كلما نستقبل شهررمضان الفضيل تطرح امامنا الفكرة التالية، وهي ان كل شهر نستقبله هو شهر جديد، وان الله سبحانه وتعالى قد قدر لكل واحد منا ان يمر بعدد معين من اشهر رمضان نعيشها خلال حياتنا. ومهما يكن العدد فانه لابد ان ينتهي، والحقيقة التي يمكن ان تنتهي ان رمضان هو جزء من واقعنا وكياننا وحياتنا. انها لحظات تمر حتى تنتهي الى تلك اللحظة التي قدر الله تعالى ان يجعلها أجل الانسان. والمشكلة اننا لانعرف متى تكون تلك اللحظة. وحتى لو عرفناها، وعرفنا اننا سنعيش - مثلاً - سبعين عاماً، فان هذا يعني اننا يجب ان نكتسب خلال هذه السنين عملاً ينفعنا غداً، وإلاّ سنكون ممن قال عنهم العلي القديـر: « وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ » (المؤمنون / 103) ان الذين تخف موازينهم يوم القيامة رغم ان الله تبارك وتعالى منحهم فرصة امتدت الى سبعين عاماً، ورغم ذلك لم يقوموا بعمل يوازي ويساوي هذه المدة الطويلة، فانهم سيسكنون نار جهنم خالدين فيها. فنعمة الله عليهم كانت أكثر، وفرصة العمل أكثر، ولكنهم مع ذلك لم يستغلوا تلك النعمة، ولم يغتنموا هذه الفرصة حتى جائهم الأجل. وهم عندما يسكنون في النار فانهم لا يسكنونها لعدة أيام أو أسابيع، وانما هم خالدون فيها. وهذا أمر ليس بالهيّن، فمن الممكن للانسان ان يتصور انه سيعيش في نار جهمم لأيام ومن ثم يعفي الله تعالى عنه، وينجيه. ولكن اذا أصبح من المقرر بقاؤه في نار جهنم لفترة غير محدودة، فان هذا الأمر من الصعب تصوره، رغم انه سيكون حقيقة ملموسة قائمة في يوم القيامة كما تصرح بذلك الآيات التالية : « أَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ » (المؤمنون /105 - 108) ترى اذا خفت موازيننا يوم القيامة فماذا عسانا ان نفعل في هذه الحالة، وخصوصاً ان الطريق مسدود امام عودتنا الى الدنيا لنعمل الصالحات التي من شأنهـا ان تثقل ميزاننـا. ولذلك فان الله تبارك وتعالى يقول لمثل هؤلاء : « اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ». لابد من التهيؤ للآخـرة : روي عن الامام علي (عليه السلام) قوله في الترغيب في الآخرة، والتزهيد في الدنيا، والحث على الاعمال الصالحة : أما بعد، فان الدنيا أدبرت، وآذنت بوداع، وان الآخرة قد اقبلت واشرفت باطلاع. ألا وان اليوم المضمار، وغداً السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار؛ أفلا تأئب من خطيئته قبل منيته ! ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ! ألا وانكم في أيام أمل من ورائه أجل؛ فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضرره أجله. ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضره أجله .([14]) فمن المرارة بمكان ان تأتي لحظة الفراق، والوداع دون ان يهـئ الانسان نفسه لها، في حين ان الله تعالى يقول بشأن الآخرة : « لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ » ( الصافات / 61) فما دامت الدنيا تنتهي بهذا الشكل وهو وضع الانسان تحت التراب ثم ينتهي كل شئ، فهل من المنطقي والصحيح ان يضحي الانسان بدينه وقيمه وشرفه من أجل اشباع شهواته على حساب آخرته. والله وحده هو العالم كيف سيكون مصير الانسان بعد الموت، وقد أكدت الروايات على انه يمر بسعين موقعاً ومرحلة وعقبة اهونها الموت ؟ وفي هذا المجال يقول الامام السجاد (عليه السلام) في دعاء من ادعية شهر رمضان : واعوذ بك من هول المطلع . ([15]) فعندما يخرج الانسان من قبره يوم القيامة عريان لايملك شيئاً من حطام الدنيا، يتلفت يميناً وشمالاً، ولا يرى احداً يستعين به في تلك اللحظات الصعبة العسيرة. ان الدنيا هي دار الغرور، والواحد منا ينهمك فيها باشباع رغباته وشهواته، والجري وراء مظاهرة الكاذبة الخادعة دون ان يشعر بمجئ شهر رمضان، واهمية هذا الشهر في تحديد مصيره الاخروي. ربيع تبتل ومنهاج تزكية : ان شهر رمضان هو ربيع الدعاء والتبتل والتزكية، والتوجه الى الخالق.. ولكن لمن يستغل هذا الربيع. فالبعض من الناس يزدادون بعداً عن الله في شهر رمضان، لانهم لم يتوجهوا الى تلاوة القرآن الكريم وقراءة الأدعية، فغلبت عليهم شقوتهم. وهذا يعني ان الانسان من الممكن له ان يتخذ من شهر رمضان أو اية مناسبة روحية اخرى، معراجاً الى الله سبحانه وتعالى، فتحدث عنده هذه المناسبة حالة نفسية متسامية يتخلص من خلالها من الصفات السلبية كالاختلاف مع اخوته، وطغيان الشهوات عليه، واليأس من روح الله، والتكاسل عن العمل.. فالفرصة انما تكون لمن يغتنمها. ان شهر رمضان المبارك يجب ان نتخذ منه وسيلة لاصلاح انفسنا وتزكيتها، ورفع الحجب التي تحول دون فهمنا للحياة. ولاشك ان للقراءة المعمقة للقران الكريم وللأدعية الشريفة الدور الأكبر في ذلك. فلنكثر من اعمالنا الصالحة، لان الاعمال مهما كانت كبيرة تعد قليلة بالنسبة الى المسؤوليات الضخمة الملقاة على عاتق الانسان. والانبياء والصالحون والزهاد كان ديدنهم استصغار اعمالهم، وعدم الاغترار بها، فكيف بنا نحن واعمالنا - على قلتها - مشوبة بالنوايا الدنيوية ؟ فلنخلص نياتنا، ولننتفع بهذا الشهر الفضيل في جميع قضايانا، وخصوصاً القضايا السياسية. فعندما يقف أحدنا ثائراً أمام حاكم جائر قربة الى الله تعالى، فلا شك ان ثوابه سيكون عظيماً، لان نيته كانت خالصة لوجه الله الكريم؛ ففي بعض الاحيان يثأر الانسان انتقاماً لكرامته، وثأراً لشخصيته.. ولكنه في هذه الحالة سوف لايحصل على الثواب العظيم الجزيل الذي يكون من نصيبه فيما اذا قاوم الطاغوت تقرباً الى الله جلت قدرته. برامج عمل وسلوك : ان الثورة ضد الطاغوت بهذا المقهوم والاسلوب هي من الاعمال الكبيرة، شريطة ان يخلص الانسان في عمله هذا. ان لا يكون اليوم ضد الطاغوت، وغداً يثور ضد الحكومة الاسلامية بدافع الوصول الى الحكم؛ فيكون حاله كحال (الزبير بن العوام) الذي عمل في سبيل الله تعالى، وجاهد في سبيل تحقيق وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخلافة أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام). ولكن ما ان امسك أمير المؤمنين بزمام الحكم، واذا بالزبير يشهر سيفه ضد هذا الخليفة الشرعي طمعاً في السلطة. فتورط بهذه العاقبة السيئة التي نعوذ منها. ان كل هذه السلوكيات تعني عدم وجود الاخلاص في العمل. فالعمل لم يكن لله عز وجل بل لقضاء المصالح، واشباع الشهوات. فالعمل عندما يكون خالصاً لوجه الخالق فانه سيكون عملاً معتبراً، وثقيلاً في الميزان، وهذا لايمكن إلاّ بعد تزكية الانسان لنفسه. فأذا زكى الانسان نفسه، وأبعدها عن الشهوات والمطامع الذاتية والانانيات، فان هذا يعني انه قد قام بعمل شاق، هو حصيلة تعب وجهود مضنية. وهكـذا فلابد من الاستعــداد لتزكية النفس في شهــر رمضان المبارك، ولنخصص اوقاتاً منه لقراءة الادعية باخلاص وتمعن، وخصوصاً دعاء ابي حمزة الثمالي، وادعية الصحيفة السجادية.. واذا لم نستطع قراءة هذه الادعية بشكل كامل، فلنحاول ان نخصص لكل ليلة جزء منها. والمهم في ذلك ان نتدبر في الادعية، وان نتخذ منها برامج عمل وسلوك في حياتنا، بحيث نقرأ الدعاء وكأننا نحن المخاطبون شخصياً. فهناك - للأسف - من يقرأ الدعاء في حين ان ذهنه مشغول بقضايا اخرى، فلا يكاد هذه الادعية التي يقرأونها تؤثر في سلوكهم وتصرفاتهم، في حين ان من المفترض فيهم ان يجعلوا منها منطلقاً لتزكية انفسهم، واصلاح واقعهم.
فرصة التغيير الحضاري
من جملة الروائع القرآنيــة، حديث الله تبـارك وتعالى عن العلماء الربانيين، الذي تتوالى صفاتهم في قوله عز وجل: « أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ اُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ اُولُوا الاَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ» (الرعد / 19 - 20) .. ثم يذكر لهم صفات أخرى الى أن يقول: « وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ اُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ » (الرعد / 22). وهـذه الصفة وغيرها من الصفـات التي جاءت ضمن السيـاق، لايستطيع مجرد من بلغ الايمـان ان يجسدها في شخصيتـه، وانما هـي مختصة بمن هـو أرقــى درجـة؛ بمن بلغ به العلــم الى إدراك الحقائق على وجههـا الأصيل، من خلال وعي المفاهيـم القرآنيـة وعيـاً بامكانه تطبيقه على حركاتـه وسكناتـه ؛ لحظة بلحظة ... لهذه الصفة الربانية أبعاد مختلفة في حياة الانسان العالم بالله، وأنا في هذا الاطار أحاول التنقل من بُعد لآخر . البُعد الأول: جسد الإنسان؛ بمعنى يمنع ما يمكن أن يصيبه من مرض وضعف وخور. وتعني مفردة الدرء المنع والوقاية، وضرورة أن يكون الانسان على مستوى من الوعي يدفعه الى توقي الآفات البدنية قبل وقعها . فالمؤمن العالم ملزم بالنظر والتحقق من مأكله ومشربه طبقاً لأوامر الشرع المقدس؛ الأوامر التي تأتي في سياقات الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة . فالله أمرنا أن نأكل الطيبات، وما أمرنا أن نأكل الخبائث. ثم أمرنا بأن ننعم بالخيرات، ونمتنع عن الاسراف. وهناك عشرات التعاليم الالهية في هذا الإطار، الغرض منها المحافظة على السلامة البدنية للانسان. ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) القدوة الحسنة للمؤمنين في هذا السبيل، وكان يلتزم مطلق الالتزام بالتعاليم الالهية في طريقة المأكل والمشرب واسلوب المحافظة على آداب المائدة، وذلك لكي يقلده المسلمون ليربحوا حياتهم وصحتهم . ثـم هنــاك تعاليم أخرى بعيدة عن إطار المأكل والمشرب، ولكنها تساق ضمن تعاليم الوقاية والمحافظة على البدن دون الإصابة بالامراض، من قبيل كيفية معالجة حالة الغضب التي قد تعتري الانسان في وقائع معينة. الغضب الذي قد يؤدي - إذا لم يعالج وفق التعاليم الاسلامية الحكيمة - الى أخطار وأمراض تلازم الانسان الى آخر لحظات عمره، او قد تكون نهايته بفعل هذه الأمراض وآثاره. وقد أمرتنا الاحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) ضمن تفصيلات رائعة وعجيبة بالحيلولة دون تسلط أعراض مثل هذه الحالة القاتلة. وفي الروايات الدينية تعاليم قيمة تحدثنا عن آداب العشرة الجنسية، وكلها تحول دون تسرب الامراض الى الجسد، وكلها قوانين تحفظ سلامة الانسان وتعلمه كيف يكون ذا صحة مثالية. ليس للزوجين فحسب ؛ بل هي تشمل سلامة الجنين أيضاً. ولذلك يقول الحديث الشريف: درهم في الوقاية خير من قنطار في العلاج . إذن فمن يريد التكامل في الايمان عليه بادئ بدء الالتزام الكامل بآداب الطعام وكل ما يخص السلامة البدنية. وهذه الرغبة أو الطموح لا يتأتيان مالم يحمل الانسان نفسه على مطالعـة الأدب الاسلامي فـي هـذا الإطـار، من خـلال التدبـر فـي الآيات القرآنية والأحاديث والروايات المختصة في هذا المجال ... البُعد الثاني: الجانب الروحي ؛ فالمتعارف يين المسلمين اليوم - مع بالغ الأسف - أنهم يتركون ابناءهم ضحية للبرامج الاعلامية الماجنة، او أنهم يعهدون بتربية أولادهم الى اناس مجهولي الحال على أقرب تقدير، والسبب في ذلك قد يكون في عدم ايلائهم الاهتمام اللازم الصادر من حقيقة التشريع الاسلامي في هذا الإطار . ثم إننا نرى الآباء والامهات - بعد كل هذا التقصير - يعرضون اولادهم لشديد العقوبة إذا هم لم يلتزموا بالتعاليـم الدينيـة، وهذا خطأ لعمـري كبير ؛ يصل الى حد الجريمة بحق الأولاد . فالتربيـة السليمـة أساسها الوقايــة عـن الوقوع في المساوئ، والآباء مدعوون قبل كل شيء الى اعداد العدة لتوفيـر وسائل واساليب التربية الصالحة ليضمنوا حيـاة طيبـة لأولادهـم . إن الأغـرب في الأمر هو أن البلاد الغربية قد اعتمدت قاعدة التخصص حتــى في طريقة الرعي والفندقة وغيرها من الأمور التي قد لاتخطر ببال، ولكننا نحن المسلمين نتقاعس عن ان يكون لنا خبير في التربيـة الصالحة . فنحن نولي أهمية كبرى لدراسة الجغرافية والتأريـخ، ولكننا لم نقم ببناء مؤسسات مختصة بارشاد المتزوجين وتعليم أسس التعامل والتربية الفذة التي تضمن تخريج أجيال صالحة وذكية ومخلصة لدينها في المجتمع . فالطفل الصغير بحاجة ماسة الى التعرف على كيفية التعامل مع أبية وأمه وإخوانه وأصدقائه؛ تعاملاً يجعله قويم الشخصية، معتدل السلوك، وبإمكانه مواجهة مصاعب الحياة بفطنة كافية.. وليس كما هو الملموس والمشاهد في واقعنـا، حيث يشب الطفل وتشب معه العقد والأمراض النفسية الصادرة أساساً عن جهله بما يحيط به. وذلك لان أي طفل حينما يفتح عينيه على مناظر السوء واصوات الباطل، من المسيقى الماجنة والرقص والاختلاط الباطل، فانه بالتأكيد لن يجد فسحة تمكنه من التفكير السليم او بناء الاعتقاد الصائب. إن الاسلام يفترض مباشرة أن يسعى الوالدان الى تنمية شخصية الأطفال على ضوء ما رسمه هو لا غير، وأن يقلد الأطفال المسلمون أئمتهم الهداة (عليهم السلام) حينما كانوا هم أطفالاً . بمعنى أن الآباء معنيون بأن ينقلوا لاولادهم سيرة الأئمة فيما يساعدهم في شأن التربية والاصلاح . إذن فالمفروض هو أن يفكر كل انسان بانتخاب القرين المتوفر على شروط الصلاح في الزواج، ثم يرسم الخطط المستقاة من المنهج التربوي الديني المتفتح لرعاية الاولاد وتربيتهم، لاسيما في ظل افتقـار مدارسنا اللادينية لتلكم المناهـج. البُعد الثالث: الجانب السياسـي؛ فاقول إننا حينما نتظلم بداعي تسلــط الجبابـرة علينـا، فمن اللازم أن نعرف بأن الظلمة إنما هم سيئات أعمالنا، وأن الجبابرة نتاج سلوكياتنا . فالمجتمع الفاضل هو المجتمع الذي لا ظلم فيه ولا رشوة، ولا كذب ولا سرقة، ولا أنانية ولا غش . ومثل هذا المجتمع من المستحيل أن يسلط الله سبحانه وتعالى عليه الظلمة والجبابرة، لأن القرآن الكريم يؤكد: « وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » (الانعام/129) ويقول: « قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ » (الانعام/65) . فحينما يكون المجتمع مجتمعاً فاسداً، لن يليق به أن يحكمه الحاكم العادل. وإذا ما سلمنا جدلاً بوجود حاكم عادل، فانه سيمد يده بكل بساطة الى أخذ الرشوة، ثم ينمسخ مسخاً كلياً ليتماشى والوضع السائد في المجتمع . يقول الحديث الشريف: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو يولّى عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم . فتعالوا نصلح انفسنا ونضع حداً للفحشاء المتحكمة فينا . وأمامنا فرصة ثمينة علينا اغتنامها، وهي فرصة شهر رمضان المبارك لنعلن خلاله توبتنا؛ التوبة النصوح التي تعني وعي الصالحات ووعي السيئـات، لنعمـل بالأولى ونهجر الثانية. وذلك من خلال عرض انفسنا على كتاب الله، كما يعرض المريض نفسـه على الطبيب فيحدد له المسموح والممنوع من الغذاء. فلننظــر الى المسافـة التـي تفصلنا عن القـرآن ومفاهيمـه ومعانيـه، ونسعى لردم الهوة القاتلـة، ونتعلم كيف نتجاوز المسافـة . وليس الأمر صعباً أبداً ؛ فالقضية بحاجة الى إخلاص وتصميم وتدوين ما يمكن تدوينه من بنود إصلاح النفس والمجتمع عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوكل على الله والاستغفـار والتوبـة اليـه . إن على الخطباء في هذا الشهر الكريم أن يسعوا الى بث روح القرآن الكريم بين الناس، وعليهم التعريف بنهج البلاغة، وتشذيب التأريخ من الخدع والضلالات والشبهات، كما عليهم البحث عن أجوبة شافية عما يدور في أدمغة الشباب المسلم من اسئلة وشبهات تثيرها أجهزة الاعلام المعادية للدين وإشاعات المخابرات الأجنبية التي يبدو تصاعد حدتها في شهر رمضان على وجه الخصوص لمعرفتهم بمدى تأثير هذا الشهر الكريم على الروح الايمانية للناس . إني أشير عبر هذه النقطة الى أن تكون أحاديث الخطباء، أحاديث نابعة من صميم الحاجة الاجتماعية، لتكون أحاديث مفيدة حقاً . إن فـي المجتمعات الاسلامية أمراض خطيرة للغاية سيطرت أو في طريقهـا الى السيطرة عليها، من الضروري أن تعالج معالجة جذرية، تبدأ من وضع نقاط الوقاية اللازمة؛ من قبيل مرض المخدرات الذي يجب السعي حثيثــاً لاقتلاعـه، عن طريق مواجهة النـاس بكل صراحة عن أضراره وعواقبه والقيام بالتعبئة الشمولية ضده . وهناك مرض ادمان التدخين، الذي يتعدى الحديث فيه المضار الصحي الى الحديث عن الذوق الاجتماعي القاضي بضرورة عدم الحاق الضرر بالآخريـن واحترام الأماكـن التي يلوثها المدخونون، لاسيما الأماكن التي تقام فيه المجالس القرآنية والحسينية.. ولأن الخطباء والعلماء أصحاب رأي في المساجد والحسينيات، فعليهم ان يمنعوا مزاولة هذه العادة الكريهة في هذه الأماكن لتكون بدورها السباقة ازاء الأماكن الأخرى، وبالتالي قطع الخطوات الأولى لاجتثات هذه العـادة . ثمة مشكلة أخرى، وهي مشكلة العنوسة التي تعد بحق من الظواهر الصعبة والمستعصية في المجتمعات، ينبغي التفكير لحلها. فهذه الظاهرة سبب مباشر في انتشار الفساد والعقد النفسية والمشاكل العائلية الحادة . وهناك ايضاً ظاهرة العنف والتطرف في ابداء الآراء واثبات الحقوق، هذه الظاهـرة التي تعني العودة الى الجاهلية المقيتة. فمن الخطأ المميت أن يرى الانسان نفسه على حق، بينما الآخرين على باطل وكفر وفســق. وما أزمة الانبياء مع قومهم إلاّ أن كان الوجهـاء في تلك المجتمعات يعاتبـون انبياءهـم، أنهم أصبحوا ملجأً للضعفاء والفقراء من الناس، حيث كانوا يطلقـون عليهم تسميـة الأراذل « وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا » (هود/27) فقد كانت تسيطر عليهم الروح الاستكبارية، وروح الاستهانة، واستحقار الآخرين . فلا يصح مطلقاً ان تسود هذه الروح في مجتمع يفترض أن يكون مجتمعاً اسلامياً. فيجب معالجة ذلك عبر بث الثقافة، وتعميم الاخلاق الحسنة على الناس، بحيث تكون الأخلاق فيه مسلكاً لا علماً جافاً ... ان اساس علاج مختلف المشاكل والازمات الاخلافية والفكرية يكمن في التوجه الى الله سبحانه وتعالى، وفي أن يتوجه الانسان بقوة ايمانية الى فهم وإدراك سبب وحقيقة وجوده في هذه الدنيا الزائلة . فاذا عرف الانسان ربه حق معرفته، يكون من المستحيل عليه ان ينحرف . ونحن إذ نستقبل أيام شهر رمضان المبارك، علينا ان نستفيد حق الاستفادة من هذه الفرصة الثمينة، وهذه الطاقة الجبارة، لكي نضع أسس الوقاية ونعمل وفق منطوق ومفهوم النص القرآني القائل: « وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ » ثم نعمل على توجيه المجتمع الى العمل الجدي بالحسنات، لنرى بعد ذلك انقشاع السيئات والموبقات ؛ الواحدة بعد الأخرى .
مدرسة التربية والفضيلة
شهر رمضان هو مدرسة، شريطة ان ينظر اليها الانسان كمدرسة يتعلم فيها القيم والمبادئ الاخلاقية والروحية. اما الذي يدخل هذا الشهر الكريم كما يدخل اي شهر آخر، فانه سوف لايصبح بالنسبة اليه مدرسة، بل قد يسبب له انتكاسة وهبوطاً في المستوى الروحي بدلاً من ان يدفعه الى الأمام. الصيام مدرسة : هذه الحقيقة هي الحقيقة الاولى والاخيرة التي يجب ان ندركها في هذا الشهر الفضيل؛ فالصيام هو - بحد ذاته - مدرسة، لانه يربي في الانسان الارادة، ويزوده فوق ذلك بصفة التقوى، هذه الصفة التي لو امتلكها الانسان وتسلح بها لاستطاع ان يقاوم ضغط الشهوات، وضغط المجتمع.. والتقـوى هي اعظم سلاح بيـد الانسـان، يستطيع بواسطتـه ان يسخر الطبيعة ويذللها له. وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » ( البقرة / 183 ) هدف الصيام التقوى : فالهدف من الصيام هو تنمية ملكة التقوى في نفس الانسان، ولكن هل بامكان هذا الانسان ان ينتفع من الصيام دون ان يسعى من أجل الحصول على هذه الصفة المثالية ؟ الجواب بالنفي طبعاً. فالذين يصومون دون ان يخلصوا لله تعالى عبادتهم، ودون ان يوحوا الى انفسهم بالدافع الحقيقي الى الصوم، ويصومون دون ان يتورعوا في ايام وساعات صومهم ويوم افطارهم.. فان مثل هؤلاء لايمكن ان يستفيدوا من شهر رمضان، كما جاء في الحديث الشريف : كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش .([16]) وبالاضافة الى ذلك فان شهر رمضان المبارك هو ربيع الدعاء، والدعاء هو مدرسة للانسان يستطيع من خلال التتلمذ فيها ان يصعد الى اعلى عليين بأن يصقل ذاته، ويبلور مواهبه، ويتعرف على الطاقات الكامنة في نفسه ليستخرج كنوزها من خلال الدعاء . وعلى سبيل المثال فلو تدبر الانسان المسلم في دعاء (الافتتاح) لحصل له جزء لايستهان به من معرفة الله سبحانه وتعالى. فهناك فرق بين ان يؤمن الانسان بالله ايماناً اولياً فطرياً بأن يعرف ان لهذه السماء المبنية، ولهذه الارض المدحية مدبراً وخالقاً يدبرهما ويديرهما، فهذه درجة بسيطة من الايمان، وبين ان يصل هذا الانسان الى درجة اليقين حيث تأتي بعد هذه الدرجة درجـة التوكل ثم درجة التفويض التي يقول عنها الحديث الشريف : اول العلم معرفة الجبار وآخر العلم تفويض الأمر إليه .([17]) ثم يصل الانسان الى درجة لو كشف الغطاء عنه مازداد يقيناً. ومن الطبيعي انه ليس من البساطة ان وصول الانسان الى هذا المستوى الأرفع والأسمى من الايمان. الادعية تزودنا بمعرفة الله : وهكذا فان ادعية شهر رمضان، وخصوصاً دعاء الافتتاح تزودنا بمعرفة الله تبارك وتعالى، ومعرفة صفاته واسمائه. اما اذا قرأنا هذه الادعية دون ان نتوجه الى معانيها ونتدبر فيها، ودون ان نتعمق في كلماتها واصولها، ويسودنا الشعور باننا نقف امام خالقنا ومن بيده أمرنا ومصائرنا، فان قراءة هذه الادعية سوف تصبح بالنسبة الينا كقراءة الصحف والقصص، وحينئد سوف لا يكون الدعاء مدرسة لنا. فلننظر في شهر رمضان الكريم كم درجة من التقوى ارتقينا، وكم مرتبة من الايمان ارتفعنا، وليكن جهد الواحد منا منصباً على الحصول على درجات أعلى. وهذا لايمكن إلاّ من خلال السعي المكثف، وقراءة الآيات القرآنية. فالقرآن هو مدرسة الانسان، وهو الذي يربي الانسان يرفعه الى مصاف الملائكة. فهو بصيرة للانسان تفتح امام عينيه آفاقاً لاتحد شريطة ان يقرأه قرآءة تدبر وتفكر واستلهام واستيحاء، لا ان يقرأه وقلبه تثقله الافعال والاغلال كما يقول عز وجل : « أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ » (محمد / 24) فقبل كل شئ علينا ان نفتح هذه الاقفال من قلوبنا، ونخرجها من القوقعة التي وضعناها فيها هذه القوقعة التي يطلق عليها القرآن الكريم اسم (الغلف) في قوله عز وجل : « وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ » (البقرة / 88)؛ اي ان قلوب هؤلاء قد وضعت في ما يشبه (القمقم) ثم انغلق هذا القمقم عليها فهي لا تخرج منه، فالقلب الذي ينغلق بالشهوات ويصبح سجين الاوهام والخرافات لايمكنه ان يفهم شيئاً. فهو ينظر الى القرآن من زاوية هذه الشهوات والاهواء، وعبر منظار الاوهام والخرافات. وهذه حقيقة ملموسة لاسبيل الى انكارها. تفسير حسب الأهواء : وللأسف فأن البعض من الناس يفسرون الآيات القرآنية حسب اهوائهم، لانهم يعيشون في جو هذه الاهواء دون ان يشعروا، ودون ان يعرفوا انهم يعبدون اصنام انفسهم. فهناك البعض يعبدونه حقاً، ولكنهم عندما يموتون ويستيقظون على الحقيقة المرة، فان يقظتهم هذه سوف لاتنفعهم شيئا، وسوف لاينفعهم قولهم : « رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ » (المؤمنون / 99 -100 )، لان الله تعالى سوف يجيبهم قائلاً : «كَلآَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (المؤمنون / 100) واذا ما أردنا ان نمثل شهر رمضان المبارك بمدرسة، قلنا ان الصوم يمثل فصلاً من هذه المدرسة، ولايمكن دخولنا فيها عبر مجرد صيامنا او تلاوتنا للقرآن او قراءتنا للادعية، فحسب بل لنحاول ان نجعل صيامنا صيام تقوى، وقراءاتنا للادعية قراءة نستهدف من ورائها تحصيل معرفة الله عز وجل، وذلك من خلال مناجاته. فنحن لا نستطيع ان نعرف الخالق تعالى من خلال الأدلة النظرية، بل يجب ان نتعرف عليه بقلوبنا ليتجلى لنا. وقد جاء في الحديث الشريف : ان الله قد تجلى لعباده في كتابه ولكن اكثر الناس لايبصرون . فالقرآن الكريم هو تجل لذات الله عز وجل، وما علينا إلاّ ان نحاول ان نجد ربنا في ثنايا الآيات القرآنية. ضرورة الاعتراف بالنواقص : وبالتالي فان علينا ان ندخل هذه المدرسة المتكاملة، لكن نزكي انفسنا من خلال معرفة الله، وقراءة القرآن. وتزكية الانسان لنقسه تعني اولاً ان نعترف سلفاً بان لنا اخطاء وفينا نواقص. فالانسان الذي يرى سلفا انه كامل، ومعصوم من الزلل، فانه لايستطيع ان يزكي نفسه. فعلينا - اذن - قبل كل شئ ان نعترف بنواقصنا، ونبحث عنها من مثل النقص في الايمان، والارادة وسائر الصفات الاخرى من قبيل صفة الصدق. فالكثير منا يحسب نفسه صادقاً، ولكنه عند العمل يكتشف انه ليس صادقاً بما فيه الكفاية. فعندما يسأل هل كان صادقاً أم كاذباً عندما انتقد فلاناً من الناس، وهل كان انتقاده هذا من وحي ايمانه وعقله وعلمه أم كان بدافع الشهوات والاهواء ؟ فانه سرعان ما يجيب انه كان صادقاً ومخلصاً في انتقاده، في حين انه لم يكن كذلك في الحقيقة. وهكذا فان المهم ان نعرف اخطاءنا، وان نكتشف تلك الثغرات الموجودة في ذواتنا، وخصوصاً خلال شهر رمضان الذي يعتبر فرصة ذهبية لاصلاح الانسان لنفسه. اما اذا انتهى هذا الشهر دون ان نوفق الىاصلاح هذه العيوب والنواقص، فانها سوف تتكرس في ذاتنا. فالانسان الذي يعاني من مرض نفسي ثم يفرأ القرآن، ولا يحاول ان يستغل هذا القرآن في سبيل ازالة هذا المرض، فان مثل هذا الانسان في صدره قلباً قاسياً يقاوم الهداية والخير والنور. وللأسف فان هناك من بيننا من اتبع الجاهلية، فتراه يقرأ القرآن دون ان يتأثر قلبه، وكأن هذا القلب تحول الى حجارة. ولذلك فان علينا ان نعرف ان شهر رمضان يعتبر بالنسبة الى الانسان مدرسة، كما ويكون في احيان اخرى بمثابة نكسة له. زكاة الحقيقة التقوى : وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم : « هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَاَكُم مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى » (النجم / 32). فزكاة الحقيقة هي التقوى، والمقياس هو العمل الصالح، كما يقول تبارك وتعالى في آية أخرى : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَايَحْكُمُونَ » (الجاثية / 21). فلا يحاول الواحد منا ان يصل الى مستوى من الوعي والتقوى إلا من خلال العمل الصالح، وإلاّ فمن المستحيل ان يجعل الله سبحانه وتعالى ذلك الذي لم يعمل الصالحات في مستوى واحد مع ذلك الذي اجتهد وعمل في شهر رمضان. فالله عز وجل انما خلق السماوات والأرض بمقياس الحق، واعطى لكل ذي حق حقه. اما ان يتفضّل تعالى على الانسان عبثاً، ومن دون عمل واجتهاد، فان هذه الفكرة يجب ان نخرجها من اذهاننا. وبناء على ذلك، فان علينا ان نعود انفسنا على الكدح والتعب، وعلى مقاومة جاذبية الراحة، والشهوات. فعلينا ان نتحرر من هذه الجاذبية ونبتعد عنها، وشهر رمضان المبارك هو افضل فرصة لذلك. وعلينا ان نتذكر في هذا المجال اننا لانستطيع ان نخترق الحاجز النفسي في قلوبنا حتى لو حصلنا على الوعي، والثقافة الرسالية السياسية. فهذه الاشياء وحدها لاتكفي، فالايمان على نوعين؛ مستقر، ومستودع. والانسان المستقر هو الذي يدخل القلب، ويخترق الحواجز النفسية. ولذلك فاننا نقرأ في احد ادعية شهر شعبان : اللهم صل على محمد وآل محمد واعمر قلبي بطاعتك، ولاتخزني بمعصيتك .([18]) فهذه الطاعة يجب ان تدخل في القلب، وتعمره. اما النوع الآخر من الايمان، فهو الايمان المستودع الذي يشبه الامانة التي يجب ان تسترد من المؤتمن عليها. ومن المعلوم ان مثل هذا الايمان، من الممكن في أية لحظة ان يسترد منا. لا نجاح للعمل بدون تزكية : وهكذا فان الايمان يجب ان يكون حقيقياً، والتزكية ذاتية، وإلاّ فان العمل لايمكن ان ينجح، وقد قال (النبي صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال : انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق .([19]) فلو لا اكتمال الاخلاق الحسنة لدى الانسان، وبلوغه مستوى اخلاقياً يستطيع من خلاله ان يقابل الضغوط، لما كان قادراً على ان يعمل في سبيل الاسلام. ولا بأس في هذا المجال ان ننقل للقارئ الكريم بعضاً من الاحاديث والروايات عن المعصومين (عليهم السلام) حول تزكية النفس، والجد والاجتهاد. فقد روي في هذا الصدد ان قيس بن عاصم قال : وفدت مع جماعة من بني تميم الى النبي (صلى الله عليه وآله) فدخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس فقال : يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فانّا قوم نعمر في البرية. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا قيس ان مع العز ذلاً، وان مع الحياة موتاً، وان مع الدنيا آخرة، وان لكل شئ حسيباً، وعلى كل شئ رقيباً، وان لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، ولكل أجل كتاباً .([20]) وكلمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه واضحة. فالدنيا هي تركيبة من الحقائق؛ فبعد الحياة موت، وبعد العز ذل، والعمل وراءه حساب، فنحن لانستطيع ان ننكر هذه الحقائق. فالاولى بنا - إذن - ان نركب انفسنا وعقولنا على مقياس الحقائق الكونية، فلماذا نبالغ ونكابر ؟ فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكرنا بان هذه الحقائق موجودة، فليس من الصحيح ان ننكرها، ونحاول ان نهرب منها. وعن الامام الصادق (عليه السلام) انه روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله، فحسن منقلبه اذ رضي عنه ربه عز وجل. وويل لمن طال عمره وساء عمله، فساء منقلبه اذ سخط عليه ربه عز وجل .([21]) وهكذا فان الانسان المسلم لايمتلك في حياته سوى بضعة اشهر من رمضان، وهو مع ذلك لايعرف هل سيعيش في الشهر القادم ام لا. فهناك الكثير ممن طواهم الموت قبل فترة قصيرة وقد كانوا يحسبون انهم سيعيشون رمضان، والبعض منهم كان قريباً من هذا الشهر، وكان قد وضع لنفسه برنامجاً فيه، ولكن المنية عاجلتهم. ولذلك فان على الانسان ان يسعى ويبذل جهده، وان يقاوم الوساوس الشيطانية التي تحاول ان تثبطه. فالشيطان يغوي الانسان، ولا يريد له الخير، ويحاول ان يسحبه الى الارض، ويغله باغلالها. وقد يكون هذا الشيطان جنياً لايستطيع الانسان رؤيته، وقد يكون إنسياً تراه؛ فهو قد يوسوس لك من خلال صاحبك، فيضلك عن الطريق. ولذلك يؤكد القرآن الكريم على هذا المعنى قائلاً في سورة (الناس) : « قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ » فهنالك اناس هم في الظاهر معك، ولكنهم في الحقيقة شياطين يحاولون ان يضلوك ويغووك ويحرفوك عن جادة الحق تحقيقاً لأهدافهم الخبيثة.
بذل الجهد هو المقياس :
فليكن لدينا مقياس، وهذا المقياس هو ان نبذل كل جهدنا، وان لا ندخر وسعاً - إن كان بسيطاً - إلاّ وبذلناه في سبيل الوصول الى أهدافنا وأمانينا التي من أهمها تزكية النفس، وتنمية المواهب الخيرة فيها، وتصفية الذات من الشهوات، وتقوية الارادة.. وهذه هي الأهداف البعيدة المدى، التي نرجو تحققها في شهر رمضان الفضيل. واذا ما وهنّا وانهزمنا نفسياً، واذا تصورنا اننا لا نستطيع ان نخرق حجب ذواتنا، ونصل الى معادن النور، فلنحاول -حينئذ- ان نتضرع الى الله جلت اسماؤه، وان نتوسل اليه، ونتكل عليه. فهو تعالى قادر على ان ينتشلنا من تلك الحالة النفسية السلبية، وان يرفعنا الى أعلى عليين بقدرته التي خلق بها السماوات والارض. ولذلك فان علينا دائماً ان نرغب الى الله، ونتوسل اليه في دعائنا لكي نجد الخشوع في انفسنا، وتجري الدموع من أعيننا، وحينئذ سوف تتفتح امامنا ابواب السماء، لتنهمر منها الرحمة الالهية الواسعة.
مكاسب رمضانية
ان ليالي شهر رمضان عندما تبدأ بالتصرم والانقضاء، بعد ان كانت حافلة بالتهجد والعبادة والتبتل وحضور مجالس العلم، لابد ان تكون بايامها مدرسة كافية لصياغة شخصيات المؤمنين من جديد وتربيتهم وتزكيتهم. ففي هذه الليالي الاخيرة يستعد الجميع لوداع هذا الشهر المبارك. فنحن عندما نودع هذا الشهر الكريم نكون كمن يزور مدينة جميلة رائعة، فيطوف في ارجائها، ويتمتع بمناظرها، ويستريح الى افيائها، ثم هو يريد ان يغادرها ليعود الى بلده. فما هو واجبه في هذه الحالة ؟ انه - بالطبع - لابد ان يفتش في هذه المدينة عن أجمل ما يمكن يحمله معه من متاع وتحف وهدايا وما الى ذلك، فيقول في نفسه : مادمت سوف اغادر هذه المدينة، فلأجمع من تحفها، وآثارها ما انتفع به في بلدي. وهكذا الحال بالنسبة الى شهر الله العظيم رمضان، فاننا في كل عام نودعه. فكيف - ياترى - نحمل تحفه الىغيره من الشهور ؟ فمسؤوليتنا في الاسبوع الاخير من شهر رمضان المبارك، تتمثل في ان نحمل ما يمكننا حمله من مدينة المغفرة والرضوان الى سائر الايام. مكاسب رمضانية : السؤال الآخر والمهم هو : كيف نكرس مفاهيم وقيم الايمان وروح التقوى التي حصلنا عليها في هذا الشهر الفضيل في انفسنا دائماً وابداً ؟ وللأسف الشديد حقاً، فان البعض من المسلمين - وهم ليسوا بالقليل في البلدان الاسلامية - لايصلون إلاّ في شهر رمضان. فترى الواحد منهم اول يوم من ايام شهر رمضان يغتسل غسل التوبة ويغيّر ملابسه، فلا تلقاه إلاّ في المساجد والمحافل الدينية والروحية. فيصوم النهار، ويتعبد في الليل الى يوم العيد، ليعود في هذا اليوم الى موبقاته، وخطاياه، وآثامه، وكأن من الواجب عليه ان لايكون انساناً صالحاً إلاّ في شهر رمضان !! ترى ما هو السبيل الى ان لا نكون من ضمن هذه الفئة من الناس، وكيف نمتنع في شهر رمضان عن الغيبة، والتهمة وسوء الظن بالآخرين، وسائر الصفات السيئة، ثم نستمر على هذه الحالة حتى بعد شهر رمضان ؟ للاجابة علىهذا التساؤل المهم نقول : ان هناك حقيقة أكدت عليها الروايات والاحاديث الشريفة، وهي ان الانسان الذي يتوب الى الله جل وعلا إن قبلت توبته، فان قلبه سوف لايحن الى الذنب مرة اخرى، وإن لم تقبل فانه يبقى في حالة حنين واشتياق الى اقتراف الذنب. ونحن في الليالي الاخيرة من شهر رمضان المبارك نؤكد الميثاق مع الله تبارك وتعالى على ان لا نعود مرة اخرى الى الذنوب، ونستغفر خالقنا بقلوبنا كما نستغفره بألسنتنا. فما علينا في هذه الحالة إلاّ ان نراجع هذه القلوب؛ فان كانت تريد العودة الى الذنوب، فهذا يعني ان توبتنا لم تقبل بعد، وان علينا ان نجتهد فيما تبقى من شهر رمضان. اما اذا اصبح القلب كارهاً للذنب، واذا ما استشعر الندم الحقيقي، فحينئذ ستكون مقبولة. تحديد الذنوب : وعلينا نحن ان نحدد أولاً الذنوب التي ندمنا عليها. ولقد كان الزهاد والعبّاد قديماً عندما كانوا يحاسبون انفسهم، يبادرون الى تسجيل ذنوبهم، فوجد انه قد ارتكب سبعين ذنباً خلال سبعين عاماً وليس خلال يوم واحد. اما نحن فاننا اذا سجلنا ذنوبنا من الصباح حتى الليل فمن الممكن ان تبلغ ذنوبنا ذلك العدد خلال يوم واحد ! فلا بــأس - إذن - من ان نسجل الذنوب التي اقلعنا عنها. اما ان ندعي اننا منزهون عن الخطايا، ونزكي انفسنا، ونرى اننا طاهرون مطهرون، فان هذا التصور يعتبر - بحد ذاته - أعظم الذنوب. فالعجب، والغرور، وتنزيه النفس، كل ذلك هو من الكبائر. وبناء على ذلك؛ فمما لاشك فيه اننا قد اقترفنا الذنوب، فلنعيّنها بالتحديد. ولنقم بهذه العملية في الليالي الاخيرة من شهر رمضان المبارك من خلال تحديدها، والندم عليها، والاستعاذة بالله العزيز من شر الشيطان الذي دفعنا الى ارتكابها. فلنبادر الى تسجيلها، ولنعقد العزم من الآن على ان لانعود اليها، ولنحاسب انفسنا يومياً لنرى هل عدنا الى اقتراف ذنوبنا ام لا، وإلاّ فان من العبث ان نستغفر الله تبارك وتعالى من الذنوب ثم نرتكبها مرة اخرى. فمن يضمن انك بعد تلك الذنوب ستوفق الى التوبة ؟ فهناك من الذنوب ما ينساه الانسان، فما من احد يستطيع ان يدعي انه يتذكر كل ذنوبه. الاجواء الايمانية : وثمة ملاحظة تتمثل في ان الانسان بامكانه ان يبقى طاهراً إذا عاش في جو طاهر، وبيئة نقية نزيهة. فهو يتعرض في هذه الدنيا الى ضغوط الشهوة من الداخل، والمجتمع من الخارج، والشيطان من الداخل والخارج معاً، فلا يدعه كل ذلك يعيش نقياً طاهراً من الذنوب. وهكذا فلا بد من أجل ان نحافظ على مكاسبنا الايمانية التي حصلنا عليها خلال شهر رمضان ان ندخل في حصن الولاية؛ أي ان يجتمع بعضنا الى بعض، ونكون ضمن تجمعات ايمانية صادقة يوحي بعضها الى بعض تقوى الله، وتتبادل النصيحة، ويحرض بعضها البعض الآخر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي فان هذه التجمعات ستمنحنا حصانة تحول دون الوقوع في الذنوب مرة اخرى. شهر رمضان ربيع الايمان : ان شهر رمضان الفضيل هو بالنسبة الينا ربيع الايمان، وربيع التقوى، وربيع الصفات الحسنة، وربيع تلاوة القرآن الكريم... ومن المعلوم ان نفوسنا تشحن في الليالي والايام الاخيرة من شهر رمضان بسيل من التوجيهات والتعليمات، ولو اننا استفدنا من كل توجيه وحديث فائدة حقيقية تنفذ الى قلوبنا، واذا ما استوعبنا من كل حديث كلمة معبرة، ونصيحة مؤثرة، فسوف ينهمر علينا شلال من النور، وسيل غامر من الرحمة الالهية. ان شهر رمضان هو شهر الله، والشيطان الرجيم مغلول ومقيد فيه. فلا بد لكل واحد منا من ان يحافظ على هذه الاجواء الروحية، والتعاليم والقيم من خلال الحرص على تشكيل تلك التجمعات، والانضمام اليها. ومن الحقائـق الملموسة في علمنــا، ان كل واحد منا لايمكنه ان يعيش فرداً، بل لابد له من يعيش في اطار تجمع. وحتى المؤمنون في الجنة، فعلى الرغم من انهم في شغل فاكهون هم وازواجهم، إلاّ انهم يتخذون اصدقاء واصحاباً يجلسون معهم، ويتحدثون اليهم. وبالتالي فان لذات الجنة لاتشغلهم عن لذة مجالسة اخوتهم. وهكذا الحال بالنسبة الى الدنيا، فان لذة الانسان المؤمن تتمثل في لقاء الله جل وعلا، ولقاء الاخوة الذين يحبهم في الله. توحيد القلوب : وبالطبع فان هناك بعض الثغرات، والنواقص الروحية، وهي ان يعمد الشيطان الى افسار ما بينك وبين اخوتك. فلنحاول في شهر رمضان بما استغفرنا ربنا، وبما استطعنا ان نرفع الحواجز التي كانت قائمة بيننا وبين اخوتنا، ان نقترب منهم. فحبهم في ذات الله هو مقياس لمدى ايماننا، ومدى قدرتنا على حل مشاكل مجتمعنا. وللأسف فان المجتمعات التي عشنا فيها كان بعضها متخلفاً، وكانت تدعونا الى التدابر والقطيعة، وتدفعنا الى التنابز بالالقاب القبيحة. فلنحاول ان نتخلص من هذه الرواسب. فمن المفترض فينا ان لا نفتش عن ابناء مدينتنا او جيراننا او اقربائنا لكي نتخذهم اصدقاء، بل علينا ان نبحث عن اخوة لنا في الايمان في مــدن وبلدان اخرى لكي نحتضنهم ونتخذهم اصدقاء. وهذا هو المستوى الذي يجب ان نرتفع ونسمو إليه. ولنا في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله ) خير قدوة واسوة حسنة لنا في هذا المجال. فقد جعل (صلى الله عليه وآله) سلمان الفارسي من أهل بيته فقال: سلمان منا أهل البيت .([22]) وهكذا الحال بالنسبة الى ابن ام مكتوم الرجل الضرير والمعدم، الذي كان منبوذاً في المجتمع الجاهلي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي...وهذا هو السر الذي جعل أهل افريقيا - مثلاً - يؤمنون بالاسلام، ويمقتون العنصرية والجاهلية الغربية، وهو نفسه السر الذي جعل أهل ايران يفتخرون بسلمان المحمدي، ذلك لانه ادرك ان الاسلام لا مكان للعنصرية فيه. فلنحاول نحن ايضاً ان نعود الى صفاء الاسلام ونقائه وروحه، وإن كانت هناك عصبية فلنبتعد عنها ابتعادنا عن الجيفة المنتنة. فعن أبي عبد الله الامام الصادق (عليه السلام) يقول : من تعصَّب عصبه الله عز وجل بعصابة من نار .([23]) الاستمرارعلى الممارسات العبادية : ان الذي نحتاجه من أجل ان نحمل هدى رمضان الى الاشهر الاخرى، هو ان نحافظ ونواظب على بعض الممارسات التي اكتسبناها من شهر رمضان، من مثل صلاة الليل وتلاوة القرآن وقراءة الأدعية، وما الى ذلك من الممارسات العبادية. وبالطبع فاني لا اقصد ان يعود أحدنا نفسه على اداء تلك العبادات كلها، فمن الممكن ان تكون هذه العملية صعبة علينا، بل لنحاول ان نتعود على واحدة من تلك الممارسات على الاقل، وان لانتركها. كأن نستمر - مثلاً - في تلاوة القرآن الكريم، ونواظب عليها بعد شهر رمضان المبارك. ولنا في سلفنا الصالح خير قدوة في هذا المجال، فقد كان كل واحد منهم يختم القرآن الكريم في كل ليلة، فيبدؤون بقراءته من أوّل الليل ليفرغوا منه في آخره، وذلك في شهر رمضان. اما نحن فلا نقرأ منه سوى جزء في الليلة الواحدة، وبالطبع فانه لابأس بهذا المقدار من القراءة شريطة الاستمرار عليها بعد شهر رمضان، لان هذا الاستمرار من شأنها ان يكرس هذه العادة الحسنة في انفسنا، ويجعلها تؤتي ثمارها وأكلها المتمثل في تهذيب السلوك، وتعديله على ضوء وصايا وتوجيهات وارشادات هذا الكتاب العظيم.
وصايا رمضانية
تقبل علينا في كل عام أيام شهر رمضان، واولئك الذين يستعدون لاستقبالها هم الذين يستطيعون ان يحرزوا فيها نجاحاً كبيراً. اما اولئك الذين يهملون استقبال هذا الشهر، ويتركون الاهتمام بأيامه المباركة وساعاته، فانهم سوف يدخلون هذا الشهر العظيم ويخرجون منه كما كانوا قبل دخوله . وعلى هذا فان شهر رمضان، هو شهر الرحمة ولكن لمن تعرض للرحمة، وهو شهر المغفرة ولكن لم استغفر، وشهر الرضوان لمن اراد الرضوان. أما إذا لم يتحرك الانسان ويسعى، فان هذا الشهر ستنقضي أيامه، ويسجل في حسابه شهراً كاملاً دون ان يحصل على مكسب ملموس. فلا يكن نصيب الواحد منا منه، إلاّ الجوع والعطش دون الرحمة والرضوان. فالله سبحانه وتعالى أعدَّ لنا فيه مائدة مباركة عظيمة، والرجال الذين يدخلون في رحاب رحمة الخالق هم الذين ينتفعون بهذه المائدة. كيف نستعد لشهر رمضان ؟ والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو : كيف نستعد لشهر رمضان ؟ قبل أن أجيب على هذا السؤال، لابد من ان نذكر ملاحظة مهمة علينا ان نأخذها بنظر الاعتبار، وهي اننا نرى بعض الناس خاشعين في صلاتهم، والبعض الآخر يصلي صلاة كنقر الغراب، والسبب في ذلك ان الانسان الذي يكون خاشعاً وخاضعاً في وضوئه، يكون كذلك في صلاته؛ اي ان الانسان الذي يهتم بالوضوء الذي هو مقدمة الصلاة، ويهئ نفسه للصلاة، فان الصلاة التي يؤديها ستكون صلاة سليمة. اما ذلك الذي يتوضأ وهو مشغول في أمور الدنيا، فان فكره سوف لايكون متركزاً على الوضوء، ولذلك فان تفكيره سوف لايكون منصّباً على الصلاة ايضاً. وعلى هذا فان من يسبغ وضوءه، ويؤدّيه حق ادائه، فانه سوف يخشع في صلاته. والعكس صحيح . وعلى هذا الاساس، فان علينا ان نعدّ انفسنا قبل ان ندخل شهر رمضان. فكيف نهئ انفسنا، وماذا علينا ان نفعل ؟ ضرورة البرمجة لشهر رمضان : ألف: علينا أوّلاً ان نلتزم ببرنامج معين. فالله سبحانــه وتعالـى عندما فرض الصلاة، فانه حدد لنا اوقاتها، وأكد على اقامتها في هذه الاوقات في قوله : « إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً » (النساء / 103)، وقوله : « حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى » (البقرة / 238). فلا يجوز لنا ان نصلي في أي وقت شئنا، ولكننا نرى - للأسف - بعض الظواهر السلبية في هذا المجال. فهناك منا من يجمع صلوات السنة باكملها ليؤديها في شهر رمضان، او يؤخر صلوات النهار ليؤديها في الليل. فهل مثل هذه الصلوات مقبولة ؟ ان المطلوب ان تؤدّى الصلاة في وقتها المحدد لها، وهذا يعني ان حياة الانسان يجب ان تكون مبرمجة. فكل شئ بوقته؛ الأكل والشرب والنوم والطاعات..
ربيع القرآن :
باء: ان شهر رمضان هو ربيع القرآن. وفي هذا المجال لدي ثلاث نصائح اقدمها، فيما يتصل بتلاوة القرآن في شهر رمضان: 1- علينا ان نجتنب قراءة القرآن لوحدنا، بل لنقرأه مع اولادنا وزوجاتنا، ولنبدأ بجلسة القرآن بعد وجبة الافطار مباشرة، وليحضر معنا حتى الطفل الرضيع مهما كان عمره، لان الانسان يتوجه منذ طفولته. وعلى هذا يجب علينا ان نضع برنامجاً لأولادنا، لان لهم حقاً علينا. فالقرآن الكريم يقول : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً » (التحريم / 6)، ويقول: « وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا » (طه /132)، فهل يحب أحدنا ان يحترق أولاده في نار جهنم ؟ 2- لنقرأ في كل يوم جزء او جزئين من القرآن حسب قدرتنا، ولنخصص في كل يوم وليلة وقتاً معيناً للتدبر في القرآن . 3- لنحاول ان نحفظ سورة واحدة من سور القرآن المتوسطة كسورة الحجر، او الرعد، او ابراهيم. فقد روي في هذا المجال عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فاذا دخل صاحب القرآن الجنة قيل له : ارقـأ واقرأ لكل آية درجة فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة .([24]) فليحاول كل منا ان يحفظ القرآن حسب استطاعته، وان يضيف الى رصيده في كل سنة سورة، ولاينس ان يقرأ هذه السورة في احدى صلواته. فلا تأتين يوم القيامة، وقد حصل الجميع على جوائز، وتقف أنت وقد لفتك الحسرة والندامة . فلنفكر في انفسنا؛ اين سنذهب غداً، وماذا سيقولون لنا، وماذا يطلبون منا ؟ ولنعلم ان كلام اللغو واللهو لاينفع، فهو إن لم يضرّك فانه لاينفعك. فمن صفات المؤمنين انهم يعرضون عن اللغو، ويشغلوا انفسهم بدلاً من ذلك بالتسبيح، وقراءة القرآن، وبالتالي فانهم يستفيدون من اوقاتهم. فكل لحظة لايستغلها الانسان، سوف تتحول الى حسرة عليه يوم القيامة. ومن عادة المتحسر انه يعض انامله، ولكنه في يوم القيامة يعض كلتا يديه كما يقول سبحانـه : « وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ » (الفرقان / 27). الاهتمام باحاديث أهل البيت (ع) : جيم: نحن نؤمن بان الرسول (صلى الله عليه وآله) عندما ودعنا، والتحق بالرفيق الأعلى، فانه خلّف وراءه الثقلين؛ كتاب الله، وعترته. فكتاب الله تعالى هو القرآن، واما عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) فتتجسد لنا الآن في هذه الروايات، لان أهل البيت (عليهم السلام) نطقوا بالاحاديث التي نقرؤها. فكم ياترى حفظنا من هذه الاحاديث ؟ ان من الأمور المستحبة للغاية ان يحفظ الانسان أربعين حديثاً، فقد جاء عن الرسول (صلى الله عليه وآله): من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة عالماً فقيهاً .([25]) ولذلك فاني انصح اخواني ان يحفظوا في كل ليلة حديثاً مهما كان قصيراً، وانا ادعو الاخوة الخطباء، والاخوان الذين يشرفون على الهيئات ان يعدوا قائمة بالاحاديث القصار لكل معصوم، ثم يطرحون في كل ليلة حديثاً واحداً، وعلى المستمعين ان يحفظوا هذا الحديث. ضرورة صلة الرحم : دال: لنحاول ان نزور اقاربنا في شهر رمضان، وبالطبع فانه الشيطان يسوّف لنا ان نصل ارحامنا في الغد او بعد الغد، وعلينا ان لانسمح له بذلك، فقد جاء في الحديث : إن أهل النار إذا دخلوها، ورأوا نكالها وأهوالها، وعلموا عذابها وعقابها، ورأوها كما قال زين العابدين (عليه السلام): ما ظنك بنارٍٍ لا تبقي على من تضرّع إليها، ولا يقدر على الخفيف عمّن خشع لها، واستسلم إليها، تلقي سكانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال وشديد الوبال يعرفون أن أهل الجنة في ثواب عظيم، ونعيم مقيم، فيؤمّلون ان يطعموهم او يسقوهم ليخفَّ عنهم بعض العذاب الأليم، كما قـال الله عز وجل جلاله في كتابـه العزيـز : ونادى اصحاب النار أصحاب الجنة أن افيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قال : فيحبس عنهم الجواب أربعين سنة، ثم يجيبونهم بلسان الاحتقار والتّهوين: إن الله حرمهما على الكافرين قال: فيرون الخزنة عندهم وهم يشاهدون ما نزل بهم من المصاب فيؤمّلون ان يجدوا عندهم فرحاً بسبب من الاسباب، كما قال الله جل جلاله : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قال : فيحبس عنهم الجواب أربعين سنة، ثم يجيبونهم بعد خيبة الآمال: قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال قال : فإذا يئسوا من خزنة جهنم، رجعوا الى مالك مقدّم الخزّان، وأمّلوا ان يخلّصهم من ذلك الهوان، كما قال جل جلاله : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال : فيحبس عنهم الجواب أربعين سنة وهم في العذاب، ثم يجيبهم كمال قال الله في كتابه المكنون : قال إنكم ماكثون قال : فإذا يئسوا ( يأملون ) من مولاهم ربّ العالمين الذي كان أهون شيءٍ عندهم في دنياهم، وكان قد آثر كلّ واحد منهم عليه هواه مدة الحياة، وكان قد قدّر عندهم بالعقل والنّقل أنه اوضح لهم على يد الهداة سبل النجاة، وعرّفهم بلسان الحال أنهم الملقون بأنفسهم الى دار النكال والأهوال، وأنّ باب القبول يغلق عن الكفار بالممات أبد الآبدين، وكان يقول لهم في أوقات كانوا في الحياة الدنيا من المكلّفين بلسان الحال الواضح المبين : هب انكم ما صدّقتموني في هذا المقال، أما تجوّزون أن أكون من الصادقين ؟ فكيف اعرضتم عني، وشهدتم بتكذيبي وتكذيب من صدّقني من المرسلين ؟ وهلاّ تحرّزتم من هذه الضرر المحذّر الهائل ؟ اما سمعتم بكثرة المرسلين، وتكرار الرسائل ؟ ثم كرّر جل جلاله مرافقتهم في النار بلسان المقال فقال : ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون فقالوا : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون فيقفون أربعين سنة ذلَّ الهوان لايجابون، وفي عذاب النار لايكلّمون، ثم يجيبهم الله جل جلاله : اخسؤا فيها ولا تكلّمون قال : فعند ذلك ييأسون من كل فرج وراحة، ويغلق أبواب جهنم عليهم، ويدوم لديهم مآتم الهلاك والشهيق والزفير والصراخ والنياحة .([26])