَا» (الاعراف/56)، يدفعنا إلى المزيد من البحث عن مفهوم الفساد في الأرض، والإصلاح فيها. فمن هو المصلح، ومن هو المفسد، وكيف نكرّس الصلاح، ونهدم الفساد؟

أفليست هذه القضايا من واجباتنا؟ إنّها روح الشريعة المقدّسة، وعمق الإسلام، وصبغة الشريعة، فلماذا لا نفكّر فيها؟ صحيح ان الأحكام الشرعية مهمّة كلها، ولكن أهدافها مهمة أيضاً، لسببين:

1- إنّنا في كثير من الأحيان نطبق الإسلام، ولكن تطبيقنا له ليس بالشكل الذي يؤدي إلى الأهداف. ولكي أوضح ذلك اضرب المثال التالي: هل الحج من الأحكام الشرعية أم لا؟ لا ريب أنّه من الأحكام الشرعية، لقوله عز من قائل: ]وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» (آل عمران/97). وعلى ضوء ذلك نطرح السؤال التالي: هل لهذه الفريضة هدف أم لا؟ لا شك أنّ القرآن الكريم حدّد الأهداف، ولكن هل أنّ المسلمين يبحثون حقاً عن أهداف الحج عندما يمارسون هذه الفريضة؟ الجواب بالنفي طبعاً، فالمسلم يحج دون ان يفتّش عن هدف الحج؛ فأين هي منافع المسلمين في الحج، وأين هي وحدتهم؟

والأدهى من ذلك أنّ الذي يؤدّي الحج ويستهدف من ورائه تحقيق تلك الأهداف المعلنة في الشريعة، يعتبر خارجاً عن الدين في عرف بعض المسلمين!

وكمثال آخر فانّ الزكاة تعتبر من جملة الأحكام الواجبة، ولكن هل نعلم لماذا فرضت الزكاة؟ الجواب: لكي لا تكون الثروة دولة بين الأغنياء منّا، ولكنّنا -للأسف- نؤدي الزكاة بطريقة تكرّس حالة الطبقية في الأمة؛ أي أنّنا لا نأخذ الهدف بعين الاعتبار. وهكذا الحال بالنسبة إلى الصلاة فانّنا نؤديها بشكل بحيث لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، كما يقول تعالى: «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ» (العنكبوت/45)، فترانا نصلّي دون أن نحاول الوصول إلى هدف الصلاة.

2- إنّنا إذا فكرنا وبلورنا الأهداف المقدسة، فإننا سنفتّش من أجل الوصول إليها عن وسائل جديدة بالإضافة إلى الأحكام الشرعية؛ فان كانت هناك وسائل جديدة جعلناها -على الاقل- من المستحبات.

الاهتمام بالقيم قبل كل شيء

وتأسيساً على كل ما سبق، فانّ علينا أن نهتم بالقيم. فنحن إذا تعمقنا

في القيم الدينية سنعرف الأحكام، ونطبقها حق تطبيقها، ولم نعـط لأنفسنا الحق في التمييز بين الأخلاقيات وبين الأحكام وسائر الأمور الأخرى.

فعلينا -إذن- ان نؤدّي فرائضنا، وعباداتنا اداءً واعياً، وان نستحضر في أذهاننا -قبل أن نهتم بادائها- الأهداف والقيم المرجوّة منها، لكي لا يكون اداؤنا لها اداءً فارغاً من المحتوى، منعدم التأثير. لأنّ إدراك أهداف الفرائض هو شرط أساسي ورئيسي من شروط ضمان التأثير العملي لها في حياتنا وسلوكنا. وهذا الحكم ينسحب على جميع العبادات، والفرائض، والتشريعات، وخصوصاً تلك التي تحتوي على طابع اجتماعي وأخلاقي من مثل فريضة الحج، والصلاة، واداء الزكاة والحقوق الشرعية.. وما إلى ذلك من فرائض يسهم اداؤها الواعي اسهاماً فاعلاً في تغيير حياتنا وتقويم سلوكياتنا.

الإسلام بين معادلتين

«تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَحَيَاةً وَلاَ نُشُوراً * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلآَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جآءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الاَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الاَسْوَاقِ لَوْلآ اُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً» (الفرقان/1-9)

البركة الإلهية

إنّ طليعة الآيات من سورة الفرقان التي خصّصت -فيما يبدو- لبيان دور الوحي في تبصير الإنسان وتوجيهه إلى الحياة الفاضلة، والتي سمّيت بهذا الاسم للدلالة على هذه الفكرة الواضحة فيها، حيث تأتي الآية الأولى لتبين أنّ الخالق الذي نزّل الفرقان على عبده، هو مبارك، وأنّ بركته وأفعاله الحميدة وتطويره وتكميله لحياة الإنسان كلّ ذلك هو الضمان لتكامليّة الإنسان، وسيره في معارج التقدم والصعود.

ثم يبيّن القرآن الكريم أن مصدر كل خير في الخليقـة هـو الله تبارك وتعالى، وهو مصدر كل نور للانسان، وكما أنّ الخلق منه فانّ العلـم والمعرفة منه أيضاً، ولذلك يقول: ]الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً».

فلكل شيء قدر، ولكّل شيء بداية ونهاية، وحدود معيّنة، فأي شيء في هذا الكون الرحيب لا يتجاوز حدود ما يرسمه الله سبحانه وتعالى له.

الضعف مشكلة الإنسان

ولكنّ مشكلة الإنسان ضعفه أمام القوى التي يخيّل اليه أنّها كبيرة وعظيمة، كما أنّ مشكلته انهزامه أمام الضغوط، وهذه المشكلة هي السبب الرئيسي في انحرافات الإنسان العملية منها والنظرية على حدّ سواء. ولو أنّ هذا الإنسان اعتمد على ربّه بثقة كاملة، وتوكّل عليه واستوحى منه بصائره في الدنيا، لما وجد الضلال إلى قلبه سبيلاً، ولما وجد الباطل إلى عمله منفذاً، ولكن انحراف الإنسان انّما يبدأ عندما لا يؤمن بالله جل وعلا. فالقلب المنهزم أمام الطبيعة هو القلب القريب من الانحراف، وهو القلب الذي يزرع فيه الشيطان بذور الضلالة والشرك، ولذلك فانّ الله عز وجل يقرّر أن التوحيد هو محور للهداية، كما هو محور للعمل الصالح، فيقول: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَحَيَاةً وَلاَ نُشُوراً».

الآلهة لا تملك شيئاً

فالآلهة لا تملك -في الواقع- شيئاً، ولانّها لا تملك النفع والضرر فانّها لا تملك الحياة والنشور، ولكن الإنسان قد يزعم مع ذلك انّ هذه الآلهة تمتلك الضر والنفع، وقد يتصوّر انّ هذا الصنم من شأنه ان يضرّه لو لم يعبده، وان ذلك الطاغوت يلحقه باذى لو لم يخضع له. امّا الله تقدّست اسماؤه فيوضح ان دليل ضعف الآلهة وعجزها عدم قدرتها على منح الإنسان ما يحتاجه، فعندما يمرض الإنسان ويرقد على سرير المرض، فمن الذي يستطيع أن ينقذ حياته سوى الله؟ ومن الذي يقدر على كشف ضرّه عندما يجأر إليه سوى الخالق؟ ومن الذي يكشف عنه السوء؟ وعندما يمرض انسان آخر عزيز عليه من الذي يتوجّه اليه بقلبه، وبصدق ايمانه، ويسأله أن يتفضل عليه بالشفاء والعافية، أو ليس هو الله القدير القوي؟

وعندما نعلم إن الطاغوت لا يعطينا الحياة، وبعد هذه الحياة لا يملك لنا نشوراً ولا بعثاً من جديد، وعندما ندرك أنه لا يضرّ ولا ينفع، وحتى لو أضرّ ونفع من الناحية الظاهرية فانّه لا يمتلك حياتنا ولا مماتنا ولا نشورنا، فاننا سنتوصّل إلى أنّ الجدير بأن نعبده ونخضع له، ونخلص له التسليم، هو القادر على فعل كل ذلك، وهو الله.

الأبواق الجاهليّة ضد الرسالة

وبعد أن يثبت القرآن القاعدة الأساسية لعدم انحراف الإنسان في الدنيا،

نراه يبيّن لنا الافكار الضالة المضلّة التي تبثّها أبواق الاعلام الجاهليّ ضد القرآن الكريم، وضدّ كلّ رسالة الهية، فيقولون: «إِنْ هَذَا إِلآَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ».

فهم يعمدون في البدء إلى تكذيب الرسول ورميه بالكذب، ويتهمونه بالجدل، ويدّعون أنّ أفكاره باطلة، وأنّه يكذب ويفتري على الله تعالى، وأنّ أقواله ليست مطابقة لافعاله. فهم بذلك يستهدفون تحطيم شخصيّته، وسلب ثقة الناس منه.. وكم يكون الإنسان ظالماً عندما يتّهم رجلاً لم يعهد الناس منه ولو كذبة واحدة طيلة حياته، كما يشير إلى ذلك سبحانه في قوله: ]فَقَدْ جآءُوا ظُلْماً وَزُوراً».

وهم مرّة اخرى يتّهمون الرسالة بأنها رجعيّة، وأنّها تستوحي أفكارها من معتقدات السابقين: «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الاَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً».

وقد فشل الكافرون والمشركون في خطوتهم الأولى هذه عندما اكتشف الناس أنّهم الكاذبون، وأنّه لا يمكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن يسير على خطاه أن يكذب، لأنّه حياته قائمة على الصدق، فهو لا يريد الدنيا، وهي التي عرضت عليه نفسها وجاءت اليه طواعية ولكنّه قال لها: "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته". ([33])

وبعد أن أدرك المشركون فشلهم هذا، قالوا كلمتهم الثانية: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الاَسْوَاقِ لَوْلآ اُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً».

فالمشركون ومن أجل أن يتملّصوا من الايمان بالرسالة الالهية، ومن أجل أن يحافظوا على مصالحهم، ادّعو إنّ الرسول ينبغي أن يكون ملكاً، وأن تكون له أجنحة يطير بها في السماء، وإنّ من المفروض أن يكون جبرائيل ملازماً له، وأن يقوم بعمل خارق، ويهبط بكنز من السماء، أو أن تكون له بساتين ومزارع وحقول يأكل منها.

وعندما ضاقت على بعضهم الحيَل، اتّهموا الرسول بأنّه رجل مسحور، دون أن يفرّقوا بين السحر والرسالة، ولذلك وصفهم تعالى بانّهم ظالمون: ]وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً».

معادلة الرسالة

ثم يقول عز من قائل: «انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً» ذلك لانّ معادلة الرسالة هي معادلة جديدة، وأن طبيعتها تختلف عن طبيعة الاوضاع السياسية التي كانوا يعيشونها، ولكنهم لا يعرفون كيف يقيّمونها، ولذلك تراهم يضلّون السبيل، ففي يوم يقولون كلاماً، ثم لا يلبثون غداً أن يتركوه إلى كلام آخر. وهذه هي طبيعة المشركين والكافرين في كل عصر ومكان.

الإسلام بين تفسيرين

ابتلي الإسلام طيلة تأريخه ببلاءين، كل بلاء منهما أشدّ خطراً من الآخر؛ البلاء الأول يتمثّل في التفسير الطاغوتي له، والبلاء الثاني هو التفسير القشري للاسلام.

ونحن لا نستطيع أن نقول إنّ أحد البلاءين كان أقل خطورة من التالي، كما لا يمكننا أن نفصل بين هذين النوعين من التفسير للإسلام. ونحن لا يعنينا هنا بيان العلاقة الوثيقة، بل العضوية بين هذين النوعين من التفسير الخاطئ لرسالات السماء، بل إنّ الذي يهمّنا بيان الصفات الاساسية لهما.

نظرة الطغاة إلى الدين

إنّ الجبابرة والطغاة يحاولون دائماً أن يشيعوا أن دين الله سبحانه بعيد عن السياسة، وأن السياسة بعيدة عن الدين، حتى قال قائلهم: (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين). فهؤلاء يرون أن المسجد للمصلّين، وأننا لا يمكن أن نسمح بممارسة السياسة في المساجد. كما يقولون بانّ الدين ما هو إلا تجربة شخصية بين الإنسان وربّه، وإنّ هذه التجربة متنوعة ومتعدّدة ولا تخضع لأية ضوابط ومقاييس، كما قال بذلك (وليام جيمس) مؤسّس المنطق الوسيلي السائد الآن في العالم الغربي.

فهؤلاء يرون أن الدين تجربة أخلاقية، وأن الشيء المهم فيه أن يهذب الإنسان أخلاقه أمام الآخرين، وأن لا يشكل خطراً عليهم.

ومن المعلوم أنّ أجهزة الطغاة تقوم بتأكيد وتكريس هذا المنطق، كما تحاول مؤسّسات التربية والاعلام والتثقيف وصنع النظريات، تكريس هذه الفكرة الخاطئة عن الدين بين الناس، وتربية أجيالنا على هذا الاساس.

النظرة القشرية إلى الإسلام

وهناك فهم آخر هو الفهم القشري للإسلام، وبموجب هذا الفهم فانّ الدين ليس سياسة، وليس رفع الظلم عن المحرومين، وليس عمارة الأرض، وانقاذ الإنسان من الفقر والمرض والتخلف.. بل هو ان تجلس في المسجد وأن تتوجّه إلى قبلتك، وتؤدّي فريضة الصلاةّ!

ولمدّة ألف وأربعمائة عام دفعت الأفكار القشرية المسلمين إلى أن يتصارعوا على قضايا لو طرحت وعرضت على القرآن والأحاديث لبدت مدى ضحالتها، فمن مزايا وخصائص الفكر القشري ما يلي:

1- انّه يحّرم على الإنسان البحث عن الإسلام، ولا يجوّز له قراءة القرآن، والروايات، والعودة إلى التأريخ والسيرة وطريقة الأئمة عليهم السلام، وما إلى ذلك.. حتى إنّ أتباع هذا الفكر يسعون من أجل ابعاد الإنسان المسلم عن الفقهاء، ويحاولون إقناعه بشتى الطرق بانّهم ليسوا مؤهّلين لفهم الإسلام.

2- يحاول أصحاب هذا النوع من الفكر بمختلف الأساليب أن يحوّلوا نظر الإنسان من القضايا الرئيسية التي يعيشها إلى القضايا الجانبية. وعلى سبيل المثال؛ فانّ قضية وجود امبريالية عالمية، وقضية سحق الأمم والشعوب ليستا قضيتين مهمتين، بل انّ القضية المهمة هي انّه ليس من شأن الإنسان المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثورة ضدّ السلطات الطاغوتية الجائرة لاعادة الإسلام إلى الحياة. فالإسلام ليس من واجبنا ان ندافع عنه، لأن الله تعالى هو الذي يتولى الدفاع عنه وعن المسلمين!

ونحن نسأل: اذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسمحان لنا بالتصدّي للحكم والسياسة، فهل يتوجّب علينا -مثلاً- أن نبحث في الازقة والشوارع عمّن يتختّم بخاتم ذهب، ونتشاجر معه لانّ لبس الذهب محرّم على الرجال؟!

وفي كثير من الأوقات نجد ان هؤلاء يخصّصون الليالي والايام، ويكتبون الكتب، ويحرّرون الرسائل حول هذه المسائل الهامشية، ومن ميزتهم أنّهم حدّيون حيث يعتقدون أنّ العالم كلّه في ضلال، وأنهم كلّهم في جهنّم، وهم فقط أهل الجنّة وكأنهم اشتروها!

وهناك ميزة أخرى تميّزهم وهي أنهم يحلّلون لأنفسهم ما يشاؤون؛ فالتهمة عندهم حلال بل هي واجب، والغيبة عندهم جائزة بل هي فريضة.. ومن أفكارهم أنّهم يحاولون إلهاء أنفسهم بأيّ شيء عن الجهاد في سبيل الله عز وجل، والعمل من أجله، ويكرّرون قولهم بانّ الدين لا سياسة فيه، مثلهم في ذلك أصحاب التفسير الطاغوتي للإسلام.

وبين هذين التفسيرين يصبح الإسلام الحقيقي غريباً، لان القوة بيد هؤلاء الجبابرة؛ فالاذاعات، والشبكات التلفزيونية، والسينما ووسائل البطش والتضليل والتزوير كلّها بيدهم، كما انّهم يمتلكون سلاحاً آخر هو ترسيخ حالة الركود والجمود، فتتوقف الطاقات الفكرية في الامة، لذلك نجد انّ هذا النوع من الأفكار قد سبَّب تخلّف المسلمين.

كما أن حالة الركود والجمود هي التي تسمح للاستعمار باستثمار شعوبنا، واستغلالها، ونهب ثرواتنا نهباً منظماً، وهذه الحالة تساعد بشكل فاعل أمثال هؤلاء لأنّهم يأمرون الناس بالجلوس في بيوتهم، ويقولون لهم إنّ من يحمل هموم الناس ويدافع عن حقوقهم مجنون، وإنّ الذي يقتل دفاعاً عن وطنه ليس بشهيد.

حقيقة الإسلام

من هنا يتطلب منا ان نتبرأ من تلك المفاهيم المغلوطة، التي هي ليست من الإسلام في شيء؛ فالدين هو الجهاد، والايمان بالله، والكفر بالشركاء، ورفض الانداد. فعندما يقول الإنسان المسلم: لا إله الا الله، فانّ عليه أيضاً أن يقول: لا للحكومات الظالمة، لا للمجتمع الفاسد، لا للقومية والاقليمية، لا للماديات كلّها.. عندما تقول لا إله الا الله، فانّك ترفض كل ذلك، وعندما ترفض يتوجّب عليك أن تدخل في حلبة الصراع، والصراع هو أن تجاهد وتبذل وتضّحي. وهذا هو الدين في حقيقته، فمنذ البدء يبدأ الصراع ضد قادة الأنظمة الفاسدة، وضّد إرهابهم، وسجنهم، وتعذيبهم.. وهم بدورهم سوف يوجهون إلينا التهم بالكفر والضلالة، وستواجهنا سياط الطغاة وتتلوى على ظهورنا، ولعل الشهادة تكون في انتظارنا. مع كل ذلك لابد أن نصبر ونستقيم، هذا هو منهج الانبياء والرسل والائمة عليهم السلام وجميع الصديقين والصالحين.

وبكلمة، يجدر بنا ان نجسد الإسلام في حياتنا كما هو، حيث نستقيه من مصادره الخالصة الأصيلة، وان لا نهادن في ديننا من خلال التشبث بتلك الأفكار القشرية، أو الاستسلام لسلطة الطغاة. ذلك لان الدين أغلى وأسمى قيمة لدى الإنسان.

الإسلام وسيلة النهوض

من الممكن أن تعكس الحركة الفردية والاجتماعية صورتين متفاوتتين للدين؛ صورة باهتة وضعيفة وفارغة المحتوى، وصورة أخرى تعمها الحيوية والفاعلية والنور. وكلما اتسعت مساحة الصورة الأولى للدين في الواقع الاجتماعي، كلما تراجع عدد المنتمين إليه، فضلا عن نوعية الانتماء. وكلما توضحت الصورة الثانية، كلما دخل الناس في دين الله أفواجا، وتحرك الواقع الاجتماعي إلى الأمام، فإذا بالناس يضحون بكل غالٍ ونفيس في إطار الذود عنه.

يا ترى أين نحن اليوم من هاتين الصورتين؟ بل وما هما؟

القرآن المجيد وفي أكثر من مناسبة يحدثنا بتفصيل أو اختصار رائعين عن هذا التنوع ذي الحدين المتناقضين.

وبادئ بدء؛ لابد من التأكيد على أن الله سبحانه وتعالى يعتبر الدين المحور الأساس الذي ينبغي أن تدور حوله الحركة الاجتماعية، باعتبار أن الدين يجسد فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي الواقع غير القابل للتبديل أو التغيير. فالإنسان قد خلق، وخلق معه الإحساس بالحاجة إلى الركون إلى عقيدة ما. والتاريخ يشهد ويؤكد على أن ما من عصر أو زمان أو مكان، إلا وكان الناس فيه متدينون بدين. ونحن اليوم نجد في كل مدينة أو قرية مركزاً للعبادة، سواء كان هذا المركز معبداً للأوثان أو كنيسةً أو مسجداً.

غير أن الله تبارك وتعالى حث الإنسان ولا يزال على ضرورة اتباعه الدين الحق بعد الاقتناع به قلبياً وفكرياً.

والقرآن الكريم يشير في عدد من آياته المباركات إلى إن مشكلة الإنسان والإنسانية لا تكمن في أصل الدين واعتناقه، بقدر ما تكمن في شكل هذا الاعتناق، وفي نوعية وكيفية الالتزام به.

فقد يكون الدين سلاحاً قاتلاً بيد الطغاة والانتهازيين، ووسيلة للقمع، وطريقاً لاستلاب الناس حقوقهم.

وقد يأخذ صورته الحقيقية وبعده الصادق وثمرته الطيبة، حيث يتحول إلى جوهر وإطار للخلق الفاضل ووسيلة نحو تحقيق المدنية السامية.

لقد طرح اليهود عبر التاريخ الدين وصوروّه بصورة قشرية باهتة ومفتقرة إلى أية قيمة أو محتوى، وتشير الوثائق التاريخية المكتشفة إلى أن أحبارهم وحاخاماتهم حينما زوّروا التوراة ودوّنوا التلمود -شرح نصوص التوراة- كان همهم الأكبر المحافظة على عنصرهم المتشرذم بفعل السبي البابلي والتأكيد للبشرية على أنهم أصحاب حضارة تاريخية ضاربة في القدم. وهذا السعي الباطل أنساهم القيام بمهامهم الرئيسية بوصفهم علماء دين، والآن لا يرى القارئ لكتبهم غير الأباطيل والتقول على الله والأنبياء والسرقات الأدبية المفضوحة، بالرغم مما قام به المتأخرون من علمائهم من حذف وتعديل في نصوص التوراة.. لاغراض سياسية ودوافع حقوقية!!

وانعدام المحتوى هذا أدى باليهود إلى رفع عقيرتهم حينما بدّل الله سبحانه وتعالى قبلة المسلمين إلى الكعبة المشرفة، بعد أن كانت إلى المسجد الأقصى المقدس، قائلين بكل وقاحة بانتهاء الدين، وكأن الدين عندهم مكان أو جهة، وإذا انتفى المكان انتفى القانون وانتفت الفطرة الإلهية.

ولقد قال تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ الْسَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ الْبَأْسِ اُوْلَئِكَ الَّذِين َصَدَقُوْا وَاُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة/177) إن موضوع تحويل القبلة عاد بالفائدة على المسلمين بفوائد عديدة، منها: أنه كشف لهم خطل فكرة التقيد بالمكان، وأن الدين موضوع أقدس من أن يحده مكان. فمادام الرسول قد بعث للناس كافة، فهو يعم الأرض كافة تبعاً للتنوع واختلاف إقامة الناس وترحالهم. كما كشف لهم سر صمت اليهود تجاه هذا الدين الجديد، بمعنى ان الآية المتقدمة الذكر كشفت عن عدو لدود بين ظهرانيهم يبطن عداءه؛ عدو لا تجد القيم الصالحة أي متسع لها في قاموسه وعرفه. وهذا الكشف يعد بحق معجزة من معاجز القرآن الكريم، كما كشف للمؤمنين بأن ديانة اليهود ليست ديانة إلهية، بل هي ديانة مصلحية للتغطية على مفاسد وعنصريات. ولو كان الأمر غير ذلك لما اهتموا للأمر كثير اهتمام أبداً، باعتبار أن الديانة الحقة هي التوجه الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى والى المثل العليا، لا التوجه الرمزي إلى هذا المسجد أو ذاك.

ما هو الحق؟

يعّرف الله سبحانه وتعالى الحق والخير بأنه الايمان بالله والآخرة، والتصديق بالرسل، وأن هذا الايمان لابد أن ينتشر ويصبغ الأعمال جميعاً بصبغته. فمن آمن بحقٍ وكفر بحق آخر، فهو بمثابة من لم يؤمن بكل حق بتاتاً، لأن الحق كل الحق هو الذي يجب أن يكون محـور الايمان. فمن آمن بالله وأنكر الآخرة، أو آمن بالآخرة وأنكر الرسل أو رسولاً منهم، كان كمن لا يؤمن بالحق كله.ٍ وبمعنى آخر؛ لا يمكن أن تمثل الازدواجية في الايمان طريقاً إلى الحق المطلق، ومثل هذا المرض وهذه العقدة النفسية والفكرية قد أصابت بني اسرائيل حينما بعث رسول الإسلام الأكرم محمد صلى الله عليه وآله، إذ أن العصبية والجاهلية هي التي تحكمت بحركتهم، علماً إن اليهود كانوا يعرفون أكثر من غيرهم النبوة الحقة لنبينا صلى الله عليه وآله.

ثم إن القرآن المجيد يشير إلى نماذج كثيرة للغاية والتي تجعل من إيمان الفرد أو المجتمع إيمانا ذا بعد واحد، كما تصور لنا آياته الكثيرة الأخرى نماذج مغايرة من شأنها أن تحول الإيمان إلى شرك، أو شرك خفي على الأقل.

ومن هنا يتضح لنا بأن الخط الفاصل بين الايمان والشرك لا يعدو أن يكون فاصلاً دقيقاً للغاية.

فالدافع إلى طلب المال قد يكون الإيمان، وقد يكون نقيضه وهو الشرك. ففي الحالة الأولى لعل الدافع يكون الكدّ على العيال أو لجمع المال للتبرع في سبيل الله، أو لتحقيق الاكتفاء الذاتي وعزة الشخصية. أما الحالة الثانية فحيث يكون طلب المال من أجل جمع المال ومنعه من الوصول إلى أصحابه، أو تجميد فاعليته كنعمة من نعم الله.

فالعمل كما العقيدة، له بعدان متفاوتان؛ فجانب الخير تمثل في أحد نماذجه، في أن تبرع الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام وأهل بيته الأبرار عليهم السلام بطعامهم للمسكين واليتيم والاسير، حتى خلّد الله تبارك وتعالى هذه الحادثة الكريمة في القرآن الكريم، وجعلها عبرةً لمن يتخذ الايمان طريقاً نحو الحق، لأن هذا العطاء كان إيثاراً على النفس وحباً للفقراء..

ولكننا نرى - وللأسف الشديد - إن بعض الناس ينفقون أموالهم ويساعدون الفقراء، غير أنهم لا ينفقونها انطلاقا من نية مخلصة ومؤثرة، بل هم يبذلونها في الحفلات العامة، حيث الدعاية وعدسات التصوير وحضور الجمهور !.. فهم لا ينفقون الدينار حتى يضمنوا لأنفسهم أرباحاً مضاعفة؛ بمعنى أن هؤلاء يتخذون من الفقراء والمساكين وأوضاعهم المؤسفة جسراً للعبور نحو تحقيق أطماعهم وأغراضهم الدنيئة.

ففي الوقت الذي يقول الله سبحانه وتعالى، حينما يتناول موضوع بذل المساعدة للضعفـاء: «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ» (الحج/37) نجد أن الانتهازيين والنفعيين لا يحسبون للحصول على التقوى وتحقيق إرادة الله في الإنفاق أي حساب، وهم بذلك -شاؤوا أم أبوا- قد خضعوا لشيطان الشرك في داخلهم.

وهنا لابد من التأكيد ان الله سبحانه وتعالى يوجهنا إلى أخذ الكلمات القرآنية بمعانيها التامة، فهو يأمرنا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.. وبطبيعة الحال فإن إقامة الصلاة لا تعني تأدية الفرائض اليومية فحسب، بل إن الأمر الإلهي المقدس يعني أول ما يعني إقامة الصلاة مع كل الواجبات المحيطة بها، ويعني إقامة المجتمع على أساس الصلاة.

فقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ» (العنكبوت/45) دليل أكبر على ما نذهب إليه، حيث إن روح الصلاة والتوجه إلى معانيها الفاضلة هو العامل المساعد والضامن الأول لتوافر معطياتها الخيرة، وإلا فإن مجرد القيام والقعود والركوع والسجود الخالي عن الروح والنورانية لا يفي بالغرض المقدس أبداً.

ونحن إذا نظرنا إلى مجتمعاتنا المسلمة، نلاحظ إن السبب في تراجع مدنيتها

يكمن في تمسكها بقشور العبارات القرآنية والدينية، بمعنى إنها بالتزامها بالقشور وحالة الفراغ قد حكمت على نفسها بالالتزام بنوع باهت في الثقافة، لم يكن الشارع المقدس يرضى به. فهذه المجتمعات لم تبحث عن المصاديق الواقعية والصحيحة للدين الإسلامي الحنيف التي تدعي الانضمام تحت لوائه، ولم تعتنق أو تلتزم بالثقافة المدنية الغربية -مثلاً- لتحقق على الأقل ما حققه الغربيون من تقدم مادي ودنيوي. ولذلك نرى التراجع يتكرس في حركتها كلما تقدم بها العمر، وهذا الواقع سيظل على ما هو عليه ما لم تنتبه هذه المجتمعات إلى حركتها وتصلح من فهمها لحقيقة الدين الإسلامي.

ومن المصاديق الأخرى التي يثبتها الله تبارك وتعالى لدى تعريفه مصطلح الحق، الصبر، صبر المؤمنين في البأساء والضراء، وهذه في الحقيقة من أجلى التعريفات واعودها نفعاً على الحركة الاجتماعية.

فالإنسان والمجتمع المؤمن هو من تتوافر فيه صفة الاستقامة؛ الاستقامة التي تستدعي التضحية بمختلف أشكالها وألوانها، دون من تزل قدمه بمجرد إثارة شبهة أو ضغوط.

إن البأساء والضراء حالتان موجودتان مادامت الحياة موجودة؛ إذ هما احد المقاييس المهمة التي يثبت فيها المؤمن إيمانه، فيصح إطلاق اسم المؤمن والمتقي عليه، أي يكون اسماً على مسمى.

حدود الدين

لقد أخطأ الكثير من الناس، والمثقفين على وجه الخصوص، حينما حددوا الدين بحدود شخصية، وفسروه باعتباره مجموعة من المعتقدات والحركات التي لا تخرج عن نفس الإنسان. فترى قصارى هممهم وأعمق اجتهادهم يدور حول العلاقة الزوجية، وما أشبه. فهم يقضون أروع ساعات عمرهم في بحث مسائل حلق اللحية وتقصير الشارب، أو كيف تتحجب المرأة.

بلى؛ إن الدين الإسلامي يفرض للعلاقة الزوجية احتراماً بالغاً، ويعتبرها واقعاً ينبغي أن يكون ضمن أصول دينية واضحة.

ولكن دين الله لم ينزل لحل هذا الموضوع فقط، فقد يكون الرجل ذا لحية وزوجته ذات حجاب، وانهما يذهبان إلى المسجد على قدم وساق؛ إلا أن هذا الرجل يتعمد الغش في السوق، ويقول الكذب ويأكل الحرام، أو يذل نفسه للظالمين، أو يتجسس لهم ضد المظلومين، تصور هذا الإنسان حينما يأكل الحرام ويملأ بطنه منه، وفي الغد القريب يصبح أباً، ماذا سيكون واقع ذريته؟

إن آيات القرآن الكريم عموماً لا تتحدث عن قضايا قشرية أو تكتفي ببحث موضوع واحد، بل هي وحدة متكاملة، تهتم قبل كل شيء بالحق والايمان والتوحيد، وبعلاقة الإنسان بخالقه المقدس، وبعلاقة الإنسان بالرسل والملائكة والغيب. والطبيعة والتأريخ، كما أخذ جانب كبير منها علاقة الحاكم والمحكوم وعلاقات الشعوب بين بعضها. حول هذه الأمور ذات الأهمية القصوى بالنسبة لحركتنا ومصيرنا يحدثنا القرآن، ولكننا تركناه كلّه وتمسكنا بظواهر لا تسمن ولا تغني من جوع!!!

وبكلمة أخرى؛ إن هذا الدين الذي اتخذه المؤمنون الأوائل وعلى رأسهم أهل البيت عليهم السلام وسيلة لتحرير الشعوب من طغاتها، ووسيلة لتحكيم الحق والعدالة، وتوطيد أصول الحرية وبناء المجتمع الفاضل، قد حوّلناه نحن في هذا الزمن إلى مجموعة من القضايا الرمزية الباهتة، والى مجموعة شعارات لا يعدو مثلها مثل الطبل المعاب...

شهادة الواقع

تراجعنا هذا يأتي في زمن يسير فيه أعداؤنا باتجاه بناء تكتلات واسعة ومؤثرة في إحكام السيطرة على الحركة البشرية بشكل عام، وحركتنا وواقعنا نحن المسلمين بصورة خاصة.

لقد اتحد هؤلاء الأعداء تحت إطار تنظيم التجارة العالمية، رغم اختلافهم وتفاوتهم في نقاط عديدة، أقربها إلى الذهن الاختلافات التأريخية والعسكرية والقومية والدينية والجغرافية، ولكنهم رغم كل ذلك على قناعة تامة بأن العامل الاقتصادي والحركة التجارية من الممكن لها أن تكون عامل توفيق واتحاد فيما بينهم. ومجمل الحكومات النامية والمسلمة منها بالذات، حتى في حال انضوائها إلى هذا التجمع، فهي لن تعدو أكثر من متفرج أو تابع غير مقرر له صوت محترم. إذ هي لا تمتلك الوسيلة للتأثير، وإذا ما امتلكت في يوم من الأيام فهي ذاتها أعدمت هذه الوسيلة قوة التأثير، تماماً كما أكد وزير إحدى الدول العربية من قبل، ضرورة عدم اعتبار أو اتخاذ النفظ سلاحاً !!

قبـل حوالـي ثلاث مائة سنة كان الأوروبيون يتقدمون بنهضتهـم الصناعية ويرتقون سلّم التطور ويطوون المراحل العلمية الواحدة تلو الأخرى، وهم الآن قد أحكموا سيطرتهم. في ذلك الوقت حينما كان السلطان العثماني يخبر بالنهضة الأوروبية يكتفي بالقول: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"، وكان رجال المراكز العلمية بشكل غالب في مجتمعاتنا يعكفون على الجدل النظري في مسائل اللغة وثوابت الفقه التي لا فضل لهم في وجودها أبداً (!) والتأريخ يؤكد بكل صراحة بأن مثل هؤلاء كانوا يتهربون علناً وعملاً عن محتوى الدين الأصيل، وعن الصدق والصبر والتعاون والايثار وإقامة الصلاة.

إن المسؤول الأول عما حدث ويحدث من فجائع في الشارع المسلم، وعما سيحدث من تراجع هائل في الشخصية المسلمة ودور المسلمين في المستقبل؛ هو نحن بالدرجة الاولى بسبب انشغالنا في البحث في قضايا ثانوية، وبسبب اكتفائنا برفع الشعارات وتكالبنا على المناصب والاسماء، وبسبب عدم تعاوننا أو اتحادنا، بل وتمزيق بعضنا البعض. وهذه الأمراض كلها تمثل واقعا يتناقض وما نصّ عليه الدين وأوصت به الشريعة المحمدية.

إننا الآن نقف على مفترق طرق؛ فإما أن نعود إلى إصالتنا الإسلامية، وأن نعي ونلتزم بأوامر الدين ومناهيه، فنكون بذلك قد وضعنا اللبنة الاولى في صرح البناء المقدس، وإما أن نتنازل عن كل شيء وبذلك تكون الطامة الكبرى.


([1]) هذا البحث هو فصل من كتاب التشريع الإسلامي، مناهجه ومقاصده، الجزء السادس، للسيد المؤلف ثبتناه هنا رجاء لتعميم الفائدة.

([2]) بحار الأنوار، ج 65، ص 259، رواية رقم 16.

([3]) بحار الأنوار، ج 65، ص 309، رواية رقم 1.

([4]) المصدر، ص 330، رواية رقم 5.

([5]) بحار الأنوار، ج65، ص 330، رواية رقم 6.

([6]) المصدر، ص 341، رواية رقم 13.

([7]) بحار الأنوار، ج65، ص 379، رواية رقم 27.

([8]) بحار الأنوار، ج16، ص267.

([9]) بحار الأنوار، ج69، ص64.

([10]) مفاتيح الجنان، دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليه السلام، ص60.

([11]) بحار الأنوار، ج80، ص277.

([12]) بحار الأنوار، ج26، ص22.

([13]) بحار الأنوار، ج1، ص226.

([14]) بحار الأنوار، ج89، ص184.

([15]) وسائل الشيعة، ج1، ص83.

([16]) نهج البلاغة، كتاب 45.

([17]) بحار الأنوار، ج20، ص274.

([18]) بحار الأنوار، ج39، ص2.

([19]) نهج البلاغة، خ156.

([20]) بحار الأنوار، ج2، ص285.

([21]) وسائل الشيعة، ج16، ص561.

([22]) وسائل الشيعة، ج18، ص101.

([23]) بحار الأنوار، ج1، ص164.

([24]) المصدر، ج24، ص307.

([25]) بحار الأنوار، ج74، ص57.

/ 5