ثم حمد الله و أثنى عليه و قال : أما بعد فما بال أقوام يذمون الدنيا ؟ انتحلوا الزهد فيها . الدنيا منزل صدق لمن صدقها و مسكن عافية لمن فهم عنها و دار غنى لمن تزود منها مسجد أنبياء الله و مهبط وحيه و مصلى ملائكته و مسكن أحبائه و متجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرحمة و ربحوا منها الجنة ، فيمن ذا يذم الدنيا يا جابر ؟ و قد أذنت ببينها ( 1 ) و نادت بانقطاعها و نعت نفسها بالزوال و مثلت ببلائها البلاء و شوقت بسرورها إلى السرور و راحت بفجيعة و ابتكرت بنعمة و عافية ترهيبا و ترغيبا ، يذمها قوم عند الندامة . خدمتهم جميعا فصدقتهم ( 2 ) . و ذكرتهم فذكروا و وعظتهم فاتعظوا و خوفتهم فخافوا . و شوقتهم فاشتاقوا . فأيها الذام للدنيا المغتر بغرورها متى استذمت إليك بل متى غرتك بنفسها ؟ بمصارع آبائك من البلى ؟ ( 3 ) أم بمضاجع أمهاتك من الثرى ؟ . كم مرضت بيديك و عللت بكفيك ( 4 ) ، تستوصف لهم الدواء . و تطلب لهم الاطباء ، لم تدرك فيه طلبتك و لم تسعف فيه بحاجتك ( 5 ) ، بل مثلت الدنيا به نفسك و بحاله حالك غداة لا ينفعك أحباؤك و لا يغني عنك نداؤك ، حين يشتد من الموت أعالين المرض و أليم لوعات المضض ، حين لا ينفع الاليل ( 6 ) و لا يدفع العويل ،
1 - أذنت - بمد الهمزة - أى أعلمت ببعدها . و نعاه إذا أخبر بفقده . 2 - راحت : وافت و قد العشى . و ابتكرت : اصبحت . و من قوله : " راحت بفجيعة " إلى هنا في مطالب السؤول هكذا [ فان راحت بفجيعة فقد غدت بمبتغى و ان أغضرت بمكروه فقد أسفرت بمشتهى ، ذمها رجال يوم الندامة و مدحها آخرون ، حدثتهم فصدقوا و ذكرتهم فذكروا ] . و فى الامالي [ فابتكرت بعافية و راحت بفجيعة فذمها رجال فرطوا غداة الندامة و حمدها آخرون اكتسبوا فيها الخير ] . 3 - المصرع : مكان الصرع أى السقوط . و البلى - بكسر الباء : الفناء بالتحلل . و الثرى : التراب الندى . 4 - مرض المريض : خدمه في مرضه . و علله : خدمه في علته . و فى الامالي [ و عالجت بكفيك تلتمس لهم الشفاء و تستوصف لهم الاطباء لم تنفعهم بشفاعتك و لم تسعفهم في طلبتك ] . 5 - الطلبة - بالكسر - : ما يطلب أى المطلوب . و تسعف بحاجته أى تقضاها له . 6 - " أعالين المرض " كذا في جميع النسخ التي رأيناها و لعله جمع إعلان . و لوعات : جمع لوعة و هي الحرقة من هم أو شوق . و المضض : الالم و الوجع . و لوعة المضض : حرقته . و الاليل : الانين و الثكل . و العويل : رفع الصوت بالبكاء و الصياح .