الأُسس الاقتصادية في القرآن - فی رحاب القرآن نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فی رحاب القرآن - نسخه متنی

سید محمد تقی المدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



ولم يكن هذا الشأن مختصاً به وحده ، بل كان هذا شأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فحينما نقرأ سورة هود المباركة نجد نماذج كثيرة للصبر والاستقامة ، وأن جميع هذه النماذج انتهت إلى النصر المؤزر من السماء لاولئك الرجال الربانيين الصامدين.



ومن قوله سبحانه:«فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا»نعرف أن الاستقامة أمر صعب جداً، حتى لاولئك المؤمنين المحيطين بقيادة الرسالة السماوية. فقد روى التاريخ لنا أن منهم من كان ينهار في بدء المسيرة ثم يعود تائباً ملتحقاً بالمسيرة من جديد. بل ومنهم أيضاً من كان ينكص على عقبيه مولياً شطر الشيطان، والعياذ بالله.



وفي إطار بناء الحضارة، يأمرنا ربنا العلي العظيم بالصبر والاستقامة أيضاً، لأنه حينما يأمرنا بإعمار الأرض نجده يبين لنا في آية اُخرى«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً»([73]) أي أننا حينما نواجه المشاكل لابد لنا من أن نعرف ونطمئن إلى وجود حلّين أو حلول لكل مشكلة، كما جاء في تفاسير هذه الآية الكريمة.



وفي مجال الحياة الشخصية، يقول ربنا تبارك وتعالى أيضاً:«وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ»([74]) باعتبار كون التقوى تمهد الطريق نحو الفوز والنجاح.



إن الصبر والاستقامة -كما تشير الآيات والاحاديث -أساس الدين والإيمان، لأنه يعبر عن تمسك وإصرار المؤمن على دينه الحق. وعليه فلم يكن أمراُ عبثاً أن يأمرنا القرآن والاحاديث والروايات بالتحلي بالصبر والاستقامة، إذ بهما يكون المسلم مسلماً، وبهما يتنزل نصر الله على المؤمنين.



كيف نحقق الأمن والسلام؟



«وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»([75])



الأمن والسلام من التطلعات الكبرى للناس، فكل شخص يولد ويولد معه التطلع إلى الحياة الآمنة والسالمة، وإلى أن يعيش في سلام مع الآخرين ومع البيئة غير أن لنا أن نتساءل عن كيفية تحقيق الأمن والسلام؟



نقول بادئ بدء: إن الله هو الذي يدعو إلى دار السلام في الدنيا، وإلى دار السلام في الآخرة؛ السلام مع النفس، ومع من حولها من الإخوان والبيئة.



إن السلام بمثابة شجرة، أصلها في القلب وفروعها في الحياة؛ إنه تلك الكلمة الطيبية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. والسلام هو اطمئنان النفس، وهو النقيض المطلق للحقد والضغينة والعصبية والحمية الجاهلية والتعالي وسائر الصفات سيئة الصيت.



فإذا كان القلب يغمره السلام والأمن، كانت تصرفات الإنسان وسكناته تعبر عن الارتياح والاطمئنان الذاتي، فتراه يبحث لنفسه عما يصلحها وينفعها ويدفعها إلى التطور، هذا أولاً.



أما ثانياً: فإنه سيعاشر مَن حوله من الأقرباء كزوجته وذريته وإخوانه وأصدقائه وكافة أفراد محيطه، سيعاشرهم بسلامٍ خالٍ من البغي والظلم والتكبر.



وثالثاً: ستراه ينشر بأقواله وأفعاله تفاصيل الأمن والسلام في مجتمعه وبيئته وأرضه وفضائه، ومع كل النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى عليه.



فلما كان الله تبارك اسمه هو السلام، فإن الإنسان حينما يعبد ربه ويحبه، فإنه سيعيش حالة السلام بأروع صورها، وذلك عائد إلى أن الله سيسكن قلبه.



وإنها لصورة رائعة أن يتخذ الله عز وجل من قلب المؤمن بيتاً، فترى هذا العنصر المؤمن يعيش الأمن مع الله، وخلق الله، من أرض وسماء وهواء وطبيعة وبشر. وهذه المعيشة الآمنة من شأنها أن تتوسع شيئاً فشيئاً لتشمل القريب والبعيد، والحي والميت، حتى تكون علاقاته إيجابية في كل شيء.



وهذا الواقع ليس عجيباً او غريباً على المؤمنين، ماداموا قد استجابوا لدعوة ربهم إلى صناعة الأمن والسلام، وتفاعلوا مع الأحكام الشرعية التي هي الأخرى مهمتها تأمين السلام وحالة الأمن.



ولكن العجب العجاب أن يعيش الناس أو قسماً كبيراً منهم في حالة الحرب الدائمة ضد الآخرين، وضد البيئة ، وضد المستقبل أيضاً، وهو لا يحاربون إبان ذلك إلا أنفسهم، إذ يفسدون الأرض التي يقيمون عليها ، والهواء الذي منه يتنفسون، والمستقبل الذي فيه أبناؤهم سيولدون رغم جميع الإنذارات والتحذيرات والنتائج السلبية التي يرون.



وآت ذا القربى حقه



«وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً»([76])



الأسرة الكبيرة التي تضم إلى جانب الأب والأم والأولاد الإخوة والأخوات والأعمام والأخوال والعمات والخالات وأولادهم، مثل هذه الأسرة الكبيرة تشكل من وجهة النظر الإسلامية وحدة اجتماعية هامة، وكلما كانت متعاونة متلاحمة، كلما كانت أقدر على مواجهة المصائب والمصاعب، ومواجهة تحديات الحياة عموماً.



فإذا وجدتَ من الأسر المعروفة في المجتمع، أُسرة تحمل معها راية الدين أو راية الاقتصاد أو وجدت أُسرة عريقة في السياسة، فاعلم أن أهم ما في تاريخ هذه الأُسرة التعاون والتماسك والقدرة على التصدي بروح الجماعة.



ونحن المسلمين قد أوصانا ربنا سبحانه وتعالى بالاهتمام بذوي القربى، حيث قال عز من قائل:«وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ»بمعنى أن يسعى المرء لأن يكون قريباً من ذويه ورحمه، وهذا السعي وهذه القربى من شأنهما أن يمنحاه حقاً مفروضاً من قبل الله تعالى.



فإذا رعى هذا الحق حقَّ رعايته، كان قادراً على رسم بصماته على صورة الحياة، وأما إذا لم يبذل جهداً لصيانة هذا الحق، فإنه يكون من المبذرين الذين وصفهم الله بأنهم إخوان الشياطين.



إن القرآن الكريم حينما يصف لنا واقعة، فإنه يبينها لنا من جميع جوانبها، ليكون الإنسان المسلم على بينة من أمره، وليلقي الحجة عليه. فالفرد في المجتمع قد تكون لديه إضافة في حياته، كالوقت والقدرة والمال والجاه وغير ذلك، فإن هو اهتم بأُسرته وأقربائه، ثم أولى رعايته المساكين واليتامى والجيران ومن أشبه من ذوي الحقوق، فإنه يكون قد صرف فائضه مصرفه السليم، وإلا كان مبذّراً.



لذلك نجد القرآن الكريم حينما يأمرنا بإيتاء ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقوقهم، ينهي خطابه بالقول:«وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً»أي حينما نحصل على فائض ما، فلا ينبغي لنا صرفه في الطرق غير الشرعية. لاننا إذا لم نسر ضمن الجادة الشرعية، وجهنا الشيطان إلى التبذير وتضييع الطاقات والإمكانيات. والتبذير هو في نفس الوقت تضييع للمال والوقت والحق والفرصة، وهو بالتالي إفساد للحياة.



إن العلة الأساسية في كون المبذرين إخواناً للشياطين، أن الشيطان لم يكن شكوراً لربه حينما أنعم عليه، فتراه عوضاً عن أن يستفيد من نعم الله عليه أضاعها من بين يديه، فلم يستغلها الاستغلال الصحيح، فكفر بداعي التكبر والغرور.



إذن فإن ابن آدم مدعوٌّ قبل كل شيء إلى شكر نعم الله، وإلى أن يوليها حقها إلى ذوي الحقوق ؛ أي ذوي القربى، وهم الحلقة الاجتماعية الاولى.



إننا بحاجة ماسة للغاية في مجتمعنا الإسلامي إلى تجمعات أُسرية قائمة على أساس الإيمان، لتكون بمثابة المصدات بوجه أمواج التحلل والتفرقة والتضييع، هذه الامواج التي تشكل خطراً قاتلاً للمجتمع المسلم فكلما كان تلاحمنا أكثر، وكان عطاؤنا أوفر لحقوق المحيطين بنا من ذوي القربى والحاجة ، كلما استطعنا صدّّ الأمواج الجاهلية الغازية.



الإحسان محور العلاقة الأسرية



«وَقَضَى رَبُّكَ اَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَآ اُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً[([77])



نحن في الدنيا حلقة قبلها كانت حلقات، وبعدها ستكون حلقات؛ إنها سلسلة الوجود البشري منذ آدم الأول وحتى قيام الساعة.



فماذا نفعل تجاه آبائنا وأمهاتنا، مع الأخذ بنظر الاعتبار أننا سنكون فيما بعد أباً أو أماً؟..



ربنا تبارك وتعالى يؤكد علينا ضرورة وصل وربط هذه العلاقة بين الحلقات البشرية المشار إليها آنفاً، بل ويسمو بها إلى حد يذكرها بعد الإشارة المباشرة إلى أهليته للعبادة وحده فيقول:«وَقَضَى رَبُّكَ اَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[.



فإذا كانت العبادة لله، فإن الإحسان للوالدين، ويبقى هذا الاحسان ملازماً للعلاقة بين الولد ووالديه حتى وإن جاهداه على أن يشرك بالله؛ فهو مأمور بعدم إطاعتهما في هذا المجال، وبمعاشرتهما بالمعروف في الوقت نفسه.



إن من الخطأ الفاحش أن يبني المرء علاقته بوالديه على أساس الربح والخسارة، وعلى أساس التفكير النفعي، بل عليه التفكير بأن أمه قد حملته وهناً على وهن، وأن والديه هما الوسيلة التي جاء عبرها إلى الدنيا، ولولاهما لما سنحت له الفرصة في دخول جنان الله الأبدية.



فليس من الصحيح أن يعرف المرء أن أمه قد حملت به وأرضعته خلال ثلاثين شهراً أو أكثر، وأنها قد أعطته من روحها ودمها وطاقتها؛ أن يعرف كل ذلك ويتصوره ثم يفكر بماذا يمكن أن ينتفع بهاحينما يتقدم بها العمر.



إن المنطق والوجدان يدعوان المرء أن يهجر الفكرة النفعية، ويتوجه إلى فكرة الإحسان التي أمرنا الله بها.



فالأب يمثل خلاصة التأريخ للأسرة، وخلاصة لتطلعاتها. ولذلك فقد جاء في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بأنه قال رأي الشيخ أحب إليَّ من جلد الغلام ([78]) لأن الشيخ يختصر التأريخ والتطلعات والتجارب النافعة لابنائه وحفدته، فقد تنقذ تجربة واحدة من تجاربه الأسرة أو فرداً من افرادها من الموت الزؤام.



ومن هنا؛ فإن المؤمنين يحتفظون بالعلاقة الإيجابية بين الأجيال، وليسوا ممن يعتقدون بأن كل جيل يجب أن يفكر بنفسه وذاته فقط.



وعلى المرء أن يعرف بأنه إذا قطع علاقته بتأريخه الذي هو أبواه ، فإن أولاده سيقطعون علاقتهم به في يوم من الأيام، ولن يجد نفسه إلا في دار العجزة أو على قارعة الطريق، لأنه سيصبح -إذ ذاك- كائناً منبوذاً خارجاً عن نطاق الزمن.



وهناك قصة تؤخذ مأخذ الأمثال، تقول: أن أماً أعطت لابنتها مالاً لتشتري لجدتها وعاءً من الخشب، فسألتها: لماذا يا أمي ؟ فأجابت الأم: لأن جدتك تكسر الأوعية الخزفية. فذهبت البنت وابتاعت وعاءين. فسألتها الأم عن سبب ذلك، فقالت البنت: لقد اشتريت وعاءين، لأنك ستصبحين جدة عن قريب فتحتاجين للوعاء الخشبي الثاني!!



لقد جاءتنا الثقافة الغربية بأفكار خاطئة ؛ أفكار لا تتفق مع ثقافة الرسالة فهم فرطوا عقد الأُسرة والتأريخ، فتراهم ينبذون آباءهم وأمهاتهم إلى المراكز الصحية ودور العجزة وما أشبه، حتى يموتوا بغيضهم. ولكنهم يغفلون عن أن الزمن سرعان ما سيستدير عليهم، فيفرض عليهم العزلة والهجر كما فعلوا هم بآبائهم وأمهاتهم.



فحريٌّ بنا نحن المسلمين الرجوع إلى الدين الإسلامي الحنيف، فنحترم الآباء والأمهات ليكونوا محور علاقتنا الأُسرية، ووسيلة لتحقيق تطلعاتنا.



الأُسس الاقتصادية في القرآن





«يآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ اُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ»([79])



الأسس المتينة التي تعتمد عيها بصائر القرآن في المجال الاقتصادي نجدها في سور وآيات قرآنية عديدة، ومنها سورة المائدة المباركة، وفي آيتها الأولى بالذات؛ هذه السورة التي يمكن تسميتها بسورة الحضارة، وسورة تنظيم الحياة القائمة على أساس عقد الميثاق المشترك بين البشرية.



ففي هذه السورة، وابتداءً من الآية الأولى يبين القرآن الأسس المعتمدة لبصائره الاقتصادية. فالأصل في الرؤية القرآنية أن كل شيء حلال إلا ما حرمه الشارع المقدس، إذ الإنسان خلق متحرراً من القيود التي تحول دون انطلاقه وبحثه عن الرزق واستثمار طاقاته وإمكاناته في سبيل معاشه وتحريك عجلة الحياة، بعيداً عما تفرضه الجاهلية من عقبات كبرى أمام الحركة البشرية وتحول دون تحقيق رفاهها الحقيقي وأمنها الاقتصادي وسعادتها في المعاش.



وجاء الإسلام ورسالات الله جميعاً من اجل تحطيم هذه القيود والاغلال، لتفتح أمام الإنسان الآفاق الرحبة للتحرك والبحث عن الرزق.



والآية الكريمة المشار إليها تقرر أن الناس أحرار في عقد معاملاتهم فيما بينهم ، وذلك بما يتضمن تكريس التعاون والاستفادة من طاقاتهم وتنشيط فاعلياتهم وتنمية مواهبهم، وكذلك لتحقيق أهدافهم وتطلعاتهم.



بلى ؛ إن هناك حدوداً شرعية يفترض على الإنسان الالتزام بها، لأنها لا تعود إلا بالنفع وتحقيق مصلحته ، من حيث يعلم أو لا يعلم، إذ الله يرزقه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب.



وهذه الحدود في واقعها حدود مصالح الآخرين. فالإنسان حرٌّ في البحث عن مصالحه، كإعمار الأرض أو استخراج المعادن وإبرام العقود. ولكن حريته هذه لها حود متعلقة بمصالح الآخرين، إذ ليس من حريته أن يبغي عليهم أو يدوس على حرياتهم. ولذلك قال سبحانه وتعالى«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»أي أن الوفاء بما أبرم الإنسان من عقد اقتصادي يضمن عدم تضييعه لحقوق ومصالح من تعاقد معهم.



ويشرع الله للانسان حلّيّة الاستفادة من الانعام باستثناء ظروف وحالات معينة، كأن يكون اللحم حراماً من حيث تذكيته أو غصبيته، أو كون الإنسان محرماً في أيام وأرض الحج، إذ المفروض أن تعيش في تلك البقعة المباركة وفي تلك الأيام جميع مخلوقات الله دون استثناء حالة الأمن والسلم.



وهكذا يتضح أن الاقتصاد الإسلامي قائم على تشريع الحرية والتعاون واحترام حقوق الآخرين ومصالحهم.



القواعد السياسية في القرآن





«وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»([80])



إذا استنطقنا آيات القرآن الكريم عن قواعد السياسة في الإسلام، لأجابتنا بانها لا تخرج عن ثلاث قواعد أساسية، وهي التالية:



القاعدة الأولى: ولاية الله التي من شأنها جعل الناس يعتصمون بها، وتحول دون دخولهم في ولاية الشيطان، وتنفي الطاغوت من حياتهم، وتخلصهم وتحررهم من الجبت.



فولاية الله شرف الإنسان، لأنها تعني أن الخالق عز وجل لم يغلَّ يده ولم يكل الناس إلى أنفسهم. فهو قد شرّفهم وكرمهم بأن جعل هذه الولاية بمثابة سفينة النجاة وحبل الاعتصام لهم ، فإذا اعتصموا به استطاعوا التعالي على كل صعوبة في حياتهم.



ولا يخفى أن ولاية الله تعني ولاية الرسول والأئمة والصالحين من عباده الذين يمثلون ذات الخط الإلهي، وهي تعني ولاية العدل والزهد والتقوى والفضيلة والإيثار والفقه.



ولما كانت ولاية الله الركيزة الأولى ، فهي تنسجم أيضاً مع التشريع الصحيح النازل من السماء، فلا احد له الحق في التشريع غيره، بل المشرع الأوحد للإنسان، هو خالق الإنسان لأنه هو الرب المعبود دون سواه.



القاعدة الثانية: الشورى في الحكم الداخلة في إطار ولاية الله سبحانه وتعالى، وتبعاً لهذا أصبح لزاماً على المؤمنين أن يديروا شؤونهم بالفكر الجمعي؛ بمعنى اجتماعهم على تبادل ما يفهمونه من الأفكار القرآنية فيستفيدون من عقولهم المتنوعة ، على ان يشارك الواحد منهم الآخرين في عقولهم وعلومهم. وبهذه القاعدة يمكن تركيز الخبرة، وترشيد الحكمة، وتكريس الجهود، والاقتراب من العدل.



القاعدة الثالثة: وجوب الدفاع عن النفس ومقاومة البغي، حيث نجد الله سبحانه وتعالى يامرنا في آيات كريمة من سورة الشورى بهذه القواعد الثلاث. فالمجتمع المؤمن حينما يملك جوهرة لا تثمن ، وهي جوهرة ولاية الله وجوهرة الشورى، لابد له من الدفاع عما يملك بكل شجاعة وحزم وصمود.



البشرى والانذار في القرآن





]كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَاَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ»([81])



بمجرد أن ينفتح الإنسان المسلم على القرآن المجيد، فإن قلبه ينغمر بنوره، فإذا به يتفاعل معه ويعمل به ويشهد عليه؛ أي يكون شاهداً على تطبيقه بين الناس، نظراً إلى ان القرآن كتاب علم وحكم، وكتاب شرائع ومناهج، كتاب يحمل في طياته أدوات تنفيذه. فهو ينذر بعقاب الله، ويبين خلال آياته ألوان العقاب الذي قد أعدَّ لمن لم يطبّقه وأعرض عنه بداعي التكبر عليه والابتعاد عنه، وهو -في الوقت ذاته- كتاب يحوي ألوان البشارة بالجنة والرضوان لمن طبقه ونفذ أوامره وعمل بوصاياه بداعي التقوى ونية الاقتراب إلى الخالق الجليل.



إذن؛ فالقرآن يحمل في داخله أدوات تنفيذه، ولكننا نرى -مع كل ذلك- من يقرا كتاب الله فلا يطبقه، ونرى أيضاً من هو مصداق لنص الحديث الشريف المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله حيث يقول: رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه ([82])



إن السبب في ذلك هو أن هذه الشريحة من القرّاء يحجبون عقولهم وأنفسهم عن آيات الذكر الحكيم، فهم يقرؤون الألفاظ ولا يتعمقون في المعاني؛ فلا ينفذون إلى الحكمة والبصيرة، فتراهم ينصرفون عن معاني الآيات، لأنها تحجبهم بنورها.



أما الذين يحملون في داخلهم قلوباً طاهرة، والذين يقول عنهم ربنا تبارك وتعالى:«لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»([83]) أي أولئك الذين طهر الله قلوبهم بالإيمان والتقوى والتزكية، فهم حينما يقرؤون الكتاب الكريم؛ يقرؤونه بطريقة أخرى، فإذا بلغوا آية فيها ذكر للعقاب قرؤوها مخاطبين أنفسهم، بها حيث تمر على أذهانهم جميع صور العذاب الإلهي الأليم ، وكأنهم يتعرضون له قبل غيرهم، أو كأنهم هم المعنيون بها دون غيرهم وإذا قرؤوا آية فيها ذكر الثواب والبشارة، مرت على خواطرهم صور الجنة والرضوان ، حيث يكون المؤمن في الدار الآخرة عند مليك مقتدر، فيبشرون أنفسهم بها ، ويصممون على حيازة الجنة الخالدة والرضوان الإلهي الكريم، فتراهم يسعون ويجتهدون حتى يصبحوا ممن تنالهم رحمة ربهم وفضله، وأعظم بهما من رحمة وفضل.



بين الجنة والنار





«مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً»([84])



الدنيا تحوي فريقين فريق الجنة وفريق النار.



ولكن هل أن الله سبحانه وتعالى خلق الفريق الأول، وكتب له دخول الجنة منذ اليوم الأول؟ وهل الأمر كذلك بالنسبة لأصحاب النار؟



الجواب ليس إلا النفي القاطع إذ أن الدنيا عبارة عن خليط من النور والنار، ومن الخير والشر ، ومن الفضيلة والرذيلة ، وما على ابن آدم سوى الاختيار والانتخاب.



ففي بداية الحياة حيث يختلط الهوى بالعقل ، والجهل بالعلم، والشهوة بالإرادة، لا يعرف الإنسان كيف ينتخب. ولكن هذه المعاذير تسقط بمرور الزمن، وبتقدم الإنسان في العمر، فلا يعذر بحال من الأحوال أن يبقى جاهلاً أو متردّداً ، بل لا مناص له من انتخاب أحد الطريقين.



فمن اختار طريق الجنة اضطر إلى أن يسعى لها سعيها ، فأصبح مؤمناً صالحاً، فيكتب الله له السعادة الأبدية. ومن اختار الطريق الآخر وأعرض عن طريق الجنة، خلد إلى الهاوية.



إن الجنة بحاجة إلى سعي حثيث وجهد متواصل، أما النار فيكفي للسقوط فيها مجرد استرسال المرء في شهواته.



إذن؛ فالناس هنا في هذه الحياة الدنيا يكتبون على أنفسهم أحد المصيرين ، وربنا سبحانه وتعالى يبين هذه الحقيقة بوضوح بالغ في سورة الإسراء المباركة، حيث يقول :«مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ»أي أن مَن اختار الدنيا العاجلة بزخارفها ومظاهرها من طعام وشراب ومسكن وزينة وأهواء«عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ»فإن الله يعطيه. ولكن بما يريد هو لا مخلوقه الآثم هذا، إذ ليس كل من أراد الدنيا حصل عليها بما تمنى.



«ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ»ففي مقابل هذه الدنيا التي منح، تكون جهنم مأواه الأخير«يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً[، حيث العنت والألم الدائم. ولا يمكن تصور احتمال تعوده عليهما، بل تبقى الهزيمة الساحقة تلاحقه في كل لحظة من لحظات وجوده في النار، ويبقى الإحساس بالعذاب المهين هو المستولي الدائم عليه، فلا أحد ينصره أو ينفعه من دون الله.



ولكن من أراد الجنة وسعى لها سعيها، استعدّ لدفع الثمن، ذلك لأن الجنة حُفّت بالمكاره والصعاب، فبذل من التضحية والصبر والاستقامة على ما أُمر به ما وسعه. فالمجاهد يطلب الجنة ويبذل دمه ثمناً لهذا الطلب، والشاب الصابر على شهواته والكاف عن الاسترسال معها فإنه يدفع ثمن الجنة بصبره هذا.



«وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً»فبقدر ما عملوا حصلوا على النتائج المرضية.



استعداداً ليوم القيامة



«وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»([85])



ماذا لو أُوتيت في يوم القيامة كتاباً فيه إحصاء لكل ما فعلته؛ كتاباً لا يغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها؟ وماذا لو وجدت أعمالك حاضرة، وعرفت أن أنفاسك ولحظات عينيك ووساوس قلبك وخواطر فكرك كلها قد أحصيت إحصاءً دقيقاً، وقدمت إليك باعتبارها صحيفة أعمالك، وعليها يتعلق مصيرك؟



من الطبيعي أنك ستندم في ذلك اليوم -والعياذ بالله- وإن كنت صالحاً في الحياة الدنيا!!



وذلك لأن من أسماء يوم القيامة هو يوم الحسرة ؛ إذ تأخذ المنافق والفاجر والكافر الحسرات، ويعض الظالم على يديه، ويقول الكافر ياليتني كنت تراباً. أما الإنسان المؤمن فهو الآخر يعض أصابع الندم ويقول متحسّراً: لو كنتُ أعرف بأن حساب يوم القيامة على هذه الدرجة من الدقة، وعلى هذا المستوى من العقاب والثواب، لكنت استزدت من فعل الخيرات والصالحات.



ترى ما هي حقيقة هذا الكتاب؟!



ربما كان في يوم من الأيام صعباً على العقول الضيقة والنفوس الضعيفة أن تعتقد بهذه المقولة القرآنية، حيث تجمع اعمال الإنسان كلها في كتاب أو صحيفة واحدة. أما اليوم فقد أثبت التطور العلمي الالكتروني أن من السهل جداً جمع هذا الكم الهائل من المعلومات في قرص مدمّج واحد، ولعل المستقبل سيشهد تضييق المساحة بصورة أعقد لحشد المعلومات؛ لا سيما وأن كل شيءٍ قد أصبح محتملاً ومعقولاً ، بل إن العلم الحديث قد اكتشف بأن خلية واحدة تحوي من المعلومات عن جسم الإنسان بمقدار مكتبة تضم الملايين من الكتب.



إن خارطة الأعمال كلها ستظهر للعيان، حيث يقول سبحانه وتعالى واصفاً محكمة يوم القيامة:«يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ»([86]) أي أن خفايا النفس ستظهر هي الأخرى، فضلاً عن تجسّد الأعمال ، حيث يتحول الكذب إلى ريح نتنة تتأذى منها الملائكة ، وحيث يتحول أكل مال اليتامى ناراً، وحيث يتحول الظلم إلى ظلمات بعضها فوق بعض.



فالإنسان مسؤول على أن يعي هذه الحقائق، وأن يعد العدّة المناسبة لما يمكن أن يقع فيه في يوم القيامة.



فالكائن البشري ليس شأنه كشأن باقي الأحياء وجدت لتعيش دونما مستقبل ، بل هو مخلوق بكرامة فينبغي له أن يعيش بكرامة ، ويموت بكرامة، ويبعث ويحاسب ويدخل الجنة بكرامة، ذلك لأنه منذ اللحظة الأولى لوجوده كان ضيفاً لدى خالقه الكريم، فلينظر كيف يلتزم بأدب الضيافة هذه.






([1] ) بحار الانوار، ج89، ص19.



([2] ) ميزان الحكمة، ج8، ص67



([3] ) تفسير البرهان، ج1، ص7.



([4]) نهج البلاغة، كتاب 47



([5]) ميزان الحكمة، ج8، ص73



([6]) نهج البلاغة ، خطبة رقم 110.



([7]) بحار الأنوار، ج89، ص19.



([8]) موسوعة الفقه، ج98، ص186



([9]) ميزان الحكمة، ج8، ص81.



([10]) بحار الأنوار، ج89، ص204.



([11]) موسوعة الفقه، ج98، ص212.



([12]) ميزان الحكمة، ج8، ص74.



([13]) ميزان الحكمة، ج8، ص75.



([14] ) موسوعة الفقه، ج98، ص187.



([15] ) الفرقان / 27-32.



([16]) هود/1.



([17]) الانعام/ 104.



([18]) الاسراء/ 9.



([19] ) بحار الانوار، ج47، ص399.



([20]) فصلت 44.



([21] ) بحار الانوار، ج8، ص133.



([22]) الاسراء / 9-10.



([23]) الاسراء /7.



([24]) البقرة/ 143.



([25]) المائدة /15-16.



([26]) بحار الانوار، ج89، ص107.



([27]) النحل / 43-44.



([28]) بحار الانوار، ج36، ص227.



([29]) النور /36-37.



([30]) الزمر/ 9.



([31]) محمد /24.



([32]) بحار الانوار، ج89، ص107.



([33]) البقرة/ 23-24.



([34]) فصلت/ 42.



([35]) المائدة /8 .



([36]) البقرة/ 179.



([37]) البقرة/ 188.



([38]) المطففين /22-28.



([39]) بحار الانوار ج10، ص 92.



([40]) بحار الانوار، ج73، ص176.



([41]) الدخان/ 1-5.



([42]) الحشر/ 21.



([43]) بحار الانوار، ج4، ص310.



([44]) الشورى/ 52.



([45] ) الاسراء/ 85.



([46]) البقرة/ 146-147



([47]) المائدة 35.



([48]) آل عمران /7.



([49]) بحار الانوار، ج81، ص234.



([50]) بحار الانوار ، ج81، ص228.



([51]) الحج /32.



([52]) بحار الانوار، ج89، ص185.



([53]) بحار الانوار، ج89، ص107.



([54]) موسوعة الفقه، ج98، ص187.



([55]) ميزان الحكمة، ج8، ص75.



([56]) المصدر السابق.



([57]) الزخرف/ 28.



([58]) المنافقون /8.



([59]) الاسراء /31-33.



([60]) المائدة 32.



([61]) التكوير/ 8-9.



([62]) بحار الأنوار، ج72، ص149.



([63]) الاسراء/ 29-30.



([64]) الاعراف/ 157.



([65]) الاعراف/ 32.



([66] ) البقرة/ 2.



([67]) الزمر/ 18.



([68]) الزمر/ 17-18.



([69]) السجدة/ 24.



([70]) البقرة/ 156.



([71]) بحار الانوار، ج45، ص46.



([72]) هود/ 112-113.



([73] ) الشرح/ 5-6.



([74]) الطلاق/ 2-3.



([75]) يونس /25.



([76]) الاسراء/ 26-28.



([77]) الاسراء/ 23-24.



([78]) بحار الانوار، ج71، ص178.



([79]) المائدة/ 1.



([80]) الشورى/ 38.



([81]) فصلت/ 3-4.



([82]) بحار الانوار ، ج89، ص184.



([83]) الواقعة/ 79.



([84]) الاسراء /18-20.



([85]) الاسراء /13-14.



([86]) الطارق/9.



/ 4