بیشترلیست موضوعات المقدمـة عن المرأة الاسرة هدية المجتمع: الفهم السلبي لقيمومة الرجل: حدود القيمومة في الاسلام: المرأة في الواقعالإسلامي البيوت الكافرة: وصايا الى المرأة المسلمة: المرأة في مجتمع الرسالة عقبات في طريق المرأة 1- الضغوط النفسية والاجتماعية: 2- الزواج ومسؤوليات البيت: 3- الجوانب الخلقيّة المبالغ فيها: المرأة حرة؛ تلك مسؤولة عن المرأة و العمل الاسلامي المرأة الشاهدة على عصرها أسوة حسنة: المرأة المؤمنة؛ أدوار متميزة أهداف مقدسة: عن التربية دور الأم في التربية كيف نربّي الجيل الناشئ؟ العبرة بقصص الانبياء: الاسرة بيت النور الالهي التقوى أساس التربية التربية الصالحة ضمان الاستقامة التربية الصالحة ضمان السعادة توضیحاتافزودن یادداشت جدید ان العالم تتناوب عليه اليوم القوى الجاهلية المتصارعة في الشرق والغرب، وهذه القوى تسعى جاهدة من اجل تدمير الحضارة البشرية، وتضليل الانسان وفصله عن القيم المعنوية السامية. ولولا بقية من اولي البصائر الناهين عن الفساد في الارض، لأصبحت الحياة على وجه الارض مهدّدة بالفناء. ان خمسة عشر طنا فقط من الاسلحة البيولوجية، التي يملك العالم اليوم آلاف الاطنان منها، كافية لإنهاء الحياة فوق الكرة الارضية. وهذه الحقيقة وغيرها تكشف لنا عن ان البشرية تنحدر وبسرعة هائلة نحو هاوية الفناء، وليس هناك من يقف امام هذا الانحدار المستمر. غياب الامة عن الساحة: ان الامة الاسلامية التي هي اقرب الأمم الى الرسالات السماوية، من الممكن ان تكون هي الامة المرشحة لايقاف مسيرة الانحدار في العالم. ولكنها -للأسف- غائبة اليوم عن الساحة، وليس لها أية مساهمة فعالة في الاحداث التي تجري من حولها. بل والادهى من ذلك، انها لاتؤدي أيّ دور يذكر في تقرير مصيرها هي. هذا على الرغم من ان الله سبحانه وتعالى أراد لهذه الامة ان تكون شاهدة على العالم، حيث يقول في محكم كتابه الكريم: « وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (البقرة/143) ترى كيف حدثت هذه الغيبة عن الساحة، واين هم المسلمون الآن؟ اين اولئك الذين جنّدوا جيشا جرّارا يشهد له التأريخ بالعظمة بمجرّد ان امرأة مسلمة استغاثت بأحد حكام المسلمين؟! أين اولئك الذين كانوا يطبّقون احاديث رسول اللـه صلى الله عليه وآله احساسا وعملا وتعبئة لطاقاتهم؟ الجواب؛ ان هذا الغياب لم يظهر مرة واحدة، بل بشكل تدريجي. ففي البدء قالوا للعجزة والمتقدّمين في السنّ: انتم شيوخنا وسادتنا، فاجلسوا في بيوتكم ونحن نكفيكم ونقوم بالاعمال المطلوبة. ثم قالوا للمرأة: ان افضل مكان لك هو البيت، فلا تخرجي منه، والاسلام لم يوجب عليك الجهاد.. فما كان منها إلا ان جلست في بيتها حتى اخرجها الاعداء لمحاربة الاسلام. فكان محرما عليها ان تخرج لتؤدي صلاة الجماعة والجمعة، فأخرجوها الى دور السينما ومراكز اللهو، وجنّدوها في مختلف الوظائف للعمل ضد الاسلام! وهكذا فقد كان من نتيجة غياب المسلمين ان خسروا المرأة التي تشكّل نصف الأمة الاسلامية. ثم جاؤوا بعد ذلك الى شباب المسلمين فقالوا لهم: مالكم والجهـاد، مالكم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ان هذه الامور تخصّ العلماء ورجال الدين. ثم قالوا لعلماء الدين: مالكم والسياسة؟ ان مكانكم هو المسجد ولا شأن لكم بما يجري من أحداث في المجتمع! وهكذا استطاعوا شيئا فشيئا ان يبعدوا كل ابنائنا عن ساحة العمل السياسية والإجتماعية.. ونحن عندما اعتزلنا، وغبنا عن الساحة السياسية، جاءت القوى الجاهلية لتملأ هذه الساحة. فعندما يجلس البررة في بيوتهم، فان الفسقة والفجرة سيأتون ويسيطرون على مقاليد الامور. ومشكلتنا اننا تركنا هؤلاء يحكموننا، وسمحنا للقوى الكبرى بأن تسيطر علينا. والذنب هو ذنبنا، لان الاسلام لم يرض لنا ان نذل ونستعبد من قبل الآخرين، وقد قال لنا امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام: لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك اللـه حرّاً . وهنـاك تقـرير قـديم لوزارة المستعمـرات في بريطانيـا يقول: ان من نقاط ضعف الشرق، والتي يجب ان نستغلها، هي روح الكسل واللامبالاة.. وهذا التقرير يعني ان القوى الاستكبارية لم تستطع ان تستعمرنا، إلا بعد ان سمحنا لها بذلك. وقد كان للمرأة نصيب لايستهان به في تأخير وتخلف الامة الاسلامية وخضوعها للسيطرة الاستعمارية. هذا في حين ان الاسلام يهيب بالمرأة قائلا: أيتها المرأة ارجعي الى واقعك، وعودي الى خندقك، وساهمي في تقرير مصير أمّتك. فالمرأة عندما تدخل الساحة،فان دخولها هذا سيكون دافعا للرجل الى ان يشارك مشاركة فاعلة في هذه الساحة. ففي هذه الحالة سوف لايعود بامكان الشاب ان يقول: لا انخرط في سلك العمل الرسالي، لان زوجتي ترفض ذلك. ولا يستطيع الرجل الامتناع عن القيام بالنشاطات الدينية بحجة انه لايعلم اين يضع زوجته ومن يعيلها في غيابه. ذلك لان زوجته سوف تدفعه الى الاقدام والفاعلية في مسيرة العمل الاسلامي.
أسوة حسنة:
وللمرأة المسلمة اسوة حسنة، في تلك المرأة البطلة التي كانت تشجع زوجها (وهب) قائلة له: قاتل دون الطيّبين . وكذلك (الخنساء) الشاعرة المعروفة التي دفعت بابنائها الأربعة الى سوح الجهاد، فاذا بهم يقتلون جميعا دون ان تذرف عليهم دمعة واحدة، في حين انها بكت اخاها صخرا أربعين سنة في الجاهلية. ولما سئلت عن ذلك، قالت: ان اخي مات على الكفر فهو في النار، ولذلك بكيت عليه. اما اولادي فقد ذهبوا الى الجنة، فلماذا ابكي عليهم؟ وفي الحقيقة فان المرأة الفاعلة، الحاضرة، الشاهدة والشهيدة، هي التي صنعت تلك الانتصارات. وصدق من قال: وراء كل رجل عظيم امرأة . وبلا أي منافس جُعلت فاطمة الزهراء سلام الله عليها قمة كل اسوة في عالم المرأة والاحاديث والنصوص الواردة فيها اوضحت ذلك، فكانت مدرسة لكل امرأة في حياتها. فهذه المرأة العظيمة جسّدت الوحي بكلّ ابعاده، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيها: فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن غاظها فقد غاظني ومن سرها فقد سرني ([4]) ان الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضي لرضاها ([5]). ومثل هذه الاحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على ان هذه المرأة كانت تطبق الاسلام، وتجسّد تعاليم الرب في كلّ خطواتها وافعالها. ان رسول الله صلى الله عليه وآله الذي جعله الله تعالى مربّياً للأمة الاسلامية، قد صبّ اهتمامه على هذه الشخصية العظيمة، وصاغ بيده الكريمة واشرافه المباشر هذه الشخصية الفذة ليجعلها قدوة للنساء. فقال: .. ابنتي فاطمة وانها سيدة نساء العالمين. فقيل: يا رسول الله هي سيدة نساء عالمها؟ فقال: ذاك لمريم بنت عمران، فأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الاولين والاخرين.. ([6]). وباجماع الرواة من كلّ الفرق الاسلامية، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يجيء كل يوم عند صلاة الفجر حتى يأتي باب علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فيقول: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثم يأخذ بعضادتي الباب ويقول: الصلاة الصلاة يرحمكم الله ((انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)). فلم يزل يفعل ذلك كل يوم اذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا. وقال أبو الحمراء خادم النبي صلي الله عليه وآله: انا شهدته يفعل ذلك ([7]). وقد سمّيت فاطمة بـ (الزهراء) لانها كانت تقف كل ليلة في محرابها تتعبّد لله عز وجل، وتتبتّل اليه فتزهر لملائكة السماء كما تزهر النجوم لأهل الارض. وكانت تدعو للمسلمين من أول الليل حتى الصباح، وتدعو لجيرانها، وللفقراء والمستضعفين والمحرومين.. وعندما يهلّ الصباح يسألها ابنها الامام الحسن عليه السلام قائلاً: أماه! أراك قـد دعـوت لكلّ الناس، ولكنّك لم تذكرينـا في دعائـك؟ فتقـول: يا بنيّ؛ الجار ثم الدار ([8]). ومع ذلك فقد كانت عليها السلام حاضرة في المواقف السياسية، والحوادث العسكرية، والقضايا الدينية والثقافية.. فكانت تمثّل المرأة المسلمة التي ينبغي ان تكون شاهدة على عصرها، لكي تساهم في تقرير مصير الأمة، وترفض الانحراف، والشرك والضلالة، وكلّ انواع الكفر والنفاق والفسوق. ان فاطمة عليها السلام يجب ان تكون قدوة لنسائنا اليوم، ولبناتنا وفتياتنا. والحمد لله على هدايته لجيل من الفتيات المسلمات في العالم الاسلاميّ، فنحن نجد الآن ان المرأة المسلمة هي أحسن مما كانت عليه سابقا؛ فهي تتواجد في المساجد، وتشترك في المجالس الدينية، وتساهم في اعمال الخير والاحسان، بل اننا نجد بعض النساء يقتحمن ميادين الجهاد، ويحملن السلاح دفاعا عن حريم الاسلام. ومع ذلك فان المسافة ماتزال شاسعة بين المرأة وبين الخندق الحـقيقي الـذي ينبغي عليها ان تتواجـد فيـه، وما يـزال عـلى المرأة ان تقطع هذه المسافة لتكون بالفعل شاهدة على عصرها. ولا ريب؛ لولا غياب أمتنا الإسلامية عن فرائضها الرسالية، ولولا انّها لم تجعل نفسها شاهدة على عصرها، لما حلّت بنا هذه المصائب، ولما استضعفتنا القوى الجاهلية في الارض، ولما اعدموا خيرة شبابنا، ولما تجرأ الحكام العملاء على ان يفعلوا ما فعلوا، ويرتكبوا ما ارتكبوه.. من هنا يجدر بنا ان نساهم في قيادة الارض. فالارض لله يـورثها مـن يشاء من عباده الصالحين، فأين هم عباد الله الصالحون،ولماذا لايتقدّمون باقدام ثابتة لكي يأخذوا بزمام امور العالم من هؤلاء الذين يدفعون به الى الهاوية؟
المرأة المؤمنة؛ أدوار متميزة
حينما يلغى تصور دور الأمومة ومواصفاته المرسومة في العقيدة الاسلامية من قاموس ثقافتنا، ولا نعرف الطريق لتربية وإعداد المرأة لتكون الأم المثالية، فإنها ستصبح أمّاً، لا يعدو دورها في أن تكون مجرد وعاء للإنجاب؛ لها حنانها وعطفها واهتمامها المادي بالوليد فحسب. حينما يقتصر دور المرأة عند هذا الحدّ، فإن المجتمع لـن يحصد غير العواصف الهوجاء التي من شأنها أن تقلب المعايير والثوابت رأساً على عقب. وسوف لن تكون ثمة فرصة لاستدراك ما فات، اللهم إلا بعد أن يدفع المجتمع الثمن أضعافاً مضاعفة. ولن يحصد المجتمع من وجـهة النظر التأريخـية إلا أجـيالاً محـطمة عـاجـزة عن مقاومة هـوى النفس، ولا تنظر للمرأة ذاتها من غير المنظار الشيطاني. فإذا طمحـنا الى تكوين وصياغـة المجتمع الإلهي المثالي؛ المجتمع الحر السعيد المتفتح، فأمامنا قانون تربيـة وإعداد الأم المثالية السامية، والواعيـة لشخصيتها ودورها الهام والمقدس في صياغة شخصية الأجيال صياغـةً منيعـة. إننا لا نجد حديقة غناء، ولا بستاناً مثمراً، ولا أرضـاً زراعية خيرة ابداً ما لم يكن وراءها فلاح أو بستاني خبير ورشيد قادر على استصلاح الأرض واختيار النبات المناسب والوقت المناسب والسماد المناسب.. إذ الأرض لوحدها ليست الأساس، وهي لا تنبت غير الحشائش والأشواك والأشجار الملتفة على نفسها... ومن خلال التدبر بالآيات القرآنية الشريفة، نستنتج؛ أن الأم كمصطلح ديني، هي تلك المرأة الإنسانة التي بمقدورها تربية جيل نزيه عن الموبقات، محب للخيرات. فالقرآن الكريم حينما يحدثنا عن قصة النبي العظيم موسى عليه السلام، وعن ذلك الانقلاب الكبير الذي حدث في مصر القديمة، إنما يبدأ بالإشارة الواضحة الى ام موسى بقوله: « وَأَوْحَيْنَآ إِلَى اُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ » (القصص/7) باعتبارها منطلق القصة النبوية العظيمة. ومن هنا توضح الآيات الكريمة، بما لا لبس فيه -والعياذ بالله- أن دور الأمومة لا يبدأ مــن حـين الـولادة، بـل لعـل الأمومـة تبـدأ منـذ استعداد المرأة لأن تصبح زوجة، ثم من علوق النطفة في الرحم. قصة الفضيلة : قـال الله تعـالى: « إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ اِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً » (آل عمران/35) فامرأة عمران بمجرد إحساسها بالحمل نذرته الى الله تبارك وتعالى، معتبرة إياه وسيلة للتقرب الى الرب الجليل، وليس جزءاً تابعاً لها. فهي قالت: « مَا فِي بَطْنِي » ولم تقل ولدي أو جنيني أو حملي. وهذا منطوق قرآني يعبر بدقة وبلاغة متناهية عن درجة إيمان زوجة عمران. ثم إن هذا المنطوق القرآني المجرد لم يشر الى وجود رغبة خاصة لدى امرأة عمران في أن يكون وليدها خادماً لمسجد أو كنيسة أو معبد ما، وإنما هي نذرت نذراً مجرداً خالصاً تبعاً لإيمانها المجرد والخالص لله عز وجل، ولكن شاءت الأقدار أن يكون الوليد -مريم- خادماً لمسجد، تماماً كما كان الحال بالنسبة لأسلافه الطاهرين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، حيث أمرهما الله عز وجل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، بعد أن قاما بإقامة هذا البيت.
أهداف مقدسة:
فأم مريم الصديقة كانت تهدف من خلال نذرها ابنتها الى تحقيق امور مقدسة وسامية، وليست أموراً شخصية؛ منها أن تكون ابنتها من خدمة دين اللـه وبيته، حيث تمارس العبادة وتعلم الناس الكتاب والأخلاق. ومن أهدافها أنها كانت تطمح الى أن يتقبل الله منها نذرها، إذ هي كانت ذات إيمان قوي وعلاقة مباشرة، وهو ما يدعى بإيمان الدعاء، وليس تلفظ الدعاء فحسب. وإذ حانت ساعة الولادة وعرفت الأم الصديقة أن جنينها انثى، لم تتفوه إلا بالقول: « فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ اِنِّي وَضَعْتُهَآ اُنْثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي اُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (آل عمران/36) وكأنها تشتكي الى الله عمق المأساة المسيطرة عـلى المجتمع اليهودي بفعل الاباطيل التي اخترعها رجال الدين اليهود، البعيدون كل البعد عن ديانة السماء القائلة بعدم التمييز العنصري بين الرجل والمرأة. وبنص التوراة المحرفة اعتبروا المرأة أو سمحوا باستخدامها لتحقيق طموحاتهم السياسية والمالية. فضلاً عن بقية التشريعات الباطلة فيما يخص الجانب الإجتماعي، حيث تتحول المرأة الى أشبه ما تكون بالجارية لاخ زوجها المتوفى، وأن من حق هذا الاخ ضمّ زوجة أخيه الميت الى ممتلكاته.. المرأة المؤمنة تقهر التحديات: ورغم سيطرة هذه الصورة القاتمة، فإن التعبير القرآني البارع نزل ليؤكد عظمة المرأة إذا ما أرادت تحدي الظروف الظالمة. فأم مريم انتقلت بطموحها من مجرد أن تكون ابنتها خادمة لدين اللـه ومسجده الى أن تكون هذه البنت وذريتها اللاحقة مـن البعيديـن عن الشيطان وجنوده وأباطيلهم، لتتحول الوليدة الى صديقة على درجة عـالية للغاية من الايمان والوعي والتقوى. وهذا لعمرى أعلى ما يمكن أن يطمـح الانسان الى بلوغه، فضلاً عن كونه رجلاً أو امرأة. وهذا يعني بالتالي أن من يصرّ على احتقار أو استضعاف المرأة عملياً، إنما هو في الواقع بعيد كل البعد عن حقيقة إرادة السماء. وفي سلوكه الشائن هذا، يعمل على تكريس عادة جاهلية جاء الاسلام لمحقها. وهذه الأديان السماوية، إنما قامت بجهد كبير بذلته نساء عظيمات كأم موسى واخته وزوجة عمران وبنتها مريم وخديجة الكبرى وبنتها فاطمة الزهراء سلام الله عليهن جميعاً. فهذه أوعية اصفاها الله لتحمل أنواره وكلماته، وليس هذا بالأمر البسيط أبداً. والى هنا كان دور الام دوراً ممتازاً بما اختزل من بصيرة ووعي فائقين، ولكن الأعظم منه أن الله سبحانه وتعالى تقبل النذر واستجاب الدعاء بأروع ما يكون القبول، وأقدس ما تكون الاستجابة. فالام التي تجاوزت عاطفتها تجاه ابنتها، واهتمت بالدين اكثر مـن اهتمامهـا بذاتهـا، اتحفهـا اللـه بالقبول الحسن، حيث يقول تعالى: « فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً» (آل عمران/37). فهذه البنت المحـاطة بالايمان، ووعي التقرب الى الله تبارك وتعـالى، كانت حرية أن تنبت النبات الحسن. ثم قال ربنا عز وجل: « وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا» (آل عمران/37) قد اختار الله تعالى النبي زكريا عليه السلام ليكفل مريم عليها السلام، من بين جميع من امتحن نصيبه في التشرف بكفالة الصديقة الصغيرة مريم. ثم إن سيرة مريم ودرجة إيمانها أذهلت النبي زكريا الذي كان يرعاهـا ويحافظ عليها، وكثيراً ما سألها عما لديها من رزق كان من المفترض ان يوفره لها.. وكانت تجيبه بان ما لديها من عند الله وليس سواه. «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ...» (آل عمران/37). مريم معلمة للنبي زكريا !؟ لم يتنبه النبي العظيم الى أن الطفلة الصغيرة تحولت بفعل منبتها الحسن وإيمانهـا العميـق الى معلمة له؛ وسواء كان الطعام والرزق الذي كان بين يديها قد نزل اليها من السماء مباشرة أو بواسطة إنسان ساقه الله اليها على غيبة من النبي زكريا. فانها كانت تعتقد برسوخ ثابت أنه من عند الله، ولم يكن إيمانها ليسمح لها أن تحتمل احتمالاً آخر. فالله يرزق من يشاء بغير حساب، بعيداً عن الموازين المادية ومعادلات التجارة المعروفة بين بني البشر. « هُنَالِكَ دَعـَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ» (آل عمران/38). فبعد مدة ليست بالقصيرة، فوجئ النبي زكريا الذي كان لم يرزق الذرية بعد، بحقيقة واقعة؛ وبأنه من الحريّ به جداً أن يقلد مريم في إيمانها، إذ أن من يرزق طفلة صغيرة معتكفة في محرابها لقادر على أن يمنحه الذرية بعد مديد من العمر... من خصائص الام الحقيقية: ونخلص الى القول بأن هناك مواصفات مثالية، ينبغي للمرأة كأم أن تتحلى بها لمضاعفة الأمل في تمكنها من أداء دورها بالدرجة المطلوبة. ومن هذه المواصفات: أن تكون المرأة طاهرة عفيفة كما يصف الامام زين العابدين عليه السلام نفسه بقوله: أنا ابن نقيات الجيوب، أنا ابن عديمات العيوب... أو كما نسلم على الامام الحسين عليه السلام حسب نصوص زيارته: لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها . فهذا إنما يكون من امهات طاهرات فاضلات نقيات قبل الحمل وايام الحمل وبعد الحمـل. فالأم التي تقرأ القرآن الكريم، غير تلك التي تضيع وقتها في سماع الموسيقى والأغاني. ومن تتحدث بأحاديث الاخلاق والايمان، تختلف عمّن لا قدرة لها على مغادرة مجالس الغيبة والتهمة والتهريج واللغـو. بعـد ذلك؛ على الأم أن تهتـم اهتمامـاً بالغـاً بحالة جنينها أو طفلها الصحي، إذ لعل معظم ما يحصل من تشوهات جسدية للطفل إنما يحصل بفعل الاهمال الصحي وقلة وعيها بهذا الجانب، غافلة عن أن وليدها سيعيش سبعين عاماً -مثلاً- في ضعف ومرض وزمانة، وأنها ستكون مساهمة فيما يمكن أن يقترفه من ذنوب جراء ما يحمله من عقد ونقائص روحية حدثت بالتبع لنقصه الجسدي. وبين هذا وذاك؛ ينبغي أن تكون للرجل رقابة على تربية الأولاد، وأنه يجب ان يعرف نصيبه -بوعي بالغ- من هذه التربية. وبعد ذلك؛ ثمة قضية خطيرة جداً، ومن الممكن أن تعود بالسلب على روحية الطفل، وهي إصرار بعض الآباء والامهات على التنازع أو حلّ التنازع على مرآىً من الطفل، غافلين أو متغافلين عن أن مثل هذا الواقع من شأنه زرع بذور الانفصام في شخصية الأولاد، فضلاً عن استفحال أمراض الخنوع والجبن والكسل لديهم. هذا إن لم نقل بامكانية تحول الاطفال الى الضفة الاخرى، وهي ضفة التهور والإجرام والرذيلة.. نسأل الله سبحانه وتعالى ان يجعلنا ممن ينتفع بسنن الأولياء وبهدي الصالحين، وأن يجعلنا نهتـدي بهـداهم ونقتـدي بهم فـي الدنيـا وننال شفاعتهم في الآخرة.
عن التربية
دور الأم في التربية
لقد استطاعت عواصف التضليل الثقافي - مع شديد الأسف - اجتياح معتقدات شعوبنا وتقاليدها. ففي كل يوم تواجهنا تقليعة جديدة واسلوب جديد ووسيلة جديدة. فإن كانت محطات التلفزة الموجّهة إلينا مائة محطة في السنة الماضية، فهي اليوم قد تضاعفت. وإذا كان انتشار الانترنت في الأمس بسيطاً، فهو اليوم هائل. إن استراتيجية تحويل العالم برمّته الى عالم صغير، أو ما يسمّى بين المثقفين بسياسة العولمة، حيث تحذف الحواجز والفوارق، هذه الاستراتيجية لايكمن وراءها سوى إخضاع الشعوب، او تحطيم الخصوصيات التي تمتاز بها الأم المستضعفة، وتهميش دينها وثقافتها الأصلية. وبالفعل فقد نجحت هذه الاستراتيجية الى حدّ كبير في الزحف والسيطرة واستلاب ما تبقى لدينا من قيم روحيّة واهتمامات معنوية. أقول - وبكل تألّم-: إنّ الانباء التي تواجهني فيمـا يخصّ هذا البلد المسلم او ذاك مزعجة للغاية، حيث أرى وأسمع كيف تمكنت شبكات الأقمار الصناعية الغربية من جذب المشاهدين -وهم عدد كبير جداً- وهي تغروهم في عقر دارهم بأفلام الرذيلة والانحطاط الفكري والخلقي، وليس من سرِّ اكشفه إذا ما قلت بأن تلك الأفلام والبرامج تعمّ الصغير قبل الكبير، والشاب قبل الكهل، حتى أصبح أطفالنا مدمني غناءٍ وموسيقي، فاستعاضوا بهما عن قراءة القرآن ومطالعة سنّة أهل البيت عليهم السلام... والآن حيث تلمّسنا شيئاً من واقعنا المرير، فعلى عاتق من مسؤولية هذه الهزيمة الاخلاقية والروحية النكراء؟ والجواب لايعدو عن القول، بأن الجميع ولكن بدرجات متفاوتة. فحكّام الشعـوب المسلمة مسؤولون، والشعوب برجالها ونسائها مسؤولة هي الأخرى، والوالدان مسؤولان عن اولادهما، والأخ مسؤول، والاخت مسؤولة، والأولاد بدورهم مسؤولون. ولكن لمّا كان إطار بحثنا يختصّ بالتربية، ولمّا كان البيت ونطاق الاسرة ومستوى تأثير الأمّ المتوقّع على اطفالها، آخر ما تبقّى من وسائل في التربية - وإن كان أهمها- فإنني احمل الام المسؤولة أولاً. فإن نظرت الأمهات الى اطفالهنّ وقد كبروا وأصبحوا رجالاً بعد عشرين عاماً مثلاً، وهم على ماهم عليه من تأثر بليع بثقافة الانحطاط المحيطة بهم، فماذا سيكون جوابهنّ أمام محكمة التأريخ؟ بل الأحرى التساؤل عن طبيعة موقفهنّ أمام محكمة العدالة الإلهية يوم القيامة، حيث يواجههنّ جيلهنّ بتهمة التفريط والتقصير في فريضة التربية السليمة، وهنّ على الأقل كنّ قادرات نعلى منع أجهزة الانحراف والثقافة المائعة دون الدخول الى بيوتهنّ. الواقع المشهود أنّ اهتمام الأمهات - بصورة عامة- منصب على توفير أفضل ما يمكن من طعام للأطفال، وأنهنّ يعانين ما يعانيين إذا ما اُصيب احدهم بعلّة او وجع خفيف في جسمه.. في حين انّ هذا الأمر إذا كان ملحّاً، فإنّ الأمر الأكثر الحاحاً هو الاهتمام والعناية بروح الطفل وعقله، إذ من الخطأ الفادح تصور الأطفال دون عاطفة او عقل. فالطفل يؤهله استعداده الى تلقي التربية واستيعاب التعليم منذ احتضان المهد إيّاه، كما أكدت ذلك روايات أهل البيت عليهم السلام الخاصّة بالتربية وطلب العم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلّم: اطلب العلم من المهد الى اللحد . وهذا القول الشريف ليس إلاّ دعوة صريحة للآباء والأمهات لطلب العلم والتربية للأولاد منذ وقت مبكّر للغاية. إنّ الخيار الوحيد المتاح لمواجهة تيارات الانحراف هو خيار التربية الأسرية، فمراكز التوجيه الاستراتيجي في الغرب قد سلبتنا كل شيء، بدءً بالمدرسة والصحيفة والمحطات المرئية والمسموعة، وانتهاءً بأجهزة التوجيه الحديثة حيث الحاسوب وآليات الاستفادة منه.. كلّها أخذوها منّا ولم يتبقّ لدينا سوى التربية البيئية، وقد يأتي يوم من الأيام فيسلبونا حتى هذا المتبقى كما هو حادث في بلدانهم هم، حيث تتدخل تلكم المراكز في كلّ صغيرة وكبيرة في حياة العائلة الغربية لتوجه أطفالها كما يحلو لها، ساعية الى تعميق الهوة ما أمكن بين الطفل ووالديه. ولكن ماهي الخطوط العريضة التي ينبغي لأم المسلمة الالتزام بها مبدئياً على صعيد التربية؟ الخطر الأول: أن تنهض الأم بمستواها الثقافي هي قبل كلّ شيء. فمادامت جاهلة بالتعاليم والقيم الدينية ستبقى عاجزة عن التربية والعطاء، إذ أنّ فاقد الشيء لايعطيه. ومن الممكن التأكيد على أنّ ايجاد مراكز علمية متخصصة بهذا الشأن. سيكون له الدور الكبير في انجاز هذه المهمة، وأمّا الأمهات اللاّتي لايستطعن الحضور في مثل هذه المراكز، فبأمكانهن الاطلاع ودراسة العلوم الدينية والتربوية عبر أشرطة الكاسيت دراسة منزلية. ثم إن إشراك الإطفال في الحضور مع أمهاتهم وآبائهم في مجالس الوعظ الديني والعلمي، هو الآخر له أثر كبير في صياغة شخصية الطفل وترسيخ قول الخير في ذاكرته، حتى تكون رصيداً غنيّاً ينعكس على سلوكياته ومعتقداته في المستقبل. ولقد اتذكر جيداً أنّ جدي المرحوم آية الله العظمى السيد مهدى الشيرازي، وكان احد مراجع الدين الكبار في زمانه، نقل لي أنّ والدته كانت تنهض لأداء صلاة الليل فتجلسه على سجادة الصلاة معها لمجرّد ان ينظر اليها تصلّي، حتى أنه تعوّد على هذا المنظر المقدّس. فكان مواظباً على أداء صلاة الليل الى آخر يوم من عمره الشريف، بل لم تكن لديه القدرة على تركها. وهذا يعني - فيما يعني- أنّ التربية والتوجيه لايشترط فيها ألاّ تكون إلاّ بالقول، فممارسات الأبوين لها الأثر الأكبر في تكريس قناعات الإنسان واعتقاداته وسلوكياته. وهذا بدوره يمثل خطّاً ثانياً من خطوط التربية. والخط الثالث: تطهير الجو المنزلي واضفاء القدسية عليه، وتجنيب الأطفال كلّ ما من شأنه تدنيس أرواحهم وعواطفهم الشفافة. فالبيت يجب ان يتحول الى محطٍّ للملائكة، بدلاً ان يكون وكراً للشياطين. ان الأجدر بمكان أن يكوّن محـور العائلة وكبيرها، جلسات العلم وقراءة القرآن، لا الانسياق مع التلفزيون وبرامجـه التي تعود بالضـرر - في أغلب الأحيان-. وما أروع ان يخصص الآباء والأمهات من اوقاتهم قسماً كبيراً لنقل قصص الأنبياء وأهل البيت والصالحين من أولياء الله على مسامع الأطفال. وذلك ضمن برنامج توجيهي متقن يتفاعل مع قابلية واستعداد الأطفال الذهني والروحي. وما أروع ان نستعيض عن صور الممثلين والممثلات السينمائيين وصور لاعبي كرة القدم بصور العلماء الأفاضل. بل ماذا يربط الطفل المسلم بلاعب لكرة القدم يربح الملايين ويتنعم في حياته بمختلف الأشكال، وهذا الطفل يأنّ فقراً روحياً ومادياً ومستقبلياً؟ وماذا يربط أطفالنا بممثلة او مغنية لاتجد حرجاً بعرض والديها من شرف وحشمة أمام انظار الملايين من المشاهدين لكسب شيء من المال والشهرة؟ ومما يمكن ان أرويه لك في هذا المجال، أن السيد حسن الشهرستاني صاحب كتاب المنتخب الحسني استطاع الى حد كبير في الابداع والنجاح في هذا المجال، حيث حول هذا الرجل بيته الى بيت الملائكـة، إذ كان بيته يحوي عدة طوابق يقطن فيها اولاده المتزوجين وبناته المتزوجات وكان قد وزّع مكبرات وناقلات الصوت على زوايا البيت، فكان يبدأ بقراءة القرآن الكريم في وقت السحر، ليستيقظ الكبار والصغار على صوت كبير عائلتهم ليؤمّهم في صلاة الصبح. وعود ابنـاءه على اداء النوافـل من الصلوات، ومداومة قراءة الادعيـة والزيـارات.. إن الرحمة والبركة إنما تتنزّل على بيت مفعم بروح الايمان والقرآن والمحبّة والعواطف النبية، لا على بيت يضجّ باصوات الفسق والانشغال بتوافه الأمور الدنيوية، ولقد صدق الله العلي العظيم حيث قال: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً» (طه/124). ويغفل كثير من الناس عن السبب الحقيقي وراء قلقلهم النفسي الدائم وتعب أجسادهم، إذ ما ان تسأل الواحد منهم عن علة عدم اهتمامـه بأولاده، حتى يجيبك بأنه لا مجال لديه، أو أنّه تعب روحياً وجسدياً، ولكنّ الحقيقة تؤكد بأنّ انشراح نفسية الإنسان المسلم لاتكون إلاّ بالاتصـال مع القـرآن الكريم والالتزام بتعاليم الديـن والايمـان. أما الخط الرابـع؛ فهو تربيـة الأطفال على حب الآخرين والرغبة في فعل الخير لهم. فالطفل حيث يكون كائناً انانيـاً او يكره الآخريـن، لن يكـون إلاّ نموذجـاً للطغـاة الذيـن تربّـوا في احضان التكبّر والبغـض والظلم. فالأخلاق تنمو في ذات الإنسان، حتى تصبح جزءاً لايتجزأ منـه. وأنا شخصياً حينما يخبرني الاصدقاء عن نجاحهم في انجاز مشروع خيري، أؤكد عليهم بضرورة الدعاء لآبائهم وامهاتهم ومن علّمهم حبّ الخير، فــروح التضحية والعطاء والجهاد، إنّما كانت تراثـاً انتقـل إليهم ممن علّمهـم. فيا أيتها الأمّ؛ يا من وصلتي الى هذا المقام المقدّس الرفيع، أطالبك بما طالبك به الدين، أن تعملي عملاً يكون لك ذخراً صالحاً يوم المعاد، فاجعلي كلّ اهتمامك على غرس حب الآخرين في أطفالك، ليكون كلّ واحدٍ منهم نموذجاً اجتماعياً صالحاً يسعى الى بناء مجتمعه المؤمن السليم. فعلّمي أطفالكِ على حبّ زملائه في المدرسة، وعلميهم على حبّ أقاربهم.. إنّ تكريـس حبّ الآخرين وإسـداء الخير لهم يعتبر الخطوة الأساسيــة الأولى لاستراتيجية بعيدة المدى، تنتهي الى القضاء نهائيـاً على الأزمـات الانسانية والاقتصادية والسياسية التي يعاني منها المجتمع المسلم بصورة عامة. فلو كان التعاطف والتراحم متكرساً بين المسلمين كما هو المطلوب، هل حدث ما حدث من نكسات وهزائم وفجائع انسانية في العراق او افغانستان.. حيث الجوع والتشرد وتدمير الشخصية مثلاً؟ ولقد جاء في قصص الأنبياء أنّ نبياً -ولعله النبي يونس عليه السلام- أوحى الله له بأنه سيعذب قومه بسبب كفرهم في الوقت الفلاني. فانتظر هذا النبي العظيم حتى حلّ الوقت، فلم ير أية العذاب، فنادى ربّه متسائلاً عن السبب في عدم نزول العذاب، فأوحى الله له بأنه ضيّق عليهم ومنع عنهم المطر واجدب أرضهم فقلّت أرزاقهم، ولكنّهم أخذوا يتراحمون ويتعاونون فيما بينهم، ولمّا كنت أنا - الله - أرحم الراحمين فقد بدا لي عدم تعذيبهم وتدميرهم فرحمتهم... ولتعلمي أطفالكِ، بالقول وبالفعل، بأنّ الإيثار وحب الآخرين ليس شرطه أن يكون ذا كمٍّ كبير، بل الأهم هو تكريس روح الإيثار والانفاق والعطاء والاحسان والاهتمام بالآخرين. وقد ورد عن المعصوم قوله الشريف: انفقوا ولو نصف تمرة... فصفة الانفاق والايثار ليست خاصّة بالأغنياء، بل العكس هو الصحيح، إذ كلّما ازداد الانسان غنىً كلما ازداد شحّاً إلاّ من عصمه الله. ثم إنّ المرأة كزوجة مطالبة أيضاً بالوقوف وراء زوجهـا ودفعه بأداء واجباته المطلوبة تجاه ابناءه، حتى تتكامل عوامل تربية الطفـل ولا يحس بنقص ما في شخصيته، إذا ما تنبّه الى تغافل أبيه عنـه. وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: الجنة تحت أقدام الأمهات . وأصاب من قال: وراء كل رجل عظيم امرأة.
كيف نربّي الجيل الناشئ؟
لقد تراكمت كتل من المسؤوليات على عاتق الانسان؛ لو قصّر في أداء واحدة منها لحوسب حساباً عسيراً. ولولا ان الله سبحانه وتعالى قد سبقت رحمته غضبه، لكان ابن آدم يؤخذ على الصغيرة من الخطايا فور تلبّسه بها، غير ان الخالق الرحيم قد أجّل الحساب والعقاب الى يوم معلوم، وهو يوم البعث والنشور يوم القيامة، يومٌ من الحتم على الانسان أن يوليه كل تفكيره وجهده للوصول اليه بسلام وأمن... فأين نحن من تلكم المسؤوليات الملقاة على عواتقنا، وكنا قد تحملناها برضاً وطيب خاطر كاملين في عالم سابق لعالمنا الذي نعيشه الآن، وهو عالم الذر، حيث أبت فيه السماوات والارض والجبال تحمل المسؤولية وأمانة قيادة الكون. ومن المسؤوليات المهمة الملقاة على عاتقنا هي مسؤولية تنشئة الجيل الجديد والحفاظ عليه من الانحراف والضلال، مسؤولية الآباء والامهات عن اولادهم، مسؤولية كل جيل عن الجيل الذي يليه على مختلف الاتجاهات والاحتمالات. مهام تربوية: وهناك في واقع الأمر جملة اقتراحات وتوصيات، لعلها تقع موقع الفائدة في هذا الإطار، منها : 1- انّ على كل أب أن يبذل في سبيل تربية وتهذيب اولاده من الطاقة والجهد ما يبذله في إطار توفير لقمة العيش لهم بمعنى أنّ الأب كما يصمّم ويعمل منذ الصباح وحتى المساء ليصرف ما يكسبه من مال على صحة الاولاد، عليه ان يصمّم ويعمل ويهتم بتنشئة روحهم وتزكية أنفسهم وزرع القيم المثلى في قلوبهم، وحملهم على حبّ الدين، والإيمان به إيماناً صادقاً، إيماناً مقروناً بالعلم والاستدلال، غير نابع من التقليد الاعمى الذي سرعان ما يتبخر ويتلاشى عند أبسط امتحان وصعوبة. والمطلوب في هذا المجال أن يسعى الوالدان الى توزيع الاهتمام بالأطفال، توزيعاً يتصف بالاتّزان. فإذا كان الاب -مثلاً- يعمل لمدة ثمان ساعات خارج البيت، فإنه سيتبقى لديه ثمان ساعات اخرى من الضروري ان يقسمها على الاهتمام بشؤون الاولاد الروحية والمعنوية. والمال المكتسب، هو الآخر ينبغي توزيعه على الاهتمام بأجسام وعواطف وروحيات الاولاد. وليس الآباء لوحدهم مسؤولون عن أطفالهم، بل العلماء والمتخصصون وولاة الأمر في بلادنا الاسلامية هم أيضاً مسؤولون عن نشأة الجيل الجديد، من حيث بناء المدارس النموذجية، والحسينيات الفعّالة، والمتنزهات البعيدة عن المفاسد والانحلال، وإقامة الدورات التثقيفية المستمرة والمتماشية مع اصول التربية الدينية والعلمية.. أما أن يحجم عقلاء القوم عن مثل هذه الامور، أو عن الابداع في إيجادها والترغيب في حضورها، أو ان يمتنع الآباء عن تقديم الرفد المادي لإقامة هذه المؤسسات، فانّه من الطبيعي أن يحاسبوا أمام الله عز وجلّ حساباً عسيراً؛ فضلاً عن أن تحدث الهوّة العميقة بين الجيل والجيل الآخر، أو أن يكون -الجيل القديم- مصبّاً للعنات الجيل الجديد. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ويل لأبناء آخر الزمان من آبائهم . فقيل: يا رسول الله؛ من آبائهم المسلمين أم الكفّار؟ فقال: لا؛ من آبائهم المسلمين. فالآباء قد يكونون مسلمين ظاهراً، ولكنّ أعمالهم وموقفهم من أبنائهم قد يطابق عمل ورغبة الكفار حقيقة. بمعنى ان الاباء حينما يمتنعون بصورة أو بأخرى عن الاهتمام العقلي والنفسي والروحي بأبنائهم، يكونون قد سهّلوا على الكافرين مهمة نشر الرذيلة والانحطاط في سلوكيات ومعتقدات الجيل الجديد. بل انهم حينما يقتصرون على الاهتمام المادي بأبنائهم، فهم لا ينشئون إلاّ أبداناً مستعدة للانحراف والتيه ومحاربة الصحيح ونصرة الخطأ.. الغاء الفواصل بين الوالدين والاولاد: 2- على الآباء أن يردموا الهوّة ويزيحوا الفواصل بينهم وبين أطفالهم، وأن لا يتركوهم يشعرون بأنهم يجابهون الحياة بمفردهم، وذلك ضمن برنامج علمي وعملي متدرج التطبيق. ومن ذلك أن الاب مدعوّ الى النزول الى مستوى أطفاله في إطــار اللعب، وقد جاء في الحديث الشريف: من كان له صبي فليتصابى. وتؤكد الأحـاديث الشريفة الاخرى، ونظريات التربية الحديثة؛ أنّ اللعب والهزل والتنزه إذا كان أمراً بسيطاً بالنسبة الى الكبـار، فهو على درجـة مهمة من الجديّة بالنسبة للاطفال، من حيث شعروا بذلك أم لم يشعـروا. إن الطفل بحاجة الى الضحك واللعب وعدم الجدية في سلوكه، بنفس المقدار من حاجته الى الأكل والشرب. قد يوجّه البعض من الآباء والأمهات الاهانة والتوبيخ لطفل من أطفالهم إذا ما ضحك او تبسّم في مجلس من مجالس الكبار، ويمنع الاطفال من دخول المساجد أو الحسينيات في بعض الأماكن والمناسبات بداعي الحفاظ على جدية هذه المجالس وهذه المناسبات.. ولكن الكبار يغفلون أو يتغافلون عن أنّ الطفل إذا لم يتضاحك في صغره ستتكرس في نفسيته عقد الكآبة والاعتزال والخوف، وأنّه إذا منع من دخول أماكن الشعائر الدينية والثقافية، فإنه سيضطر -أو يجد نفسه مجبراً- على التيه وحضور مجالس اللهو والانحراف.. إن التصابي للطفل يعني البحث من قبل الآباء عن لغة مشتركة بين الكبير والصغير، بين الجيلين القديم والجديد، وأن تجد النصائح الموجّهة وعاءً مستعداً لتقبّلها. استغلال فرصة العطلات: 3- لَمّا كان فصل الصيف فصلاً للعطلات والسفرات، فإن من الجدير بالآباء والامهات أن يبرمجوا هذه العطلات والسفرات لأولادهم. فإذا كانوا يزمعون الاصطياف في المرابع الجميلة، فما عليهم إلا أن يقرنوها بزيارة المساجد أو أضرحة الاولياء في تلكم المناطق -مثلاً- أو على الاقل القيام بزيارة المستشفيات وعيادة المرضى فيها، من اجل تنمية روح الشكر لله سبحانه وتعالى من قبل الأطفال على ما أنعم عليهم من نعم وفيرة. ولعلّ من الأفضل للآباء اختيار قصد الأماكن والبقاع ذات البعد الديني والمذهبي لزيارتها، والتزود الروحي منها وتعميـق رابطة وحبّ الأطفال لأهل البيت عليهم السلام، وهي الفرصة التي لا ينبغي الاقتصار فيها على العطلة السنوية فحسب، بل ان بالامكان استغلال عطلة الاسبوع لذلك أيضاً . الغذاء الروحي: 4- الاهتمام بالغذاء الروحي والعقلي لدى الأطفال من خلال اختيار الكتب والأشرطة والافلام لهم، وتوجيههم نحو الاستئناس بها. فالأب كما يهتم بتثقيف نفسه، أو قصد المكتبات لاختيار كتبه، فعليه أيضاً اختيار الكتاب والثقافة المناسبة لأولاده، وعدم البخل بالمال في هذا الإطار أبداً... الوالد والوالدة بامكانههما تحويل البيت الى مستقرّ ومركز روحي وثقافي، وذلك عبر الالتزام بالسنن والارشادات الدينية، من قبيل اتخاذ مصلى خاص في البيت تقام فيه الصلاة وتتلى فيه آيات الله المباركة، أو إقامة مكتبة خاصة فيه، ليعيش الطفل المسلم منذ نعومة أظفاره أجواء العبادة والثقافة، ويحسّ إحساساً مباشراً بأهمية هذين العاملين وفائدتهما بالنسبة لمستقبله. حفظ النصوص الدينية: 5- وتوصية اخرى هامة جداً، وهي تشجيع الاولاد على الحفظ، ولا سيما حفظ آيات القرآن الكريم، والأدعية وأحاديث الائمة المعصومين عليهم السلام كنهج البلاغة مثلاً. فالأطفال حينما يحفظون سورة من السور أو قطعة من الأدعية او خطبة من خطب نهج البلاغة.. فهم يتفاعلون مع ما يحفظونه تفاعلاً فطرياً بريئاً، وترتكز جميع الافكار التي تحويها النصوص الاسلامية في عقله الباطن، لتنطبع في سلوكه فيما بعد، ولتكوّن فيما تكوّن الملكة النفسية اللازمة التي تحول دون الوقوع في الذنوب والخطايا... ويلزم القول هنا ان النصوص الدينية -كالقرآن الكريم- ليست حكراً على الكبار دون الصغار، فالقرآن كتاب الله الذي أنزل الى جميع الناس بتفاوت طبائعهم ومواقعهم، ومن الممكن أن يستفيد منه الناس كافة. وهذه الطبيعة القرآنية ذاتها إنما هي وجه إعجازي واحد من وجوه الاعجاز القرآني بصورة عامة. كذلك الحال بالنسبة الى الادعية، حيث يدعو الطفل وقد يدعو بما يحفظه من نصوص وبقلب وسريرة طاهرتين، حتى إنك لتجد الواحد من أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيراً ما كان يطلب حضور الاطفال بين يديه ليدعو هو ثم يؤمّن الاطفال على دعائه، رغم ما نعلم من وجاهة ومنزلة أهل البيت عليهم السلام المتعالية عنـد الله جلّ وعلا، كأصـل من أصـول التربيـة الفذّة التي كان الائمـة يعتمدونها في سيرتهم الشريفة.
العبرة بقصص الانبياء:
وقد سلّط القرآن الكريم الاضواء على كثير من اساليب التربية الرسالية ومناهجها القومية؛ ومنها ما ذكره في قوله تعالى: « إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَآ أبَتِ إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (يوسف/4-6) النبي يوسف الصديق عليه السلام كان طفلاً صغيراً وكانت تقلبات الحياة تنتظره على فارغ الصبر، ليثبت من خلالها مصداقيته كنبي وملك عظيم؛ سيحكم فيما بعد حضارة من اكبر الحضارات. وبعد أن قصّ الصديق يوسف على ابيه النبي يعقوب رؤياه، تعامل الاب مع ولده تعاملاً مزج فيه الايمان والمنطق والعاطفة بشكل قل نظيره. لقد حذّره كيد إخوته، واحتمال تأثرهم بالشيطان؛ العدو الاكبر للانسان. ثم بيّن له تفسير حلمه، حيث أنار له الطريق، واكد له اصطفاء واجتباء ربّه له من بين الناس كافة. وبكلمة اخرى؛ فقد حفّز يعقوب عليه السلام ابنه اليافع على الاستعداد لتلقي النبوة والسلطة في آن واحدٍ . ثم نجد النبي يعقوب عليه السلام قد رجع بولده الى ربط الحاضر بالماضي، حيث وضح له أنّ النبوة تجربة عظيمة قد يخوضها بعض أبناء آدم ممّن أنعم الله عليهم، كما أشار الى قضية اخرى في هذا الإطار الروحاني، وهي امتداد سلالة النبوة فيه كما بدأت بأبويه من قبل إبراهيم واسحاق عليهما السلام؛ بمعنى أن يعقوب النبي كان يحرض ابنه على الاعتقاد بانه ليس كسائر الابناء، إنما هو يمثل حلقة وصل بين الأنبياء العظام. وثمة تجربة قرآنية اخرى، حيث نتعلم عبرها طريقة من طرق التربية السليمة، إذ تقول الآية الكريمة: « لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَاتٌ لِلسَّآئِلِينَ» (يوسف/7) أي ان الانسان المتصفح للتأريخ مدعو الى أخذ التجارب والعلامات التي تهديه الى سواء السبيل، واستيعاب هذه الدعوة من الضروري جداً نقلها الى ذهنية الاطفال لدى تربيتهم وتعليمهم. إذن؛ فالتخطيـط والبرمجة الجديدة قضية هامـة للغايـــة في إطار التربية والتعليم، لا سيما حينما يتسع الوقت وتسنح الفرص في أيام العطل -مثلاً- لتكريس هذه الحقيقة وتطبيقها تطبيقاً شمولياً، ليكون الجيل المسلم الجديد، جيلاً جديراً بحمل رسالة الاسلام العملي، وليس النظري فقط. وقبل هذا وذاك، يتوجب على الآباء والامهات أن يدعوا الله كثيراً ليوفقهم الى استلهام الروح الدينية الحقّة ونقلها بالطرق الواعية الصحيحية الى أولادهم، إذ المهمة عسيرة للغاية. وإذا ما استطاع أولياء الأمور أن يربّوا جيلهم وفق أسس التربية الصالحة، فذلك ما يعود عليهم بالنفع المادي والمعنوي في الدنيا والآخرة.
الاسرة بيت النور الالهي
الدين الاسلامي الحنيف منظومة متكاملة من القيم المثلى التي اوحى الله سبحانه وتعالى بها الى البشرية، لتسعد في الدنيا وتفلح في الآخرة. فهي تتكامل وتتسامى عبر هذه القيم، ولكن هذه القيم لابد لها من ظرف يستوعبها ومن اطار يصونها ومن سور يحافظ عليها، ومن دون ذلك يكون من الصعب او المستحيل تصور ديمومة هذه القيم او بقائها. فالبيت لايمكن تصوره من دون سور او سقف يحافظ عليه. فياترى؛ ماهو سور القيم وقواعده؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، أودّ الاشارة هنا الى جملة من تلكم القيم؛ فأقول اولاً: ان توحيد الله وعدم الشرك به، وضرورة ان تكون للانسان حرمة وكرامة، وفريضة التطلع الدائم للانسان نحو السمو والتقدم، وان يعيش المرء مع الآخرين ويتعاون معهم ضمن اُطر مشتركة.. هذه وامثالها تعدّ في مقدمة القيم المثلى التي نتحدث عنها في مقامنا هذا، حيث تكوّن بمجموعها نظاماً مثالياً، الهدف منه صيانة الانسان وتحصينه دون الوقوع في الخطأ، واتجاهه نحو الانحراف ومن ثم الابتعاد عن خالقه عز وجل. أما الحديث عمّا يحافظ على القيم وعمّا يمنحها مزيداً من المصداقية والاستمرارية؛ فأقول: إن أوّل عوامل المحافظة هو بيت الانسان وعائلته، ومحيطه الاسري والتربوي. فمن يتنامى في المحيط العائلي الطيب، يكون قد أحرز أول عوامل الصيانة لقيمه دون الانهيار. في حين إنّ من يعيش بلا بيت وبلا أسرة او يرفض الانتماء الى الأب او الى الأم او إلى كليهما معاً، سيكون من الصعب عليه وعلى الآخرين تصور كيفية محافظته على مبادئه المثلى، إن لم نقل إنه سيكون عديم المبادئ والقيم، إلاّ من رحم ربك. فكيف سيمكنه ان يفهم القيم، وأين سيتعلم قيمة التعاون، واين سيعي قيمة العمل المشترك، وأين سيفهم مبدا احترام الكبير والشفقة على الصغير، واين سيتعلم أنّ عليه أن يكون إنساناً حضارياً ضمن مدنية يكون للآخرين حقوقهم وأدوارهم، ترى اين سيتعلم هذه القيم؟! إنما يمكن تعلم وإدراك المثل العليا من خلال الأسرة والجو العائلي الحميد. وعلى هذا الاساس نجد القرآن الكريم قد أولى اهمية عظمى لدور العائلة والبيت في نشأة الانسان وتكوينه التربوي، وقد خصّ الله سبحانه وتعالى لهذا الشأن سورة كاملة، أطلق عليها اسم سورة النور. هذا الاسم المبارك والعجيب من بين مختلف اسماء السور القرآنية الأخرى، التي تتفاوت واسم هذه السور تفاوتاً ملحوظاً، تبعاً لما يعلمه الله تبارك وتعالى من دور مميز للعائلة في صياغة الشخصية الانسانية ودفعها نحو السمو والتكامل، وهو الغرض الذي يعتبر بحق الهدف الأول لهبوط الوحي وبعث الرسل والانبياء. ولماّ كان البيت وكانت العائلة العنصر الاساس في المجتمع وفي بلورة الشخصية الانسانية، كان لابد من احاطته بقانون او مجموعة صارمة من القوانين تحول دون انهياره وتفتته. ولذلك فقد جاء في مطلع هذه السورة القرآنية المباركة قانوناً يقضي بانزال العقوبة الشديدةبحق الزاني والزانية الذي يعتبر فعلهما رمزاً قبيحاً لتشتت الأسرة. فكان قانون الجلد، ثم قانون الرجم الذي نصّت عليه السنّة النبوية المفسرة للقانون الأول تبعاً، حيث يشهد المؤمنون تنفيذ عقوبة الجلد، أو يشاركون عملياً في انزال عقوبة الرجم، حيث يضيع دم المرجوم بينهم جميعاً. والعلّة في ذلك، ان هذا الانسان قد تجاوز وانتهك اعظم الحرمات، وهي حرمة البيت والأسرة. لقد وصف ربنا سبحانه وتعالى البيت الذي تنمو فيه القيم المثلى، كقيم الصلاة والزكاة والإخلاص لوجهه الكريم، يصفه كأنّه المشكاة، حيث يتجلى فيه نور العبادة والعلم والحكمة، فيقول تعالى: « اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ٌّيُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيِّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ » (النور/35-36). إنّ النموذج الأسمى لهذه البيوت المليئة بالنور والهدى الإلهي المبارك، هو بيت الرسالة؛ بيت نبينا محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين. فهذا البيت هو المصباح، وهو المشكاة، وهو مركز النور الالهي في الكون. وإنما كان كذلك، لأن فيه كان التسبيح لله بالغدوّ والآصال، وكان فيه « رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ » (النور/37). وإذا كان الشرك دناءة ورجس ودنس في الانسان، فان ما يقابله هو طهارة الايمان، والايمان لايكون إلاّ بالتسبيح. إن القرآن الكريم لا يعبر بالقول، إنّ رجال الله لا تجارة لهم ولا بيع، وإنّهم يعكفون في الكهوف للعبادة، وإنما يقول بالحرف الواحد: « رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ ... » . فهم رجال في عمق الواقع وصميم المجتمع وتيار الاقتصاد، ولكنّ وجودهم هذا لايلهيهم عن أن يكونوا مؤمنين. فهم إذن رجال اثبتوا جدارتهم وشخصيتهم المثلى في أن يمتلكوا المال ويزاولوا التجارة دون ان يمتلكهم المال او تسيّرهم العمليات التجارية. وهم حتى في لحظة الربح والأخذ والعطاء يجعلون الله نصب اعينهم، فلا يغشون ولا يخادعون الناس ولا يغفلون عن ذكر الله، بل وفوق ذلك وأسمى انهم يعتبرون الصدق في المعاملة وسيلة الى التقرّب نحو الله، وخطوة عملية في قاعدة ذكر الله الدائم. هذا فضلاً عن كونهم لايغفلون عن العبادة، ولا يتكاسلون عنها إذا ما حلّ بهم وقت الصلاة، فلكل أمر وقته. مما يوحي أن هؤلاء الرجال يمتازون بالوعي الثاقب ونظم الامور، وبالتالي فهم شخصيات حضارية لا تزيلهم الزلازل عن مواقعهم التي رسمها الله لهم. وهؤلاء الرجال لما كانوا عديمي التأثر بغرور الدنيا عبر الضروريات فيها - وهي التجارة والبيع وكسب المال- فإنه من الطبيعي جداً تصور كونهم عديمي التأثر بتوافه الأمور الدنيوية كالغناء والافلام سيئة الصيت والتلفزيون والصحافة المبتذلة والاهتمام بمدح هذا أو ذم ذاك عبر وسائل الإعلام الشيطانية. فهذه إنما موقعها موقع الكماليات في حركة الحياة. والقرآن يبين السبب في ذلك كله، فيقول: « يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ » . فترى جسد أحدهم في الاسواق او في العمل السياسي او الاجتماعي، لكنّ قلبه وهدفه متعلقان بغاية أسمى وأنبل من ذلك بكثير، ألا وهي القيامة، حيث يومذاك تتقلب فيه القلوب والأبصار. التقلّب الذي يعني الانقلاب والعودة الى الحقيقة، فكم من امرئ فاسد كان قد خدع الآخرين وخدع نفسه فأظهر الورع والصلاح وكسب من ذلك ما كسب في الدنيا، وكم من امرئ كان يرتكب من السيئات ما يرتكب وهو يحسب انه يحسن صنعـاً.. غير أن الانقلاب والعودة الى الحقيقة، ثم الكشف عن السرائر موعده في يوم القيامة. ورجال الله المؤمنين إنما يهجرون السيئات خوفاً من يوم الاعلان الأكبر عن الضمائر وما أخفته الصدور، فهم لايخادعون الله، وانما يخادعون الشيطان، ويصبرون على ارتكاب السيئات والاخطاء والجرائم تحسّباً من ذلك اليوم العظيم. إنّ رجال الله لم يصبحوا على ما هم عليه إلاّ بعد ان كانت تربيتهم تربية سليمة؛ بمعنى أنّ آباءهم وأمهاتهم قد وفّروا لهم مستلزمات الوعي السليم للاتجاه الديني والايماني. فكلّما كانت الاسرة أقرب الى هدى الوحي والى تعاليم أهل البيت عليهم السلام، كلّما كانت مركزاً ومحوراً لنور الله تبارك وتعالى. وكلّما ابتعدت عن تعاليم الوحي، كلّما طمست في أوحال الجاهلية. ودرجة القرب او الابتعاد المشار اليهما، بمثابة عنوان ضمان صلاح او فساد الأطفال في المستقبل. وإزاء ذلك؛ فلينظر الأب ولتنظر الأم الى من يكلان اولادهما، هل يكلانهم لصانعي افلام الصور المتحركة والأفلام المستهجنة وما يقف خلفها من نوايـا وثقافـة شريرة غايتهـا الأولى والأخيرة تحطيم النفوس والارواح والحضارات؟ من هنا لابد لنا من وقفة مع أنفسنا، لنفكر ثم نقرر ماذا نريد لجيلنا الجديد ونشئنا القادم، ولنتعرف الى مسؤوليتنا تجاهه. وقبل هذا وذاك ينبغي ان نضع نصب اعيننا القدوة الحسنة والنموذج السيئ، ثم نختار لأولادنا ما أمرنا الله ان نختار. فهذا بيت فاطمة الزهراء سلام الله عليها الذي ضربه الله لنا مثلاً بالنور والكرامة، وذاك بيت أبي سفيان الذي وصفه الله بالشجرة الخبيثة وضربه لنا مثلاً بالدناءة والفساد.. فلننظر ما نختار. فإذا رأيتم رجالاً يمارسون الغيبة والتهمة، مصابين بالكسل والتخلف ولا يفكرون بالدنيا ولا بالآخرة.. فعليكم ان تبحثوا عن الجذور، فانكم ستجدونها في بيوتهم حتماً. وإذا رأيتم رجالاً متعافي النفوس، طيبي القلب، حسني السيرة والصورة.. فابحثوا ايضاً عن الجذور، فستجدونها في بيوتهم طبعاً. وأروي لكم حادثة لمستها بنفسي فيما يخصّ حديثي هذا، وهي أنني كنت بمعية بعض الاصدقاء نقطع احد شوارع طهران فمررنا بالقرب من احدى مدارس الطالبات، ولمّا كان الطريق ضيّقاً مزدحماً بادرتنا بعض الطالبات بابتسامات السخرية نظراً الى ان من كان في السيارة كان معمماً روحانياً، فما كان مني إلاّ أن اقول: سبحان الله! متعجباً لاحتمال أن تكون هذه الطالبة او تلك أمّاً، وكيف سيكون مستقبل اولادها. فالبنات اللاتي تراهنّ اليوم في الشوارع والأزقة وقد سلب الحياء من عيونهنّ، ترى كيف سيصبحن أمهات صالحات ليتحملن مسؤولياتهن إزاء الجيل الجديد؟ ولقد تأكدت أن امثالهن لا يزمعن ان يكنّ امهات ولا يفكرن في يوم من الأيام ان يفضن على ابنائهن او بناتهن بالمحبة والحنان. فالقضية سالبة بانتفاء الموضوع كما يعبر المنطقيون، تبعاً الى انهنّ بدورهنّ قد حرمن من شعور آبائهنّ او امهاتهنّ بالمسؤولية المقدّسة تجاههنّ. إن الاسرة تمثل الخندق الاساسي والأخير فيما يخص موضوع الاهتمام الصالح والتربية السليمة للاولاد. فمعظم وسائل التربية كالمدارس والصحافة اليوم تدار ضمن خطط تسيل من ادمغة واضيعها الشهوة والانحراف والتضليل. وإذا كنّا نعجز عن ادارة بيوتنا، فعلينا التأكد بأن كل شيء ماثل الى الانهيار. ولقد كنت اتحدث في مجلس ضمّ حوالي ثلاث مائة من النساء في مكة المكرمة مؤخّراً، وقلت لهن بوضوح وصراحة: إن مسؤولية المرأة (الأم) في مجتمعنا المعاصر أهم وأخطر بدرجات من مسؤولية العلماء والخطباء والشخصيات الاجتماعية الاخرى. وذلك لأن حكوماتنا الظالمة وما يقف خلفها من دفع غربيّ جاهلي لم تبقِ لنا شيء. فالخطط والممارسات الجهنّمية والشيطانية قد احتلت واستولت على كل شيء، ولكن بقيت لنا الأسرة، وهي الآن تعزم على مصادرتها منّا. فإذا كانت المحطات التلفزيونية المدارية تلتقط ثلاثين شبكة مثلاً، فهي في الغد ستلتقط ثلاث مائة شبكة. وإذا كنّا نرى وجود شبكة الانترنت في بعض البيوت، فسوف نراها في الغد قد غزت جميع البيوت. في ذلك سيبقـى الشيء الوحيد المتبقي هو نظام الأسرة الصالح الذي من الممكن تطبيقـه بعد المحافظة عليه، فكيف يتمّ إنجاز ذلك؟ أؤكد أن إنجاز هذه المهمة المقدسة يكون بملاحظة عدة امور، منها: 1/ تكريس المحبة والعاطفة المتوازنة بين أفراد العائلة، وخلق الإحساس في نفوس الاولاد بأن لديهم من يحبهم ويفيض عليهم الرحمة، وذلك بعد ان يكون الزوجان قد وفّروا المودّة والرحمة فيما بينهما، حتى تفيض هذه العلاقة على بقيّة الأفراد. وعلى هذا الاساس لاتجد او يندر ان تجد زوجين يتبادلان المودّة والرحمة والصلاح ومن اولادهما من هو شقي تعس، وإذا كان كذلك فعليك البحث عن العلّة في مكان آخر حتماً.. وعلى العكس فإنّك تجد المجرمين يعانون من الفرقة الحاصلة من آبائهم وأمهاتهم. إنّ تبادل المحبة والودّ لا يتأتى بين ليلة وضحاها، وإنّما هو وليد الاحساس بالحقوق الفردية لكلّ من الزوج والزوجة، بالاضافة الى وعي الحقوق المشتركة وضرورة حلّ المشاكل بالطريقة السلمية ووعي أهمية تبادل الاحترام في كل صغيرة وكبيرة. وهذا لايكون مالم يسمو الزوج والزوجة بثقافتهما الدينية والانسانية، وإدراكهما لقوانين الدين والتجارب البشرية الصالحة فيما يخصّ هذا الشأن. ولقد قال الدين كلمته الطيبة، وهي: ما بني بناء في الاسلام أكثر بركة من بناء الاسرة والزواج. ولكنّ اعداء الحضارة الانسانية واعداء فطرة الانسان يسعون الى هدم هذا البناء عبر بث بعض الأفكار، من قبيل فكرة المساواة بين الرجل والمرأة ونبذ مبدأ القيمومة التي نص الله سبحانه عليها في القرآن، وعبر بثّ الفساد والمشاعية الجنسية.. والهدف من كل ذلك ان يقدّموا لنا نحن المسلمين المؤمنين بفطرة الله التي فطر الناس عليها، والمؤمنين بالنزاهة والطهارة؛ نموذجاً شيطانياً يقف وراءه هدف أقبح، وهو هدم الأسرة، فهدم المجتمع، فاستغلالنا. 2/ ان يؤمن الآباء بضرورة الموازنة العادلة بين بذل الجهد في خارج المنزل وداخله، فضلاً عن ضرورة اعتقاده بأنّ توفير المحبّة أهم بكثير من توفير الطعام. فمن الممكن مراوغة الطفل على جوعه الموقّت، ولكن من المستحيل مراوغته على هجرة الأب له. ثم ليعرف الأب أولاً أنه مطالب بتربية أولاده، وهذه التربية لاتكون من دون التعرف الى خفايا نفسية اولاده بدقّة متناهية، وعلى ضوء هذه المعرفة يمكن تربيته، وخلق الاستجابة لديه. أمّا اللّجوء الى وسيلة الضرب في إطار التربية، فهي وسيلة اثبتت فشلها بمختلف الظروف والتجارب، اللهم إلاّ ان يكون فعلاً رمزياً تأديبياً يتبين للطفل القصد من وارئه. وإذا كان الأب يعي عدم جدوائية ممارسة العنف مع اولاده، ولكنّه يعتبر ذلك عادة متأصلة في داخله، تبعاً لما تعرض هو بنفسه من قبل والديه. فعليه ان يطمئن الى أنّه قد قطع خطوة كبيرة في هذا المجال، حيث انّه قد حدّد الداء، وعليه الآن أن يحدّد الدواء، فيعوّد نفسه شيئاً فشيئاً، فيمرّنها على إدراك خطورة العنف، ثم ليبحث لنفسه عن متنفّس آخر يتخلص فيها من عقده السابقة، وليتخلص ايضاً من مصاعب عمله اليومي خارج إطار الأسرة. 3/ السعي الى ايجاد الجو الايجابي العام في البيت، وبث روح الايمان والتفاؤل والأمل فيه، عبر قراءة القرآن والأدعية في الصباح والقيام بالزيارة الدورية للأماكن المقدسة ومحالّ الترفية النزيهة عن الباطل، بالاضافة الى شراء الكتب الهادفة الى تكوين شخصية الطفل المعنوية كبديل ناجع بوجه الغزو الثقافي الذي تتعرض له ادمغة جيلنا الجديد.
التقوى أساس التربية
للتقوى مفاهيم عديدة ومتنوعة؛ فمنها ماهو شخص، ومنها ماهو اجتماعي، ومنها ماهو حضاري وغير ذلك. كما تأخذ التقوى اشكالاً وصور عديدة ومتنوعة ايضاً؛ كالعبادة، واحراز ملكة اجتناب المعاصي، والاستعداد لأداء الحسنات.. وبين هذا وذاك؛ فإنّ مقياس صلاح الانسان وفساده إنّما هو التقوى لا غير. فنيّة المرء وهمته وعزمه هو الذي يحدد سلوكيته ويعين مصيره، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: « إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » (المائدة/27). فالتقوى هي ميزان قبول الاعمال. ولما كان الله تبارك وتعالى قد قال: « وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى» (البقرة/197) لنا أن نتساءل عن هذا التزوّد، ولمن يكون، وكيف يكون؟ فالواقف موقف عرفة - وهو القمّة في القرب من الله ومبدأ غفران الذنوب ومضاعفة الحسنات- هل يتزوّد لنفسه بالتقوى فحسب؟ ام أنّه مكلّف بحمل هذا الزاد المقدس للآخرين ايضاً؟ ومن هم يا ترى هؤلاء الآخرون؟ من الطبيعي والجدير بمكان أنّه مكلّف بالتزوّد لنفسه قبل كل شيء، ومن الطبيعي ايضاً ان يكون مكلّفاً بالتزوّد للآخرين، لأن الانسان ليس شأنه الاعتزال عنهم، لاسيما وأنّ الدين الاسلامي قد أمر المسلم بنبذ الأنانية وحبّ الذات. ولما كان القرآن المجيد قال: « وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ» (البقرة/180) فقد اصبح على المرء طلب التقوى والخير للأقربين، وفي مقدمتهم الأولاد واجباً محتوماً. إنّ الأب والأم مدعوّان الى التزوّد بالتقوى في موسم الحج مثلاً لا إلى أنفسهما فحسب، وإنّما ينبغي لهما التزوّد لمن خلّفاه في بلادهما وهم الأولاد، بل وأكثر من ذلك؛ فليتزود الوالدان بالتقوى والفضيلة للأولاد في الأصلاب والأرحام، لتتواصل سلالة العائلة المسلمة المؤمنة بطناً بعد بطن، وجيلاً بعد جيل في أجواء الدين، وللحيلولة دون وقوع كارثة التعرب بعد الهجرة كما يحدث - وللأسف- لبعض المسلمين ممن هاجر الى بلاد الغرب، حيث بلغ الأمر بردّتهم الى تسمية أولادهم بأسماء اجنبية غريبة بعيدة عن تأريخ وواقع عائلاتهم، فضلاً عن حدوث الردّة الفعلية في معتقداتهم وممارساتهم اليومية التي يخجل المرء من التطرق الى الخوض فيها ... إنّ طالب التقوى والايمان حريٌّ به ألاّ يطلبهما لنفسه فقط، بل ليجعل كل همّه ان يتفضل الله تبارك وتعالى عليه، فيربي أولاده واخوانه والآخرين عموماً وفق أصول التقوى والايمان. وهذا يعني انّ طالب التقوى والايمان يجب ان يكون ذا أفقٍ واسع يتفاعل مع مستوى وعيه المطلوب بالأحداث من حوله، فيكون عزمه وإصراره على درجة عالية يتمكّن من خلالها إثبات وجوده كمؤمن، فيحقق لمعتقداته الانتصار والنجاح على كل ما تتعرض له من مؤامرات ثقافية وعلمية شيطانية صادرة عن دول الغرب المستعمرة؛ المؤامرات التي لم تُحك إلاّ لسرقة العقل المسلم لجيلنا الحاضر والآتي، كأسلوب شيطاني لضمان المصالح الاستراتيجية الغربية في اوطاننا المسلمة. واثنـاء عملية الغزو الثقافي التي تقودها شبكات التلفـزة الفضائيــة -حيث الميوعة والفساد- بمعيّة الصحف التي تصدر عن جهات معروفة، لا تهدف إلاّ تحويل الاهتمامات الانسانية والدينية لعقل المسلم الى اهتمامات مادية ودنيوية بحتة، فتسلخ المرء عن حقيقة وجوده في الدنيا، في ظل هذه الهجمة الثقافية، نجد ان كثيراً من بلداننا المسلمة قد أصبحت محطات مهمة لتجارة المخدرات وتعاطيها. وإزاء ذلك كله، لابد من العمل على توفير عوامل مضادة لافشال هذه المؤامرة. ومن المؤكد ان يكون عامل تصليب قاعدة الأسرة وصيانة أجوائها في مقدمة تلكم العوامل. وعلى المرأة الأم التفكير الجدي في مصير ذريتها، وذرية ذريتها، ذلك لأن المؤامرة الشيطانية المشار اليها اخذت على عاتقها سرفة الشخصية المسلمة التي ستولد بعد عقود زمنية عديدة وبعيدة. إنّ اهتمام الأم بالطفل منذ نعومة أظفاره يعني ضرورة وعيها بأنّ إعداد طعام لذيد للزوج او السهر على حمّى بسيطة قد تصيب الطفل، أقلّ أهمية بدرجات من ضرورة سلامة الطفل العقلية والثقافية والدينية بشكل عام، إذ بالدين وحده يمكن الحصول على خير الدنيا والآخرة وبالصورة المطلوبة.