المذكرات اليومية
قلنا إن الطلبة في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) كانوا يكتبون الدرس على لوحة خشبية ليسهل نقله على الجلد أو الورق إن وجد في ما بعد. ولا ريب في أن هذه الطريقة، أي طريقة استنساخ الدرس أو الكتب، كانت متبعة في المعاهد العلمية كجنديسابور والاسكندرية والرها وغيرها.
والمعروف أن جزءاً كبيراً من كتب حكماء اليونان وصل الينا بفضل المذكرات والتسجيلات اليومية للدروس التي كانوا يلقونها على تلاميذهم.
وكان الاهتمام بالكتب العلمية لحفظها واستنساخها منحصراً في الطلبة والباحثين، أما عامة الناس أو الجمهور فلم يكونوا يهتمون إلا بالكتب الأدبية وبدواوين الشعراء الخاصة، فكان نصيب هذه الكتب من الحفظ والاستنساخ والشيوع أوفى وأكبر من الكتب العلمية.
يضاف إلى هذا أن العلماء والحكماء لم يجدوا من الوقت ما يكفي لتسجيل آراءهم أو لتدوين الكتب، فكيف باستنساخها وتناقلها؟ وكان الواحد منهم يقضي أحياناً نصف عمره أو يزيد في تأليف كتاب أو تدوين نسخة منه.
وبصورة عامة، فهناك كثير من الآراء والنظريات العلمية لعلماء أفذاذ تاهت إلينا بفضل المذكرات أو التسجيلات التي دوّنها تلميذ من تلامذتهم بخط يده.
وكان لتشجيع الحكام والسلاطين دور كبير في نشر العلوم واستنساخ الكتب. فمن ذلك مثلاً أنه لولا تشجيع الملك الساساني شابور وابنه واهتمامهما بجمع (الاوفستا) (كتاب زردشت المقدس) وتدوينه، لما وصلت إلينا نسخة من هذا الكتاب الديني المقدس.
ومن المؤسف أننا لا نجد في النصوص البهلوية القديمة التي وصلت الينا، نصاً في الطب، وليس معنا هذا أن المدارس والمعاهد العلمية القديمة كجنديسابور واصطحر وبلخ وغيرها في فارس لم تخلّف إنتاجاً علمياً ولا سيما في الطب، فالمؤكد أن الحوادث والحروب المتلاحقة أتت على الكثير من هذه الآثار.
يقول البروفسور إدوار براون: إن كثيراً من أبناء الفرس (الزردشتيين) الذين توجهوا إلى الهند وأقاموا بها، كانوا يتدارسون الكتب العلمية والفارسية في الطب والصيدلة والعقاقير.
ومن المعروف أيضاً أن كتب الطب والصيدلة في العالم تحمل كثيراً من أسماء النبات والحشائش والعقاقير الفارسية، مما لا يدع مجالاً للشك في أن الكتب والمؤلفات القديمة في هذا الباب قد دمرّت أو أحرقت، أو أتت عليها الحروب والزلازل وأسباب الخراب، ولا يستبعد أيضاً أن يكون الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قد تناول بعض هذه الكتب واطلّع على فنون الطب عند الفرس(7).
1 - قال أبو هفان قلت لإبن ماسويه (الطبيب): أن جعفراً بن محمد (عليه السلام) قال: الطبائع أربع: الدم وهو عبد وربما قتل العبد سيده، والريح وهو عدو إذا سددت له باباً أتاك من باب آخر، والبلغم وهو ملك يدارى، والمرة وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها، فقال ابن ماسويه: أعد عليّ، فوالله ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف.
مناقب آل ابي طالب: لأبي جعفر رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب المتوفي سنة588 هـ طبع قم ايران ج4 ص259.
وقد عين علم الـطب الحديث بأن المـرة أو الصفراء هي اليوريا (Uree) وأن البلغم أو السوداء البلغي: هو حامض اليوريا (Acide Urique)(المترجم).
2 - جبرائيل بن بختيشوع من اسرة أطباء أصلحهم من جنديسابور، خدموا الخلفاء العباسيين قرابة ثلاثة قرون، وجبرئيل بن بختيشوع من أشهرهم، وله كتاب نافعة في الطب والمنطق، وله رسائل وجهها إلى المأمون ذكرها ابن النديم في الفهرست توفي عام 214 هـ ـ828م. والاسم مركب من بُخت بضم الأول أي الخادم أو العبد، ويشوع أي المسيح، يعني عبد المسيح (المترجم).
3 - جاء ذكر هذا الطبيب أخباره في (تاريخ الشعوب الاسلامية) لبروكلمان، الذي ذكر أن الطبيب الهندي الذي استدعاه هارون الرشيد من الهند اسمه (منكه). (تاريخ الشعوب الاسلامية) ج1 ص 202.
4 - أشهر مدارس الطب في مصر مدرسة سائيس، أما فارس، فأشهر مدارسها مدرسة جنديسابور في القطاع الجنوبي لفارس، وقد كانت على درجة كبيرة من التقدم، واحتضنت عدداً كبيراً من طلبة الفرس وغيرهم. وكانت الدولة الساسانية معنية بالعلوم والفنون عناية كبيرة، ولكن العقبة التي اعترضت سبيلها هي وجود طبقي سائد يقصر الدراسة على ابناء طبقة معينة، ويمنع عنها من لا ينتمي إلى هذه الطبقة مهما كان ذكاؤه أو رغبته في العلم. وكانت هذه التفرقة الطبقية عاملاً من العوامل التي أدت إلى قيام الثورة المانوية في أيام الدولة الساسانية، إذ كان (ماني) يعارض النظام الطبقي السائد ويقول أن العلم للجميع وأن من الواجب على الدولة أن تهيئ أسباب العلم لجميع أبناء الوطن. ولكن (ماني) لم ينجح في نشر أفكاره الثورية، فقبض عليه وقتل، وأغمد السيف في أنصاره وأتباعه وفرَّ من نجا منهم إلى الصين، وهناك استوطنوا في إقليم طورفان (تركستان الصينية) وأبقوا على لغتهم الفارسية، ولقنوها لأبنائهم، وأسسوا مدرسة للطب، وكان اقليم طروفان من المراكز الهامة التي حافظت على ثقافة فارس وحضارتها وعلى الخط البهلوي. وهناك طائفة كبيرة من العلوم والكتب التي دونت بالخط الساساني. وتعطينا الآثار الباقية من حضارة طورفان التركية المغولية صورة جلية عن مستوى العلم والحضارة الفارسية فيها، وقد حرص الفرس في هذه المنطقة على الاحتفاظ عبر القرون باللغة والعادات والتقاليد الفارسية القديمة، وبقيت اللغة البهلوية على ما كانت عليه، ولم تبتل بالتغيير (هزوارش) الذي أدخله الكتبة الآراميون على الكتابة البهلوية، فقد كان من عادة الآراميين أن يكتبوا اللفظة بالآرامية وينطقوها بالبهلوية.
فمن ذلك مثلاً أن الفرس يقال لهم في الآرامية (كتل)، فكان الآراميون يكتبون لفظة (كتل) وينطقونها (أسب)، أي الفرس بالبهلوية. فاصبح نطق الألفاظ يختلف عما كان عليه، وجاء الجيل الجديد وهو لا يعرف أصول لغته، فهجرت البهلوية في عقر دارها، ولكنها على قيد الحياة في مناطق أخرى منها منطقة طورفان. (المترجم).
5 - كانت أمراض الأطفال المعدية واسعة الانتشار (المترجم) في شبه الجزيرة العربية يقول لورانس الانجليزي في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) إن عدد سكان شبه الجزيرة العربية في نهاية القرن الثامن عشر لم يختلف عنه في صدر الاسلام، بسبب تفشي الأوبئة وأمراض الأطفال.
6 - سبق القول بأن بعض قواعد الطب قد وردت في أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) التي جمع بعضها في كتب الطب النبوي المتداولة والمشهورة.
7 - وقد مر في التمهيد بأن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) كان يعرف الفارسية ويتحدث بها (المترجم).