35 سورة فاطر - 27 - 38
أَ لَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَتٍ مخْتَلِفاً أَلْوَنهَا وَ مِنَ الْجِبَالِ جُدَدُ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مخْتَلِفٌ أَلْوَنهَا وَ غَرَابِيب سودٌ (27) وَ مِنَ النّاسِ وَ الدّوَاب وَ الأَنْعَمِ مخْتَلِفٌ أَلْوَنُهُ كَذَلِك إِنّمَا يخْشى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَب اللّهِ وَ أَقَامُوا الصلَوةَ وَ أَنفَقُوا مِمّا رَزَقْنَهُمْ سِرّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تجَرَةً لّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُم مِّن فَضلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شكورٌ (30) وَ الّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْك مِنَ الْكِتَبِ هُوَ الْحَقّ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ إِنّ اللّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرُ بَصِيرٌ (31) ثمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَب الّذِينَ اصطفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَ مِنهُم مّقْتَصِدٌ وَ مِنهُمْ سابِقُ بِالْخَيرَتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذَلِك هُوَ الْفَضلُ الْكبِيرُ (32) جَنّت عَدْنٍ يَدْخُلُونهَا يحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَساوِرَ مِن ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَ قَالُوا الحَْمْدُ للّهِ الّذِى أَذْهَب عَنّا الحَْزَنَ إِنّ رَبّنَا لَغَفُورٌ شكُورٌ (34) الّذِى أَحَلّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَمَسنَا فِيهَا نَصبٌ وَ لا يَمَسنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَ الّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يخَفّف عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِك نجْزِى كلّ كفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصطرِخُونَ فِيهَا رَبّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صلِحاً غَيرَ الّذِى كنّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مّا يَتَذَكرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ وَ جَاءَكُمُ النّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظلِمِينَ مِن نّصِيرٍ (37) إِنّ اللّهَ عَلِمُ غَيْبِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ إِنّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ (38)
بيان
رجوع إلى ذكر آيات أخر من آيات التوحيد و فيها انتقال إلى حديث الكتاب و أنه حق نازل من عند الله تعالى و قد انجر الكلام في الفصل السابق من الآيات إلى ذكر النبوة و الكتاب حيث قال: "إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا" و قال: "جاءتهم رسلهم بالبينات و بالزبر و بالكتاب المنير" فكان من الحري أن يتعرض لصفة الكتاب و ما تستتبعه من الآثار.
قوله تعالى: "أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها" إلخ.
حجة أخرى على التوحيد و هو أن الله سبحانه ينزل الماء من السماء بالأمطار و هو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات، و لو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل و هو واحد لكان جميعها ذا لون واحد فاختلاف الألوان يدل على وقوع التدبير الإلهي.
و القول بأن اختلافها منوط باختلاف العوامل المؤثرة فيها و منها اختلاف العناصر الموجودة فيها نوعا و قدرا و خصوصية التأليف.
مدفوع بأن الكلام منقول حينئذ إلى اختلاف نفس العناصر و هي منتهية إلى المادة المشتركة التي لا اختلاف فيها فاختلاف العناصر المكونة منها يدل على عامل آخر وراء المادة يدبر أمرها و يسوقها إلى غايات مختلفة.
و الظاهر أن المراد باختلاف ألوان الثمرات اختلاف نفس ألوانها و يلزمه اختلافات أخر من حيث الطعم و الرائحة و الخواص، و قيل المراد باختلاف الألوان اختلاف الأنواع فكثيرا ما يطلق اللون في الفواكه و الأطعمة على النوع كما يقال: قدم فلان ألوانا من الطعام و الفاكهة فهو من الكناية، و قوله بعد: "و من الجبال جدد بيض و حمر" لا يخلو من تأييد للوجه الأول.
و في قوله: "فأخرجنا به" إلخ.
التفات من الغيبة إلى التكلم.
قيل: إن ذلك لكمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبىء عن كمال القدرة و الحكمة.
و نظير الوجه يجري في قوله السابق: "إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا" و أما ما في الآية السابقة من قوله: "ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير" فلعل الوجه فيه أن أمرهم إلى الله لا يتخلل بينه و بينهم أحد حتى يشفع لهم أو ينصرهم فينجوا من العذاب.
و قوله: "و من الجبال جدد بيض و حمر مختلف ألوانها و غرابيب سود" الجدد بالضم فالفتح جمع جدة بضم الجيم و هي الطريقة و الجادة، و البيض و الحمر جمع أبيض و أحمر، و الظاهر أن قوله: "مختلف ألوانها" صفة لجدد و "ألوانها" فاعل "مختلف" و لو كانت الجملة مبتدأ و خبرا لقيل: مختلفة ألوانها كما قيل، و الغرابيب جمع غربيب و هو الأسود الشديد السواد و منه الغراب و "سود" بدل أو عطف بيان لغرابيب.
و المعنى: أ لم تر أن من الجبال طرائق بيض و حمر و سود مختلف ألوانها، و المراد إما الطرق المسلوكة في الجبال و لها ألوان مختلفة، و إما نفس الجبال التي هي خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض و حمر و سود مختلف ألوانها.
قوله تعالى: "و من الناس و الدواب و الأنعام مختلف ألوانه كذلك" أي و من الناس و الدواب التي تدب في الأرض و الأنعام كالإبل و الغنم و البقر بعض مختلف ألوانه بالبياض و الحمرة و السواد كاختلاف الثمرات و الجبال في ألوانها.
و قيل: قوله: "كذلك" خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير الأمر كذلك فهو تقرير إجمالي للتفصيل المتقدم من اختلاف الثمرات و الجبال و الناس و الدواب و الأنعام.
و قيل: "كذلك" متعلق بقوله: "يخشى" في قوله: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" و الإشارة إلى ما تقدم من الاعتبار بالثمرات و الجبال و غيرهما و المعنى إنما يخشى الله كذلك الاعتبار بالآيات من عباده العلماء، و هو بعيد لفظا و معنى.
قوله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" استئناف يوضح أن الاعتبار بهذه الآيات إنما يؤثر أثره و يورث الإيمان بالله حقيقة و الخشية منه بتمام معنى الكلمة في العلماء دون الجهال، و قد مر أن الإنذار إنما ينجح فيهم حيث قال: "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب و أقاموا الصلاة" فهذه الآية كالموضحة لمعنى تلك تبين أن الخشية حق الخشية إنما توجد في العلماء.
و المراد بالعلماء العلماء بالله و هم الذين يعرفون الله سبحانه بأسمائه و صفاته و أفعاله معرفة تامة تطمئن بها قلوبهم و تزيل وصمة الشك و القلق عن نفوسهم و تظهر آثارها في أعمالهم فيصدق فعلهم قولهم، و المراد بالخشية حينئذ حق الخشية و يتبعها خشوع في باطنهم و خضوع في ظاهرهم.
هذا ما يستدعيه السياق في معنى الآية.
و قوله: "إن الله عزيز غفور" يفيد معنى التعليل فلعزته تعالى و كونه قاهرا غير مقهور و غالبا غير مغلوب من كل جهة يخشاه العارفون، و لكونه غفورا كثير المغفرة للآثام و الخطيئات يؤمنون به و يتقربون إليه و يشتاقون إلى لقائه.
قوله تعالى: "إن الذين يتلون كتاب الله و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية يرجون تجارة لن تبور" تلاوة الكتاب قراءة القرآن و قد أثنى عليها الله سبحانه، و إقامة الصلاة إدامة إتيانها و حفظها من أن تترك، و الإنفاق من الرزق سرا و علانية بذل المال سرا تحذرا من الرياء و زوال الإخلاص في الإنفاق المسنون، و بذل المال علانية ليشيع بين الناس كما في الإنفاق الواجب.
و قوله: "يرجون تجارة لن تبور" أي لن تهلك بالخسران، و ذكر بعضهم أن قوله: "يرجون" إلخ.
خبر إن في صدر الآية و عند بعضهم الخبر مقدر يتعلق به قوله: "ليوفيهم" إلخ "أي فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم" إلخ.
قوله تعالى: "ليوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله إنه غفور شكور" متعلق بقوله: "يتلون" و ما عطف عليه في الآية السابقة أي إنهم عملوا ما عملوا لأن يوفيهم و يؤتيهم إيتاء تاما كاملا أجورهم و ثوابات أعمالهم.
و قوله: "و يزيدهم من فضله" يمكن أن يراد بهذه الزيادة تضعيف الثواب أضعافا كما في قوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها:" الأنعام: - 106 و قوله: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و الله يضاعف لمن يشاء:" البقرة: - 216، و يمكن أن يراد بها زيادة ليست من سنخ ثواب الأعمال كما في قوله: "لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد:" ق: - 35.
و قوله: "إنه غفور شكور" تعليل لمضمون الآية و زيادة فهو تعالى لكونه غفورا يغفر زلاتهم و لكونه شكورا يثيبهم و يزيد من فضله.
قوله تعالى: "و الذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق" ضمير الفصل و اللام في قوله: "هو الحق" للتأكيد لا للقصر أي هو حق لا يشوبه باطل.
قوله تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" إلى آخر الآية.
يقال: أورثه مالا كذا أي تركه فيهم يقومون بأمره بعده و قد كان هو القائم بأمره المتصرف فيه، و كذا إيراث العلم و الجاه و نحوهما تركه عند الغير يقوم بأمره بعد ما كان عند غيره ينتفع به فإيراث القوم الكتاب تركه عندهم يتناولونه خلفا عن سلف و ينتفعون به.
و تصح هذه النسبة و إن كان القائم به بعض القوم دون كلهم، قال تعالى: "و لقد آتينا موسى الهدى و أورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى و ذكرى لأولي الألباب:" المؤمن: - 54، و قال "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا و الربانيون و الأحبار بما استحفظوا من كتاب الله:" المائدة: - 44، و قال: "و إن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب:" الشورى: - 14.
فبنو إسرائيل أورثوا الكتاب و إن كان المؤدون حقه القائمون بأمره بعضهم لا جميعهم.
و المراد بالكتاب في الآية على ما يعطيه السياق هو القرآن الكريم كيف؟ و قوله في الآية السابقة: "و الذي أوحينا إليك من الكتاب" نص فيه، فاللام في الكتاب للعهد دون الجنس فلا يعبأ بقول من يقول: إن اللام للجنس و المراد بالكتاب مطلق الكتاب السماوي المنزل على الأنبياء.
و الاصطفاء أخذ صفوة الشيء و يقرب من معنى الاختيار و الفرق أن الاختيار أخذ الشيء من بين الأشياء بما أنه خيرها و الاصطفاء أخذه من بينها بما أنه صفوتها و خالصها.
و قوله: "من عبادنا" يحتمل أن يكون "من" للتبيين أو للابتداء أو للتبعيض الأقرب إلى الذهن أن يكون بيانية و قد قال تعالى: "و سلام على عباده الذين اصطفى:" النمل: - 59.
و اختلفوا في هؤلاء المصطفين من عباده من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، و قيل: هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله: "إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين:" آل عمران: - 33، و قيل: هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أورثوا القرآن من نبيهم إليه يرجعون و به ينتفعون علماؤهم بلا واسطة و غيرهم بواسطتهم، و قيل: هم العلماء من الأمة المحمدية.
و قيل: - و هو المأثور عن الصادقين (عليهما السلام) في روايات كثيرة مستفيضة - إن المراد بهم ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أولاد فاطمة (عليها السلام) و هم الداخلون في آل إبراهيم في قوله: "إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم:" آل عمران: - 33، و قد نص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على علمهم بالقرآن و إصابة نظرهم فيه و ملازمتهم إياه بقوله في الحديث المتواتر المتفق عليه: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض".
و على هذا فالمعنى بعد ما أوحينا إليك القرآن - ثم للتراخي الرتبي - أورثنا ذريتك إياه و هم الذين اصطفينا من عبادنا إذا اصطفينا آل إبراهيم و إضافة العباد إلى نون العظمة للتشريف.
و قوله: "فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات" يحتمل أن يكون ضمير "منهم" راجعا إلى "الذين اصطفينا" فيكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات شركاء في الوراثة و إن كان الوارث الحقيقي العالم بالكتاب و الحافظ له هو السابق بالخيرات.
و يحتمل أن يكون راجعا إلى عبادنا - من غير إفادة الإضافة للتشريف - فيكون قوله: "فمنهم" مفيدا للتعليل و المعنى إنما أورثنا الكتاب بعض عبادنا و هم المصطفون لا جميع العباد لأن من عبادنا من هو ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق و لا يصلح الكل للوراثة.
و يمكن تأييد أول الاحتمالين بأن لا مانع من نسبة الوراثة إلى الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى: "و أورثنا بني إسرائيل الكتاب:" المؤمن: - 54.
و ما في الآية من المقابلة بين الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات يعطي أن المراد بالظالم لنفسه من عليه شيء من السيئات و هو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى و وارثا، و المراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل و سواء الطريق و المراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم و المقتصد إلى درجات القرب فهو إمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات قال تعالى: "و السابقون السابقون أولئك المقربون:" الواقعة: - 11.
و قوله تعالى: "ذلك هو الفضل الكبير" أي ما تقدم من الإيراث هو الفضل الكبير من الله لا دخل للكسب فيه.
هذا ما يعطيه السياق و تفيده الأخبار من معنى الآية و فيها للقوم اختلاف عجيب فقد اختلف في "ثم" فقيل: هي للتراخي بحسب الأخبار، و قيل: للتراخي الرتبي، و قيل: للتراخي الزماني.
ثم العطف على "أوحينا" أو على "الذي أوحينا".
و اختلف في "أورثنا" فقيل: هو على ظاهره، و قيل: معناه حكمنا بإيراثه و قدرناه، و اختلف في الكتاب فقيل: المراد به القرآن، و قيل: جنس الكتب السماوية، و اختلف في "الذين اصطفينا" فقيل: المراد بهم الأنبياء، و قيل: بنو إسرائيل، و قيل: أمة محمد، و قيل: العلماء منهم، و قيل: ذرية النبي من ولد فاطمة (عليها السلام).
و اختلف في "من عبادنا" فقيل: من للتبعيض أو للابتداء أو للتبيين و يختلف المراد من العباد بحسب اختلاف معنى "من" و كذا إضافة "عبادنا" للتشريف على بعض الوجوه و لغيره على بعضها.
و اختلف في "فمنهم" فقيل: مرجع الضمير "الذين" و قيل: "عبادنا" و اختلف في الظالم لنفسه و المقتصد و السابق فقيل الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه و المقتصد من استوى ظاهره و باطنه و السابق من كان باطنه خيرا من ظاهره، و قيل: السابق هم السابقون الماضون في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أصحابه و المقتصد من تبع أثرهم و لحق بهم من الصحابة و الظالم لنفسه غيرهم، و قيل: الظالم من غلبت عليه السيئة و المقتصد المتوسط حالا و السابق هو المقرب إلى الله السابق في الدرجات.
و هناك أقوال متفرقة أخر تركنا إيرادها و لو ضربت الاحتمالات بعضها في بعض جاوز الألف.
قوله تعالى: "جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير" التحلية هي التزيين و الأساور جمع أسورة و هي جمع سوار بكسر السين قال الراغب: سوار المرأة معرب و أصله دستواره.
انتهى.
و قوله: "جنات عدن" إلخ.
ظاهره أنه بيان للفضل الكبير قال في المجمع: هذا تفسير للفضل كأنه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات و يجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال: ذلك دخول جنات.
انتهى.
و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: "و قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور" قيل: المراد بالحزن الذي يحمدون الله على إذهابه بإدخالهم الجنة الحزن الذي كان يتوجه إليهم في الحياة الدنيا و ما يحف بها من الشدائد و النوائب.
و قيل: المراد به الحزن الذي كان قد أحاط بهم بعد الارتحال من الدنيا، و قيل الدخول في جنة الآخرة إشفاقا مما اكتسبوه من السيئات.
و على هذا فالقول قول الظالم لنفسه منهم أو قوله و قول المقتصد و أما السابق بالخيرات منهم فلا سيئة في صحيفة أعماله حتى يعذب بها.
و هذا الوجه أنسب لقولهم في آخر حمدهم: "إن ربنا لغفور شكور".
قوله تعالى: "الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب و لا يمسنا فيها لغوب" المقامة الإقامة، و دار المقامة المنزل الذي لا خروج منه و لا تحول.
و النصب بفتحتين التعب و المشقة، و اللغوب بضم اللام: العي و التعب في طلب المعاش و غيره.
و المعنى: الذي جعلنا حالين في دار الخلود من فضله من غير استحقاق منا عليه لا يمسنا في هذه الدار و هي الجنة مشقة و تعب و لا يمسنا فيها عي و لا كلال في طلب ما نريد أي إن لنا فيها ما نشاء.
و في قوله: "من فضله" مناسبة خاصة مع قوله السابق: "ذلك هو الفضل الكبير".
قوله تعالى: "و الذين كفروا لهم نار جهنم" إلى آخر الآية اللام في "لهم" للاختصاص و يفيد كون النار جزاء لهم لا ينفك عنهم، و قوله: "لا يقضى عليهم فيموتوا" أي لا يحكم عليهم بالموت حتى يموتوا فهم أحياء على ما هم فيه من شدة العذاب و لا يخفف عنهم من عذاب النار كذلك نجزي كل كفور شديد الكفران أو كثيره.
قوله تعالى: "و هم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا إلى آخر الآية في المجمع،: الاصطراخ الصياح و النداء بالاستغاثة افتعال من الصراخ انتهى.
و قوله: "ربنا أخرجنا" إلخ.
بيان لاصطراخهم، و قوله: "أ و لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر" إلخ.
جواب اصطراخهم و قوله: "فذوقوا" و قوله: "فما للظالمين من نصير" كل منهما متفرع على ما قبله.
و المعنى، و هؤلاء الذين في النار من الكفار يصطرخون و يصيحون بالاستغاثة فيها قائلين: ربنا أخرجنا من النار نعمل صالحا غير سيىء غير الذي كنا نعمل فيقال لهم ردا عليهم: - كلا - أ و لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فأنذركم هذا العذاب فلم تتذكروا و لم تؤمنوا؟ فذوقوا العذاب فما للظالمين من نصير ينصرهم ليتخلصوا من العذاب.
قوله تعالى: "إن الله عالم غيب السماوات و الأرض إنه عليم بذات الصدور" فيعاملكم بما في باطنكم من الاعتقاد و آثار الأعمال و يحاسبكم عليه سواء وافق ظاهركم باطنكم أو خالف قال تعالى: "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله:" البقرة: - 248، و قال: "يوم تبلى السرائر:" الطارق: - 9.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" الآية: روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: يعني بالعلماء من صدق قوله فعله، و من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم.
و في الحديث أعلمكم بالله أخوفكم لله.
أقول: و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليهما السلام) ما في معناه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الترمذي و الحاكم عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، و علم على اللسان فذاك حجة الله على خلقه.
و في المجمع، روى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: في قوله: "و يزيدهم من فضله": هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في الدنيا.
و في الكافي، بإسناده عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا" الآية قال: فقال: ولد فاطمة (عليها السلام)، و السابق بالخيرات الإمام و المقتصد العارف بالإمام و الظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام.
و عن كتاب سعد السعود، لابن طاووس في حديث لأبي إسحاق السبيعي عن الباقر (عليه السلام): في الآية قال: هي لنا خاصة يا أبا إسحاق أما السابق بالخيرات فعلي بن أبي طالب و الحسن و الحسين و الشهيد منا، و أما المقتصد فصائم بالنهار و قائم بالليل، و أما الظالم لنفسه ففيه ما في الناس و هو مغفور له.
أقول: المراد بالشهيد بقرينة الروايات الأخر الإمام.
و في معاني الأخبار، مسندا عن الصادق (عليه السلام): في الآية قال: الظالم يحوم حوم نفسه و المقتصد يحوم حوم قلبه و السابق بالخيرات يحوم حوم ربه.
أقول: الحوم و الحومان الدوران، و دوران الظالم لنفسه حوم نفسه اتباعه أهواءها و سعيه في تحصيل ما يرضيها، و دوران المقتصد حوم قلبه اشتغاله بما يزكي قلبه و يطهره بالزهد و التعبد، و دوران السابق بالخيرات حوم ربه إخلاصه له تعالى فيذكره و ينسى غيره فلا يرجو إلا إياه و لا يقصد إلا إياه.
و اعلم أن الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في كون الآية خاصة بولد فاطمة (عليها السلام) كثيرة جدا.
و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و أحمد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا - فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد - و منهم سابق بالخيرات بإذن الله" فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب، و أما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا، و أما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يلقاهم الله برحمة فهم الذين يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب و لا يمسنا فيها لغوب:.
أقول: و رواه في المجمع، عن أبي الدرداء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و في معناه أحاديث أخر، و هناك ما يخالفها و لا يعبأ به كما فيه، عن ابن مردويه عن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "فمنهم ظالم لنفسه" قال: الكافر.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لا يمسنا - فيها نصب و لا يمسنا فيها لغوب" قال: النصب العناء و اللغوب الكسل و الضجر.
و في نهج البلاغة، و قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة:.
أقول: و رواه عنه (عليه السلام) في المجمع، و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و البيهقي في سننه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين و هو المعمر الذي قال الله: "أ و لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر":.
أقول: و روي ذلك بطرق أخرى عن سهل بن سعد و أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في المجمع،: و قيل هو توبيخ لابن ثماني عشرة سنة و روي ذلك عن الباقر (عليه السلام):.
أقول: و رواه في الفقيه، عنه (عليه السلام) مضمرا.