التقيّة في الشريعة الإسلامية
أقسام النسخ والموقف من نسخ التلاوة
قسّموا النسخ في الكتاب العزيز إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ نسخ الحكم دون التلاوة، وهذا هو القسم الذي نطق به محكم التنزيل، وهو المشهور بين العلماء والمفسرين ، وهو أمر معقولٌ مقبولٌ، حيث إنّ الأحكام لم تنزل دفعة واحدة، بل نزلت تدريجياً لتألفها النفوس وتستسيغها العقول، فنسخت تلك الأحكام وبقيت ألفاظها لأسرار تربوية وتشريعية يعلمها الله تعالى.
2 ـ نسخ التلاوة دون الحكم، وقد مثّلوا له بآية الرجم، فقالوا: إنّ هذه الآية كانت من القرآن ثمّ نسخت تلاوتها وبقي حكمها.
3 ـ نسخ التلاوة والحكم معاً، وقد مثّلوا له بآية الرضاع.
وقد تقدّم في ثنايا البحث السابق، أنّ البعض حمل قسماً من الروايات الدالة على النقصان، على أنّها آيات نسخت تلاوتها وبقيت أحكامها، أو نسخت تلاوةً وحكماً، وذلك تحاشياً من التسليم بها، الذي يفضي إلى القول بتحريف القرآن، وفراراً من ردّها وتكذيبها الذي يؤول إلى الطعن في الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة، أو الطعن في الأعيان الذين نُقلت عنهم، ولا شكّ أن القول بالضربين الأخيرين من النسخ هو عين القول بالتحريف، وهو باطل لما يلي:
أ ـ يستحيل عقلاً أن يرد النسخ على اللفظ دون الحكم، لأنّ الحكم لا بدّ له من لفظ يدل عليه، فإذا رفع اللفظ فما هو الدليل الذي يدل عليه؟
فالحكم تابع للفظ، ولا يمكن أن يرفع الأصل ويبقى التابع.
ب ـ النسخ حكم، والحكم لابدّ أن يكون بالنصّ، ولا انفكاك بينهما، ولا دليل على نسخ النصوص التي حكتها الآثار المتقدّمة وسواها، إذ لم ينقل نسخها ولم يرد في حديث عن النبي(صلى الله عليه وآله)في واحد منها أنّها منسوخة، والواجب يقتضي أن يبلّغ الاُمّة بالنسخ، كما بلّغ بالنزول، وبما أنّ ذلك لم يحدث فالقول به باطل.
ج ـ الأخبار التي زعم نسخ تلاوتها أخبار آحاد، ولا تقوى دليلاً وبرهاناً على حصوله، إذ صرحوا باتفاق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد[1]، ونسبه القطّان إلى الجمهور[2] ، وعلّله رحمة الله الهندي بأنّ خبر الواحد إذا اقتضى عملاً ولم يوجد في الأدلّة القاطعة ما يدلّ عليه وجب ردّه[3]، بل إن الشافعي وأصحابه وأكثر أهل الظاهر، قد قطعوا بامتناع نسخ القرآن بالسنّة المتواترة، وبهذا صرّح أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل من قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة منع وقوعه[4]، لذا لا تصحّ دعوى نسخ التلاوة مع بقاء الحكم أو بدونه، حتّى لو ادّعي التواتر في أخبار النسخ، فضلاً عن كونها أخبار آحاد ضعيفة الإسناد واهية المتن كما تقدّم .
د ـ أنكر بعض المعتزلة وعامة علماء الإمامية وأعلامهم الضربين الأخيرين من النسخ واعتبروهما نفس القول بالتحريف، وكذا أنكرهما أغلب علماء ومحققي أهل السنّة المتقدمين منهم والمتأخرين ، وحكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم إنكار الضرب الثاني منه[5]، وأنكره أيضاً ابن ظفر في كتاب الينبوع[6] ، ونُقل عن أبي مسلم : أنّ نسخ التلاوة ممنوع شرعاً[7].
بطلان نسخ التلاوة
وفيما يلي بعض أقوال محقّقي أهل السنّة في إبطال القول بنسخ التلاوة:
1 ـ قال الخضري: أنا لا أفهم معنى لآية أنزلها الله تعالى لتفيد حكماً ثم يرفعها مع بقاء حكمها، لأنّ القرآن يقصد منه إفادة الحكم والإعجاز معاً بنظمه، فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إنّ ذلك غير مفهوم، وقد أرى أنّه ليس هناك ما يدعو إلى القول به[8].
2 ـ وقال الدكتور صبحي الصالح: أمّا الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث اللذين نسخت فيهما بزعمهم آيات معينة، إمّا مع نسخ أحكامها وإمّا دون نسخ أحكامها، والناظر في صنيعهم أضرب إنّما يصلح إذا كان لكلّ ضرب شواهد كثيرة أو كافية على الأقل ليتيّسر استنباط قاعدة منها، وما لعشّاق النسخ إلاّ شاهد أو اثنان على كلّ من هذين الضربين، وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها[9].
3 ـ وقال الدكتور مصطفى زيد: ومن ثمّ يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرّد فرض لم يتحقّق في واقعة واحدة، ولهذا نرفضه، ونرى أنّه غير معقول ولا مقبول[10].
4 ـ وقال عبدالرحمن الجزيري: إنّ الأخبار التي جاء فيها ذكركلمة (من كتاب الله) على أنّها كانت فيه ونسخت في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) فهذه لا يُطلق عليها أنّها قرآن، ولا تُعطى حكم القرآن باتفاق، ثم ينظر إن كان يمكن تأويلها بما يخرجها عن كونها قرآناً، فإنّ الإخبار بها يعطي حكم الحديث، وإن لم يمكن تأويلها فالذي أعتقده أنّها لا تصلح للدلالة على حكم شرعي، لأنّ دلالتها موقوفة على ثبوت صيغتها. وصيغتها يصحّ نفيها باتفاق ، فكيف يمكن الاستدلال بها؟! فالخير كلّ الخير في ترك مثل هذه الروايات[11].
5 ـ وقال ابن الخطيب: أمّا ما يدّعونه من نسخ تلاوة بعض الآيات مع بقاء حكمها، فأمر لا يقبله إنسان يحترم نفسه، ويقدّر ما وهبه الله تعالى من نعمة العقل، إذ ما هي الحكمة من نسخ تلاوة آية مع بقاء حكمها؟ ما الحكمة من صدور قانون واجب التنفيذ ورفع ألفاظ هذا القانون مع بقاء العمل بأحكامه؟ ويستدلّون على باطلهم هذا بإيراد آية من هذا النوع يدّعون نسخها، ويعلم الله تعالى أنّها ليست من القرآن، ولو كانت لما أغفلها الصحابة رضوان الله عليهم ولدونها السلف الصالح في مصاحفهم[12].
القسم الثاني: الروايات الدالّة على الخطأ واللحن والتغيير
1 ـ روي عن عثمان أنّه قال: إنّ في المصحف لحناً، وستقيّمه، العرب بألسنتها. فقيل له: ألا تغيره؟ فقال: دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراماً، ولا يحرّم حلالاً[13].
حمل ابن أشتة اللحن الوارد في الحديث على الخطأ في إختيار ما هو أولى من الأحرف السبعة، وعلى أشياء خالف لفظُها رَسْمها، وهذا الحمل غير مستقيم، والأولى منه هو ترك الرواية وتكذيبها وإنكارها ، كما فعل الداني والرازي والنيسابوري وابن الأنباري والآلوسي والسخاوي والخازن والباقلاني وجماعة آخرون[14]، حيث صرّحوا أن هذه الرواية لا يصحّ بها دليل ولا تقوم بمثلها حجّة، لأن إسنادها ضعيف، وفيه اضطراب وانقطاع وتخليط، ولأن المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلا يمكن ثبوت اللحن فيه، ثم إن ما بين الدفّتين هو كلام الله بإجماع المسلمين، ولا يجوز أن يكون كلام الله لحناً وغلطاً، وقد ذهب عامّة الصحابة وسائر علماء الاُمّة من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه أدنى خطأ من كاتب ولا من غيره، واستدلّوا أيضاً على إنكار هذه الرواية بقولهم: إنّ عثمان جعل للناس إماماً، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيّمه العرب بألسنتها، أو يؤخّر شيئاً فاسداً ليصلحه غيره؟! وإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيّموا ذلك ـ وهم الخيار وأهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك ـ فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم! ثمّ إن عثمان لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدة مصاحف، فلم تأتِ المصاحف مختلفة قطّ، إلاّ فيما هو من وجوه القراءات والتلاوة دون الرسم، وليس ذلك باللحن[15].
والذي يهوّن الخطب في هذه الرواية ومثيلاتها الآتية، أنّها برواية عكرمة مولى ابن عبّاس، وكان من أعلام الضلال ودعاة السوء، وكان يرى رأي الخوارج، ويضرب به المثل في الكذب والافتراء، حتّى قدح به الأكابر وكذّبوه، أمثال ابن عمر ومجاهد وعطاء وابن سيرين ومالك بن أنس والشافعي وسعيد بن المسيّب ويحيى بن سعيد، وحرّم مالك الرواية عنه، وأعرض عنه مسلم[16].
2 ـ روي عن ابن عباس في قوله تعالى: (حتّى تستأنسوا وتسلّموا)[17] قال: إنّما هو (حتّى تستأذنوا) ، وأنّ الأ وّل خطأٌ من الكاتب[18]، والمراد بالاستئناس هنا الاستعلام، أي حتّى تستعلموا مَن في البيت، فهذه الرواية مكذوبة على ابن عباس ولا تصحّ عنه، لأن مصاحف الإسلام كلّها قد ثبت فيها (حتّى تستأنسوا) وصحّ الإجماع فيها منذ عهد الرسول(صلى الله عليه وآله)وإلى الآن، فلا يعوّل على مثل هذه الرواية، قال الرازي: إعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر، لأنّه يقتضي الطعن في القرآن الذي نُقل بالتواتر، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم يُنقل بالتواتر، وفتح هذين البابين يطرق الشكّ في كل القرآن، وانّه باطل[19].
وقال أبو حيان : من روى عن ابن عبّاس أنّ قوله تعالى: (حتّى تستأنسوا) خطأ أو وهمٌ من الكاتب، وأنّه قرأ (حتّى تستأذنوا) فهو كافرٌ في الإسلام مُلحد في الدين، وابن عباس بريءٌ من هذا القول[20].
3 ـ روى عروة بن الزبير عن عائشة: أنّه سألها عن قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم)[21] ثم قال: (والمقيمين) ، وفي المائدة: (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون)[22]، و(إن هذان لساحران)[23] فقالت : يابن أخي، هذا عمل الكُتّاب، أخطأوا في الكتاب[24].
أمّا قوله تعالى: (والمقيمين) فانّه على العطف يكون (والميقمون) كما في قراءة الحسن ومالك بن دينار، والذي في المصاحف وقراءة اُبيّ والجمهور (والمقيمين) قال سيبويه: نُصِب على المدح، أي وأعني المقيمين وذكر له شواهد وأمثلة من كلام العرب[25].
قال الآلوسي : ولا يُلتفت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن، وأنّ الصواب (والمقيمون) بالواو، إذ لا كلام في نقل النظم متواتراً ، فلا يجوز اللحن فيه أصلاً[26] .
وأمّا قوله تعالى: (والصابئون) بالرفع فهو معطوفٌ على محلّ اسم إنّ.
قال الفراء: ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يتبيّن فيه الإعراب، كالمضمر والموصول، ومنه قول الشاعر:
فمن يكُ أمسى بالمدينة رحله***فإنّي وقيارٌ بها لغريبُ
برفع (قيار) عطفاً على محلّ ياء المتكلّم[27] وقد أجاز الكوفيون والبصريون الرفع في الآية واستدلّوا بنظائر من كلام العرب.
وقال صاحب المنار: قد تجرّأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن، وعدّ رفع (الصابئين) هنا من هذا الغلط، وهذا جمعٌ بين السخف والجهل، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة، ولم تستنبط اللغة منه[28].
وأمّا قوله تعالى: (إن هذان لساحران) فإنّ القراءة التي عليها جمهور المسلمين هي تخفيف إن المكسورة الهمزة، فتكون مخففةٌ من الثقيلة غير عاملة، ورفع (هذان).
قال الزمخشري: إن هذان لساحران على قولك: إنّ زيد لمنطلق، واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة[29]، وعليه فلا إشكال في هذه الآية، ولا لحن من الكُـتّاب!
قال الرازي: لما كان ثقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن، فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر، وإلى القدح في كلِّ القرآن، وانّه باطل[30].
القسم الثالث: الروايات الدالّة على الزيادة
1 ـ روي عن عبدالرحمن بن يزيد،أنّه قال: كان عبدالله بن مسعود يحكّ المعوذتين من مصحفه، ويقول: إنّهما ليستا من كتاب الله[31].
2 ـ وروي عن عبدالله بن مسعود، أنّه لم يكتب الفاتحة في مصحفه، وكذلك اُبي بن كعب[32].
تقدّم في معنى التحريف أنّ التحريف بالزيادة في القرآن مجمعٌ على بطلانه، لأنّه يفضي إلى التشكيك في كتاب الله المتواتر يقيناً كلمةً كلمة وحرفاً حرفاً، ومن ينكر شيئاً من القرآن فإنّه يخرج عن الدين، والنقل عن ابن مسعود غير صحيح، ومخالفٌ لما أجمع عليه المسلمون، منذ عهد الرسالة وإلى اليوم، من أنّ الفاتحة والمعوذتين من القرآن العزيز.
والرأي السائد بين العلماء في هاتين الروايتين، هو إنكار نسبتهما إلى ابن مسعود، وقالوا: إنّ النقل عنه باطل ومكذوب عليه كما صرّح به الرازي وابن حزم والنووي والقاضي أبو بكر والباقلاني وابن عبدالشكور وابن المرتضى وغيرهم[33]، وقال الباقلاني: إنّ الرواية شاذّة ومولدّة[34].
واستدلّوا على الوضع في هاتين الروايتين، بما روي من قراءة عاصم عن زرّ بن حبيش عن عبدالله بن مسعود، وفيها الفاتحة والمعوّذتان، فلو كان ينكر كون هذه السور من القرآن، لما قرأهما لزر بن حبيش، وطريق القراءة صحيح عند العلماء[35].
وقيل: إنّ ابن مسعود أسقط المعوذتين من مصحفه إنكاراً لكتابتهما، لا جحداً لكونها قرآناً يُتلى، أو لأنّه سمع النبي(صلى الله عليه وآله) يعوّذ بهما الحسن والحسين(عليهما السلام) فظنّ أنّهما ليستا من القرآن، فلمّا تبيّن له قرآنيتهما بعدُ وتمَّ التواتر، وانعقد الإجماع على ذلك ، كان في مقدمة من آمن بأنّهما من القرآن فقرأهما لزرّ بن حبيش، وأخذهما عاصم عن زرّ[36].
ثانياً: الموقف من روايات التحريف في المصادر الشيعية
سنورد هنا شطراً من الروايات الموجودة في كتب الشيعة الإمامية، والتي ادّعى البعض ظهورها في النقصان أو دلالتها عليه، ونبيّن ما ورد في تأويلها وعدم صلاحيتها للدلالة على النقصان، وما قيل في بطلانها وردّها، وعلى هذه النماذج يقاس ما سواها، وهي على طوائف:
الطائفة الاُولى: الروايات التي ورد فيها لفظ التحريف، ومنها:
1 ـ ما رُوي في الكافي بالإسناد عن علي بن سويد، قال: كتبتُ إلى أبي الحسن موسى(عليه السلام)وهو في الحبس كتاباً... وذكر جوابه(عليه السلام) ، إلى أن قال: اُؤتمنوا على كتاب الله، فحرّفوه وبدّلوه[37].
2 ـ ما رواه ابن شهر آشوب في المناقب من خطبة أبي عبدالله الحسين الشهيد(عليه السلام) في يوم عاشوراء وفيها: إنّما أنتم من طواغيت الاُمّة ، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب[38].
فمن الواضح أنّ المراد بالتحريف هنا حمل الآيات على غير معانيها، وتحويلها عن مقاصدها الأصلية بضروب من التأويلات الباطلة والوجوه الفاسدة دون دليل قاطع، أو حجة واضحة، أو برهان ساطع، ومكاتبة الإمام(عليه السلام) لسعد الخير صريحة في الدلالة على أنّ المراد بالتحريف هنا التأويل الباطل والتلاعب بالمعاني ، قال(عليه السلام): وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه...[39] أي إنّهم حافظوا على ألفاظه وعباراته، لكنهم أساءوا التأويل في معاني آياته.
الطائفة الثانية: الروايات الدالّة على أنّ بعض الآيات المنُزّلة قد ذُكِرت فيها أسماء الأئمة(عليهم السلام)، ومنها:
1 ـ ما رُوي في الكافي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) ، قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد(صلى الله عليه وآله)هكذا: (وإن كُنتم في ريب ممّا نزَّلنا عَلَى عَبْدِنا ـ في عليّ ـ فأتُوا بسُورة مِن مِثْلِهِ)[40] [41].
2 ـ ما رُوي في الكافي عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام)في قول الله تعالى: (ومَن يُطِع الله ورَسُولهُ ـ في ولاية عليّ والأئمة من بعده ـ فَقد فازَ فوزاً عظيماً)[42] هكذا نزلت[43] .
3 ـ ما رُوي في الكافي عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) : (ولو انّهم فعلوا ما يُوعظون به ـ في عليّ ـ لكان خيراً)[44].
ويكفي في سقوط هذه الروايات عن درجة الاعتبار نصّ العلاّمة المجلسي في مرآة العقول على تضعيفها، ويغنينا عن النظر في أسانيدها واحداً واحداً اعتراف المحدّث الكاشاني بعدم صحّتها[45].
قال السيد المحقق الخوئي: إنّ بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن، وليس من القرآن نفسه، فلابدّ من حمل هذه الروايات على أنّ ذكر أسماء الأ ئمة في التنزيل من هذا القبيل، وإذا لم يتمّ هذا الحمل فلابدّ من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب والسُنّة والأدلّة المتقدّمة على نفي التحريف[46].
وعلى فرض عدم إمكان الحمل على التفسير، فإنّ هذه الروايات معارضة بصحيحة أبي بصير المروية في الكافي ، قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن قول الله تعالى: (... أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم)[47]. قال: فقال: نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين(عليهم السلام). فقلت له: إنّ الناس يقولون : فما له لم يسمّ عليّاً وأهل بيته في كتاب الله؟ قال(عليه السلام): فقولوا لهم: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتّى كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو الذي فسّر لهم ذلك[48]. فتكون هذه الرواية حاكمة على جميع تلك الروايات وموضحة للمراد منها.
ويضاف إلى ذلك أنّ المتخلفين عن بيعة أبي بكر لم يحتجّوا بذكر اسم علي(عليه السلام) في القرآن، ولو كان له ذكر في الكتاب لكان ذلك أبلغ في الحجة، فهذا من الأدلّة الواضحة على عدم ذكره في الآيات.
ومما يضاف لهذه الطائفة من الروايات أيضاً ما يلي:
1 ـ ما رُوي في الكافي عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين(عليه السلام)، يقول: نزل القرآن أثلاثاً، ثلث فينا وفي عدوّنا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام[49].
2 ـ ما رُوي في تفسير العياشي عن الصادق(عليه السلام) ، قال: لو قُرئ القرآن كما اُنزل لألفيتنا فيه مُسمّين[50].
وقد صرّح العلاّمة المجلسي(رحمه الله) بأن الحديث الأول مجهول، أمّا الحديث الثاني فقد رواه العياشي مرسلاً عن داود بن فرقد، عمّن أخبره، عنه(عليه السلام)، وواضح ضعف هذا الإسناد، وعلى فرض صحّته فإنّ المراد بالتسمية هنا هو كون أسمائهم(عليهم السلام) مثبتة فيه على وجه التفسير، لا أنّها نزلت في أصل القرآن، أي لولا حذف بعض ما جاء من التأويل لآياته، وحذف ما أنزله الله تعالى تفسيراً له، وحذف موارد النزول وغيرها، لألفيتنا فيه مُسمّين، فلو فُسِّر كما أنزله الله تعالى وبدون كَدَر الأوهام وتلبيسات أهل الزيغ والباطل لألفيتنا فيه مُسمّين.
الطائفة الثالثة: الروايات الموهمة لوقوع التحريف في القرآن بالزيادة والنقصان، ومنها:
1 ـ ما رواه العياشي في تفسيره عن مُيسّر عن أبي جعفر(عليه السلام) ، قال: لولا أنّه زيد في كتاب الله ونقص منه، ما خفي حقّنا على ذي حجا، ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن[51].
2 ـ ما رواه الكليني في الكافي والصفار في البصائر عن جابر ، قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام)، يقول: ما ادّعى أحدٌ من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) والأئمة من بعده(عليهم السلام)[52].
3 ـ ما رواه الكليني في الكافي والصفار في البصائر عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام)، أنّه قال: ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء[53].
وهذه الطائفة قاصرة أيضاً عن الدلالة على وقوع تحريف القرآن في اللفظ والنصّ، فالحديث الأ وّل من مراسيل العياشي، وهو مخالف للكتاب والسنّة، ولاجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن ولا حرف واحد، وقد ادعى الاجماع جماعة كثيرون من الأئمة الأعلام، منهم السيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي وغيرهم كما عرفت. أما النقص المشار إليه في الحديث الأول فالمراد به نقصه من حيث عدم المعرفة بتفسيره وعدم الاطلاع على باطنه، لا نقص آياته وكلماته وسوره.
وقوله: ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن فإنّ الذي يصدّق القائم (صلوات الله عليه) هو هذا القرآن الفعلي الموجود بين أيدي الناس، ولو كان محرّفاً حقّاً لم يصدقه القرآن، فمعنى ذلك أنّ الإمام الحجة (صلوات الله عليه) سوف يُظهر معاني القرآن على حقيقتها بحيث لا يبقى فيها أي لبس أو غموض، فيدرك كلّ ذي حجا أن القرآن يصدّقه.
فالمراد من الحديث الأول ـ على فرض صحّته ـ أنّهم قد حرّفوا معانيه ونقصوها وأدخلوا فيها ما ليس منها حتّى ضاع الأمر على ذي الحجا.
أما الرواية الثانية ففي سندها عمرو بن أبي المقدام، وقد ضعّفه ابن الغضائري[54]، وفي سند الرواية الثالثة المنخّل بن جميل الأسدي، وقد قال عنه علماء الرجال: ضعيف فاسد الرواية، متّهم بالغلوّ، أضاف إليه الغلاة أحاديث كثيرة[55].
وعلى فرض صحّة الحديثين فإنّه يمكن توجيههما بمعنى آخر يساعد عليه اللّفظ فيهما، قال السيد الطباطبائي: قوله(عليه السلام): إنّ عنده جميع القرآن... إلى آخره الجملة وإن كانت ظاهرةً في لفظ القرآن، ومشعرة بوقوع التحريف فيه، لكن تقييدها بقوله ظاهره وباطنه يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن، من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي، ومعانيه المستبطنة على الفهم العادي[56].
وقد أورد السيد عليّ بن معصوم المدني هذين الخبرين ضمن الأحاديث التي استشهد بها على أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام)والأوصياء من أبنائه، علموا جميع ما في القرآن علماً قطعياً بتأييد إلهي، وإلهام رباني، وتعليم نبوي، وذكر أنّ الأحاديث في ذلك متواترة بين الفريقين[57].
ويمكن حمل الروايتين أيضاً على معنى الزيادات الموجودة في مصحف أمير المؤمنين(عليه السلام)، والتي أخذها عمّن لا ينطق عن الهوى تفسيراً، أو تنزيلاً من الله شرحاً للمراد، إلاّ أنّ هذه الزيادات ليست من القرآن، الذي اُمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بتبليغه إلى الاُمّة.
الطائفة الرابعة: الروايات الدالّة على أنّ في القرآن أسماء رجال ونساء فاُلقيت منه، ومنها:
1 ـ ما روي في تفسير العياشي مرسلاً عن الصادق(عليه السلام)، قال: إنّ في القرآن ما مضى، وما يحدث، وما هو كائن، كانت فيه أسماء الرجال فاُلقيت، إنّما الاسم الواحد منه في وجوه لا تُحصى، يعرف ذلك الوصاة[58].
2 ـ ما روي في الكافي عن البزنطي، قال: دفع إليّ أبو الحسن الرضا(عليه السلام) مصحفاً ، فقال: لا تنظُر فيه. ففتحته وقرأت فيه (لم يكن الذين كفروا...)[59] فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. قال: فبعث إليّ: ابعث إليّ بالمصحف[60].
3 ـ ما رواه الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله(عليه السلام)، قال: سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم يابن سنان، إنّ سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب، وكانت أطول من سورة البقرة، ولكن نقّصوها وحرّفوها[61].
وهذه الروايات لا نصيب لها من الصحّة، فهي بين ضعيف ومرسل ومرفوع.
ومن الممكن القول بأنّ تلك الأسماء التي اُلقيت إنّما كانت مثبتةً فيه، على وجه التفسير لألفاظ القرآن وتبيين الغرض منها، لا أنّها نزلت في أصل القرآن، وقد ذكر ذلك الفيض الكاشاني في الوافي والسيد الخوئي في البيان وغيرهما... بل إنّ الشيخ الصدوق ـ وهو رئيس المحدّثين ـ الذي روى الخبر في كتابه ثواب الأعمال ينصّ في كتابه الاعتقادات على عدم نقصان القرآن، وهذا ممّا يشهد بأنّهم حين يروون هذه الأحاديث لايعتقدون بصحّتها سنداً ولا دلالة لها على التحريف اللفظي للقرآن الكريم.
[1] الموافقات للشاطبي: 3/106.
[2] مباحث في علوم القرآن: 237.
[3] إظهار الحق: 2/90.
[4] الأحكام للآمدي: 3/139، اُصول السرخسي: 2/67.
[5] البرهان في علوم القرآن: 2/47.
[6] المصدر السابق: 2/43.
[7] مناهل العرفان: 2/112.
[8] التحقيق في نفي التحريف: 279، صيانة القرآن من التحريف: 30.
[9] مباحث في علوم القرآن: 265.
[10] فتح المنان: 229.
[11] الفقه على المذاهب الأربعة: 4/260.
[12] الفرقان: 157.
[13] الإتقان: 2/ 320 و 321.
[14] تاريخ القرآن، الكردي: 65، التفسير الكبير: 11/105، تفسير النيسابوري: 6/23 المطبوع في هامش تفسير الطبري، تفسير الخازن: 1/422.
[15] روح المعاني: 6/13.
[16] اُنظر وفيات الأعيان: 1/319، ميزان الاعتدال: 3/93، المغني في الضعفاء: 2/84، الضعفاء الكبير: 3/373، طبقات ابن سعد: 5/287، تهذيب الكمال: 7/263.
[17] النور : 27.
[18] الإتقان : 2/327، لباب التأويل : 3/324، فتح الباري: 11/7.
[19] التفسير الكبير: 23/196.
[20] البحر المحيط : 6/445.
[21] النساء: 162.
[22] المائدة: 69.
[23] طه: 63.
[24] الإتقان: 2/320.
[25] الكتاب: 1 / 288 ـ 291.
[26] روح المعاني: 6/13.
[27] معاني القرآن: 1/310، مجمع البيان: 3/346، صيانة القرآن من التحريف: 183.
[28] تفسير المنار: 6/478.
[29] الكشاف: 3/72.
[30] التفسير الكبير: 22/75.
[31] مسند أحمد: 5/129، الآثار: 1/33، التفسير الكبير: 1/213، مناهل العرفان: 1/268، الفقه على المذاهب الأربعة، 4/258، مجمع الزوائد: 7/149.
[32] الجامع لأحكام القرآن: 20/251، الفهرست لابن النديم: 29، المحاضرات 2: 4 / 434، البحر الزخّار: 249.
[33] التفسير الكبير: 1/213، فواتح الرحموت بهامش المستصفى: 2/9، الإتقان : 1/79، البحر الزخّار: 2/249، المحلّى : 1/13.
[34] إعجاز القرآن بهامش الإتقان: 2/194.
[35] اُنظر البرهان للزركشي: 2/128، شرح الشفاء للقاري: 2/315، فواتح الرحموت: 2/9، مناهل العرفان: 1/269، المحلّى: 1/13.
[36] شرح الشفاء: 2/315، مناهل العرفان: 1/269.
[37] الكافي: 8/ 125 ح 95.
[38] بحار الأنوار: 45/8.
[39] الكافي: 8 / 53 ح 16.
[40] البقرة: 23.
[41] الكافي: 1/ 417 ح26.
[42] الأحزاب: 71.
[43] الكافي: 1 / 414 ح 8 .
[44] النساء: 66 .
[45] الوافي : 2/273.
[46] البيان في تفسير القرآن: 230.
[47] النساء: 59.
[48] الكافي: 1/ 286 ح 1.
[49] الكافي: 2/ 267 ح2.
[50] تفسير العياشي: 1 / 13 ح4.
[51] تفسير العياشي: 1/ 13 ح 6.
[52] الكافي: 1/ 228 ح 1، بصائر الدرجات: 213/2.
[53] الكافي: 1/ 228 ح2، بصائر الدرجات : 213/1.
[54] اُنظر مجمع الرجال: 4/257 و 6/139، رجال ابن داود: 281/516.
[55] المصدر السابق.
[56] الكافي : 1/228 في الهامش.
[57] شرح الصحيفة السجادية: 401.
[58] تفسير العياشي: 1/ 12.
[59] البيّنة: 1.
[60] الكافي: 2/ 631 ح16.
[61] ثواب الأعمال: 100.