حياته في ظل الاسلام
تحدثنا عن عمق إيمان حجر ووعيه، وقد دفعته هذه العقيدة إلى التضحية بكل شيء، فى سبيل الدفاع عن الاسلام ونشره وتحقيق أهدافه المنشودة، وبما ان المشركين والكفّار والطغاة رأوا في الاسلام عقبة كأداء أمام أطماعهم، وأنه سيبدّد تقاليدهم ومعتقداتهم وحياتهم الجاهلية، فقد وقفوا بوجهه، وحاربوه بمختلف الاساليب والممارسات العسكرية والاعلامية وغيرها، لذلك كان من الضروري للمسلمين الرساليين الدفاع عن هذا المولود الجديد، والحفاظ عليه من كل التحدّيات، بالاضافة إلى أن الاسلام شريعة عامة للبشر كلهم، ولا تقتصر على قريش أو جزيرة العرب أو العرب وحدهم، بل لابد من نشرها لشعوب العالم كافة. ولسنا في مجال الحديث عن مبررات ودوافع الجهاد بقسميه، الابتدائي والدفاعي في الاسلام، فله موضع آخر، ولكن نشير اليها بايجاز. ولعل اهم مبررات الجهاد الابتدائي، وقد تكون الحكمة في تشريعه، هي:
1 ـ ازالة العقبات عن طريق الرسالة الالهية، حيث هناك عقبات من افراد أو معتقدات أو تقاليد ربما تسمى بعوامل الفتنة تمنع من وصول صوت الرسالة للشعوب، أو تمنع من الالتزام والعمل بها، لذلك لزم رفع هذه العقبات، ولعل الاية الشريفة تشير لهذا العامل (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)، وتوضيح الفتنة وهذا العامل اكثر في محله، وبعد ان تزول عوامل الفتنة، فان الفرد أو المجتمع سوف يتعرف على مبدئه بكل حرية وموضوعية، ولا يكره الاسلام احداً على اعتناقه (لا اكراه في الدين)والتاريخ شاهد على ذلك وأنه حين زالت عوامل الفتنة اندفع الناس للاسلام عن اختيار ووعي.
2 ـ الدفاع عن القيم والحقوق الانسانية، فهناك بعض الحقوق والقيم تملك قيمة مطلقه لا تتحدد بزمان ومكان، ولعل اهمها الايمان بالله بمعناه الصحيح عقيدة ونظاما، بل انه الاساس المحكم لسائر القيم، ولولاه لفقدت سائر القيم والحقوق الدافع المتين للالتزام بها والثبات عليها، ولو تعرض هذا الحق للاغتصاب، لزم على من تعرض لذلك الدفاع عن حقه، بل ربما وجب على غيره لو تمكن ولو لم يتعرض لذلك، كما لو تعرض انسان للغرق وجب على الاخرين انقاذه، ولو لم يتعرض هو للغرق، أو لم يستنجد الغريق به، فان لسان حاله طلب النجدة، وهكذا من يعيش واقعاً منحرفاً بعيداً عن الايمان، فانه يستنجـد بالاخـرين للـدفاع عـن حقـه، ولعلـه لـذلك تشير الاية الشريفة (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا اخرجنا من هذه القرية الظالم اهلها)، ولا تعني الاية الشريفة انهم يقولون ذلك، بل ان واقعهم والحالة التي يعيشونها تستنجد وتقول.
وهناك اياد وعوامل مختلفه تعمل على تطبيع الشعوب على هذه الحالة المنحرفة.
ولعل المبررات للجهاد الابتدائي والحكمة فيه غير ما ذكرناه، مع العلم بان العلماء يشترطون اذن المعصوم في الجهاد الابتدائي.
واما مبررات الجهاد الدفاعي العام فلعلها تتلخص بالدفاع عن بيضة الاسلام، التي تتمثل بالدفاع عن وجود الاسلام ومعالمه، أو بالدفاع عن وجود المسلمين، أو بالدفاع عن الحكم الاسلامي الصحيح، حين تتعرض هذه المجالات الثلاثة لخطر الابادة من قبل الاعداء. وقد درسناها اكثر في فصل آخر.
وهناك قسم الجهاد الدفاعي الخاص حيث يتعرض الفرد الى هجوم على نفسه أو عرضه أو ماله، وهو مما لا يرتبط بدراستنا.
وتوضيح هذه الاقسام والمبررات وما يتعلق بها من مسائل وبحوث ليس هنا موضع ذكرها، وانما ذكرناها هنا بايجاز ونترك التوسع لمن يريده.
وقد تزعّم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في البداية هذه الحركة، حركة الدفاع والنشر، ثم المسلمون من بعده، وإن دخلت أحياناً في حركة الفتوح بعض الاغراض التي خرجت بها عن مسارها الاسلامي الصحيح، وهكذا امتدت حركة الفتح من مكة والمدينة، لتهز عروش قيصر وكسرى، ولعبت حرارة العقيدة دوراً كبيراً في تحقيق الانتصارات، وبطبيعة الحال لابد لحجر، بحكم عقيدته وواجبه، أن يندفع للدفاع عن الاسلام ونشره، وكذلك للدفاع عن ولائه للامام(عليه السلام)، الذي وجد فيه الاسلام الاصيل، وطريق الفلاح في الدنيا والاخرة.
ونستطيع تقسيم دور حجر في ذلك الى مرحلتين:
دوره قبل خلافة الامام(عليه السلام):
لم يوضح التاريخ مواقف حجر ودوره قبل خلافة الامام(عليه السلام) إلاّ بعض المقتطفات. ويذكر المؤرخون أنه شارك في حركة الفتح التي ذهبت للشام، وأنه هو الذي فتح مرج عذراء، وبتصريح حجر نفسه كما سيأتي، وأنه قد شارك في معركة القادسية، وأنه من ا لذين كتبوا إلى عثمان من الكوفة ينصحونه، وأنه من الذين شهدوا موت أبيذر في الربذة. يقول ابن سعد: وشهد حجر القادسيّة، وهو الذي افتتح مرج عذراء [65].
وفي الاصابة: وأن حجر بن عدي شهد القادسية، وقتل بمرج عذراء بأمر معاوية، وكان حجر هو الذي افتتحها فقدر أن قتل بها، وقد ذكر ابن الكلبي جميع ذلك [66].
ويقول ابن عساكر: وكان ـ حجر ـ مع الجيش الذي فتح الشام [67].
وفي الكامل: لما قدم حجر للقتل في مرج عذراء قال: أما والله لئن قتلتموني بها فاني لاول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابه [68].
وفي تاريخ اليعقوبي: أن حجراً قال في مرج عذراء: وإني لاول من رمى بسهم في هذا الموضع وأول من هلك فيه [69].
وبعد هذه النصوص، لا وجه لما ذكر في دائرة المعارف الاسلامية: ويقول الشيعة أيضاً إنه ـ أي حجر ـ شهد فتوح الشام الاولى حيث فتح إقليم مرج عذراء، ولكن هذا القول كسابقه لا يستند إلى سند قوي [70].
والملاحظ أن بعض المستشرقين في كتبهم، وخاصة في دائرة معارفهم، يحاولون تشويه التاريخ الاسلامي ورجال المسلمين، وخاصة التاريخ الاسلامي الصحيح، والرجال المؤمنين بالاسلام الاصيل لاهداف غير مجهولة.
ومع قول المؤرخين بانه كان مع الجيش الذي فتح الشام، فلا يبعد ان يكون اول رجل دخل مرج عذراء في الشام، مع تصريحه وتصريح المؤرخين بذلك، وهو ثقة فيما ينقل، بل يظهر من قول الطبقات بانه هو الذي افتتح مرج عذراء وانه كان قائداً لاحدى الفرق، ولم يكن مقاتلاً عادياً، وهذا ما يتناسب وشخصيته الاسلامية والاجتماعية.
وكان حجر من الافراد الذين شهدوا موت أبيذر في الربذة، بعد أن نفاه إليها عثمان، حين استنكر عليه تصرّفاته وتصرفات عمّاله المنافية للاسلام. وقد ثبت عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال عن موت أبيذر: انه يشهد موته عصابة من المؤمنين، وكان حجر من المؤمنين الذين شهدوا موته في الربذة [71].
وهذا القول يدلّ على مدح حجر، وأنه من المؤمنين بشهادة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، لانه ممن شهد موت أبيذر في الربذة.
ففي الاستيعاب: ثم خرج ـ أبوذر ـ بعد وفاة أبي بكر إلى الشام فلم يزل بها حتى ولّي عثمان، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية، فنفاه وأسكنه الربذة، فمات بها، وصلّى عليه عبدالله بن مسعود، صادفه وهو مقبل من الكوفة مع نفر من فضلاء أصحابه، منهم حجر بن الادبر، ومالك بن الحرث الاشتر، وفتىً من الانصار، دعتهم امرأته إليه، فشهدوا موته، وغمضوا عينيه وغسّلوه وكفنوه في ثياب للانصاري، في خبر عجيب حسن فيه طول [72].
وفي الاصابة: وروى ابن السكن وغيره من طريق ابراهيم بن الاشتر عن أبيه أنه شهد هو وحجر بن الادبر موت أبيذر في الربذة [73].
وكان حجر من الافراد الذين اعترضوا على عثمان، و نصحوه بالكفّ عن تصرّفاته وتصرّفات عمّاله، ففي أعيان الشيعة: وكان حجر بن عدي فيما رواه أبو مخنف من جملة الذين كتبوا إلى عثمان من رجال أهل الكوفة ونسّاكهم وذوي بأسهم، ينقمون عليه اُموراً وينصحونه وينهونه عنها وكانوا اثني عشر رجل [74].
فقد كتب الى عثمان جماعة من اهل الكوفة منهم حجر حول واليه على الكوفة سعيد بن العاص رسالة جاء فيها: (ان سعيداً كثّر على قوم من اهل الورع والفضل والعفاف، فحملك في امرهم ما لا يحل في دين ولا يحسن في سماع، وانا نذكرك الله في امة محمد، فقد خفنا ان يكون فساد أمرهم على يديك، لانك قد حملت بني ابيك على رقابهم، واعلم ان لك ناصراً ظالماً، وناقماً عليك مظلوما، فمتى نصرك الظالم ونقم عليك الناقم تباين الفريقان، واختلفت الكلمة، ونحن نشهد عليك الله وكفى به شهيدا، فانك اميرنا ما اطعت الله واستقمت، ولن تجد دون الله ملتحداً ولا عنه منتقذاً) [75].
دوره في خلافة الامام(عليه السلام):
لا ينكر أيّ مؤرخ أن حجراً كان من الموالين للامام(عليه السلام)، وكانت هذه الموالاة سبب قتله، باعتراف المؤرخين والمترجمين لحجر، ولم يكن ولاؤه لاهداف مادية، بل كان عن وعي وبدافع إلهي وإسلامي، لانه كان يرجو في ذلك الفوز بالجنة، وكان يرى في اتّباع الامام(عليه السلام)وولائه، طريق الفلاح في الدنيا والاخرة، كما صرّح حجر نفسه بذلك في الكثير من أحاديثه ومواقفه، وتمثلت هذه الحقيقة في حياته وتضحياته في سبيل الولاء.
إذن فولاؤه وتشيّعه لا ينكره أحد. يقول ابن سعد: وكان ـحجرـ من أصحاب علي بن أبي طالب [76].
ويقول ابن حجر: وصحب علياً فكان من شيعته [77]. وشهد حجر مع علي بن أبي طالب(عليه السلام) الجمل وصفين فقتل في موالاة علي [78].
ولاجل تشيعه وولائه الراسخ للامام(عليه السلام)، ساهم في كل المعارك التي اضطر إليها الامام(عليه السلام) لمواجهة المتمردين، من الناكثين والقاسطين والمارقين.
سيرة الامام(عليه السلام) ومواقفه:
والحديث عن الامام(عليه السلام) وخلافته ذو شجون، فمنذ وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)كان البعض يرى في وجوده خطراً يتهدد أطماعهم، ولا نريد أن ندخل في التفاصيل، فانها طويلة. وقد كتب علماؤنا والباحثون المتخصّصون والمحققون في هذا الموضوع الكثير من الدراسات بما يلقي الضوء على الكثير من القضايا التاريخية والعقائدية ويزيل التشويهات والتحريفات عنها، وتواجه الكثير من الشبهات والاعتراضات التي يوجهها البعض الى مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، ولسنا في مجال البحث عنها هنا، إذ تحتاج لفرصة، ولدراسة واسعة، وانما نذكر بعض النقاط مع التأكيد على القارئ الكريم في مراجعة تلك الكتب والدراسات التي كتبها الباحثون المحققون ليتعرف على الاراء الصائبة في هذه القضايا، والشواهد التاريخية على آرائهم، وقد اشرنا في الهامش الى بعض هذه الكتب. ونكتفي هنا بهذا العرض الموجز بما يتعلق بموضوع دراستنا.
إن الامام(عليه السلام) بعد تولّيه الخلافة لم يدخل هذه الحروب الثلاثة، الجمل، وصفين، والنهروان مختاراً، وإنما اضطرته الظروف القاهرة إليها، ففي فترة خلافته، بعد مطالبة الناس له بتقبل هذه الخلافة، حاول تطبيق الشريعة الاسلامية بكل قوة، فرد الحقوق والاموال المغتصبة إلى أهلها، وعزل العمال المنحرفين السابقين، ولم يستجب لرغبات المنتفعين في خلافة عثمان، وعين من قبله عمالاً وولاة، إلى غير ذلك من الاصلاحات والاعمال التي تستهدف إعادة القسط والعدل للبلاد الاسلامية، ولكن اولئك الذين ضربت مصالحهم، او كانوا يشكلون عنصر تشويش و اضطراب بين المسلمين، والذين ارادوا من الامام(عليه السلام)ان يستجيب لرغباتهم غير المشروعة، وحاولوا حرف الخلافة عن مسارها الاسلامي الصحيح، وبعض الزعماء والافراد الذين حرضوا على الاطاحة بخلافة عثمان، والذين كانوا يحلمون ببعض الامتيازات والمطامع، أدركوا أنهم لن يتوصّلوا إلى أهدافهم في ظل خلافة الامام(عليه السلام)، فلم يسكتوا، بل تمرّدوا على هذا النظام الاسلامي العادل، ولكن لم يسفروا عن أهدافهم، بل تقنعوا ببعض الشعارات الزائفة، التي يعلمون هم انفسهم قبل غيرهم بانها لم تكن الا ستاراً لاطماعهم، امثال الثأر لعثمان، ودفعوا الامام(عليه السلام) دفعاً الى خوض هذه الحروب الداخلية، فهذه الحروب الداخلية الثلاث خاضها الامام(عليه السلام) لمواجهة المتمردين الذين ضربت مصالحهم، فتمرّدوا، من أجل الوصول الى مآربهم الشخصية، او كانوا كالخوارج، يشكلون عنصر قلق وتشويش داخل الامة الاسلامية حيث كانوا حجر عثرة في سبيل تحقيق الاهداف الاسلامية، وبذلك اضطر الامام(عليه السلام) لمحاربتهم، حتى لا يسقط الحكم الاسلامي بأيدي هؤلاء الناكثين والقاسطين والمارقين، وبذلك يكون قد ساعد على انحراف الحكم الاسلامي والمسلمين.
وقد رفع بعض البغاة المتمرّدين شعار الثأر لقتل عثمان، ولكن، اين هذا مما صرّح به بعض قادة المتمردين أنفسهم، وكما يشهد به التاريخ، بما فيه التاريخ المعارض للامام(عليه السلام) والشيعة، بأن الامام(عليه السلام)وان كان يستنكر على عثمان وحاشيته الكثير من مخالفاتهم وتصرفاتهم غير الشرعية، (حيث كان باستمرار يجهر بالحقيقة مرة بعد اخرى وقد حاول اسداء النصيحة لعثمان في العديد من المناسبات حتى ضاق به ذرعاً، ولكنه لم يكن يرى أن علاج الامر بهذا الاسلوب الانفعالي العنيف هو الطريقة المثلى، وقد نقل عنه(عليه السلام) قوله في عثمان: انه استاثر فاساء الاثرة وجزعوا فأساؤوا الجزع) [79].
وقد ذكر الطبري ان القوم حينما نزلوا ذا خشب يريدون قتل عثمان ان لم ينزع عما يكرهون، وعلم عثمان ذلك جاء الى منزل علي(عليه السلام)فقال: يابن عم، انه ليس له متّرك. وان قرابتي قريبة، ولي حق عظيم عليك وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبّحي وانا اعلم ان لك عند الناس قدراً وانهم يسمعون منك، فانا احب ان تركب اليهم فتردهم عني ... فقال علي: علام اردهم؟ قال: على ان اصير الى ما اشرت به علي ورأيته لي، ولست اخرج من يديك. فقال علي: اني قد كنت كلمتك مرة بعد مرة فكل ذلك نخرج فتكلم ونقول وتقول. (وفي نقل ابن ابي الحديد عن الطبري: فكل ذلك تخرج وتقول، وتعد ثم ترجع) وذلك كله فعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن عامر ومعاوية اطعتهم وعصيتني [80].
وقد قام الامام(عليه السلام) بعد ذلك بمحاولة تهدئة الثائرين، ولكن جاء مروان بعد ذلك فغير من رأي عثمان.
وقد قال الامام (عليه السلام) في موضع آخر مخاطباً عثمان: والله اني لاكثر الناس ذباً عنك، ولكن كلما جئت بشيء أظنه لك رضاً، جاء مروان بغيره، فسمعت قوله وتركت قولي [81].
والملاحظ ان الامام(عليه السلام) وان لم يكن معتقداً بشرعية هذه الخلافة او غيرها لاسباب معروفة، لانه هو الخليفة الحقيقي بنص الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في احاديث كثيرة، ولما يملكه من خصائص تفوق الاخرين، يعترف بها الجميع، لذلك كان يؤكد ويطالب بحقه في مواقف وأحاديث كثيرة، ولكنه(عليه السلام) لاجل رعاية المصالح الاسلامية العليا، والحفاظ على كيان الاسلام ومعالمه ووجود المسلمين، ولعدم وجود العدد الكافي من المناصرين له لو طالب بحقه المغتصب، مع انحراف البعض وسكوت البعض الاخر تجاه اغتصاب الحق، نتيجة لمختلف اساليب الارهاب والاغراء والانحراف التي استخدمها البعض لاسكات المسلمين، لم يتخذ المواقف المشددة منها، بل كان يقدم يد النصح كثيراً، لما فيه مصلحة الاسلام والمسلمين، مع استنكاره للكثير من الامور والحوادث آنذاك.
وقد ذكر الامام(عليه السلام) موقفه، وموقف معاوية من عثمان في جوابه على رسالة معاوية اليه ثم ذكرت ما كان من امري وامر عثمان، فلك ان تجاب عن هذه لرحمك منه، فاينا كان اعدى له واهدى الى مقاتله. ام من بذل له نصرته فاستقعده واستكفه، ام من استنصره فتراخى عنه وبث المنون اليه، حتى أتى قدره عليه. كلا والله (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم الينا ولايأتون البأس الا قليلا) وما كنت لاعتذر من اني كنت انقم عليه احداثاً، فان كان الذنب اليه ارشادي وهدايتي له، فرب ملوم لا ذنب له وقد يستفيد الظنة المتنصح، وما اردت (الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب) [82].
وقد قدم الثائرون من مصر والكوفة والبصرة، وساعدهم بعض أهل المدينة استنكاراً لسياسة عثمان وعماله وتصرفاته، حيث استأثروا بأموال المسلمين، وقرّب عثمان إليه بني أمية، وجعلهم من حاشيته وعمّاله، وغيرها من الاعمال [83]، وقد أنكر على عثمان، الكثير من الصحابة وغيرهم، أمثال الامام(عليه السلام)وأبي ذر وعمار وابن مسعود و حجر و غيرهم، ولكن الحكم القائم لم يبال باستنكارهم ونصائحهم، واستمرّ في تصرفاته حتى انفجرت الثورة. وبالرغم من أن الحكم القائم قد استجاب لمتطلباتهم، حيث اعلن عن استجابته امام الرأي العام، ولكنه كان من وراء الستار يخطط للقضاء عليهم، والاستمرار في سياسته، وراسل عماله أن يمدوه بالعدّة والعديد للقضاء على المعارضة، وبعد أن فشلت كل محاولات الامام(عليه السلام) في إصلاح وتغيير سياسة الحكم القائم، وفي تهدئة الثائرين، تراجع عن موقفه لانه رأى أن الحكم القائم يحاول أن يتخذه وسيلة لتمرير مخططاته، حتى يسكت الثائرون مدّة، ثم يجمع العدّة والعديد وينقض عليهم، ثم يستمر في سياسته [84]، وفي استيلاء بني اُمية وأمثالهم على الملك، كما اعترف بذلك مروان بن الحكم، حين خاطب الجماهير الغاضبة، وكما جاء في تاريخ الطبري: فخرج مروان إلى الباب، والناس يركب بعضهم بعضاً، فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم؟ كأنكم جئتم لنهب. شاهت الوجوه. كل إنسان آخذ باذن صاحبه، ألا من اُريد؟ جئتم تريدون ان تنزعوا ملكنا من أيدينا؟، اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرنّ عليكم منا امر لا يسرّكم، ولا تحمدوا غبّ رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدين [85]، ولم يحاول النظام القائم تغيير وإصلاح نفسه، رغم وعوده وعهوده [86].
فالامام(عليه السلام) كان موقفه من هذه الثورة موقف المصلح واعادة الحكم القائم الى العمل بالتعاليم الاسلامية وما فيه مصلحة الاسلام والمسلمين، واتخاذ الطريقة المناسبة في مواجهته. أمّا اُولئك الذين طالبوا بدم عثمان، فالتاريخ يشهد بانهم كانوا من اشد المحرضين على قتله، (وليس الدافع لامثال هؤلاء على التحريض والاستنكار هو الانتصار للحق والمظلومين، وانما من اجل الحصول على بعض المكاسب الدنيوية) [87] كما ظهر ذلك في مواقفهم بعد ذلك بل وقبل ذلك، فبعضهم كان يطمع بالخلافة، أو بالتوصل لبعض المصالح، كما تدل على ذلك الشواهد التاريخية المذكورة في موضعها.
فعائشة مثلاً، كانت تحرّض على قتل عثمان، وكانت، كما ينقل التاريخ، (تشنّع على عثمان، وتحض عليه، وتخرج راكبة بغلة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعها قميصه، وتقول: هذا قميص رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ما بلي، وقد بلي دينه، اقتلوا نعثلاً ـ اي عثمان ـ قتل الله نعثلاً.فلما صار الامر الى علي كرهته، وعادت إلى مكة، بعد أن كانت متوجّهة إلى المدينة، ونادت: ألا إن الخليفة قتل مظلوماً فاطلبوا بدم عثمان) [88].وأما عمرو بن العاص فقد روى الطبري أنه كان شديد التحريض والتأليب على عثمان، فلما كان حصر عثمان الاول خرج من المدينة إلى أرض له بفلسطين، فبينا هو جالس في قصر له ومعه ابناه وسلامة بن روح إذ مرّ بهم راكب، فناداه عمرو: (ما فعل الرجل؟ يعني عثمان، فقال: قتل. قال: أنا أبو عبد الله، إذا حككت قرحة نكأتها، إن كنت لاُحرّض عليه، حتى إني لاُحرّض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل) [89].وبعد ذلك حارب علياً مع معاوية طلباً بدم عثمان.وكذلك يشهد التاريخ أن طلحة كان من المحرّضين على عثمان [90]، وكذلك معاوية، فحين طلب عثمان منه المعونة والمدد، تباطأ معاوية فلم ينجده [91].وأما الزبير، فقد أقام في طريق مكة معتزلاً الضجة، لئلاّ يشهد مقتل عثمان [92].
وهؤلاء هم الذين حاربوا الامام(عليه السلام) ورفعوا شعار الطلب بدم عثمان، وقد دفعهم بغضهم للامام(عليه السلام)، وبالاحرى بغضهم لعدالة علي، وإصلاحاته، واعادة ما سلبوه من اموال وحقوق، وعدم استجابته لرغباتهم وحبهم للدنيا والسلطان، كل ذلك دفعهم لاستخدام مختلف الاساليب والمبرّرات والشعارات الزائفة، في سبيل الوصول إلى أهدافهم غير المشروعة، وليس قميص عثمان إلاّ ستار لتغطية أهدافهم، وقد عبّر عن هذه الحقيقة عمرو بن العاص حين قال لعائشة بعد واقعة الجمل: لو ددت أنك كنت قُتلت يوم الجمل، فقالت، ولم لا أبالك؟ فقال: كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة، ونجعلك اكبر بالتشنيع في علي [93]، وكان عمرو بن العاص أيضاً يهدف بذلك إلى رفع قميص عائشة لتحريك الناس ضد خلافة الامام(عليه السلام)، ولكن ربما أسعف الحظ عائشة، أو انها كانت أذكى من أن تسقط في شراك هذه اللعبة.اجل. انهم لم ينقموا من أبي الحسن(عليه السلام) إلاّ عدالته، وصلابته في ذات الله، وإقامة الاسلام. وحين عزل الامام(عليه السلام) المنحرفين من عمّال عثمان على البلدان الاسلامية،طلب منه المغيرة بن شعبة استبقاء معاوية وآخرين على مناصبهم، بحجة اعتماد المداهنة السياسية معهم، وبعد ذلك، حينما تثبت دعائم خلافته، يعزلهم، ولكن الامام(عليه السلام)رفض ذلك، وأجابه: والله لا أدهن في ديني، ولا اُعطي الدني في أمري [94].
وكان هدف المغيرة، وهو من دهاة العرب، والمعادين للامام(عليه السلام)، ومن طلاب الدنيا والمناصب، ظهر ذلك بعد ان نصبه معاوية واليا على الكوفة، كان هدفه من ابقاء معاوية وسائر العمال، أن يستحكموا اكثر في بلدانهم، ويستخدموا قضية عثمان شعاراً لاثارة غضب الامة وغير ذلك من الاغراض، فكان ابقاء عمال عثمان مخالفاً للسياسة الدنيوية، مضافاً إلى كونه مخالفاً للجانب الديني بسبب انحرافاتهم ومخالفاتهم السافرة للاسلام.هؤلاء وامثالهم هم الذين حاربوا الامام(عليه السلام)، وحرضوا عليه، وسبّوه على المنابر، وفي امثالهم قال المتنبي:وإذا اتتك مذمتي من ناقصفهي الشهادة لي بأني كاملدور حجر في معارك الثلاث:قال في الدرجات الرفيعة: واخلاصه لامير المؤمنين أشهر من أن يذكر، وقد ذكرنا أن حجراً كان من الموالين للامام(عليه السلام) وقد دفعه ولاؤه وإيمانه الى خوض هذه المعارك، من أجل إقامة الحكم الاسلامي العادل على الارض، الذي يمثله الامام(عليه السلام)، ودفاعاً عن خلافته، فقد ذكر التاريخ أنه شارك في المعارك الثلاث، الجمل، وصفين، والنهروان، ونذكر هنا بالتفصيل، دوره فيها:دوره في الجمل:قال ابن سعد في طبقاته: وشهد حجر معه ـ أي الامام(عليه السلام) ـ الجمل وصفين [95]، وفي الاصابة: وأنه شهد بعد ذلك الجمل وصفين [96].ويظهر من التاريخ أنه لم يكن جندياً عادياً فيها، وإنما كان مقاتلاً أميراً، وقائداً لبعض الفرق، وهذه نتيجة حتمية لشخصيته، فإنه كان من شيوخ الشيعة في الكوفة، وزعيماً من زعماء كندة. فالتأريخ يحدّث أن الامام الحسن(عليه السلام) حينما قدم الكوفة قبل حرب الجمل داعياً أهلها لنصرة الامام(عليه السلام)، قام زعماء الكوفة الموالون لعلي(عليه السلام)، يحرضون الناس على الاستجابة لنصرته، وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس، أجيبوا أمير المؤمنين، وانفروا خفافاً وثقالاً، مرّوا وانا أولكم، فأذعن الناس للمسير [97].
ويظهر من هذا النص أن كلمته كانت مسموعة في أهل الكوفة.وقد قاد جماعة من الكوفة فكان على مذحج والاشعريين حجر بن عدي [98] خرج بهم إلى وقعة الجمل.وفي الكامل: وحدثونا أيضاً: أنه لما نفر الناس إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)نفر معهم حجر، وعقد له علي على مذحج والاشعريين، ورووا أنه ارتجز يوم الجمل بهذا الرجز:يا ربَّنا سلّم لنا عليّاسلّم لنا المبارك المضياالمؤمن الموحد التقيّالاخطل الرأي ولا غويّابل هادياً موفّقاً مهديّاواحفظه ربي واحفظ النبيافيه فقد كان له ولياثمّ ارتضاه بعده وصيا [99]ويظهر من هذه الابيات الشعرية صدق ولائه وإيمانه بإمامة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأنه وصي الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وانه يمثل الاسلام الاصيل، لا انه ايمان عشوائي، أو ناتج عن طمع باغراض شخصية ودنيوية.وذكر في البحار: وكان على الجناح ـ في معركة الجمل ـ زياد بن كعب، وحجر بن عدي
[100].
[65] الطبقات ج 6 / ص 217.
[66] الاصابة ج 1 / ص 314.
[67] تاريخ ابن عساكر ج 4 / ص 85.
[68] الكامل ج 3 / ص 485، الاغاني ج 16 / ص 15.
[69] تاريخ اليعقوبي ج 2 / ص 218.
[70] دائرة المعارف الاسلامية ج 7 / ص 320.
[71] الاستيعاب ج 1 / ص 215.
[72] الاستيعاب ج1 / ص215.
[73] الاصابة ج 1 / ص 314.
[74] أعيان الشيعة ج 4 / ص 585.
[75] الغدير ج 9 / ص 47.
[76] الطبقات ج 6 / ص 218.
[77] الاصابة ج 1 / ص 313.
[78] المستدرك ج3 / ص 470.
[79] الحياة السياسية للامام الحسنعليه السلام ص143 حيث يتعرض الى موقف الامام امير المؤمنينعليه السلاممن عثمان ومن الثائرين عليه.
[80] تاريخ الطبري ج 3 / ص 394، شرح نهج البلاغة ج 2 / ص 144.
[81] شرح نهج البلاغة ج 2 / ص 148.
[82] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح / ص 388، الرقم 29.
[83] يلاحظ حول هذه التصرفات التي ادت الى الثورة، والى استنكار الكثير من الصحابة والمسلمين، الكثير من المصادر والكتب وخاصة الغدير، الجزء التاسع، ومعالم المدرستين وغيرهما.
[84] الطبري ج 3 / ص 403.
[85] الطبري ج 3 / ص 397، ابن مسكويه، تجارب الامم ج 1 / ص 285.
[86] يلاحظ في رحاب أئمة اهل البيت ج 1 / ص342.
[87] الحياة السياسية للامام الحسنعليه السلام ص142.
[88] الطبري ج 3 / ص 477.
[89] الطبري ج 3 / ص392.
[90] الطبري ج 3 / ص 411، و لاحظ في رحاب ائمة اهل البيتعليهم السلام ج 1 / ص 346.
[91] الطبري ج 3 ص 402، ولاحظ في رحاب ائمة اهل البيتعليهم السلام ج1 / ص343. والحياة السياسيه للامام الحسنعليه السلام ص145.
[92] الطبري ج 3 / ص 422، ويراجع الغدير ج9 / ص77، فقد ذكر اسماء واخبار الكثير من الناقمين والمحرضين على عثمان، ومنهم عائشة وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير ومعاوية، وانه لم يشذ عن النقمة عليه الا اربعة.
[93] في رحاب ائمة اهل البيتعليه السلام ج2 / ص58، نقلاً عن كامل المبرد.
[94] الطبري ج3 / ص461.
[95] الطبقات ج 6 / ص 218.
[96] الاصابة ج 1 / ص 313.
[97] الكامل لابن الثير ج 3 / ص 231.
[98] الكامل / ص232.
[99] المصدر السابق، والبحار ج 38 / ص22.
[100] البحار ج 32 / ص 172.