ابن تیمیة، حیاته و عقائده نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

ابن تیمیة، حیاته و عقائده - نسخه متنی

صائب عبد الحمید

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید




فى ذلك البيت ترعرع الوليد، وفى ذلك المحيط امضى سنيه
الست الاولى، تلك السنين التى تغذى الطفل بزادها، وتزرع
بصماتها فى ذهنه، وفى وجدانه، فى شعوره ولا شعوره، لتترك
آثارها فيه طفلا، ثم يافعا، ثم كهلا، فشيخا.


وبعد السادسه من عمره حمله ابوه - مع سائر اسرته - سنه 667
ه ، مفارقا مسقط راسه ومهوى فواده، قاصدا دمشق، هربا من
الغزو التترى المتتابع على حران.


واستقرت الاسره فى دمشق الى حيث تشتهى من المنزل
والمنزله، فافرد للشيخ عبدالحليم - والده - كرسى بجامع
دمشق يدرس فيه، واسندت اليه مشيخه دار الحديث السكريه
فى القصاعين محل سكناه.


واما الناشى احمد فلم يذكر شى ء عن طفولته، حتى ابتدا درسه
على ابيه فى دمشق، ثم تنقل بين عدد من مشايخها، وكان
ابرزهم:
- احمد بن عبدالدائم المقدسى (575 - 668 ه ): النساخ
المحدث الحنبلى، ومن تاريخ وفاته يظهر ان ابن تيميه قد باشر
التعلم عليه مبكرا ولما يجاوز السابعه من عمره.


- ابو زكريا، سيف الدين يحيى بن عبدالرحمن الحنبلى (ت
669 ه ).


- مسند الشام ابن ابى اليسر التنوخى (ت 672 ه ).


- عبداللّه بن محمد بن عطاء الحنفى (ت 673 ه ).


- ابو زكريا، كمال الدين يحيى بن ابى منصور بن ابى الفتح
الحرانى الحنبلى(ت 678 ه ).


- عبدالرحمن بن ابى عمر، ابن قدامه المقدسى الحنبلى (ت
682 ه ).


كما تلمذ على عدد من النساء المحدثات، وهن:
- ام العرب، فاطمه بنت ابى القاسم بن القاسم بن على -
المعروف بابن عساكر مورخ الشام - (ت 683 ه ).


- ام الخير، ست العرب بنت يحيى بن قايماز (ت 684 ه ).


- زينب بنت احمد المقدسيه (ت 687 ه ).


- زينب بنت مكى الحرانيه (ت 688 ه ).


- وآخر من ذكر فى شيوخه موتا: شرف الدين احمد بن نعمه
المقدسى (ت 694ه )، وهو القائل: انا الذى اذنت لابن تيميه فى
الافتاء.


- واما الشيخ عبدالسيد، اليهودى الذى اسلم وتوفى سنه 715 ه
، فمنهم من عده فى شيوخه، ومنهم من عده فى رفقته
واصحابه.


درس على هولاء جميعا، وآخرين: علوم الحديث، والرجال،
واللغه، والتفسير، والفقه والاصول.


وقرا بنفسه، ونسخ كتبا بيده
منها سنن ابى داود.


وكان حاد الطبع، حديد الذهن، قوى
الحافظه، برز على اقرانه ولما يجاوز العشرين من عمره، وكان
ابوه يعلمه الافتاء ويدربه عليه ليعده لخلافته بعد موته.


على شواط ى ايامه
فى ايامه عتبات لا بد من اطلاله عليها.


لمحات نذكرها فى غايه الايجاز، ياتى تفصيل فى معظمها ط ى
الفصول اللاحقه:
قصد مكه حاجا فى سنه 691 ه .


ومضت ايامه هادئه، ممدوح السيره، عالى الصيت ، مدرسا،
وخطيبا، ومصنفا حتى كانت سنه 698 ه ، فتفجرت عليه
براكين الغضب فى دمشق والشام، فتابعتها القاهره
والاسكندريه، غضب قاده فقهاء المذاهب الثلاثه وشيوخ
الصوفيه الذين كانت لهم معه جولات من الصراع، ونزاعات لم
تخمد، الا انها لم تبلغ ذروتها الا فيما بعد.


كل ذلك كان اثر خطبه القاها على المنبر تكلم فيها فى ذات
اللّه تعالى وصفاته، فعمق البحث، وتوسع واطنب، فدخل فى
البحث طرقا لم يسلكها الاولون هيبه وورعا وتمسكا بحدود
الشريعه التى تنهى عن الخوض فى ذات اللّه وصفاته تعالى
شانه.


ثم زاد على ذلك ما ادخله من براهين ناصر فيها عقيده
القائلين بالتجسيم، الذين نسبوا الى اللّه تعالى صفات هى من
صفات الاجسام، كالوجود فى جهه واحده، والاستواء على
العرش حقيقه، والحركه والانتقال، وان الوجه والايدى والاعين
والارجل المذكوره فى بعض الايات والاحاديث انما هى على
الحقيقه دون المجاز ! .


تلك اول ثائره كبيره تثور عليه، ولكن سرعان ما حسمها امير
دمشق لصالحه، ولكن جمرها بقى تحت الرماد، حتى تاجج
لظاه فى فرصه سنحت فى سنه 705 ه ، فاستدعى فيها الى
مصر، الى القضاء، وسجن هناك سنه ونصف، ثم افرج عنه ، وامر
بالاقامه فى الاسكندريه، فامضى فيها ثمانيه اشهر فى برج على
البحر.


وفى الاسكندريه ركز حملاته على الصوفيه، فوقعت هناك فتن
كثيره مده اقامته.


وفى سنه 708 ه استدعاه السلطان الناصر الى القاهره اثر عودته
الى السلطنه، فاكرمه وقدمه واسند اليه التدريس فى المدرسه
التى كان السلطان قد انشاها هناك.


وفى رحلته هذه كان يصحبه اخوه شرف الدين، وكان على
اتصال باصحابه فى دمشق يكاتبهم ويكاتبونه، ويبعثون اليه ما
يطلبه من الكتب، كما راسل الامير (نائب دمشق) واطلعه على
احواله وما جرى معه هناك.


وعاد الى دمشق سنه 712 ه .


وقبل ذلك كان له فى دمشق تاريخ آخر:
ففى سنه 699 ه كانت له مشاركه فى التصدى للغزو التترى
الذى هزمت على اثره جيوش المسلمين، واحتل التتار عده
مدن شاميه، وانسحب السلطان الى مصر.


وفى العام التالى، وقد قاد السلطان جيوشه من جديد للثار،
توجه اليه الشيخ وصحبه فى تلك الغزوه مع كثير من كبار
العلماء، وكان للشيخ عند السلطان منزله، فخطب الجيش
وحثهم على الجهاد، وشبه هزيمتهم السابقه بمعركه احد،
وغزوتهم هذه بمعركه الخندق ! وزرع فى قلوبهم الثقه بالنصر،
فلما كان النصر حليفهم، عظمت مكانته عند السلطان، فقوى
على خصومه من الصوفيه خاصه، فضعفوا عن مواجهته، فى
حين كان يشدد عليهم حملاته قولا وعملا.


وفى سنه 704 ه كان السلطان طوع فتواه فى محاربه اهل
الجبل، فلما عاد الجيش منها منتصرا كتب الى السلطان رساله
يهنئه بالنصر، ومما قاله فيها:
(من الداعى احمد بن تيميه الى سلطان المسلمين.


اما بعد، فقد صدق اللّه وعده، ونصر عبده، واعز جنده، وهزم
الاحزاب وحده، وانعم اللّه على السلطان، وعلى المومنين فى
دولته نعما لم تعهد فى القرون الخاليه ! .


وجدد الاسلام فى ايامه تجديدا بانت فضيلته على الدول
الماضيه ! وتحقق فى ولايته خبر الصادق المصدوق، افضل
الاولين والاخرين، الذى اخبر فيه عن تجديد الدين فى رووس
المئين !! .


وذلك ان السلطان اتم اللّه نعمته، وحصل للامه بيمن ولايته،
وحسن نيته، وصحه اسلامه وعقيدته، وبركه ايمانه ومعرفته،
وفضل همته وشجاعته، وثمره تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجه
اتباعه لكتاب اللّه وحكمته، ما هو شبيه بما كان يجرى فى ايام
الخلفاء الراشدين..


).


وفى سنه 716 ه توفيت والدته.


وبعد اربع سنين من هذا التاريخ فى سنه 720 ه ثارت عليه
ثائره دمشق اثر مسائل فى الطلاق افتى فيها بخلاف المذاهب
الاربعه، واستدعى للقضاء ومنع من الافتاء، وسجن خمسه اشهر
ثم افرج عنه بامر من السلطان، وسكن الامر.


وتجددت الفتنه على اشدها فى سنه 726 ه على اثر تجديده
الكلام فى فتواه بتحريم شد الرحال الى قبور الانبياء
والصالحين، وعثروا له على كتاب كتبه فى هذه المساله منذ
سنه 710 ه ، وكان له كلام متقدم على هذا ايضا ذكره فى كتابه
(اقتضاء الصراط المستقيم).


وكثر الكلام والتشنيع عليه، وحصلت فتنه طار شررها فى
الافاق، ورفعوا ذلك الى السلطان فتردد فى امره، ثم خفف
عليه شيئا من شده الامر انتصار علماء بغداد له، فبعثوا كتبا
بموافقه رايه، منهم: ابن الكتبى الشافعى، ومحمد بن
عبدالرحمن البغدادى المالكى شيخ المالكيه بالمدرسه
المستنصريه، وعبدالمومن بن عبدالحق الخطيب، وجمال
الدين ابن البتى الحنبلى.


كما كتب بعض علماء دمشق فى
نصرته ايضا، منهم ابو عمرو بن ابى الوليد المالكى، وآخرون.


وبين هذا وذاك راى السلطان ان ينقل الشيخ الى قلعه دمشق
اخمادا للفتنه، فاقام معه فى القلعه اخوه فى قاعه حسنه اعدت
له، ورسم له السلطان بما يقوم بكفايته من الاموال.


وهناك تفرغ للكتابه، والى جنبه ما يحتاجه من الكتب، فكتب
فى الرد على خصومه من القضاه المالكيه والشافعيه، وكتب فى
التفسير ايضا، كما كتب فى مراسله انصاره كثيرا، وكانت تاتيه
كتبهم، فيغسلها بعد قراءتها، وقد كتب فى ذلك بخطه الى
بعضهم فقال: (الاوراق التى فيها جواباتكم غسلت).


ثم اخرجت جميع كتبه من عنده، فراى فى ذلك انتصارا له
لانه كان سببا فى نشرها واطلاع الناس عليها بعد ان كانت
حبيسه معه.


بقى بعد ذلك اياما، مرض بعدها مرضا شديدا امتد معه عشرين
يوما فتوفى على اثره ليله الاثنين، عشرين من ذى القعده، سنه
ثمان وعشرين وسبعمئه للهجره، وهذا التاريخ يوافق 26 - 27
من الشهر التاسع من سنه 1328 للميلاد.


وشهد جنازته خلق كثير، قدر بمئتى الف رجل وخمسه عشر
الف امراه، وازدحم محبوه على النعش يلقون عليه مناديلهم
وعمائمهم للتبرك به، وقيل: ان منهم من مزق شيئا من كفنه،
واخذوا ماء غسله، كل ذلك للتبرك به.


فسبحان اللّه ! اولئك هم الذين احتفوا حوله فى محاربه
الصوفيه على ما هو ادنى من هذا من التبرك بقبور الموتى
وآثارهم صاروا اليوم يفعلون ما لم يفعله الصوفيه مع مشايخهم
! .


ومن عجائب الايام ايضا ان يصير مدفنه فى مقابر الصوفيه،
خصومه مدى حياته وخصومه بعد موته ايضا ! .


ومن غريب ما ذكره صاحب (العقود الدريه) وهو يذكر وفاه
الشيخ ابن تيميه، قوله: قال القاضى ابو بكر محمد بن
عبدالباقى بن محمد البزار: سمعت المظفر هناد بن ابراهيم
النسفى يقول: سمعت ابا القاسم عبدالواحد بن عبدالسلام بن
الواثق يقول: سمعت بعض الصالحين يقول:
رئى بعض الصالحين فى المنام، فقيل له: ما فعل اللّه بك ؟ .


قال: غفر لى.


قيل له: من وجدت اكثر اهل الجنه ؟ .


قال: اصحاب الشافعى.


فقيل: فاين اصحاب احمد بن حنبل ؟ .


قال: سالتنى عن اكثر اهل الجنه، ما سالتنى عن اعلى اهل
الجنه ! اصحاب احمد اعلى اهل الجنه، واصحاب الشافعى اكثر
اهل الجنه ! .


شر البليه ما يضحك، وشر منه حين يجرى هذا المضحك على
السنه كبار الفقهاء والمحققين، واى فقهاء، واى محققين ؟!
انهم الذين سخروا من احاديث الصوفيه فى امثال هذا، ثم
يصرخون ويملاون الدنيا صراخا زاعمين انهم - دون سواهم -
المتمسكون بعقيده السلف شعره بشعره ! .


فمن اذن للبسطاء والمساكين ؟! اللهم كما رحمت السلف
الصالح فارحم الخلف التائه.


اذن عاش الشيخ ابن تيميه نحو ثمان وستين سنه، ثم مات
فردا، لم يتزوج مده حياته، ذلك الامر الذى بقى سرا مكتوما فى
حياته الشخصيه.


الشيخ المجتهد
كان يوم الاثنين، الثانى من محرم الحرام سنه 683 ه اختبارا
صعبا لابن الثانيه والعشرين.


فقد توفى ابوه قبل اسابيع من هذا التاريخ فى اواخر سنه 682 ه
، وظل كرسيه بجامع دمشق شاغرا ليشغله احد ابنائه، على
طريقه الاسلاف اذ كانوا يتوارثون كرسى الدرس والخطابه،
فكان احمد هو المدعو لخلافه ابيه فى مجلس حاشد شهده
بعض اكابر اهل العلم، منهم: قاضى القضاه الشافعى، وشيخ
الشافعيه تاج الدين الفزارى، غير من حضر من اكابر الحنابله،
وامام هذا الحشد ارتقى كرسيه والقى درسا فى التفسير، طول
فيه وفصل كاشفا عن حفظه واطلاعه، فاستحسن الحضور
درسه، وكتب بعضهم اشياء استفادها منه، وتحدثوا بذلك، وذاع
صيته فى البلاد، فما كان الا شهر وبضعه ايام حتى هيى له منبر
الجامع الاموى بدمشق ليلقى درسه الثانى فى التفسير بعد
صلاه الجمعه، ثم ثبت على ذلك كل جمعه، واشتهر امره فى
التفسير، ونسجت حوله الحكايات، وله فى التفسير طريقه وآراء
افردنا فصلا موجزا فى المهم منها والخطير مما اغفل ذكره
وبيانه كل من كتب عن ابن تيميه، ممن ذهب يستعرض قدراته
الادبيه فى انتقاء الفاظ المديح والاجلال والتعظيم التى لو
جردتها عن القليل النادر من الاخبار التى جاء اغلبها مجملا،
لرايت بين يديك اكداسا من كلمات خطابيه رنانه لا غير ! .


ولاننا سلكنا الطريق الذى دعا اليه ابن تيميه فى نبذ التقليد
الاعمى، فسوف لا نهتز طربا امام اصداء تلك الكلمات الرنانه
وتكثرها، سواء كانت ثناء او هجاء.


فقيها :
ولم يكن التفسير فنه الوحيد، بل ليس هو الاول فيما عرف فيه،
اذ كان ميدانه الاول هو الفقه، اصوله وفروعه، الذى عرف فيه
ابن تيميه مجتهدا ومجددا وضعه اجتهاده موضع النزاع بين
المعجب بارائه المويد لها، والاخر الراد عليها المفند لها، فكان
ذلك اهم اسباب بروزه وانتشار مصنفاته.


وجمله ما فى هذا الباب شعبتان دار كلامه فيهما:
الاولى : طعنه على الطريقه السائده فى تقليد المذاهب الاربعه
والوقوف عند ما ورد عنهم من فتاوى حتى مع توفر الدليل
القاطع على خلافها، ودعوته فى مقابل ذلك الى ترك باب
الاجتهاد مفتوحا لمن يتاهل له.


ولاهميه هذه الدعوه افردنا لها
فصلا لتبيين منهجه فيها.


الثانيه : تفرده بفتاوى خالف فيها مذهبه الحنبلى، وربما خالف
فيها المذاهب الاربعه، ورغم ان هذه المواضع ليست كثيره، الا
انها احدثت اصداء كبيره فى عالم غارق فى التقليد لا يرى الحق
الا فى ما ورثه عن مذهبه، وكل ما خالفه فهو باطل مهما كانت
حجته.


وهذا لا يعنى ان ابن تيميه كان مصيبا فى كل ما تفرد به، بل قد
رماه اقرب انصاره اليه بالشذوذ، وعدوا ذلك اخطاء مغفوره له
لاجتهاده ! ومن اولئك: الذهبى والصفدى وابن كثير.


وقد حصر ابن العماد الحنبلى اهم هذه الفتاوى بنحو خمس
عشره مساله، منها:
1 - ارتفاع الحدث بالماء المعتصر، كماء الورد ونحوه.


2 - المائع القليل لا ينجس بوقوع النجاسه فيه حتى يتغير،
حكمه حكم الكثير.


3 - جواز التيمم خشيه فوات الوقت مع توفر الماء.


4 - تارك الصلاه عمدا لا يجب عليه القضاء ولا يشرع له.


5 - جواز القصر فى مسمى السفر طويلا كان او قصيرا.


6 - من اكل فى شهر رمضان معتقدا انه ليل، وكان نهارا فلا
قضاء عليه.


7 - جواز طواف الحائض ولا شى ء عليها.


8 - الحلف بالطلاق لا يقع، وعليه كفاره.


9 - الطلاق المحرم لا يقع.


10 - الطلاق الثلاث لا يقع الا واحده.


ولم يجد ابن تيميه فى حياته ما وجده من عناء اثر فتاويه فى
مسائل الطلاق، فعرض لاجلها على القضاء، ومنع من الافتاء،
وسجن غير مره، وصنفت فى الرد عليه كتب ورسائل ! هذا رغم
اقرار الجميع بان ما قاله فى بعض هذه المسائل هو الذى كان
على عهد رسول اللّه (ص) وبه نطق القرآن، وكان على عهد ابى
بكر، وسنين من عهد عمر، حتى احدث فيه عمر برايه وامضى
عليه القضاء فصار قضاء رسميا يعمل به الفقهاء والقضاه،
واعتمده اصحاب المذاهب الاربعه، بل لم يخالف فيه احد غير
فقهاء الشيعه الذين مضوا على افتاء ائمه اهل البيت:بماحكم به
القرآن الكريم وسنه النبى المصطفى(ص) غيرآبهين بماتفرضه
السلطه فى خلاف ذلك .


اثارت هذه القضيه غضب الفقهاء والقضاه على ابن تيميه،
وكانت ايسر مدخل يستميلون به السلطان ويوججون حنقه
على الفتوى وصاحبها، فاقنعوه بان الذى هم عليه انما هو فتوى
عمر، وقد عمل بها السلف من بعده، وان احدا لم يجرو على
مخالفتها منذ عهد عمر سوى فقهاء الشيعه، وما من احد من
اهل السنه ياخذ براى الشيعه !.


لقد عرفوا من اين توكل الكتف.


هذا رغم علمهم ان له فتاوى شذ بها لا عن مذهبه فقط، ولا
المذاهب الاربعه، وانما عن محكم الكتاب والثابت من السنه
المطهره، كما فى اغلب الفتاوى السبع الاولى، وغيرها، وقد
انكروها عليه جميعا ! .


يقول ابن رجب الحنبلى: كثير من العلماء من الفقهاء
والمحدثين والصالحين كرهوا له التفرد ببعض المسائل التى
انكرها السلف على من شذ بها، حتى ان بعض قضاه العدل من
اصحابنا - يعنى الحنابله - منعه من الافتاء ببعض ذلك.


محدثا :
المذهب الحنبلى هو واحد من مذاهب اصحاب الحديث، فمن
المالوف ان يولى مشايخ هذا المذهب عنايه خاصه بالحديث
وعلومه فوق كونه واحدا من مصادر التشريع الاساس.


ولقد
اظهر ابن تيميه عنايته هذه من خلال دراسه الحديث وحفظه
ومعرفه علله، والاكثار من الرجوع اليه والاستشهاد به فى
مجالس الدرس وفى التاليف، مع حرصه فى اغلب الاحيان على
اعطاء درجه الحديث من صحه او ضعف او وضع، واسناده الى
مصدره من كتب السنن، فيقول مثلا: حديث صحيح رواه
الترمذى واحمد، او: هذا الحديث لم يرد فى شى ء من كتب
السنن، ولا عمل به احد من السلف، ونحو ذلك.


فكان لهذا
الاسلوب المشحون بالعبارات الجازمه والاحكام القطعيه اثره
البالغ فى الاستحواذ على السامع والقارى، حتى قالوا عنه: انه
اوحد عصره فى هذا الفن، بل قال الذهبى: حق ان يقال ان كل
حديث لا يعرفه ابن تيميه ليس بحديث.


وتناقل الناس هذه المقوله تناقل المقلدين رغم ان من له ادنى
نظر فى التحقيق يعلم انها من فرط كلام المعجبين الذى لا
يعضده الواقع، فلم يكن ابن تيميه - مع ما هو عليه من مكانه -
على ذلك القدر من ضبط الحديث، وله فيه اخطاء، بل تناقضات
عجيبه لا تكاد تجد لها نظيرا عند غيره، اللهم الا من سلك
طريقته، ومن امثله ذلك:
- عدم التزامه نص الحديث الذى يرويه، سواء كان مما كتبه
بيده، او رواه من حفظه فى مجالسه، وهذه امثله على ذلك:
1 - استشهد على كلام له بحديث، فقال: ان اللّه تعالى يقول:
(ان اوليائى المتقون ايا كانوا وحيث كانوا).


وهذا الحديث اخرجه الحاكم فى المستدرك من
حديث النبى(ص)، لاالحديث القدسى، مرفوعا، ونصه: (اوليائى
منكم المتقون) واما لفظ (ايا كانوا وحيث كانوا) فهو من كلام
مجاهد.


2 - فى كتابه (الفرقان) قال: قال النبى (ص) : (من اكل من
هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا) الحديث.


وليس من كلام النبى (ص) (الشجرتين الخبيثتين) وانما هو
من كلام عمر بن الخطاب كما فى صحيح مسلم، واما نص
حديث النبى (ص) فى روايه البخارى فهو: (من اكل ثوما او
بصلا فليعتزلنا - او : ليعتزل مساجدنا).


وامثال هذا فى كتبه كثير يصعب حصره.


وصنف آخر من الخطا، تكرر عنده كثيرا فى نسبه الحديث الى
مصدره او راويه، ومن ذلك:
1 - قوله: فى الحديث الصحيح الذى رواه البخارى وغيره عن
ابى هريره عن النبى(ص) قال: (يقول اللّه تعالى: من عادى لى
وليا فقد بارزنى بالمحاربه).


وليس هذا اللفظ من روايه البخارى عن ابى هريره، انما هو فى
روايه الطبرانى عن ابى امامه.


2 - قوله: روى الترمذى عن النبى (ص) انه قال: (لو لم ابعث
فيكم لبعث فيكم عمر) ولم يخرج الترمذى هذا النص، وانما
اخرجه ابن عدى، وقال: فى سنده زكريا بن يحيى يضع
الحديث.


3 - حديث (انا مدينه العلم وعلى بابها)
قال : هذا الحديث ضعيف ، بل موضوع عن اهل العلم بالحديث ،
ولكن قد رواه الترمذى وغيره ، ورفع هذا ، وهو كذب .


والصحيح :
ا - ان الترمذى لم يرو هذا الحديث ، وانما روى حديث (انا
مدينه الحكمه وعلى بابها) .


ب - لم يكن هذا الحديث موضوعا عند اهل العلم ولا ضعيفا ،
بل ورد عليه انه من روايه ابى الصلت الهروى عن ابى معاويه ،
وطعنوا على ابى الصلت لانه يتشيع ، ولكن رجعوا عن هذا حين
ثبت لديهم انه قد رواه آخرون عن ابى معاويه، منهم محمد بن
جعفر الفيدى وهو ثقه مامون .


وقد سئل يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال : هو صحيح .


وسئل عن ابى الصلت الهروى فقال : ثقه صدوق الا انه يتشيع .


قالوا : اليس قد روى هذا الحديث ؟ فقال : اليس قد حدث به
محمد بن جعفر الفيدى عن ابى معاويه ؟ .


وله ايضا اخطاء رجاليه ظاهره:
فهو ينقل فى كتاب (الزياره) هذا الاسناد: (ان عبداللّه بن حسن
بن حسين ابن على بن ابى طالب راى رجلا يختلف الى قبر
النبى) الحديث، ويكرره ثانيه فى نفس الكتاب.


ولا تعرف الدنيا رجلا اسمه حسن بن حسين بن على بن ابى
طالب ! وانما هو الحسن بن الحسن المعروف بالحسن المثنى،
وابنه عبداللّه.


وفى كتابه (التوسل والوسيله) ينقل هذا الاسناد: عن روح بن
فرج، عن عبداللّه بن الحسين، عن امه فاطمه بنت ا لحسين !
ويوكد ذلك فيقول: هكذا فى المصدر عبداللّه بن الحسين عن
امه فاطمه بنت الحسين.


وفى هذه الاسانيد جميعا يحتج لصحه مذهبه فى الصد عن
زياره قبر الرسول(ص).


واخطر من هذا كله ما عرف به من تسرع فى تضعيف الاحاديث
الصحاح والحسان التى تخالف مذهبه ! وقد سجل عليه هذا
العيب ابن حجر العسقلانى، بل هو معروف عند اهل الحديث،
حتى ان احدا منهم لم يعتمد تضعيف ابن تيميه للاحاديث.


كيف تعامل مع الحديث :
لابن تيميه مع الحديث النبوى الشريف مجازفات جريئه لم
يجرو احد قبله على مثلها، وله طريقه فى ايهام القارى لم
يسبقه اليها احد، وسوف لانصف ذلك نحن بعبارتنا، ففى
عباراته وحدها ما يعطيك صوره مضيئه لاسلوبه الفريد، كما
تجنبنا ان نطلق احكامنا على شى ء مما سنعرضه، فالقارى الحر
قادر على ذلك.


وبين ايدينا شواهد كثيره ارجاناها الى مواضعها من هذا الكتاب،
لنكتفى فى هذا الموضع بالانموذج الاتى:
حين سئل ابن تيميه عن التفاسير، ايها اقرب الى الكتاب
والسنه ؟ .


اجاب: اما التفاسير التى فى ايدى الناس فاصحها تفسير محمد
بن جرير الطبرى، فانه يذكر مقالات السلف بالاسانيد الثابته،
وليس فيه بدعه، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل والكلبى.


وهو فى نفس الكتاب (مقدمه فى اصول التفسير) قد ذكر قبل
ذلك جمله من الاحاديث قال: انها من الاحاديث الموضوعه فى
التفسير ، فعد منها ما روى فى قوله: ( ولكل قوم هاد ) (انه
على) قال: هو موضوع.


قال ذلك من غير ان يلتفت الى ان هذا الحديث قد اخرجه
الطبرى فى تفسيره، الذى: يذكر مقالات السلف بالاسانيد
الثابته، وليس فيه بدعه، ولا ينقل عن المتهمين ! .


- قال ابن تيميه ايضا: ومثله: ( وتعيها اذن واعيه ) (اذنك يا
على).


وهذا الحديث ايضا اعتمده الطبرى فى تفسيره واخرجه من
ثلاثه طرق !.


- وقال : وحديث على فى تصدقه بخاتمه فى الصلاه، فانه
موضوع باتفاق اهل العلم.


واعاد ذكره فى موضع آخر من نفس الكتاب، فقال: انه موضوع
باجماع اهل العلم.


ولم يلتفت الى ان الطبرى قد اخرج هذا الحديث بالاسانيد
الثابته من خمسه طرق عند تفسير قوله تعالى: ( انما وليكم اللّه
ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوه ويوتون الزكوه وهم
ركعون ).


وممن اخرج هذا الحديث سوى الطبرى: الواحدى، والثعلبى،
والزمخشرى، والرازى، وابو السعود، والنسفى، والبيضاوى،
والبغوى، والسيوط ى، والشوكانى، والالوسى.


وقال الشوكانى بعد ذكر الحديث فى سبب نزول الايه: اخرج
الخطيب فى (المتفق والمفترق) عن ابن عباس نزولها فى
على، واخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد، وابن جرير، وابو الشيخ،
وابن مردويه عن ابن عباس، قال: نزلت فى على ابن ابى طالب.


واخرج ابو الشيخ وابن مردويه عن على بن ابى طالب نحوه.


واما الالوسى فقال: غالب الاخباريين على ان هذه الايه نزلت
فى على كرم اللّه وجهه، ثم ذكر طرقا للحديث.


واخرج الحديث ايضا: احمد بن حنبل فى (فضائل الصحابه)
وابن الاثير الجزرى فى (جامع الاصول)، وكثير غيرهم، ولا تجد
عند هولاء وغيرهم ذكرا لطعن فى هذا الحديث من قريب او
بعيد.


اذا قرات هذا كله فارجع الى قول ابن تيميه: (اتفاق اهل العلم)
و (اجماع اهل العلم)، لترى من هم اهل العلم اولئك ! .


لا تعجب ان قلت لك: لا احد ! وانما هى طريقته فى الاستحواذ
على مستمعيه وقرائه ! .


اما اذا واجهه شخص بمصادر الحديث الذى ينكره واوقفه عليه
حتى يقراه بنفسه، فكيف ترى سيكون موقفه ؟! .


لا انا ولا انت نستعجل الظنون، بل سيجيبنا اقرب الناس اليه
واعزهم عليه والذى تولى نشر افكاره من بعده، تلميذه ورفيقه
ابن القيم الجوزيه، الذى يصف لنا مشهدا وقف عليه، فقال
معجبا بفطنه شيخه وسرعه بديهته: بحث الشيخ مع قوم
فاحتجوا عليه بحديث انكره، فلما اظهروا له النقل ووقف عليه،
القى المجلد من يده غيظا ! فقالوا له: ما انت الا جرى ء، ترمى
المجلد من يدك وهو كتاب علم ؟!
فقال سريعا: ايما خير انا او موسى ؟ وايما خير هذا الكتاب او
الواح الجوهر؟ ان موسى لما غضب القى الالواح من يده !
عجبوا لفرط ذكائه الذى اخرجه من وقع الهزيمه امام خصومه،
ونسوا ان الذكاء حق الذكاء فى الرجوع الى الحق بعد معرفته،
ولطالما مجد ابن تيميه رجالا من السلف يفتى احدهم فى
مساله لم يبلغه فيها نقل عن النبى (ص)، فيتبع فتواه بقوله:
هذا ما بلغه اجتهادى، فاذا وصلكم حديث عن النبى فى هذا
فهو مذهبى، فدعوا قولى وخذوا بالحديث.


فاين هذا من ذاك ؟!
مع الفلسفه : name="link25">
ونشا ابن تيميه فى اجواء تلعن الفلسفه والفلاسفه وتنسبهم الى
الضلال، وكان من عرف بالفلسفه يوذى ويعذب حتى يدعها او
يقتل، وكثرت فى ذلك فتاوى العلماء.


ومن اشهرها فتوى تقى
الدين ابن الصلاح (ت 643 ه ) وقد سئل عن المنطق
والفلسفه، فقال: الفلسفه اس السفه والانحلال، وماده الحيره
والضلال، ومثار الزيغ والزندقه، فالواجب على السلطان ان يدفع
عن المسلمين شر هولاء المياشيم، ويعرض من ظهر منه
اعتقاد عقائد الفلاسفه على السيف او الاسلام.


ووجد ابن تيميه ان هذه الاجواء والمواقف تناسب عقيده امامه
احمد بن حنبل، الذى كان ينهى عن الفلسفه والكلام ويحذر
من مجالسه المتكلمين، فيقول: لا تجالسوا اهل الكلام وان ذبوا
عن السنه.


فاتخذ ابن تيميه لنفسه الموقف ذاته، فوافق مذهبه الحنبلى،
ووافق الراى السائد فى عصره، فهاجم الفلاسفه وعقائدهم،
وطعن على المتكلمين فى كل مناسبه يجدها، وصنف فى
ذلك كتبا مفرده، منها: (الرد على الفلاسفه) و (نقض المنطق)
وغيرها.


غير انه اقذع فى وصف الفلاسفه المسلمين - كالرازى وابن
سينا والغزالى وغيرهم - وبالغ فى النيل منهم، فوصفهم بانهم
(افراخ الفلاسفه، واتباع الهند واليونان، وورثه المجوس
والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين) !! .


الدين والدوله : name="link26">
ميدان له فيه غير كلمه وغير جوله.


اجال الفكره فيه مره، فاعط ى الوصف السليم لاسباب هذا
الشرخ الحاصل بين الدين والدوله، فقال فى سياسته الشرعيه:
لما غلب على كثير من ولاه الامور اراده المال والشرف، وصاروا
بمعزل عن حقيقه الايمان فى ولايتهم، راى كثير من الناس ان
الاماره تنافى الايمان وكمال الدين.


ثم منهم من غلب الدين، واعرض عما لا يتم الدين الا به من
ذلك، ومنهم من راى حاجته الى ذلك، فاخذه معرضا عن
الدين لاعتقاده انه مناف لذلك، وصار الدين عنده فى محل
الرحمه والذل، لا فى محل العلو والعز.


وكذلك لما غلب على كثير من اهل الدين العجز عن تكميل
الدين، والجزع لما قد يصيبهم فى اقامته من البلاء، استضعف
طريقتهم واستذلها من راى انه لا تتقوم مصلحته ومصلحه
غيره بها.


وهاتان السبيلان فاسدتان: سبيل من انتسب الى الدين ولم
يكمله بما يحتاج اليه من السلطان والجهاد والمال.


وسبيل من اقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد
بذلك اقامه الدين.


هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الاولى للضالين:
النصارى، والثانيه للمغضوب عليهم: اليهود.


وانما الصراط المستقيم، صراط الذين انعم اللّه عليهم، ومن
سلك سبيلهم: ان قوام الدين بالكتاب الهادى والحديد الناصر.


فعلى كل احد الاجتهاد فى اتفاق القرآن والحديد للّه تعالى.


تشخيص موفق، وان كان مجملا ينقصه شى ء من التفصيل
والتمثيل، الا انه اعط ى جوابا صحيحا لهذه الظاهره، ظاهره
الفصل بين الدين والدوله.


غير ان هذه المقوله اليتيمه بقيت عجماء لا تنطق.


وبقى للسلطان الحديد وحده، يقبضه بكلتا يديه، حتى غلبت
قعقعته نبرات صبيان وشيوخ يرتلون القرآن عند الفجر وقبيل
الغروب فى زوايا مخنوقه هنا وهناك ! .


فاوسع سوح القرآن: افنيه المساجد وزوايا تعليم الصبيان،
وساعه فى اذاعه تتفضل على المحزون ليستريح على نبرات
من يهوى من القراء !! .


وانما تمسك اصحابه بالامس، وانصاره من بعد، وحتى يومنا
هذا، بمقولته الاخرى التى جاءت على نقيض الاولى ! .


كلمه قصيره المبنى، خطيره المعنى، يقول فيها: (انا رجل مله،
لا رجل دوله) ! .


ليحقق لذلك الشرخ اللاشرعى اتم معانيه، فللمله رجالها،
وللدوله رجالها، وضاع اتفاق القرآن والحديد، وذهب ادراج
الرياح ! .


والذى زاد فى تحقيق هذا المعنى ان سيرته كلها قد جاءت
وفاقا لمقولته الاخيره، فهو لا يرى مخالفه السلطان والخروج
عليه الا شرا لا خير فيه، مهما كان السلطان متماديا فى الظلم
والفجور، بلى، وان كان ذلك السلطان يزيد بن معاويه، وكان
الناهض بوجهه والراد عليه سيد شباب اهل الجنه الحسين بن
على وابن فاطمه الزهراء البتول: ! .


موقف داحض محجوج بقوله الاول، بعد ان كان محجوجا
بالكتاب الحكيم الذى ما انزل الا ليحكم فيكون دستورا للحياه
ومنهاجا، ومحجوجا بسيره المصطفى(ص) الذى ما كان الا
رجل دين ودوله، ومحجوجا باجماع الصحابه على ان يقدموا
عليهم رجلا واحدا هو رجل الدين والدوله معا.


ومع هذا فهو المنتخب فى منهاجه كما سياتى فى غير موضع.


نزاعه مع الفرق والطوائف :
نزاع كثير، وفتن دائره بين الفرق الاسلاميه المختلفه،
والطوائف المنحرفه، والديانات الاخرى التى كانت تعيش
جميعا فى تلك البلاد وعلى درجات متفاوته فى الضعف والقوه،
وفى القرب او البعد من بعضها.


فلما فتح ابن تيميه عينيه على هذا المعترك الهائج، اقحم
نفسه فيه ايما اقحام، واندفع فى اعماقه بلا تردد ولا توان، حتى
ركز لواءه فى مركز الحلبه، يوجه سهامه الى كل من خالفه فى
راى او فتوى او عقيده او موقف، بلا تمييز، افرادا كانوا او
مذاهب وطوائف، ليجعل من نفسه دائره جديده فى ذلك
النزاع، ولكنه كان على الصعيد السياسى الدائره الاقرب الى
حمايه السلطان دائما.


فعندما تكلم فى الصفات، وبالغ فى التجسيم بعباره لم يجرو
عليها احد قبله، وقام عليه علماء دمشق ونادوا ببطلان كلامه
وشكوه الى القاضى، فابى ان يحضر الى القضاء، تدخل امير
دمشق، فانتصر لابن تيميه، وارسل فى طلب من نازعه فى
عقيدته، فاختفى منهم جماعه، وقبض على آخرين فضربهم،
فسكت الباقون، وتمهدت الامور وسكنت الاحوال.


وكان من بين الفقهاء يقيم الحدود بنفسه، ويعزر ويحلق رووس
الصبيان، ويعرك آذانهم، وخالفه فى ذلك بعضهم، فرد عليهم،
وسكنت الامور لصالحه.


واذا اشار الى السلطان او نائبه بعزل قاض او خطيب او شيخ فى
دار الحديث او فى ناحيه من النواحى، نفذ طلبه على الفور وبلا
ترديد.


ولما افتى بكفر النصيريه ووجوب قتلهم جهز له نائب السلطنه
جيشا قاده بنفسه وصحبه ابن تيميه، فابادوا خلقا كثيرا منهم،
ووطئوا اراض كثيره من بلادهم، وكان ذلك فى سنه 705 ه .


كما صحب السلطان فيمن صحبه من المشايخ ورجال الدين
فى وقعه شقحب مع التتار سنه 702 ه .


واشد ميادين صراعه كان مع الصوفيه، الاقوياء، نظرائه فى
الحظوه عند السلطان، صراع ملا حياته وشغل اكثر من نصف
كتاباته، فغير كتبه العديده التى الفها ضدهم، كان لا ينسى ان
يتناولهم فى شتى كتبه الاخرى، وربما تكلف كثيرا فى ايجاد
مناسبه ينفذ من خلالها الى ما يشفى غليله فى النيل منهم
والحط من معتقداتهم.


فكان تشديده عليهم ومبالغته فى ذلك سببا فى اول مجلس
قضاء فعلى يتعرض له ابن تيميه فى جمادى الاولى من سنه
705 ه بمحضر نائب السلطنه بدمشق، فاحضر النائب جمعا من
الامراء والمشايخ والقضاه فاداروا البحث والمناظره، وتعددت
المجالس، فانتهت بخلاف حاد شجر بين المشايخ، عزل على
اثره قاضى القضاه الشافعى نفسه من القضاء، وتشنجت الاجواء،
حتى ورد كتاب السلطان الناصر من مصر فى شوال من تلك
السنه، كتب فيه: انا كنا قد سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقى
الدين ابن تيميه، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وانه على
مذهب السلف، وانما اردنا بذلك براءه ساحته مما نسب اليه ! .


عقب ذلك استيلاء بيبرس الجاشنكير على امور السلطنه، وله
شيخ صديق من الصوفيه يدعى نصر المنبجى، وهو الذى رماه
ابن تيميه بالضلال والجحود لانه يرى راى محيى الدين بن
عربى، فتغيرت الامور مع ابن تيميه، واستدعى الى مصر فى
نفس السنه، وتمسك به النائب فى دمشق وقال له: انا اكاتب
السلطان فى ذلك واصلح القضايا.


ولكن الشيخ توجه الى مصر،
والى مجلس قضاء يراسه القاضى المالكى، وبينه وبين الشيخ
ابن تيميه خصومه شديده بسبب اعتقاد ابن تيميه فى الصفات
الذى عده المالكيه تشبيها وتجسيما محضا، فدار بينهما ما
اغضب القاضى فاصدر مرسوما بسجنه فامضى فى السجن نحو
سنتين، ولكنه لم يعدم الناصر خلالهما، بل كان سلار نائب
السلطان اقوى نصير له، وسع عليه فى السجن واخدمه بمن
يشاء من رفقته، واقنع القضاه والمشايخ باخراجه من السجن
ولكن الشيخ ابن تيميه كان يصر على البقاء فى السجن، حتى
اخرجه مهنا بن عيسى ملك العرب واخذه الى بيت سلار
ليمضى عنده اياما ثم يتحول الى الاسكندريه، ويستقر فيها
حتى عوده السلطان الناصر الى السلطنه.


ولما دخل السلطان مصر لم يكن له هم الا لقاء الشيخ ابن
تيميه، فوجه اليه بعد وصوله بيوم او يومين ! فقدم الشيخ تقى
الدين الى السلطان فاكرمه وتلقاه وتعانقا، ثم انفردا ساعه
يتحدثان ثم عادا ويد الشيخ بيد السلطان ! فجلس السلطان،
وعن يمينه القاضى، وعن يساره الوزير، وجلس الشيخ بين يدى
السلطان على طرف طراحته.


واستوسقت الاحوال للشيخ فى ظل السلطان، الصديق الحميم.


ولم يذكر عنه انه ازعج السلطان فى امر يمسه او يمس سياسته
من امر بمعروف او نهى عن منكر، مع شيوع الفحشاء، واتساع
اسواق الخمر والحشيشه برعايه السلطان، وتفشى الظلم
والاستبداد.


بل كان مذهبه: وجوب الطاعه للسلطان، وحرمه
الخروج عليه وان كان ظالما، لان الشر المتولد عن ذلك اكثر
من النفع والخير! .


ويقول: ان بعض السلف كانوا يقولون: لو كان لنا دعوه مجابه
لدعونا بها للسلطان، برا كان او فاجرا ! .


فغلبت تلك الفتاوى عندهم حتى قوله تعالى: ( ولا تركنوا الى
الذين ظلموا فتمسكم النار) ! .


تلك الفتاوى التى ما نسجت اول مره الا لتثبيت حكم الامويين
الذى لم يتحقق الا بالخروج على الامام البر التقى على بن ابى
طالب (ع)، فلا بد من فتوى توطد اركانهم ! .


واى فتوى اتقن من هذه ! فالطاعه ليست للبر وحده، بل للفاجر
ايضا على حد سواء، بعدما ايقنوا انهم الفجار.


تلك الفتاوى التى قادتنا الى حد من الهوان، تباع فيه اوطاننا،
وتمتهن كرامتنا، ويذبح ابناونا على مراى ومسمع منا، فى ظل
سلاطين اذل من العبيد، يتسابقون فى الركوع لادنى همسه
يهمس بها اسيادهم من اعداء الدين والوطن واهل الوطن، وما
زال السلطان هو السلطان، يقول الشهادتين !! برا كان او فاجرا،
وما زالت الفتوى عينها دينا يتعبد به، لا لشى ء الا لان المفتى
يخشى ان يثقل كاهله ثمن الحريه التى لا يعرف لها معنى !
(فالشر المتولد عن ذلك اكثر من النفع والخير) !! .


واما مدار نزاعه مع الصوفيه فى عقائدهم فقد افردنا له فصلا
مستقلا لانه من اهم ما اشتغل به ابن تيميه، ومن اهم ما عرف
به، ولان فيه من المزايا ما لم نجد احدا قد كشف النقاب عنها.


وكان فى الوقت ذاته يواجه العقائد الاخرى، كالجهميه،
والمعتزله، والجبريه، والاشعريه، وله فى ذلك مولفات، ومقاطع
كثيره موزعه فى كتبه المختلفه، واكثر ما كان يدور عليه
خلافه معهم هو موضوع صفات اللّه تعالى الذى كان من
مواضيعه البارزه فى حياته الفكريه.


وكان للعقيده الاشعريه وحدها انصار من اهل السنه ذبوا عن
عقيدتهم وانكروا عليه مساسه بها.


وله بعد ذلك مع الشيعه مشوار يثير كثيرا من علامات
الاستفهام، واضعافها من علامات التعجب.


صنف كتابا اسماه (جواز قتال الرافضه)، فمن هم الرافضه عنده،
وكيف عرف الشيعه، وما هى طريقته فى الاستدلال على دعواه
فى ضلالهم وجواز قتالهم؟ وتفاصيل اخرى سنقروها فى وقفه
اعددناها مع اهم كتاب له ضد الشيعه وهو (منهاج السنه) كتابه
الذى استفرغ فيه جهوده، حتى كانه يريد ان لايدع مما فى
جعبته شيئا الا صبه فيه.


اسلوبه فى الحوار: name="link28">
لم يقصر ابن تيميه نزاعه على الفرق والمذاهب، بل نازع الاعلام
باعيانهم، فلم يترك مخالفا له الا وطعن عليه فى مجالسه او
فى مولفاته.


كانت معاركه تهدا فى بعض الاحايين، ولكنها لم تنقطع عنه
قط، وهى حتى اذا توقفت اثارها هو بنفسه من خلال راى
يخالف به ما الفه الناس، او حده يصدم بها احد مجادليه ! .


- افتى مره فى مساله، وافتى فقيه آخر بخلافه، فرد عليه ابن
تيميه قائلا: من قال هذا فهو كالحمار الذى فى داره ! .


فانكر عليه حتى مويدوه هذا الاسلوب فى الجدل، وهذه الحده
التى تصدم الخصوم.


- وكتب بخطه يصف مجلسا له مع الفقهاء عقده امير دمشق
بامر من السلطان، فقال: لما انتهى كلامى الى ذكر المعتزله
سال الامير عن المعتزله، فقلت: كان الناس فى قديم الزمان قد
اختلفوا فى الفاسق الملى، وهو اول اختلاف حدث فى المله،
هل هو كافر او مومن ؟ فقال الخوارج: انه كافر.


وقالت الجماعه:
انه مومن، فقالت طائفه: نقول هو فاسق، لا كافر ولا مومن،
ننزله منزله بين المنزلتين، واعتزلوا حلقه الحسن البصرى
واصحابه فسموا معتزله.


قال: فقال الشيخ الكبير فى جلبه ورد: ليس كما قلت، ولكن
اول مساله اختلف فيها المسلمون مساله الكلام، وسمى
المتكلمون متكلمين لاجل تكلمهم فى ذلك.


قال: فغضبت عليه وقلت: اخطات، وهذا كذب مخالف للاجماع.


وقلت له: لا ادب ولا فضيله ! لاتادبت معى فى الخطاب، ولا
اصبت فى الجواب !.


- وكان مغرى بسب محيى الدين بن عربى، والعفيف التلمسانى
وابن سبعين وغيرهم من شيوخ الصوفيه.


وربما صرح بسب ابى حامد الغزالى، وكان يقول فيه ساخرا: هو
قلاووز الفلاسفه ! وهى كلمه تركيه تعنى قائد، يقولها تهكما ! .


وربما قالها فى الامام فخر الدين الرازى، وكان كثير الحط عليه.


واذا ذكر علامه الشيعه الاماميه ابن المطهر الحلى، قال: ابن
المنجس ! .


واذا ذكر نجم الدين الكاتبى المعروف بدبيران - بفتح الدال -
صاحب التصانيف البديعه فى المنطق، لا يقول الا: دبيران -
بضمه الدال - ! .


وهو مع كل ذلك يحتج على من سب فاجرا بعينه، بان ذلك
خروج على السنه الثابته عن النبى (ص) ! مثل قوله (ص):
(لعن المسلم كقتله).


وقوله (ص): (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) متفق عليهما.


وقوله (ص): (ليس المومن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش،
ولا البذى ء) رواه الترمذى، وقال: حديث حسن.


هذه، واحاديث اخرى انتصر بها لا للمسلم البرى ء، بل للفاجر !
فلا يجوز الطعن على (الفاجر) او النيل منه بكلام بذى ء ! .


مع اليزيديه: name="link29">
اولئك اتباع الشيخ عدى بن مسافر الاموى، الذين غلو فيه وفى
يزيد بن معاويه بن ابى سفيان، كتب اليهم الشيخ رساله يصح
وصفها بانها رساله الناصح المشفق، والصديق المحب، عرفت
ب(الوصيه الكبرى) استهلها بقوله:
من احمد بن تيميه الى من يصل اليه هذا الكتاب من
المسلمين المنتسبين الى السنه والجماعه، والمنتمين الى
جماعه الشيخ العارف القدوه ابى البركات عدى بن مسافر
الاموى (رحمه اللّه)، ومن نحا نحوهم، وفقهم اللّه لسلوك
سبيله، واعانهم على طاعته وطاعه رسوله ( وجعلهم
معتصمين بحبله المتين، مهتدين لصراط الذين انعم اللّه
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم
طريق اهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث اللّه به
رسوله ( من الشرعه والمنهاج، حتى يكونوا ممن اعظم اللّه
عليهم المنه، بمتابعه الكتب والسنه، سلام عليكم ورحمه اللّه
وبركاته .


وفى الاثناء يحذر من الغلو كله سواء كان غلوا بالشيخ عدى او
بعلى بن ابى طالب.


ثم ياتى الى ذكر يزيد فيعذر اليزيديه فى غلوهم بان مبدا ذلك
كان من الرافضه الذين كانوا يسبون يزيد، والا فلم يكن احد
يتكلم فى يزيد بن معاويه، ولا كان الكلام فيه من الدين، فسمع
بذلك قوم ممن كان يتسنن، فاعتقد ان يزيد كان من كبار
الصالحين وائمه الهدى ! .


فصار الغلاه فيه على طرفى نقيض، هولاء يقولون: انه كافر
زنديق، وانه قتل ابن بنت رسول اللّه ( وقتل الانصار وابناءهم
بالحره لياخذ بثار اهل بيته الذين قتلوا كفارا - يعنى فى بدر
واحد - ويذكرون عنه من الاشتهار بشرب الخمر واظهار
الفواحش اشياء.


والحق ان الشيخ لم يكن موضوعيا هنا، فالقول الذى ذكره هنا
وعده تطرفا وغلوا هو قول ائمه المسلمين وصالحيهم، كائمه
اهل البيت وكبار التابعين، بل والامام احمد بن حنبل ايضا
وكافه اصحاب التاريخ كما سنذكره مبسوطا فى فصل (نهضه
الحسين واستشهاده).


قال: واقوام يعتقدون انه كان اماما عادلا هاديا مهديا، وانه كان
من الصحابه، او من اكابر الصحابه، ومن اولياء اللّه تعالى، وربما
اعتقد بعضهم انه من الانبياء، ويقولون: من وقف فى يزيد وقفه
اللّه على نار جهنم.


ثم كافح عن يزيد وذب عنه كثيرا، كما ذكر بعض حقوق اهل
البيت: ووجوب رعايتها، كحقهم فى الخمس، والفى ء، ووجوب
حبهم والصلاه عليهم.


كما ذكر الكثير من احكام الدين وفروعه وضروراته، ثم اختتم
بقوله: نسال اللّه العظيم ان يجعلنا واياكم من الذين يرثون
الفردوس هم فيها خالدون، والسلام عليكم ورحمه اللّه وبركاته.


انها رساله فى غايه اللين والهدوء مع طائفه من الغلاه، اضافت
الى غلوها تعطيل الكثير من فرائض الدين وضروراته ! .


رساله تضمنت شهادته لهم بانهم ما زالوا على الاسلام !! .


انه خطاب غريب لا يشبه فى شى ء من نبراته خطاباته للفرق
الاسلاميه الكبرى، او علماءالمسلمين وصلحائهم، ناهيك عن
اهل البدع والضلال والالحاد !! .


مع النصارى : name="link30">
كتب فى الرد على النصارى كتابا وسمه ب (الجواب الصحيح
لمن بدل دين المسيح)، وهو كتاب كبير، ينتظم فى سلسله
الصراع الاسلامى المسيحى على الصعيد الفكرى والعقائدى.


غير انه جاء على خلاف طبع مولفه وعلى غير عادته فى مواجهه
خصومه، حتى وصفه بعضهم بانه (اهدا ما كتبه ابن تيميه فى
الجدال).


وقد تناول فى هذا الكتاب النصارى عقيده وتاريخا، وكشف عن
وجه الخطا فى تفسيرهم لمصطلحات الشريعه المسيحيه،
كالاب، والابن، وروح القدس.


فراى ان المراد بالاب هو الرب، والابن هو المصطفى المحبوب،
وروح القدس هو ما ينزله اللّه تعالى على الانبياء والصالحين
ويويدهم به.


وراى ان هذه المعانى هى ظواهر الالفاظ، وان ماذهب اليه
النصارى تاويل بعيد لايدل عليه اللفظ.


وذكر الاناجيل الاربعه المعروفه وتاريخ تاليفها ودواعى تسرب
التحريف اليها، ثم تكلم حول التحريف الواقع فيها وفى التوراه
ايضا، لكن كلامه هنا جاء مجملا جدا، مفتقرا للتفصيل.


فهو يرى
ان التحريف قد حصل فى بعض الفاظها، ولكن لم يبين شيئا
عن حجم هذا البعض، ولاعن موضوعاته، فقال: (والصواب الذى
عليه الجمهور انه بدل بعض الفاظها).


ولكنه فى موضع آخر يومى الى ان هذا البعض قليل، وان
التحريف الكثير كان فى معانى الالفاظ، لافى الالفاظ نفسها،
فيقول: (جمهور المسلمين يقولون ان بعض الفاظها بدل، كما
قد بدل كثير من معانيها).


وهذا خلاف ما اثبته اهل التحقيق
فى هذا الباب من ان هذه الاناجيل والتوراه لم تحتفظ الا
بالقليل من نصوص الشريعه بالفاظها.


ولكنه فى موضع آخر نصر الراى القائل بوجود نسخ صحيحه لم
يطرا عليها التحريف البته، قال: والصحيح هو ان فى الارض
نسخا صحيحه بقيت الى عهد النبى (، ونسخا كثيره محرفه.


وحين لا تجد عنده ذكرا للانجيل الخامس، انجيل برنابا، فهو
معذور فى ذلك، فهذا الانجيل اضاعه النصارى فخفى على
العرب.


فمنذ سنه 492 للميلاد اى قبل المبعث النبوى الشريف بنحو
مئه وعشرين عاما - صدر امر البابا جلاسيوس الاول بحظر هذا
الكتاب ومصادرته، لما حمله من حقائق فاضحه لهذه الاناجيل
المتداوله.


وبقى مختفيا حتى القرن الثامن عشر، حيث ظهرت
له نسخه ايطاليه لاول مره سنه 1709م، ولم يعرف العرب ما فيه
حتى نقله الى العربيه الدكتور خليل سعاده سنه 1908.


ومما احتفظ به هذا الانجيل البشاره بنبينا الاكرم (ص) كما
وردت فى القرآن الكريم، والاحكام والتعاليم السماويه التى نزل
بها الانجيل، وفيه رد على ما طرا عليها من تحريف، ففى
مقدمته يقول: ان اللّه العظيم افتقدنا فى هذه الايام الاخيره
بنبيه يسوع المسيح برحمه عظيمه للتعليم والايات التى
اتخذها الشيطان ذريعه لتضليل كثيرين بدعوى التقوى !
مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن اللّه، ورافضين
الختان الذى امر اللّه به دائما، ومجوزين كل لحم نجس، الذى
ضل فى عدادهم ايضا بولس، الذى لا اتكلم عنه الا مع الاسى ! .


وفى آخره يقول: ان فريقا من الاشرار المدعين انهم تلاميذ
بشروا بان المسيح مات ولم يقم، وآخرين بشروا بانه مات
بالحقيقه ثم قام، وآخرين بشروا ولا يزالون يبشرون بان يسوع
هو ابن اللّه ! .


وينقل قول المسيح (ع): (انى اشهد امام السماء، واشهد كل
ساكن على الارض انى برى ء من كل ما قال الناس عنى من انى
اعظم من بشر، لانى بشر مولود من امراه، وعرضه لحكم اللّه،
اعيش كسائر البشر، عرضه للشقاء العام).


واما عن نبينا الاعظم (ص) فان برنابا يذكره باسمه الصريح
وباسم مسيا، ورسول اللّه فى عده مواضع، منها:
قول المسيح (ع): (ان الايات التى تظهر على يدى تظهر انى
اتكلم بما يريد اللّه، ولست احسب نفسى نظير الذى تقولون
عنه، لانى لست اهلا لان احل رباطات او سيور حذاء رسول اللّه
الذى يسمونه مسيا الذى خلق قبلى وسياتى بعدى بكلام الحق،
ولا يكون لدينه نهايه).


وقوله (ع): (وبعد هذه السنين يجى ء الملاك جبريل الى
الجحيم ويسمعهم يقولون: يا محمد، اين وعدك لنا ان من كان
على دينك لا يمكث فى الجحيم الى الابد؟ فيعود حينئذ ملاك
اللّه الى الجنه، وبعد ان يقترب من رسول اللّه باحترام يقص عليه
ما سمع.


فحينئذ يكلم الرسول اللّه ويقول: ربى والهى اذكر
وعدك لى - انا عبدك - بان لا يمكث الذين قبلوا دينى فى
الجحيم الى الابد.


فيجيب اللّه: اطلب ما تريد يا خليلى لانى
اهبك كل ما تطلب) .


فلو كان هذا الانجيل معروفا عند المسلمين لكان مقدما
عندهم فى احتجاجهم على النصارى بلا ريب، ولكان معتمدا
ايضا فى الحديث عن وحده الاديان وتقارب الشرائع السماويه.


ولو كان هذا الانجيل حيا بين النصارى لتعارفت امم الارض
وتقاربت اكثر، ولاختفى كثير من الشر الدائر بينها.


الباب الثانى- ميادين عقائده الكبرى
الفصل الاول-الاجتهاد والتقليد
ما زال حديثا قرار المستنصر العباسى بايصاد ابواب الاجتهاد،
ووقفها على المذاهب الاربعه ! القرار الذى سرى سريعا فى
ارواح المقلدين، فتعصب له المشايخ والسواد وكانه السنه
المحمديه المفقوده، وقد عثر عليها توا ! .


فمنذ قرى ذلك النداء فى المدرسه المستنصريه سنه 631 ه
صار الخروج عليه بدعه مستنكره لا يرجى لصاحبها مغفره ! .


من هنا عد تمرد ابن تيميه على هذا القرار اهم ما اخذ عنه، وبه
اشتهر.


وقد سبقه الى هذا المضمار اعلام كبار، منهم: ابو شامه
المقدسى الدمشقى (ت 665 ه) وقبله كان عز الدين بن
(عبدالسلام (ت 660 ه) شيخ الشافعيه وفقيههم فى عصره،
ومن قوله فى ذلك:
من العجب ان الفقهاء المقلدين يقف احدهم على ضعف ما اخذ
به امامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلده فيه،
ويترك من شهد الكتاب والسنه والاقيسه الصحيحه لمذهبهم،
جمودا على تقليد امامه ! .


بل يتحيل لدفع ظاهر الكتاب والسنه ويتاولها بالتاويلات
البعيده الباطله نضالا عن مقلده ! .


/ 12