وسراب عفان هنا في هذه المكاشفة أشبه بالطائر الفينيقي الذي يخرج من الرماد أو بفينوس التي تخرج من القوقعة في البحر مجدّدة الحياة ومذكّرة بديمومتها. وتبدأ المكاشفة بعرض للاجهاضات المتتالية التي مرّت بها المسيرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وبعد هذه الإجهاضات ولدت سراب عفان حيّة متحدّية قوى الإجهاض، بل ومسلّحة بمناعة تقاوم الاستمرارية الباهتة في حياة الأمّة بأكملها.وبلقطة سريعة، استطاعت سراب عفان أن تلخّص هذه الاستمرارية عندما أشارت إلى والدها، عندما لمست أنّ الحياة اليومية وديمومتها، قد حوّلت أنظاره عن المحنة الرئيسية في ربع القرن الماضي، فراح يعيش مثل بقية الناس مشغولاً بمتطلبات الحياة المعيشية: "ما عاد يهمّه ما كان يهمّه قبل ربع قرن من زمن رديء".سراب عفان إذن ربيع يولد في الرماد، ومن الطبيعي أن تكون بحاجة إلى من يثري حياتها بل ويبعث في روحها الاخصاب، إذا كان لا بُدَّ لها أن تكون أكثر من سراب. فهي على وعي أنها بالنسبة لأقرب الناس إليها ما زالت سراباً على الرغم من أنّ والدها يصرّح أنها لم تعد كذلك، وترفض الدور التقليدي للمرأة كمجرّد ابنة أو زوجة يرتوي به الوالد أو الزوج وهو السبب نفسه الذي من أجله ترفض واقع الحياة الذي أصبح يتعايش معه والدها، وكأنّ الحياة أصبحت فقط واقعاً يقي من الظمأ. تلاحظ سراب عفان أنّ الارتواء من ضروريات الحياة ينسي المحنة، ومن هذا المنطلق ترفض سراب الواقع بأكمله بل وترفض أن تكون مكمّلة لهذا الواقع، وتجد ضالّتها في الدخول في المرايا؛ لأنّها تسمو بها عن الواقع، الذي يقبله الناس من حولها. وعلى الرغم من أننا لا نعلم الكثير عن الرواية نفسها، فإننا نعلم ما يكفي عن تأثيرها على سراب عفان. فمغزى الرواية يكمن في مسرحتها من قِبَل سراب عفان وليس في نصّها المستقلّ (وهو أسلوب اتّبعه عدد من كبار الروائيين أمثال كونراد)، أي أنّه لا يهمّ سراب عفان أن تحاكي الصور التي تعكسها مرايا الرواية، بل يهمّها بشكل خاص الدخول في هذه الصور إلى رؤية أبعد، والانتقال من الواقع الجامد إلى الخيال المتحرّك:"بعض الناس يطلقون فيّ رندة، وبعضهم يطلق سراب. ويبدو أنّ نائل عمران يطلق الاثنين معاً -للدخول في المرايا. مع نائل أجني رندة وسراب بتعاقب سريع، وتداخل سريع، وتباعد سريع"(71)هذا هو الفنّان مع فنّه، والراوي مع روايته: تعاقب الواقع والخيال وتداخلهما وتباعدهما بسرعة في محاولة لإلغاء البُعدين المكاني والزماني، وتأسيس البُعد الجمالي الذي من خلاله تخترق الواقع وتحوّله إلى خيال يتمشّى مع خيالها.