في القرن العشرين، تغيرت أحوال المجتمع الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، وفقد الكاتب ثقته بمؤسسات مجتمعه التي كانت تفرض هيمنتها على الفرد. ونتيجة لذلك استقل الكاتب عن المجتمع، وأصبحت له هوية مستقلة مكوناتها فنيته لا قيم وعادات وتقاليد ورغبات المجتمع بشكل عام. قال جويس مرة إنه كتب رواية يوليسيز بفنية ستشغل النقاد لمئة عام قادمة، وقد ثبت ذلك؛ لأنها ما زالت مستمرة في إشغالهم.وظلت قضيته الواقعية قائمة ولكنها اتخذت بعداً مغايراً. فبدلاً أن كانت بعداً خارجياً وهو ما يحدث في الطبيعة، في الكون، في التاريخ إلى آخر ذلك أصبحت بعداً داخلياً. وهكذا تحول السرد من حوادث تتسلسل زمنياً إلى مشاعر تنبثق دون إعداد مسبق من داخل النفس البشرية. وأصبحت الرواية عند فرجينيا وولف وجيمز جويس وغيرهم تتكون في غالبها من تداعيات تنطلق من اللاشعور متجاوزة تقاليد الحبكة والقصة إلى الأحلام والمخاوف والآمال الفردية التي تتموج داخل النفس البشرية. ولم تعد الرواية ثيمات مألوفة عن الحب والملهاة والمأساة والغنى بعد الفقر وما شابه ذلك، بل أصبحت استكشافاً لخبايا النفس التي لم تطرق من قبل، وغوصاً في أعماقها بحثاً عن حقيقة أعمق من الحقيقة الخارجية للحوادث والأشياء والظواهر المألوفة للحس الخارجي. باختصار أصبح جل اهتمام الكاتب بالشخصية بدلاً من الحدث، وهذه هي أهم علامة في تطور الرواية.وبهذا التطور لم تعد الرواية هدفاً للتسلية، أو قضاء الوقت، بل أصبحت عملاً فكرياً وفنياً يتطلب جهداً خاصاً من الكاتب، ومن ثم جهداً متميزاً من القارئ، الذي أصبح لزاماً عليه أن يقرأ وهو يفكر، وأن يتأنى في قراءته، حتى يتمكن من متابعة الصورة التي يرسمها الكاتب للشخصية والتي تتميز بفردية لم يسبق لها نظير، وأصبح لزاماً على القارئ أن يكون ملماً بحضارة العصر التي تشكل جزءاً هاماً من خلفية الرواية. فنحن نعلم مثلاً أن الرواية الحديثة تأثرت بعلم النفس، وفلسفة العصر، ومن أقطاب الحضارة الذين تركوا بصماتهم على الرواية: فرويد ويونغ وبيرجسون وآينشتاين، وجميعهم ساهموا مساهمة جليلة في خلق منظور جديد للزمن الذي لم يعد مجرد زمن الوحدات المعروفة بالدقائق والساعات والأسابيع والأشهر والسنين التي تتسلسل بطبيعتها خارج وعي الإنسان. باختصار أصبح الزمن نسبياً واستثمر الكتاب هذه النسبية في الزمن خير استثمار. فقد بيّن الكتّاب المحدثون أن قيمة الحدث لا تكمن في كونه حدثاً في منظومة الزمن الذي تحدده ساعة الحائط، بل استجابة شعورية داخلية خارجة عن إطار الزمن المألوف، قد تمتد وتتعمق داخل إحساس الفرد لتلغي في النهاية وحدات الزمن المعروفة المتسلسلة من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. وذكر بيرجسون أن الزمن أشبه بكرة جليد تتدحرج من قمة جبل ثلجي، فما أن تصل إلى قاع الجبل حتى تكون قد التقطت في طريقها كميات من الثلج جعلتها أكبر مما كانت عليه عند البداية. هذا هو مفهوم الزمن عند بيرجسون: فترة زمنية (duration) تكبر ويتسع مداها، ليس وهي تتحرك من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، بل وهي تتفاعل في نطاق الإحساس الحاضر. ومن هذا المنطلق كتب بروست تحفته الخالدة في العمل الروائي في اثني عشر مجلداً واسمها أشياء من الذاكرة تعتمد على أسر اللحظة المعينة التي تمتد وتتسع لتختزن الإحساس بالحياة الذي ينطلق خارج الزمن، ونحن نعلم أن الأحداث في رواية جويس الشهيرة: يوليسيز تتم في ثمان وأربعين ساعة بدلاً من مئات السنين التي استغرقتها حوادث الأوديسيا، أي أنه من خلال المفهوم الحديث للزمن استطاع أن يختزل الزمن الخارجي مستعيضاً عنه بالشعور الداخلي للشخصية الروائية.