وهكذا تنحل المشكلة الأولى ، وقد أكّد كلهم على أنه « كانت طريقتهم نفس طريقته » متجاوزين ظهور الحديث في المغايرة ، وقد أضاف الشوكاني بأن علّل اتخاد الطريقة بقوله : « فإنهم أشدّ الناس حرصاً عليها وعملاً بها في كل شيء وعلى كل حال ، كانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلاً عن أكبرها ».
قلت : لكنّا وجدنا الخلفاء الثلاثة ـ وكذا أكثر الأصحاب ـ يخالفونه في أكبر الأمور فضلاً عن أصغرها ، حتى مع وجود النصوص الصريحة عنه صلى الله عليه وآله وسلّم ، وقد سبق أن ذكرنا بعض الموارد المسلمة من تلك المخالفات ... فالّذين كانت « طريقتهم نفس طريقته ، فإنهم أشد الناس حرصاً عليها وعملا بها ... » غير هؤلاء ، فمن هم ؟!
وإذا كان المراد من « الخلفاء » غير الذين يقول بهم أهل السنة فالمشكلة الثانية منحلة أيضاً. . .
أما على قولهم فقد رأيتهم يتجاوزون هذه المشكلة ... إلأ الشوكاني ... فإنه قال بعد عبارته المذكورة :
« وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر ، وهذا الرأي عند عدم الدليل هو أيضاً من سنته ، لما دلّ عليه حديث معاذ لمّا قال له رسول الله : بما تقضي ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد؟ قال : فبسنة رسوله . قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي . قال : الحمد لله الذي وفق رسوله أو كما قال .
وهذا الحديث وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف ، فالحق أنه من قسم الحسن لغيره وهو معمول به ، وقد أوضحت هذا في بحثٍ مستقلً .
فإن قلت : إذا كان ما عملوا فيه بالرأي هو من سنته لم يبق لقوله : « سنة الخلفاء الراشدين » ثمرة.
قلت : ثمرته أن من الناس من لم يدرك زمنه وأدرك زمن الخلفاء الراشدين ، أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء ، ولكنه حدث أمر لم يحدث في زمنه ، ففعله الخلفاء ، فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردّد إلى بعض النفوس من الشك ويختلج فيها من الظنون .
فأقل فوائد الحديث أن ما يصدر منهم من الرأي وإن كان من سنته كما تقدّم ، ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل .
وبالجملة فكثيراً ما كان صلى الله عليه [وآله] وسلم ينسب الفعل أو الترك إليه أو إلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه ، لأنه محل القدوة ومكان الأسوة .
فهذا ما ظهر لي في تفسير هذا الحديث ، ولم أقف عند تحريره على ما يوافقه من كلام أهل العلم . فإن كان صواباً فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله العظيم » (1).
لقد تنبه هذا الشيخ الجليل إلى أن القول بأن « طريقتهم نفس طريقته » يتنافى وظاهر الحديث الدال على « المغايرة » ، ورفع اليد عن الظهور بلا دليل غير جائز ، فنقل الكلام إلى حجيّة آراء الخلفاء واجتهاداتهم ، وقال بذلك استناداً إلى حديث معاذ ، ثّم ذكر في هذا المقام دلالة الحديث على المغايرة بصورة سؤال ، وحاول الإجابة عنه بما هو في الحقيقة التزام بالإشكال !
وعلى الجملة ، فإن الكلام في إثبات أنّ « طريقة الخلفاء نفس طريقة النبي »
(1) إرشاد الفحول : 214 .