سورة آل عمران - 98 - 101
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَايَتِ اللّهِ وَ اللّهُ شهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَصدّونَ عَن سبِيلِ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونهَا عِوَجاً وَ أَنتُمْ شهَدَاءُ وَ مَا اللّهُ بِغَفِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (99) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ كَفِرِينَ (100) وَ كَيْف تَكْفُرُونَ وَ أَنتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ ءَايَت اللّهِ وَ فِيكمْ رَسولُهُ وَ مَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِى إِلى صرَطٍ مّستَقِيمٍ (101)
بيان
الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب فريق منهم و هم اليهود أو فريق من اليهود كانوا يكفرون بآيات الله، و يصدون المؤمنين عن سبيل الله بإراءته إياهم عوجا غير مستقيم، و تمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلا لله، و ذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلا، و الباطل الذي يدعونهم إليه حقا، و الآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة، و إنكار نسخ استقبال بيت المقدس، فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل الطعام قبل التوراة، و كون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار و التوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات و تفتينهم المؤمنين في دينهم، و تحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين، و ترغيب و تحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان و تدوم هدايتهم.و قد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول، على ما قيل: أن شاش بن قيس و كان يهوديا مر على نفر من الأوس و الخزرج يتحدثون فغاظه ما رأى من تألفهم بعد العداوة فأمر شابا معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل، فتنازعوا و تفاخروا حتى وثب رجلان.
أوس بن قرظي من الأوس، و جبار بن صخر من الخزرج فتقاولا و غضب الفريقان، و تواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء حتى وعظهم و أصلح بينهم فسمعوا و أطاعوا فأنزل الله في أوس و جبار: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا - من الذين أوتوا الكتاب الآية، و في شاش بن قيس: يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله الآية.
و الرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور، عن زيد بن أسلم مفصلا و روي ما يقرب منها عن ابن عباس و غيره.
و كيف كان، الآيات أقرب انطباقا على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر، على أن الآيات يذكر الكفر و الإيمان، و شهادة اليهود، و تلاوة آيات الله على المؤمنين، و نحو ذلك، و كل ذلك لما ذكرناه أنسب، و يؤيد ذلك قوله تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم" الآية: البقرة - 109 فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها.
قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله "الخ"، المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة، و كون القبلة هي الكعبة في الإسلام.
قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله إلى قوله: عوجا، الصد الصرف، و قوله: تبغونها أي تطلبون السبيل، و قوله: عوجا: العوج المعطوف المحرف، و المراد طلب سبيل الله معوجا من غير استقامة.
قوله تعالى: و أنتم شهداء، أي تعلمون أن الطعام كان حلا قبل نزول التوراة و أن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة، و قد حاذى في عدهم شهداء في هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيدا على فعلهم و كفرهم، و فيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقيقة ما ينكرونه و الله شهيد على إنكارهم و كفرهم.
و لما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله: و الله شهيد على ما تعملون من قوله في ذيل هذه الآية.
و ما الله بغافل عما تعملون فأفاد ذلك أنهم شهداء على الحقية، و الله سبحانه شهيد على الجميع.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا - إلى قوله: - و فيكم رسوله، المراد بالفريق كما تقدم هم اليهود أو فريق منهم، و قوله تعالى: و أنتم تتلى عليكم آيات الله و فيكم رسوله أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله و التدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم و لا بعيد عنكم، و استظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبهة ألقتها اليهود إليكم و التمسك بآيات الله و برسوله و الاعتصام بهما اعتصام بالله، و من يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
فالمراد بالكفر في قوله: و كيف تكفرون، الكفر بعد الإيمان، و قوله: و أنتم تتلى عليكم، كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله و برسوله، و قوله: و من يعتصم بالله، بمنزلة الكبرى الكلية لذلك و المراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت و هو الصراط الذي لا يختلف و لا يتخلف أمره، و يجمع سالكيه في مستواه و لا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا.
و في تحقيق الماضي في قوله: فقد هدي، مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله.
و يتبين من الآية أن الكتاب و السنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه.