7 سورة الأعراف - 59 - 64
لَقَدْ أَرْسلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ إِنى أَخَاف عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنرَاك فى ضلَلٍ مّبِينٍ (60) قَالَ يَقَوْمِ لَيْس بى ضلَلَةٌ وَ لَكِنى رَسولٌ مِّن رّب الْعَلَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسلَتِ رَبى وَ أَنصحُ لَكمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أَ وَ عجِبْتُمْ أَن جَاءَكمْ ذِكْرٌ مِّن رّبِّكمْ عَلى رَجُلٍ مِّنكمْ لِيُنذِرَكُمْ وَ لِتَتّقُوا وَ لَعَلّكمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَهُ وَ الّذِينَ مَعَهُ فى الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الّذِينَ كذّبُوا بِئَايَتِنَا إِنهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)بيان
تعقيب لما تقدم من الدعوة إلى التوحيد و النهي عن الشرك بالله سبحانه و التكذيب لآياته بذكر قصة نوح (عليه السلام) و إرساله إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله و ترك عبادة غيره و ما واجهته به عامة قومه من الإنكار و الإصرار على تكذيبه فأرسل الله إليهم الطوفان و أنجى نوحا و الذين آمنوا معه ثم أهلك الباقين عن آخرهم.
ثم عقب الله قصته بقصص عدة من رسله كهود و صالح و شعيب و لوط و موسى (عليهما السلام) للغرض بعينه.
قوله تعالى: "لقد أرسلنا نوحا إلى قومه" إلى آخر الآية.
بدأ الله سبحانه بقصته و هو أول رسول يذكر الله سبحانه تفصيل قصته في القرآن كما سيأتي تفصيل القول في قصته في سورة هود إن شاء الله تعالى.
و اللام في قوله: "لقد أرسلنا نوحا" للقسم جيء بها للتأكيد لأن وجه الكلام إلى المشركين و هم ينكرون النبوة، و قوله: "فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" ناداهم بقوله: "يا قوم" فأضافهم إلى نفسه ليكون جريا على مقتضى النصح الذي سيخبرهم به عن نفسه، و دعاهم أول ما دعاهم إلى توحيد الله تعالى فإن دعاهم إلى عبادته، و أخبرهم بانتفاء كل إله غيره فيكون دعوة إلى عبادة الله وحده من غير أن يشرك به في عبادته غيره، و هو التوحيد.
ثم أنذرهم بقوله: "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" و ظاهره يوم القيامة فيكون في ذلك دعوة إلى أصلين من أصول الدين و هما التوحيد و المعاد، و أما الأصل الثالث و هو النبوة فسيصرح به في قوله: "يا قوم ليس بي ضلالة و لكني رسول" الآية.
على أن في نفس الدعوة و هي دعوة إلى نوع من العبادة لا يعرفونها و كذا الإنذار بما لم يكونوا يعلمونه و هو عذاب القيامة إشعارا بالرسالة من قبل من يدعو إليه، و من الشاهد على ذلك قوله في جوابهم: "أ و عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم" فإنه يدل على تعجبهم من رسالته باستماع أول ما خاطبهم به من الدعوة و هو قوله: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره".
قوله تعالى: "قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين" الملأ هم أشراف القوم و خواصهم سموا به لأنهم يملئون القلوب هيبة و العيون جمالا و زينة، و إنما رموا بالضلال المبين و أكدوه تأكيدا شديدا لأنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن معترضا يعترض عليهم بالدعوة إلى رفض آلهتهم و توجيه العبادة إلى الله سبحانه بالرسالة و الإنذار فتعجبوا من ذلك فأكدوا ضلاله مدعين أن ذلك من بين الضلال تحقيقا.
و الرؤية هي الرؤية بحسب الفكر أعني الحكم.
قوله تعالى: "قال يا قوم ليس بي ضلالة" الآية.
أجابهم بنفي الضلال عن نفسه و الاستدراك بكونه رسولا من الله سبحانه، و ذكره بوصفه "رب العالمين" ليجمع له الربوبية كلها قبال تقسيمهم إياها بين آلهتهم بتخصيص كل منها بشيء من شئونها و أبوابها كربوبية البحر و ربوبية البر و ربوبية الأرض و ربوبية السماء و غير ذلك.
و قد جرد (عليه السلام) جوابه عن التأكيد للإشارة إلى ظهور رسالته و عدم ضلالته تجاه إصرارهم بذلك و تأكيد دعواهم.
قوله تعالى: "أبلغكم رسالات ربي و أنصح لكم و أعلم من الله ما لا تعلمون" أخبرهم بأوصاف نفسه فبين أنه يبلغهم رسالات ربه، و هذا شأن الرسالة و مقتضاها القريب الضروري، و في جمع الرسالة دلالة على كونها كثيرة و أن له مقاصد أمره ربه أن يبلغها إياهم وراء التوحيد و المعاد فإنه نبي رسول من أولي العزم صاحب كتاب و شريعة.
ثم ذكر أنه ينصح لهم و هو عظاته بالإنذار و التبشير ليقربهم من طاعة ربهم و يبعدهم عن الاستكبار و الاستنكاف عن عبوديته كل ذلك بذكر ما عرفه الله من بدء الخلقة و عودها و سننه تعالى الجارية فيها و لذا ذكر ثالثا أنه يعلم من الله ما لا يعلمون كوقائع يوم القيامة من الثواب و العقاب و غير ذلك، و ما يستتبع الطاعة و المعصية من رضاه تعالى و سخطه و وجوه نعمه و نقمه.
و من هنا يظهر أن الجمل الثلاث كل مسوق لغرض خاص أعني قوله: "أبلغكم" الآية و "أنصح لكم" و "أعلم" الآية و هي ثلاثة أوصاف متوالية لا كما قيل: إن الأوليان صفتان، و الثالثة جملة حالية عن فاعل "و أنصح لكم".
قوله تعالى: "أ و عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم" إلى آخر الآية.
استفهام إنكاري ينكر تعجبهم من دعواه الرسالة و دعوته إياهم إلى الدين الحق و المراد بالذكر ما يذكر به الله و هو المعارف الحقة التي أوحيت إليه، و قوله: "من ربكم" متعلق بمقدر أي ذكر كائن من ربكم.
و قوله: "لينذركم" و "لتتقوا" و "لعلكم ترحمون" متعلقات بقوله: "جاءكم" و المعنى لغرض أن ينذركم الرسول، و لتتقوا أنتم، و يؤدي ذلك إلى رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فإن التقوى و إن كان يؤدي إلى النجاة لكنها ليست بعلة تامة، و قد اشتمل ما حكي من إجمال كلامه (عليه السلام) من معارف عالية إلهية.
قوله تعالى: "فكذبوه فأنجيناه و الذين معه في الفلك" الفلك السفينة يستعمل واحدا و جمعا على ما ذكره الراغب و يذكر و يؤنث كما في الصحاح، "و قوله: "قوما عمين" موصوف و صفة.
و عمين جمع عمي كخشن صفة مشبهة من عمي يعمى، عمي كالأعمى إلا أن العمي يختص بعمى البصيرة و الأعمى بعمى البصر، كما قيل، و معنى الآية ظاهر.