وعلى الرغم من بُعْدِ الشقة في الخلفية الحضارية بما فيها بُعدا الزمان والمكان بين تجربتي الكاتبين في الرواية، إلاّ أنّهما يلتقيان في المنظور الإنساني الذي لا يعرف حدود الجغرافية أو التاريخ. هذا المنظور المشترك يولد عندما يحلّ رأس المال على الأرض الآمنة العزلاء التي تنعم مع أهلها بالأمن والعزلة واستمرارية العيش المتواضع، من أوسع الأبواب فيهتك الستر ويغيّر ما تعوّد الناس عليه من راحة البال والاطمئنان. كل هذا يولّد نوعاً من الخداع: خداع النفس، وخداع الآخرين معاً (betrayal). وهو موتيف ترتكز عليه في التحليل النهائي رواية نوسترومو ويشكّل النسيج الداخلي لرواية مدن الملح وتصبح الحياة في هذه الحالة كما تصوّرها شخصيات الروايتين مقامرة فيها الربح وفيها الخسارة. وتكمن المفارقة (irony) التي هي عصب العمل الروائي في نوعية الربح ونوعية الخسارة!ومن الواضح أنّ الروايتين تصوّران الصراع من أجل الوصول إلى الربح المادي بشتّى الطرق غير المشروعة وأنّ العلاقة وطيدة بين الفساد والمصالح المادية. هذه هي الصورة التي تصل إلينا من خلال الممارسات التي تتمثل في الجهود اليائسة التي تبذلها الشخصيات الرئيسية وهي تسعى نحو الوصول إلى الكنز المادي. أمّا الوجه الآخر للصورة الشاملة الذي لايظهر على السطح فهو خسارة الكنز الحقيقي.الكنز الحقيقي وخسارته في معركة البحث عن الكنز المادي هو المغزى الحقيقي عند كل من كونراد وعبد الرحمن منيف، ولا يعرض الكاتبان لهذه الخسارة بقدر ما يعرضان للربح، ولا يعرضان للربح بقدر ما يعرضان للمعركة الضارية التي تتسبّب عن الإغراء والخداع والمقامرة التي تنتج جرّاء الخلط بين الوهم والحقيقة، فعندما يمارس الفرد حياة وهمية معتقداً أو ظانّاً أنها الحقيقة، يختلّ ميزان القيم عنده، ويعيش حياة خاسرة مهما بدت في ظاهرها رابحة، ومهما بدا في الربح من عزاء.