القرآن تفصيل لكل شيء - فی رحاب القرآن نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فی رحاب القرآن - نسخه متنی

سید محمد تقی المدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

القرآن تفصيل لكل شيء







خلق الله تبارك وتعالى الكون وجعل فيه سنن وقوانين، فكان من طبيعة هذه السنن -وفق الإرادة الربانية- ان تتصل بأسماء الله الحسنى.


فقانون معاقبة الظالم والأخذ على يد الطغاة مرتبط باسم من أسماءه تعالى، وهو أنه قائم بالقسط، وأنه منتقم وجبار وعادل. أما قانون الإحسان إلى المحسنين. وأن الإنسان إذا ما عمل عملاً صالحاً فجزاؤه الإحسان، فإنه يرتبط أرتباطاً مباشراً برحمة الله وهو الرحمن الرحيم. وهكذا باقي السنن الأخرى في الحياة، كلها تتصل بأسماء الله الحسنى.


فإذا عرف المخلوق خالقه، وعرف أسماءه الحسنى، استطاع أن يعرف من خلالها سنن الله في الطبيعة والحياة، بمعنى أن قوانين الله جميعاً تجري ضمن حكمة بالغة ، وأن الإنسان كلما استطاع تطبيق هذه الحكمة، استطاع أن يتجنب مزالق الحياة وأن يتجاوز عقباتها، وهي ليست بالقليلة كما هو معروف.


إن ربنا سبحانه وتعالى أودع كتابه المجيد معرفته، ومعرفة أسماءه، ومعرفة سننه، ومعرفة البصائر التي ينبغي أن يسير وفقها الإنسان في حياته. فكلما قرأنا القرآن بدقة وإمعان وتدبّر، كلما استطعنا التعرف على الأصول العامة التي تسيّر الحياة.


إن في القرآن الكريم تفصيل كل شيء، لأن يحوي القواعد العامة للعقل والفهم وبصائر التفكير الأساسية. وهذا لا يعني أن في كتاب الله كل القضايا؛ ففي الآيات الكريمة ليس ثَمَّ قول يبين عدد ركعات الصلاة وأحكام شكوكها، أو غير ذلك من التفصيلات التي لا تمثل قانوناً عاماً للإنسان الفرد، أو البشرية جمعاء.


ولنضرب مثلاً قرآنياً على ما نذهب إليه من وجود الأصول العامة للحياة في كتاب الله. فقد جاء قوله تعالى:«وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ»وذلك في معرض تبيين أحكام العلاقة بين الزوجين، حيث توضح الآية ضرورة أن تتسم هذه العلاقة بالتوازن والعدالة، وعليه ينبغي للزوج أن يعرف بأنه كلما يطالب زوجته بشيء، فإن للزوجة حق مقابل في مطالبته أيضاً. وتحت هذا القانون تنضوي جملة من الأحكام العديدة الجزئية الكفيلة بحفظ توازن العلاقة الزوجية، وضمان عدم تعرضها للمشاكل والمشاحنات التي غالباً ما تحدث عند الجهل بهذه القاعدة الذهبية المقدسة، أو في حالة عدم التسليم لها والعمل بها.


ثم يقول تعالى:«وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ»وهذا نصُّ واضح يعكس أصلاً عاماً يدعى بقيمومة الرجل في المحيط العائلي. ومن هذه العبارة يفهم الفقيه المتمرس جملة من الأحكام قد يتجاوز عددها العشرات بل المئات، وكلها تصب في إطار أن يفهم كلٌّ من الزوجين دوره في الأسرة، حيث لا يظلم الرجل المرأة، ولا تتهرب المرأة من طاعة الرجال، بل ثم تكافل وتضامن أُسري.


إن كلمات القرآن كلها قواعد وخطوط عامة، وبيان للسنن الحاكمة في الحياة. ولا يمكن معرفة الحياة دون معرفة السنن. ومعرفة السنن أمر متوقف على معرفة القرآن والتأمل بعقل ناصج في آياته الكريمة.


سرّ إعجاز القرآن


]وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَآءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوْا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ اُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ[([33])


لماذا لم يستطع عرب الجاهلية، وهم في قمة الأدب والفصاحة والبلاغة، أن يقبلوا تحدي القرآن الكريم فيأتوا ولو بسورة تضاهي سوره، علماً أن في كتاب الله سوراً قصيرةً قد لا يزيد بعضها على سطر واحد فقط؟! فما هو سرّ الإعجاز القرآني؟ وما هو سر التحدي الذي أعلنه نبي الإسلام صلى الله عليه وآله للبشرية عبر العصور جميعاً؟!


إن السر وراء ذلك يكمن في الحقائق التالية:


اولاً: أن القرآن الكريم كتاب علم ومعرفة. فالقرآن لا يقول إلاّ حقاً، ولا يقول إلاّ صدقاً؛ فكل كلمة فيه صادقة و]لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[([34])


فلم يرى الناس حقيقية تأريخية سابقة أو لاحقة تكذب كتاب الله المجيد، وليس هناك قضية قرآنية واحدة من شأن الزمن أن يغيرها. فالحديث عن النجوم والطبيعة والإنسان والزمن وغير ذلك يؤكد علم القرآن وصدقه وحقانيته. ولا غرابة في ذلك أبداً، إذ الحديث هو حديث خالق النجوم والطبيعة والإنسان والزمن. وحديث الخالق حديث خلاّق بدوره، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحول إلى حديث عتيق، فيستقر في مستودعات المتاحف كما كان ذلك مصير أحاديث البشر وكتبهم فالقرآن يبقى بين الإنسانية، لا يحدثها بشيء إلاّ وصدّقته تجاربها، فانحنت إليه بالتسليم والتصديق.


وكان من الطبيعي ايضاً ان يعلو علم القرآن وكنوزه على جهل الجاهلية وفقرها، إذ العلم نور والجهل ظلام، ومن شأن النور أن يطرد الظلام، مما أدى الى انصياع الجاهليين لعلم القرآن وجهاد الرسول في مدة زمنية قصيرة جداً.


ثانياً: أن القرآن كله حكمة فهو يمنح البشرية أُصول الحياة ولو أنها تمسكت بها لعاشت عيشة راضية في الدنيا، ولتمنّت القرب من الخالق الحكيم عز وجل. والحكمة قد تختص بالطعام والشراب، فتقول كلمة واحدة تحوي جميع أصول هذين الأمرين وهي :«وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا»وقد تأتي في إطار العلاقات الإجتماعية العامة، فتأمر الناس بنصها القائل:«وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شنئانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»([35]) ، حيث توضح أن العدل هو صمام الأمان في طبيعة العلاقات بين أفراد الإنسانية جميعاً. وهكذا الأمر بالنسبة لسائر الحكم القرآنية الخاصة بتبين أصول الحياة.


ثالثاً: أن كتاب الله عبارة عن نصوص بلاغية تفيض بالإعجاز والتحدي، حتى أن عنوانه واسمه آية في إعجاز التعبير. فإذا اراد كاتب خبير أن يعبّر -مثلاً- عن ضرورة شرعية وإجراء القصاص، فكم سيستغرق من وقت حتى يصل إلى نص قوله سبحانه وتعالى:«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»([36]) بل إنّه من المستحيل أن يصل ابن آدم إلى هذا التعبير، وإن أي تعبير سيضعه قياساً بهذا التعبير القرآني سيكون فاشلاً سلفاً.


وهكذا كان علم القرآن وحكمته وبلاغته وتعبيره الدقيق، آيات إعجازه الأبدية المستحيلة على تصورات الإنسان البليدة.


سرّ خلود القرآن



القرآن كتاب الخلود، فهو يبقى مع الزمن ويتحرك أمامه، بينما الحياة تتطور، والناس يختلفون، والأجيال تخلّف أجيالاً.


والعلة في ذلك هي أن القرآن يحدثنا عن السنن الإلهية الثابتة، ولا يحدثنا عن الأحكام والتشريعات المتغيرة فلا تجد في الكتاب الكريم آية، إلا وتجدها ثابتة دائمة. وحتى أن الحديث عن الأمم السابقة، فهو حديث عن الحياة العامة والتأريخ البشري الثابت وما فيه من عبر باقية وسنن إلهية جرت في الماضين وستجري في اللاحقين إلى يوم القيامة، لأنها سنن غير قابلة للتبديل أو التحويل؛ تماماً كما هو أصل وسنّة لبس الثياب الثابتة بغض النظر عما يتغير من اشكال وموضات الثياب وطريقة لبسها، أو كما هو الأصل والسنة في احتياج الإنسان للطعام والشراب رغم تنوعهما أو طريقة تناولهما وتغيرهما بتغير الزمن والأشخاص.


إذن؛ فالسنن الإلهية سنن ثابتة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التشريعات القرآنية، فهي تشريعات ثابتة على الرغم من وجود التفاوت في تفسيراتها وتأويلاتها وتطبيقاتها.


فالقرآن الذي يأمرنا بالالتزام بأصل اقتصادي ثابت وهو الوفاء بالعقود، لا يهتم بالإشارة إلى أي عقدٍ منها، لأنها تختلف باختلاف الزمن. وكذلك حينما يقول:«وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ»([37]) فإنه يأمرنا بالنزاهة والأمانة وعدم الاعتداء على ممتلكات وحقوق الآخرين، وفي الوقت ذاته يأمرنا بأصل آخر نفهمه من الآية. وهو أن يكون التراضي محور العمل الاقتصادي والتجاري، ولكنه لم يوضح لنا صفة هذه الأموال أو طبيعة وطريقة التجاوز عليها وهكذا الأمر بالنسبة لسائر الأصول والثوابت التي يحويها الكتاب المجيد.


فالسر الأساس في خلود القرآن واستمراره، أنه لا يزداد مع مرور الزمن وتبدل الأفراد والمجتمعات والحضارات إلا نضارة وتألقاً، وبهذه المعجزة القرآنية الخالدة يكون كتاب الله خارجاً وسابقاً للدائرة الزمنية والمكانية.


الإحساس الجمالي في القرآن



]إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ»([38])


إذا تلوت كتاب ربك وجدت في آياته المباركة وصفاً للجنة ما أروعه، وصفاً تشعر فيه إثارةً جادةً في داخلك معاني الحسن والجمال والزينة وما ياخذ العقول، ووصفاً فيه الدفع نحو حب التحول باتجاه الأفضل، حيث الجنة في الآخرة ورضوان الله الأكبر.


فأنت تستطيع الاقتراب من الجنة وأنت تعيش في الدنيا؛ بمعنى أنك قادر على صناعة الجنة بيديك. فالجنة فيها أنهار تجري، فلا بأس بأن تفكر بأن يجري نهر في بيتك فالماء الرقراق يثير فيك الجمال والزينة والروعة وحب الله سبحانه وتعالى. وفي الجنة قصور، وفيها رجال مطهرون من الغل، إخوان على سرر متقابلين.


إن في القرآن دعوات صريحة إلى النظر في الطبيعة وكيف أن الخالق المبدع المصور يحيي الأرض بعد موتها، ويامر أيضاً بالنظر إلى النجوم وكيف جعلها زينة في السماء، ثم فيه الدعوة إلى النظر للذات وكيف غرست في النفس الرغبة إلى التمتع بالزينة.


ثم يأمر الله عباده المؤمنين ان ياخذوا زينتهم عند كل مسجد، ليلقوا إخوانهم وهم بأفضل مظهر وكذلك يحرضهم على الاقتباس من كل زينة وروعة، وينهي أولئك الذين حرموا الطيبات على انفسهم.


وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل جميل يحب الجمال ([39]) وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن الله تعالى يحب الجمال والتجمل ويكره البؤس والتباؤس ([40]) وبهذا التشريع والإرشاد يسعى الدين الإسلامي إلى جعل إحساس الإنسان المؤمن إحساساً جمالياً، وهذا الإحساس الجمالي يوجه الأفراد والجماعات إلى صناعة محيطهم صنعاً فذّاً جديداً. فإذا كان المحيط جميلاً رائعاً، كانت الاخلاق والتقاليد ونوعية الالتزام متأثرة به دون انفصال. ذلك لأن من يكون مظهره جميلاً، فمن الطبيعي أن يكون خلقه جميلاً.


وعلى هذا؛ يجدر بنا أن نوفر في أنفسنا الإحساس بالجمال ؛ جمال الروح، وجمال المادة، وجمال الذوق.


الفصل الثالث



لفتات قرآنية


ليلة القدر مولد القرآن


]حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِندِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [([41])


كانت ليلة القدر المباركة وما تزال ليلةً لولادة القرآن الكريم، فقد أنزله مرةً ثم أنزله مرات، ولهذه الليلة كل الفخر على سائر الليالي. ولم يكن شهر رمضان ربيع القرآن، إلاّ لأن فيه ليلة القدر، ليلة قال عنها ربنا عز وجل«إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»أي أن فيها تتنزل الملائكة تنزيلاً بالبركة على الإنسانية جميعاً، لأن فيها ولد القرآن؛ الكتاب ذو البركة والرحمة والعطاء والعناية الإلهية. ففي هذه الليلة يبارك الله للناس بالعطاء والرحمة أيضاً، وذلك لشرف القرآن الكريم.


وكان لابد -لدى الحديث عن القرآن- أن نتحدث عمن أُنزل عليه القرآن ألا ترى أن ربنا سبحانه وتعالى يحدثنا في سورة الدخان عن الكتاب وعمن أُنزل عليه الكتاب، تبعاً إلى أن رسالة السماء لم تنزل في قراطيس، ولم تنزل كما ينزل المطر، وإنما نزلت على قلب؛ قلب كبير يستطيع استقبال ملك الوحي جبرائيل عليه السلام والأمانة التي جاء بها دفعةً واحدةً. هذا الاستقبال الأعظم الذي يصفه الله في موقع آخر بقوله:«لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»([42])


فكان قلب رسول الله صلى الله عليه وآله أقوى بما لا يوصف من الجبال والأرض والسماوات.


فالله الذي يقول عن نفسه المقدسة واصفاً«إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ»يقول فيما بعد«إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»فكان الوعاء متناسباً كل التناسب مع ما يحتوي.


وهنا تتصل ليلة القدر بمبدأ الولاية، لأن القرآن الذي أُنزل على قلب الرسول صلى الله عليه وآله كان لابد له من الانتقال إلى قلب آخر مماثل فيما بعد الرسول، وكان لابد من إمام ووصي شرعي مختار من قل منزل القرآن نفسه. وكما كان الرسول قرآنا ناطقاً يمشي في الأسواق بين الناس، فكذلك كان الإمام رجلاً يحمل صفات الرسول وصفات القرآن ليشهد على الناس بالقرآن ، فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه ااسلام وهو وليد الكعبة وشهيد المحراب في ليلة القدر أيضاً.


فأين نحن من ليلة القدر؟ وأين نحن من القرآن الناطق؟ واين نحن من الولاية؛ ولاية الله والرسول والإمام؟


فلتنظر نفس إلى ما قدمت وليعمد كل واحدٍ منا إلى إعادة حساباته، ولينظر المسلم إلى نفسه وطريقة حياته. ومن أجل ذلك علينا بفتح القرآن واعتباره ميزاناً لصحيفة اعمالنا، فقد جاء في الحديث الشريف المروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، حيث قال: عباد الله، زنوا انفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوها قبل ان تحاسبوا ([43])



فضل القرآن الكريم



«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»([44])


ما هو القرآن؟ وما هو فضله؟ وكيف نصل إلى معرفته؟!


إن القرآن كتاب حي، نزل من عند الله الحي القيوم المهيمن عليه، وهو ليس كتاباً كسائر الكتب، إنما فيه ما يحتاج بنو البشر بتوفيق الله الذي أرسل الكتاب فهو الرقيب والشاهد عليه، وهو الذي يقلب القلوب والأبصار، وهو الذي يبعث النور الى الأفئدة ليفهم الناس القرآن.


إنه وحي متصل غير منفصل عن مصدره، إذ لا يزال يتنزّل ولا يزال القلب المؤمن المستضيء بنور الإيمان وضياء الرحمن يتلقاه من منبعه المقدس.


ومن هنا نفهم أن كتاب الله ليس كسائر الكتب، وأن فضله عليها كفضل الله على خلقه. ومن هنا نستوحي فريضة توجهنا إلى البارئ عز وجل حين تلاوتنا لكلام خالقنا، وأن نعرف من يخاطبنا. فالذي يحدثنا بوحي كلامه، رقيب وشاهد وبصير ومهيمن.


ولذلك كان من لم يؤمن بالقرآن، أو كان قلبه مليء بالحجب، كحجاب التكبر والحسد والحقد والحرص ممنوعاً من الوصول إلى القرآن بمعانيه، على الرغم من لقلقة لسانه بألفاظه وتنقل ناظريه بين حروفه. فهذا واقع من يعيش مع الحروف والكلمات والأشكال دون المحتوى والحقيقة.


ربنا سبحانه وتعالى حينما يصف كتابه يقول:«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا»، وفي آية أخرى يقول عز وجل:«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»([45]) حينما نقرأ هذه الآيات وتربطها ببعضها عند ذاك تتكشف لقلبك حقائق وآفاقاً جديدة وفضائل فذّة من روح القرآن.


ثم الله يخاطب رسوله والإنسان بصورة عامة بقوله المجيد:«مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ»إذ أن تلك الروح يؤطرها الكتاب، الذي هو نور وضياء، يهدي الله به من يشاء من عباده. فهو ليس لكل الناس، بل هو نور لمن يريد الوصول الى الحقيقة وتطهير قلبه والوصول الىسبيل السلام، حيث صراط الله العزيز الحميد.



حبّ القرآن



]الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ»([46])


يتعامل الفرد المؤمن مع القرآن، كما يتعامل الإنسان السوي مع أبنائه. فهو يعرف القرآن كما يعرف ذريته، ذلك لأنه لا يحب شيئاً أكثر من محبته لأولاده، بل حتى أنه يحبهم أكثر مما يحب نفسه.. والقرآن يضرب للناس الأمثال.


كلما ازداد الحب لله، كلما ازداد الحب لكتابه، وبمقدار ما يتعمق الحب للكتاب تعمقت في النفس آداب الاهتمام به. فإذا قرئ كتاب الرب، استمع له المؤمن وأنصت، وتدبّر وركز في قلبه معانيه الحكيمة، لأنه يحبه.


إن الحب أعلى وأسمى علاقة قد تربط بين الإنسان وما حوله، فهو قد يحترم شيئاً، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون قد أحبه. وقد يستفيد من شيء وينتفع به، ولكنه قد لا يحبه. ونحن نرى من يستفيد من سيارته أو بيته أو متاعه، إلاّ أنه لا يحب هذه الأشياء حتماً. أما إذا أحب المرء شيئاً، فإنه ليس سيستفيد منه فقط -بل قد لا يستفيد منه مطلقاً- وإنما سيضحي من اجله بما عنده أيضاً.


ومن هذه الزاوية ترى قلوب المؤمنين الصادقين حال رؤيتهم أو قراءتهم أو استماعهم لكتاب ربهم خاشعة تهفو إليه بلهفة، وبهذه العلاقة السامية يتعاملون مع القرآن. فهم يعرفون أنه رسالة خالقهم التي أنعم بها عليهم، فيبحثون عن أية وسيلة وطريقة لخدمته ورفع شأنه.


فالتعامل ينبغي ان يكون كالتعامل مع أحب الأشياء، فإذا أردت قراءة آياته المباركة وجب أن تحترمه، فتضعه أمامك، دون أية إشارة أو دلالة على سوء الادب؛ كأن تمدّ رجليك أو تضعه على الأرض، وإنما يلزمك أن تجلس جلسة التلميذ إلى معلمه. ولعمري أن في ذلك لفخر للإنسان أن يتتلمذ على كتاب ربه. فإذا أردت معرفة مدى حبك واحترامك لكتاب الله، فانظر إلى طبيعة أدبك حياله.


الانس بالقرآن



حينما يكون الإنسان طموحاً، فإنه يتطلع إلى مصادقة أفضل الأشخاص وأسمى الناس، ولكن المؤمن إلى من يطمح ويتطلّع؟


من الطبيعي أن يكون الجواب بانه يتطلع إلى مصادقة ربه والأُنس معه، فالله نعم الصديق ونعم الرفيق الشفيق.


فترى كيف يصادق الإنسان ربه؟


أقول: إنما يصادق كتابه ويأنس بكلامه، حيث يعيش مع القرآن ويعيش القرآن معه. والعيش مع القرآن إنما يتحقق في البدء في أن يحب الإنسان كتاب ربه، ومن أحب القرآن فقد أحب الله، ذلك لأن كتاب الله بما يحوي من أفكار وروح وقدسية هو الوسيلة الى الله، وهو القائل سبحانه وتعالى :«يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»([47]) وأي وسيلة أفضل وأمتن من كلام الله، ومن رسول الله وأهل بيته الطبيبين الطاهرين ، الذين لا يفارقون القرآن، ولا هو يفارقهم.


فمن دون القرآن لا يمكن أن نصل لأهل البيت عليهم السلام، ومن دونهم أيضاً لا يمكن أن نفهم القرآن.


أن باستطاعة كل إنسان أن يأنس إلى ربه ويصادقه، وذلك عبر تكريس المحبة لكلامه والالتزام به. وهذا المستوى من الطموح والتطلع ليس حكراً على أحد في حال من الأحوال ، وما على من أراد تحقيق ذلك سوى التقدم بإرادة وعزيمة نحو المصادقة وعقد الميثاق.


آداب التعامل مع القرآن



]هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ»([48])


كيف نتعامل مع القرآن؟


إن الخط العريض في كيفية التعامل مع الذكر الحكيم يكمن في أن تستشعر قلوبنا بأننا أمام كتاب الله وخطابه وحبله الممتد بين السماء والأرض، هنالك تخشع القلوب وتطمئن النفوس ويستعد الإنسان لتلقي الروح والنور والهدى.


وللتعامل مع القرآن هناك ثمة آداب مرجوة، نذكر منها:


أولاً: أن خشوع القلب يظهر على الجوارح. إلى هذا أشارت الرواية، إنه دخل رجل مسجداً فيه رسول الله صلى الله عليه وآله فخفف سجوده دون ما ينبغي ، ودون ما يكون من السجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله نقر كنقر الغراب، لو مات على هذا مات على غير دين محمد ([49]) وروي ان النبي صلى الله عليه وآله رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ([50])


فالجوارح الظاهرة تعكس حقيقة القلب وشعوره، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى:«ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»([51])


أي إذا كانت القلوب معمورة بالتقوى، كانت الجوارح خاشعة مطمئنة.


ثانياً: أن نسلّم للقرآن بمعنى أن لا نحاول اقتحامه بأفكارنا وآرائنا وأهوائنا بل الصحيح هو أن نجعل القرآن في المقدمة، ونسلّم بأنه هو القائد المطاع، فنقبل عليه قبول المستسلم لما جاء فيه. اما لو كان هناك نوعاً من التحدي والاستكبار للكتاب، فإنه سيبقى مغلقاً دوننا، إذ أن رمز القرآن ومفتاحه هو التسليم له.


أن الراسخين في العلم شأنهم حينما يقرؤون الآيات الكريمة؛ المحكم منها والمتشابه، أن يسلّموا لها جميعاً، ولا يقولون إلاّ بالمحكم ويعملون به، لأن التسليم للمحكم من الآيات والعمل به يعتبر مقدمة لفتح لغة القرآن عموماً، وكشف المتشابه من الآيات إنما يكون بعد فهم المحكم والرجوع إليه.


ثالثاً: على الإنسان المسلم أن يطمئن إلى أن العمل بآية من آيات الذكر الحكيم يستوجب انكشاف آية اخرى.


وعليه ؛ فإن مفتاح فهم القرآن أن يكون مع القرآن، فيستمع إليه ويعمل به. وهكذا تراه يتنقل بين آياته الحكيمة، مستمعاً متفهماً عاملاً.


هذه هي نبذة موجزة من آداب التعامل مع كتاب الله المجيد.



ضيافة القرآن



إذا كنت في مكان مبارك أو ليلة مباركة، فلا تنسَ نصيبك من التوجه إلى القرآن الكريم والاستفادة منه فمائدة القرآن مائدة مباركة كريمة، وأنت ضيف عليها.


ولكن ثَمَّ أسئلة مهمة جداً تقفز إلى الأذهان، وهي : لماذا يقرا البعض من الناس كتاب الله، ولكن آياته لا تتجاوز حنجرته، وليس واقع أمره إلاّ كما يقول الحديث الشريف المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه ([52]) إنه يقرا الكتاب، ولكنه محجوب عن آياته. بل ماذا نفعل لكي نصل إلى مستوى نتحدث فيه مع القرآن ويتحدث هو معنا، فنستنطقه فينطق بما فيه من آيات باهرات، فنعي بذلك حقيقة الحديث الشريف المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: لقد تجلى الله لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون ([53]) وكيف نضم انفسنا إلى اولئك الذين يتلون القرآن حق تلاوته، ويعرفونه كما يعرفون أبنائهم؟


وبادئ بدء؛ علينا أن نعي أن الإنسان في بعض أو كثير من الأحيان يفقد مصادر التثقيف، كأن يفقد الكتاب، وقد يفقد من يوجهه من الصالحين المؤمنين ولكننا لا نفقد كتاب الله، فهو موجود وفي متناولنا غير أن أزمتنا الكبرى تكمن في كوننا بعيدين عنه، غير مستفيدين منه، وذلك لحجم الحجب التي تفصل بيننا وبينه.


فترى ما هي تلكم الحجب التي علينا اختراقها حتى نصل إلى نور القرآن الكريم؟


الحجاب الأول: الجهل ؛ فلعل المرء وبإيحاء من إيحاءات الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء، أو بتوجيه خاطئ من أحدهم، يظن خطلاً بأن القرآن لم ينزل له ليستفيد منه، وأنه قد أُنزل للنبي صلى الله عليه وآله ومن عاصره، أو كونه قد أنزل للعلماء فقط. في حين أن القرآن قد أُنزل بلسان عربي مبين، ووجه خطابه للناس أجمعين. علماً أن نوعية الآيات يجب ان تُفهم وتدرك من قبل قارئها، فقد تكون متشابهة لا يتيسر تفسيرها لغير المتخصص، وإذ ذاك لا يسع القراء الآخرين سوى التسليم بها، او طلب سبر أغوارها من قبل العالمين بها. أما الآيات القرآنية المحكمة الواضحة، فبالإمكان الاستفادة منها حسب وعي قرائها.


الحجاب الثاني: الغرور والكبر لدى الإنسان؛ فمن يعتاد طريقة معينة يتولد فيه الإصرار على التمسك بها، في حين أن القرآن الكريم يدعو الإنسان إلى التطور والسمو بما يرضي الله .


من هنا يجدر بنا أن نسلّم لآيات الكتاب حينما نقرأها، وأن نعقد العزم على تغيير أنفسنا وفقها وألا نسمح للغرور والتكبر أن يخدعانا بأن التحديث والتغيير يعنيان فشل حياتنا السابقة، بل علينا أن نعرف أن الطريقة السابقة قد تكون طريقة خاطئة ومنحرفة، فلا يسعنا سوى الإسراع نحو التغيير وتحاشي الإصرار على الأخطاء، مهما كانت نوعيتها.


الحجاب الثالث: اللغة؛ فالقرآن الكريم ذو لغة خاصة به، لأنه كتاب الله، فهي لغة الخالق مع مخلوقه.


صحيح أن لغة القرآن هي اللغة العربية الواضحة، إلاّ أن على القارئ الراغب في التفسير وفهم الآيات أن يعمد إلى الآيات نفسها لتفسر بعضها بعضاً.


هذا من جهة ، ومن جهة اخرى عليه أن يسعى إلى اكتشاف إطار الآيات وموضوعها؛ بمعنى ضرورة السعي الى تجاوز الكلمات، والسعي لمعرفة المحتوى فمحاولة ربط الآيات المتتالية في هذه السورة أو تلك، تعتبر خطوة كبيرة تنتهي إلى توضيح المقصود الأول من الآيات بشكل عام.


الحجاب الرابع: الواقع؛ فالقرآن الكريم ينطق عن الواقع الذي يعيشه المرء، وهو كما الشمس تشرق كل يوم إشراقة جديدة وعلى واقع جديد، لذلك ينبغي له أن يحاول تطبيق الآيات القرآنية على حياته المحيطة به. وبالقرآن وحده يستطيع الإنسان أن يميز المؤمن من المنافق، والصديق من العدو، وهكذا تستمر محاولات تطبيق القرآن على الواقع الخارجي، وبذلك يتم رفع الحجب عن القلب والوصول الى معدن النور المضيء لمسيرة الحياة.


كيف نورث ذرياتنا القرآن؟


روي عن معاذ أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ما من رجل علم ولده القرآن إلا توج الله أبويه يوم القيامة بتاح الملك وكسيا حليتين لم ير الناس مثلهما ([54])


وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: من علم ولداً له القرآن قلده قلادة يعجب منها الأولون والآخرون يوم القيامة ([55])


وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه، ويعلمه القرآن ([56])


نحن نعلم علم اليقين أننا جميعاً راحلون، وأن الذي يبقى من بعدنا هو ذرياتنا، ولذلك كنا مسؤولين عنها، وهذه المسؤولية ليست إلاّ أن نخلّف لهم تراثاً مفيداً؛ وأنعم بالقرآن تراثاً، كما جعل إبراهيم الخليل عليه السلام التوحيد تراثاً في عقبه«وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[([57]).


ولكن كيف نتمكن بان نورّث ذرياتنا القرآن؟


والجواب : اننا نتمكن من ذلك عبر الطرق التالية:


1- أن نحبّب القرآن إليهم، ونقربه من نفوسهم بانواع التقريب والترغيب.


2- أن نعلّمهم القرآن، حتى لو استدعى ذلك الوقت والمال والجهد الكبير، وبالذات أن نسعى إلى تعليمهم في سنّيهم الأولى.


3- أن نعلّمهم التدبر في آيات الله، وكيفية الاستفادة منها، وتحويل القرآن في أنظارهم إلى بصيرة وعبرة يكرسونها في حياتهم ويعودون إليها في كل وقت وحين.


4- أن نشجعهم بتقديم الجوائز والهدايا لهم لحفظ القرآن، فإنهم إذا حفظوه امتزجت بضمائرهم وعقولهم الثقافة القرآنية الأصيلة.


وبهذه الطرق وغيرها نجعل القرآن الكريم مستمراً في أعقابنا، فنضمن عند ذلك سلامتهم واستقامتهم وإيمانهم، ونضمن أيضاً خلاصنا من مساءلة الرب لنا في يوم القيامة، إذ كلما قرأ أولادنا كتاب الله أو استفادوا أو أفادوا منه، كان ذلك لنا حسنات، حتى وإن كنا قد غادرنا الدنيا، فإن من سنّ سنّةً حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.


الفصل الرابع



نظرات قرآنية


الانسان كائن كريم


«يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»([58])


لقد قدر الله الحكيم الخبير أن يكون القرآن كتاباً يعيد إلى الإنسان تطلعاته، وأن يبعث فيه روح السمو والهدفية.


ولهذا ؛فقد كان القرآن الكريم كتاباً لو تمسك به الإنسان لتطور وتقدم، لأنه الحبل الممدود بين السماء والأرض، فطرف منه بيد الله، ومن تمسك بالطرف الآخر ارتفع وسما.


وحينما يوضح القرآن للإنسان الاهداف العليا والحقيقية، ويامره بالتطلع والتحليق، فإنه يثير فطرته الكامنة نحو التطلع السامي. ولا يخفى أن كل إنسان ومهما كانت ظروفه وأصوله ومستواه يملك هذا التطلع.


فإذا كانت الثقافات البشرية والأنظمة الجاهلية تقتل في الإنسان روحه الوثّابة، فإن آيات الذكر الحكيم تعيد إليه ذلك التطلع من جديد، وتؤكد له بانه مخلوق مكّرم؛ فلابد له من التضحية بكل شيءٍ من أجل المحافظة على هذه الميزة الربانية.


وتتناول آيات سورة المنافقون تفاصيل سياسة إثارة الوساوس والأفكار الشيطانية التي كان يعتمدها جمع المنافقين، حيث«يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ»كما كانوا يزعمون بان العزة تتولد بامتلاك قطعة من الأرض، أو من سبق في الوجود عليها، أو بكثرة القوم والعشيرة ، أو بالثروة المادية.


ولكن القرآن الكريم يجيب بكل صراحة: أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، إلاّ أن المنافقين لا يعلمون ولا يفقهون بأن حقيقة العزة موجودة في ذات الإنسان وليس في الأمور المحيطة به، كالأرض والقوم والثروة المادية.


فإذا عرف المرء قيمة نفسه، وعرف أنه فوق هذه الأمور المادية المؤقتّة، استطاع أن يخطو خطوة كبرى نحو النمو. والسمو فإذا مرّ بجاهل معاند قال سلاماً وإذا مرّ باللغو مرّ مرور الكرام وإذا خيّر بين أمور اختار أرقاها وأفضلها واقربها إلى الله جل جلاله فتراه يعتز بمالديه من فضائل ونعم إلهية، ذلك لأنه أثار في داخله الذات الكريمة التي تفضل الله بها عليه.


وهكذا نجد آيات القرآن تشبع الإنسان وتغمر قلبه وعقله بالعواطف والأفكار السامية والأخلاق الرفيعة.


والعزة والشرف والكرامة -حسب النظرة القرآنية- صفات إنسانية يستطيع كل فرد أن يثيرها ويركزها في نفسه بقدر اقترابه من مصدرها ووعائها. وهما الخالق العزيز الكريم والقرآن الحكيم.


وإذ ذاك؛ فإننا نوجه الدعوة النصوح إلى المؤمنين لأن يستزيدوا من الفضائل والآداب، لأنهم يُفترض فيهم ااسعي نحو الشرف والكرامة والعزة. وهذه الخصال الحميدة لا يمكن أن تتكرس في البيت أو الثروة أو الحالة القبلية؛ فالبيت ليس إلا مجموعة مرصوفة من الأحجار، والثروة ليست إلا مالاً متنقلاً، والعشيرة ليست إلا افراداً لهم ما كسبوا ولكم ما كسبتم. والمرء ليس ثيابه ولا جيبه ولا هيكله، بل هو شخصيته على حقيقتها، وهو تقواه واقترابه الى ربه.


حق الحياة



«وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً * وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مُظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً[([59])


الحياة قيمة محترمة في الإسلام، وقد أكد القرآن على أهمية المحافظة على الحياة ابتداءاً من حياة الأولاد والذرية وانتهاءً بحياة الآخرين.


فذات الحياة لها قيمتها المقدسة واحترامها الكبير، ولذلك فإن«مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً»([60]) لأن هذا القاتل قد أراد إنهاء الوجود، والوجود هو الحياة. ولما أرخص القاتل حياة أحد الأفراد، فكأنما قد أرخص كل حياة.


من هذه الزاوية نهانا ربنا عز وجل عن أن نقتل أولادنا. ولكن هل يمكن تصوّر أن يقتل الإنسان أولاده؟ وكيف؟!


نعم؛ يمكن ان يقتل المرء أولاده حيث تتراكم على نفسه أكداس من الخرافات وأساطير الأولين ووساوس الشيطان، فبيدأ بقتل الأولاد كما كان ذلك سارياً في بعض القبائل العربية الجاهلية، حيث كانت تدس البنات في التراب، فيقول قائلهم. نعمَ الصهر القبر؛ أي أنه يرضى للقبر أن يكون له صهراً، بدلاً عن أن يجهد في تربيتها والإنفاق عليها ثم يزوجها حتى جاء الإسلام مندداً بهذا الواقع الرهيب، حيث قال:«وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ»([61]) ؟!


بل لقد تعدى الأمر إلى أبعد من هذا، فقد عمدوا الى قتل الذكور من أولادهم بداعي الخوف من الفقر وضنك العيش، يائسين من رحمة الله ورزقه. قال الله تعالى:«وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَق»أي خوفاً وحذراً من الفقر والفاقة«ٍنَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ»فالله وحده مصدر العطاء والرزق ، فلا يظنن ظانٌّ أنه يعيش بطوله وقدرته.


أما الآن فقد اخذت بعض البلدان والمؤسسات الدولية تعمل وتحرض على تحديد النسل، تحت غطاء قلة المستشفيات الكافية لولادتهم، وشحة المدارس لتعليمهم، وندرة فرص العمل لتشغيلهم، واستفحال النقص في الغذاءء لإطعامهم، وهكذا كان من الأفضل -في تصورهم- منعهم من المجيء إلى الحياة.


وللأسف الشديد يمضي العالم في الوقت الراهن قدماً نحو إباحة الإجهاض -وبكافة مبرراته الواهية- وتسويغ عملية قتل الأولاد وهم أجنة في بطون أمهاتهم.


وهنا لنا أن نتساءل عن الفرق بين حق الحياة لطفل قد ولد وبين حق طفل سيولد غداً، مع أن الحياة هي نفس الحياة، سواء كان هذا الطفل جنيناً في بطن أمه أو موجوداً خارج البطن. ولكن لغة المادة والماكنة ووساوس الشيطان قد تحكّما في مجريات عصرنا الراهن!


وهناك نوع آخر من القتل، يتمثل في إشاعة الزنا -والعياذ بالله- قلمّا كان الطفل بحاجة إلى التربية والتنمية وإلى حنان الأبوين، والله تبارك وتعالى قد أمر بالاهتمام الكامل بالأسرة لضمان نمو الأطفال نمواً حسناً، كانت إشاعة الزنا عبارة عن إعلان الحرب الشعواء ضد الطفل والأسرة وكافة بنود مبادئ التربية السليمة والهادفة.


فالزاني أو الزانية لا يفكران بالأنجاب، وإنما يهتمان بإفراغ شهواتهما العاجلة، وبالتالي فإن الطفل المتولد من الزنا سيعاني فيما بعد عقد الأب من جهة، وسيعاني من جهة اخرى نقص التربية وحنان الأم المنشغلة بتجاوز حجاب العفة والشرف.


وعلى هذا الأساس نهى الإسلام عن الزنا، فقال الله عز وجل:«وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً[. إذ الطفل سيولد ميتاً وإن كان يسير ضمن الأحياء، فكل شيء فيه مقتول ، والقاتل هو الشهوة العاجلة.


وثَمَّ شكل آخر للقتل، وهو قتل الناس بعضهم بعضاً، في حين لا يوجد أي سبب من الأسباب يبرر الجرأة على حياة الآخرين وقتلهم، اللهم إلاّ أن يكون المقتول قد اختار لنفسه الخروج عن إطار ومحتوى الإنسانية ، وهو الواقع الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله:«وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ».


أما الثقافة الجاهلية، حيث تستولي الديكتاتورية ويسود الظلم وتندلع الحروب الباطلة، فإن النفس الإنسانية المكرمة من قبل خالقها تصبح أرخص من كل رخيص. وهنا أجد نفسي حريصاً كل الحرص على توجيه نصيحتي الخالصة للمسلمين جميعاً، لأن يعرفوا أن الإسلام قد وضع ضوابط شديدة جداً لإباحة القتل، وعليهم أن يحسبوا المرة بعد الأخرى حساباتهم إذا ما وجدوا أنفسهم في صراعات واختلافات لإباحة قتل هذا أو ذاك، ولا ينسوا قول الإمام محمد الباقر عليه السلام، حيث قال: من أعان على مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله ([62])


الاعتدال أساس الحياة



«وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً»([63])


تعتبر أزمة الإفراط والتفريط أزمة خطيرة جداً، من طبيعتها أن تضيع على الإنسان حياته ، وأن تسلبه السعادة الأخروية الأبدية.


فترى بعض الناس مفرطين في حياتهم في كل شيء؛ فهم يأكلون أكثر مما يشتهون، ويشربون أكثر مما يحتاجون، وينامون النوم الطويل، ويسرفون في حبهم أو بغضهم، ويبذرون في طاقاتهم وإمكانياتهم.


بينما ترى البعض الآخر يقصّرون في كل شيء؛ فلا يأكلون إلا قليلاً، ولا ينامون إلا قصيراً..


وبين هذا وذاك؛ نجد الإسلام يأمر بالقسط والاعتدال، والسير في الحياة ضمن الصراط المستقيم، والمحجّة البيضاء. وقد يعيش المرء حسبما يامره الوحي والعقل ، ووفق ما تامره خبرته العلمية وتملي عليه تجربته العملية.


والله ربنا يأمرنا بالاعتدال في كل شيء، حتى في عطائنا للآخرين، إذ يلزمنا بمراعاة الجانب الاقتصادي، فيقول:«وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِك[َ أي لا تحشر نفسك في شباك الاغلال والقيود، ولا تضطرها إلى الانطواء والانغلاق، حيث تحرّم عليها كل شيء وتمنعها من طيبات ما رزقك الله.


فالإنسان في المجتمع المسلم لا ينبغي له أن يكون مقيداً بقيود إضافية، فيشرّع لنفسه بغير ما أمره خالقه أو ما نهى عنه العقل السليم.


أما أن يكون المسلم في حالة انكماش وانطواءٍ دائم على نفسه، لا يحب الانطلاق والتحرك، ثم الافظع من ذلك أنه ينسب كل ذلك إلى الدين، فيحرم الطيبات عليه وعلى الآخرين ، وكلمة الحرام والممنوع لا تسقط عن لسانه. فعليه والحالة هذي -أن يراجع ويقوّم جملة اعتقاداته الدينية، لا سيما وأن الله تعالى حينما يصف رسوله الكريم وبعثته الشريفة، يقول:«يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[([64]) .


وهو أيضاً يوسّع الآفاق امام الناس بقوله الكريم«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا[([65]) .


فالقرآن المجيد الذي يامرنا بالتحرك في الحياة؛ فنأكل ونشرب ونسافر وننفق تراه من جهة اخرى ينهانا عن الافراط فيقول:«وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً[؛ أي لا يصح ولا يجوز العيش حسب العواطف، ولا سيما الارتجالية منها، حيث يخرج المرء من امواله جميعاً -مثلاً- فينسى حقوق نفسه وأولاده وزوجته واقاربه. فلا يصح ان يتصرف وكأنه يعيش لهذه اللحظة، وأن ليس له غدٍ.ان الشرع والعقل يأمران الإنسان بأن يعمل حسب الحاجة بمعنى ضرورة أن تكون تصرفاته مدروسة ومعقولة، وذلك لتحاشي الوقوع في مطبات الندم ، وتحاشي أن تكون حياته في المستقبل جملة من ردود الفعل المعاكسة.


فقضية الأنفاق لابد لها من قيود، إذ من الخطأ الواضح أن ينجي المرء فقيراً ما بإنفاقه كل أمواله، فيتحول هو إلى فقير. وإنما يجدر الاعتقاد بأن الله«يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً».


فلما كان لزاماً على المؤمن التخلق بأخلاق الله فعليه معرفة ان الرزق بيد الله، وأنه يرزق من يشاء، وأنه يمنع على من يشاء، وأن كل ذلك ضمن خبرة وبصيرة إلهية لاتُجارى.


ومن هنا؛ يتبين أنه لا يكون المؤمن مؤمناً حقاً، ما لم يلتزم بالاعتدال والقسط في الحياة؛ بعواطفها وحبها وبغضها ، وبحركة العطاء والمنع حيث يأخذ الطريق الوسط والمستقيم في مختلف الابعاد، ويتجنب الإفراط والتفريط.


القرآن نجاة من الشك



كيف تدخل الشكوك في النفس الإنسانية؟ وكيف يستطيع ابن آدم أن يعيش حياةً بلا شكوك؟


وهل أن عقله عاجز عن استيعاب مجريات الحياة؟ وهل هو -في الواقع- فقير الى أدوات الفهم؟


لقد زوّد الله عز وجل الإنسان بالعقل وبالخيال وبالحواس وبعشرات الوسائل لاستقبال الحقائق، فلماذا الشك إذن؟!


أقول: إنما يدخل الشك والريب إلى الإنسان عبر وساوس الشيطان، وعبر الهوى والانجذاب للمادة والطبيعة، وعبر عدم التركيز والاستعجال في اتخاذ القرارات واصدار الاحكام، وعبر التأثر بأفكار الآخرين والانبهار بها دونما تفحّصٍ أو نقد، وهناك أسباب عديدة اخرى.


أما سبيل العلاج من ااشك، فهو اللجوء الى كتاب الله المجيد، فهو علاج الوساوس الشيطانية، والضعف البشري، وداء الانبهار بالفكر الآخر، كما أنه يحرر الانسان من جميع عوامل الضغط. فحينما نقرأ القرآن بعمق ونستوعب آياته الكريمة، فإننا نزكي أنفسنا ونعلمها ونصلحها، وهنالك نتجاوز حالة الشك والريب، ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى في سورة البقرة:«ذَلِكَ الكِتَابُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ[([66]) .


لأن القرآن الذي أُنزل لمواجهة الريب، قد وضعت فيه القدرة على إزالة عوامل الريب والضعف والانبهار بالآخرين، والأفكار الدخيلة التي يتعرض لها المسلم، فيدعوه إلى التحرر من تقليد الآباء والتقوقع على تقاليدهم، كما يحرره من ضغوط الشهوات، ثم يثير عقله ويضيئه ويضع أمامه المنهج الصحيح للتفكير.


فالله جل جلاله يقول:«الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ[([67]) فهو يزود الإنسان المسلم ببرنامج عظيم؛ يدعوه إلى إزالة الحجب، وضغوط الشهوة والعقد النفسية في إطار اتباع الحق.


وليُعلم إن الخلاص من الريب، يعني الوصول الى الهدى ومن ثم الوصول الى التقوى، لأن جوهر التقوى هو المعرفة بالله وبالجزاء، وهو الإيمان بالغيب وبالآخرة وبالرسل وبالحق.


وجذوة القول هي: أن اقترابنا من القرآن يعني ابتعادنا عن الشك والريب، لأن القرآن ذاته كتاب لا ريب فيه.


النقد الذاتي؛ بصيرة قرآنية


«وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ»([68])


يتعرض ابن آدم لضغوط كثيرة في حياته، فقد يكون منذ طفولته عرضة للتربية الفاسدة، حيث يتلقى الثقافة الخاطئة، أو يعيش في مجتمع فاسد، فإذا شب وقوى عوده في مثل هذا المحيط، وإذا كبر وأُولج في متاهات الحياة، تكون هناك ضغوط اقتصادية -مثلاً- فيجد نفسه عاجزاً عن تأمين معاشه أو ضمان مستقبله -كما يحلو له أن يتصور- إلا بالطرق الملتوية، ومن ثم قد يعيش إعلاماً فاسداً مفسداً؛ في مثل هذه الأجواء تتصاعد وتتضاعف احتمالات انحرافه.


فإذا أغلق الإنسان باب التوبة والعودة إلى خالقه، وسدّ أبواب تصحيح المسيرة أو ما يسميه الأدب الحديث بـ النقد الذاتي ، فإنه سيكون محكوماً سلفاً بالاسترسال في الطريق الخاطئ، مرحلة بعد مرحلة.


ولكن كلا؛ فالله الرحمن الرحيم والعفوُّ الغفور ليس قد فتح أمام الإنسان باب التوبة فحسب، وإنما دعاه وعلّمه وشجعه ومنحه الوسائل الكافية للتوبة. فهذه الدعوة الإلهية ليست كدعوات الآخرين، حيث غالباً ما تكون دعوات جافةً بخيلة، بل هي دعوة حبيب رحيم غفور .


فكما أن جسمك الذي قد يتعرض للمرض أو الوسخ، له ما يعالجه من دواء للعافية وماء للنظافة والتطهير، كذلك الأمر بالنسبة لروحك وفكرك وعملك لهم ما يحييهم ويصحح مسيرتهم.


فقد يمكن للإنسان أن ينحرف -وهذا من طبيعة الخلقة- فهو خلق من ضعف وعجل ، وكان له التعرض للمشاكل والسقوط، ولكن الأهم هو أن يصلح نفسه فيما بعد.


فالقرآن الكريم يبشر التوابين ويدعو الناس -على اختلاف مشاربهم وأسباب انحرافهم- إلى العودة والنهوض والتوبة في كل وقت وحين، كما أنه يدعو المؤمنين بصورة خاصة الى عدم اليأس من رَوْحِ الله، ويخبرهم بأنه لا ييأس من رَوْحِ الله إلا القوم الكافرون، إذ اليأس يعني الموت، أو لنقل إن اليأس هو قتل متعمّد للذات وللفكر. وهذا لعمري ذنب كبير لا يضاهيه إلا الكفر، والشيطان يثير في قلب ابن آدم هذا اليأس.


أن الله تبارك اسمه حينما يامرنا باجتناب الطاغوت في سورة الزمر الكريمة، لا يلبث أن يأمرنا بالتوبة والإنابة إليه، لأن هذا الطاغوت قد ترك أثراً بليغاً وجرحاً عميقاً في روح الإنسان وطريقة تفكيره.


فما على هذا الأخير إلا التصميم على تركه وتجاوز آثاره الأليمة، وهو بهذا الاجتناب إنما يبني لنفسه حياةً جديدة قائمة على أساس التقييم والنقد، حيث يعقّب الله على قوله الأول بآيته المحكمة: لهم البشرى -المنيبون التائبون-«فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»؛ أي أنهم يقبلون بأرواحهم على عملية النقد الذاتي الصادرة أساساً عن قول القرآن والفطرة، فيستمعونه ويتبعون أحسنه.


وهذا التحول الواقعي ليس إلا مصداقاً حقيقياً للهداية الإلهية لمن كان له قلب أو ألقى السمعَ وهو شهيد.


الصبر؛ عبور الى المستقبل


«وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ»([69])


بماذا ننمي في أنفسنا صفة الصبر، وكيف نستطيع أن نصمد أمام المشاكل والتحديات؟ وما هي القواعد والأسس القرآنية التي تمنحنا هذه الصفة المثلى؟


إن الإجابة عن هذه التساؤلات تفرض ضرورة تبيين حقيقة أن الصبر يعني تجاوز الحاضر، والنظر إلى المستقبل فكلما كان التركيز على المستقبل وتجاوز الحاضر، كان مستوى الصبر والصمود اكبر فائدة وأعظم تأثيراً.


وبين هذا وذاك، نجد أن من صفات الفرد المؤمن أنه لا يتجاوز الوضع الراهن الذي يعيشه بآلامه ومشاكله، وينظر إلى المستقبل الذي يصنعه بنفسه ويوفقه الله إليه فحسب، وإنما نراه يعيش أُفق المستقبل الغيبي؛ أي أنه يكرس اهتمامه بمستقبله في الدار الآخرة، ولذلك فإنه يرجو من الله مالا يرجوه غيره.


وهو إذا ما أُصيب بمصيبة قال:«قإِنَّا لِلّهِ وإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»([70]) لأنه يعلم بأنه سيرجع إلى ربه، وأن كل ما يملك إنما هو بتخويل من المالك الأول، وهو الله عز وجل. فهو مطمئن إلى عودته إلى الله، وإلى أن خالقه يهيمن عليه، وهذا العلم وهذا الأطمئنان يمنحان الفرد المؤمن بصيرة ربانية تجعله ينظر إلى المستقبل على أساس الصبر والاستقامة والتحدي، باعتبار أن إيمانه بعظمة ما أعدّ له في الدار الآخرة لا يمكن أن يقاس بتفاهة المشاكل والصعوبات، فتراه يتلقاها برحابة صدر بالغة.


ألا ترى الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام حينما نزلت به المصيبة الكبرى ووجد ابنه الرضيع مذبوحاً بين يديه ، فقد أخذ دم رضيعه الشهيد ونثره إلى السماء قائلاً قولته المقدّسة: هوّن عليَّ ما نزل بي أنه بعين الله ([71]) فهو على اعتقاد راسخ بأن الله يرى ويكتب ويحفظ شرف وقدسية دم هذا الشهيد الصغير ، مما يهوّن عليه الخطب الأليم.


إذن؛ فالله الذي أمر بالصبر قد مهد الطريق لاحبائه بالالتزام به؛ فبيّن لهم في قرآنه المجيد أن جزاء الصابرين النصر في الدنيا، والشرف في الحياة، وعظيم الجزاء والثواب في الآخرة ، حيث الرضوان والجنان والنعيم المقيم، بما فيه القصور والحور والسعادة المطلقة، الأمر الذي من شأنه تخفيف الآلام وتجاوز العقبات.


فكم من مؤمنة ومؤمن كانوا يعانون الأمرين من العوز والاضطهاد والملاحقة والتعذيب في سجون الطغاة ، ولكن مجرد تذكرهم الدار الآخرة والجنان الخالدة، ومجرد تذكرهم لعذاب الهون الذي ينتظر أعداءهم كانت آلامهم ومصائبهم تخفف عنهم. وقدوتهم في ذلك الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، حيث كان الطاغية هارون العباسي يدعوه لاعلان طلب العفو حتى يطلق سراحه من غياهب السجون التي مر على وجوده فيها حوالي أربعة عشر سنة بآلامها وفضاعتها، إلا أنه لم يستجب له، وكله أيمان وصمود وتحدي. لأنه يرى بقائه في السجن يقرّبه الى الله تعالى، وهو في ذات الوقت يقرّب هارون العباسي في النار؛ لذا لم يقل السجن عزيمته، ولم ينقص من همته.


ان هذا هو الصبر، وهذه هي حالة تجاوز الزمن الراهن والعبور إلى الزمن المستقبل الأفضل، إذ المسقبل ليس حكراً على الدنيا فقط، بل إن المستقبل الحقيقي هو في الآخرة، وما الدنيا -بما فيها- إلا محطة عبور.


الاستقامة رؤية قرآنية



«فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ»([72])


لكي يحقق الإنسان مشاريعه وطموحاته وتطلعاته الكبرى ، فلابد له من التحلّي بالصبر والاستقامة، لأن الله قد عين لعامل الزمن دوره المهم في هذه الحياة. فلا يستطيع المرء بمجرد أن يفكر ببناء بيت أن يجده ماثلاً أمام ناظريه، والمرأة عاجزة عن إنجاب طفلها بمحض تفكيرها أو رغبتها بالانجاب، ولا يمكن أن يحصد الفلاح ما زرعه بالأمس القريب.


فالله سبحانه وتعالى حينما خلق السماوات والأرض في ستة أيام، كان قادراً على أن يخلقهن بأقرب من لمح البصر، ولكنه قضى أن يكون للزمن دوره في مخلوقاته؛ اي أن الله اراد للوجود أن يكون قائماً على أساس المنطق والعقل، فجعل الزمن جزءاً من طبيعة هذه الخليقة، باعتبار أنه كان قد حكم عليها من قبل بالولادة والعيش والتحول والفناء والانبعاث.


وعلى هذا فقد كان الزمن جزءاً لا يتجزء من وجودنا ومن ذواتنا وحياتنا، وأراد إلغاء الزمن والحصول على النتائج الفورية وأن يتجاوز العقبات ويحرق المراحل من دون صبر وعزم واستقامة وثبات، فإنه لا يخدع إلا نفسه، ولن يحصل على شيءٍ قطعاً.


فمن أراد حرق المراحل احترق بها. وهذا الواقع يعبر عن سُنة كونية، ولن تجد لسُنة الله تبديلاً. أما شريعة السماء فقد اعطت الإنسان صبر واستقامة بلا حدود، سواء على صعيد الدعوة إلى الله، أو في مجال بناء الحضارة على الأرض، أو لدى التوصل إلى أي هدف آخر.


ففي مجال الدعوة إلى الله تجد شيخ المرسلين نوحاً عليه السلام قد دعا إلى ربه ألف سنة إلا خمسين عاما، وكان كل جيل يوصي خلفه بالتباعد عن هذا النبي الكبير وعدم الانصياع لتعاليمه، إلا أنه صمد وصبر واستقام.


/ 4