ومع ان لحظة من التفكير تكفي لمعرفة هذه الحقيقة مع ذلك، فالواجب ان نتصدى لها علميا وفلسفيا. النقد العلمي للميكنة
ما هي حقيقة الموجودات؟ لقد سبق ان العلم اكتشف ان الموجودات لا تعدو ان تكون ذرات تتحرك، ولدى انفلاق الذرة فإذا بها لا تعدو ان تكون شحنة طاقة ودفعة نور. إذا فالعلم أثبت ان حقيقة المادة هي الحركة.
وبثبوت حركية المادة تفتت الكتلة الكثيفة التي لو خلقت لدامت حسب رأي فلاسفة الميكانيك.
فإنما هي الحركة وهي ليست بدائمة علميا، إذ انها تنشأ من الطاقة والطاقة تفقد حرارتها بصورة مستمرة حسب قانون الطاقة المتاحة أو ضابط التغير الذي يثبت ان الحرارة دائما تنتقل من وجود حراري إلى عدم حراري والعكس غير ممكن وهو ان تنتقل هذه الحرارة من وجود حراري قليل أو عدم وجود حراري إلى وجود حراري أكثر. فإن قانون الطاقة المتاحة يخالف هذا الإنتقال ويقتضي التناسب بين الحرارة المتاحة وغير المتاحة.
ومن هنا نثبت ان الحركة في الكون ليست أزلية ولا هي دائما بعيدة عن المؤثر إذ لو كانت الحركة غير محتاجة إلى دوام السبب إذا لكانت تستطيع ان تدوم إلى الأبد وهذا غير واقع حسب هذا الكشف العلمي. النقد الفلسفي
وفي سبيل الإحاطة بالنقد الفلسفي لهذه النظرية لابد ان نذكر عدة نقاط:
1- مبدأ الذاتية:
أبسط المبادئ الفلسفية التي لا يرتاب فيها أحد ان كل شيء هو وليس بغيره.. الإنسان إنسان وليس بحجر، والجبل جبل وليس بشجر و.. و..
وهذا المبدأ يجعلنا نقول: لا يمكن ان يتخلف الشيء عن ذاته، فالذاتي لا يمكن تغييره.. فالنور مثلا: لا يمكن ان يتحول إلى (لا نور)، والحركة لا يمكن ان تتحول إلى (لا حركة) وهكذا..
2- مبدأ الوجود:
والوجود لا يمكن ان يتحول إلى عدم لأنه ذاته، والعدم لا يمكن ان يتحول إلى وجود لأنه ذاته.
وقد يبدو هذا المبدأ غريبا ولكن دعنا نفهم ما هو معنى الوجود؟ هل معناه الأرض والسماء والجبال؟ هل معناه أنا أنت هو؟ هل معناه الحجر والشجر والحيوان؟
الفلاسفة قالوا نعم ووقعوا في حلقة مفرغة، ولكن الرجل البسيط يقول بفطرته لا.. يقول الكون موجود ولكنه ليس بوجود.. وهل الوجود شيء والموجود شي؟.. ينبغي ان نرجع قليلا إلى ما سبق ونتساءل: هل العلم شيء والمعلوم شيء؟ ام هل العقل شيء والمعقول شيء؟ هناك قلنا نعم العلم هو الكشف والمعلوم هو المنكشف. فالمعادلة (55=25) ليست بعلم انما هي معلوم، ولي (علم) بها وهكذا الوجود والموجود..
الكون له وجود هذا صحيح وهو كما نقول ان الإنسان له علم، ولكنه ليس بوجود كما ان الإنسان ليس بعلم.
ولا يزال الأمر غامضا فنقول إذا كان الكون هو الوجود فلماذا ينعدم، لماذا يكتنفه العدم، لماذا هو محدود، لماذا هو حادث، لماذا هو متناقض؟
يقرر علم الفلك مثلا: ان الكون يتسع بالتسلسل الدائم، وان كل مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة مدهشة بعضها عن بعض. ويمكن ان تفسر هذه الحالة تفسيرا جيدا إذا سلمنا بوقت للبدء كانت فيه كل الأجزاء التركيبية مركزة ومجتمعة مع بعضها ثم بدأت الحركة والحرارة.. ويقدر العلماء ان هذا الكون قد وجد نتيجة (لإنفجار) فوق العادة وقع منذ (5000,000,000,000 سنة)[6].
هكذا تتباعد الاجرام وتدل على انها لم تكن ثم وجدت، والسؤال هنا انه ما دامت طبيعتها ليست بطبيعة الوجود والحركة، والدلالة على ذلك انها لم تكن ثم كانت، فليس من الممكن ان تعود طبيعته إلى طبيعة الحركة. وهكذا نستدل على انها ليست بحقيقة الوجود!
وهنا يكمن سر الأمر، لو كانت حقيقة الكون هي الوجود لم يصح ان نقول ان الكون كان معدوما ثم وجد مع انه كذلك، فقد كان معدوما في بعض الأزمان، بل مجدر التغير فيه عدم من جهة ووجود من جهة أخرى.
وبتعبير موجز ومركز:
ان الكون كان عدما، فهو ذاتي العدم. ولا يمكن ان يتحول ذاتي العدم إلى ذاتي الوجود، فإنما تتحول الأشياء بالإبداع إلى عرضي الكيان يحتاج في بقائه إلى سبب كما يحتاج وجوده إلى سبب.
وان هيجل قد انحرف عن المنهج حينما تصور ان ما يراه حوله من سماء وأرض وبشر هو الوجود. ثم تصور انه ليس بوجود مطلق فقال انه معدوم. ثم رأى انه بعيد عن الفطرة (أي معدومية الكون) فقال: (انه صائر من الوجود إلى العدم ومن العدم إلى الوجود).
واذا كان هيجل قد أوتي قدرا أكبر من قوة الملاحظة لعرف ان الوجود لا يمكن ان يكون عدما، وان الكون موجود بالوجود؛ أي ان له قدرا من حقيقة الوجود. وبذلك كان ينفي مشكلته تماما.
ولا نريد الاسترسال في بحث الوجود الذي يحتاج إلى سفر ضخم.. ولكن نريد ان نضع أيدينا على منطلق الخطأ في نظرية الميكنة الفلسفية، وهو بتطبيق مبدئي الذاتية والوجود في الكون وهو يعرف بالتدبر في حقيقة الخلق.. ما هو الخلق؟
إذا كان الكون ليس بحقيقة الوجود وانه كان عدما، فكيف انقلب من العدم إلى الوجود؟ وهل يمكن ان يتحول الشيء عن طبيعته الذاتية، العدم يعني لا شيء فكيف ينقلب إلى شيء؟ هذا لا يتصور فليس الكون قد انقلب من العدم إلى الوجود في عملية مجهولة.. كلا..
بل ان الله تعالى أعطى الكون الوجود، ويعطيه بصورة مستمر. فالكون قائم بقيوم وموجود بنور الحي الذي لا يزول.. وعلى هذا فليس الكون الذي نشاهده ونلامسه موجودا بصورة مستقلة ودائمة بل هو موجود بنور الوجود الذي يحفظه عن الزوال.
ان الوجود، نور يرش على الكون فيصبح موجودا. وإذا أردنا ان نعبر عن هذا الواقع بتعبير علمي لقلنا: الكون حركة تستمر بمحرك خارجي، لو توقف عنه لتوقفت أي زالت.
وهنا لا تبتخر فكرة الكثافة في الوجود والإستمرارية في حركته فحسب مما تنسف قاعدة الميكنة في الوجود. بل وتهدينا إلى الخطوط العريضة للفلسفة الواقعية التي تطابق معلوماتنا المتناثرة وهي الفلسفة الإسلامية.
تتلخص فلسفة الإسلام في كلمة واحدة هي: (الله نور السموات والأرض)، ونفصلها عبر النقاط التالية:
1- ليس في عالم التحقق الا الله وما خلق. فكل شيء ما سوى الله مخلوق له.
2- وهذا يعني ان الله سبحانه نور وكل شيء متنور به، وهو قيوم وكل شيء قائم به، وهو مدبر وكل شيء يجري بأمره. ذلك لأن كل شيء في الكون نراه خاضعا لقوة قاهرة وقدرة واسعة.. وفي ذلك آية على دوام التدبير له من مدبر عليم.
3- وهذا يقتضي الواقعية التامة للأشياء دون المثالية الافلاطونية التي قال فيها: (فكل شجرة مثلا فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية. فأين هي الشجرة التي لا نقيض فيها؟ هي في عقل الله منذ القدم). ولا المثالية الباركلية التي قال فيها: (الكون صورة الذهن الخارجي). ولا المثالية التي قال بها فيشته: (الموجود انا اما غير انا فهو وجهة أخرى لانا).
كلا؛ الكون موجود فعلا في دار التحقيق.
4- ولكنه يقتضي من جهة أخرى، الغيرية في الكون؛ أي ان الكون موجود بالغير، قائم بالغير، متنور ومتحرك بالغير. خلافا لنظرية الديالكتيك التي تعتقد ان الكون متحرك بما في كل شيء من تناقضات ذاتية، أو مقالة الميكانيك التي تزعم ان الكون ساعة آلية كبيرة، ولا مقالة بعض الفلاسفة الاقدمين بالحركة الجوهرية.. كلا! انها واقعية الأشياء بالغير لما فيها من آيات الضعف والعجز.
5- ولا يعني هذا ان الكون يدبر بغير سنن فطر عليها. كلا؛ بل الغرائز موجودة وكل حادث له سبب، الا ان وجود السبب ووجود المسبب بعده قائم بنور الله. فلو شاء الله إذا لإنتزع نور الوجود من السبب فانعدم، أو انتزع نور الوجود من المسبب فانعدم هو الآخر.
6- من هنا نعلم ان الله واسع القدرة، واسع العلم، وواسع الرحمة. فكل شيء تحت رحمته وتحت قدرته ومحيط به علمه. فالله قادر على المعجزة؛ أي خرق السنن لأن اجراء السنن ووجود السنن منه أيضا. وقادر على اعدام الكون في الساعة الرهيبة التي ترسو في نهاية الوجود. وقادر على اعادته لأنه يملك قوة لا محدودة، والكون عاجز دون قوته عن أي شيء.. وهو قادر على ان يبعث الرسل برحمته ويضع للناس الدين الخالص ويأمر الناس باتباعه، ويراقب بنفسه مخالفتهم له أو اطاعتهم اياه فيثيب من يشاء برحمته، ويغفر لمن يشاء بفضله، ويعذب من يشاء بنعمته.
7- والله ـ الخالق المدبر ـ رحمن لا تحد رحمته، رحيم لأنه خلق الأشياء ولا يزال يهب لها الخلق والهدى دون ان يكون محتاجها إليها أو مضطرا إلى خلقها.
وهنا تختلف النظرة الإسلامية عن النظرة الاغريقية التي تتعامل مع الآلهة الشهوانية، المتعجرفة المتهورة الغارقة في الشهوات، مثل: (زيوس) و(جوبيتير) وغيرهما ممن كان يتصور لديهم حقودا لدودا مشغولا بشهوات الطعام، لا يبالي من شؤون الأرباب والمخلوقات الا ما يعنيه على حفظ سلطانه والتمادي في طغيانه، وكان يغضب على (اسقولاب) اله الطب ـ بزعمهم ـ لأنه يداوي المرضى فيحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الأرض إلى باطن الهاوية. وكان يغضب على (برومثيوس) اله المعرفة والصناعة ـ بزعمهم ـ لانه يعلم الإنسان ان يستخدم النار في الصناعة وان يتخذ من المعرفة قوة تضارع قوة الأرباب. الإسلام يخالف كل هذه الآراء جميعا.
هكذا تبين لنا النصوص الشرعية حقيقة الكون، فيقول الله سبحانه: [ان ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع الا من بعد اذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تتذكرون* إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون* هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون] (يونس/3-5).
فالله خالق السموات، ولكنه غير عاجز منها، بل هو الآن قد استوى على عرش القدرة والعلم يدبر أمور الكون. والأرباب التي تصورها الفلسفات وسائط بين الله والخليقة، والأرباب التي تصورها الفلسفة الأوروبية بإسم القوانين الطبيعية قد تكون لها تأثير في الحقائق ولكنها تأثير مأذون فيه. وهو رحمن، خلق الأشياء في مصلحة الإنسان، لا لكي يضرر بهم. كذلك الله.
وفي آية أخرى، كل شيء ينسب إلى الله حتى الحوادث التي تجري حسب السنن الكونية لأنها كلها تجري بأمر الله وبقدرته المباشرة. قال الله سبحانه: [والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون* وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين* وان من شيء الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم* وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين* وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون] (الحجرة/19-23).
وفي آية أخرى:
[ان الله يمسك السموات والأرض ان تزولا ولئن زالتا ان أمسكهما من أحد من بعده] (فاطر 41).
والله يقوم بتدبير أمور الإنسان أيضا.. ففي آية كريمة: [وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير] (الأنعام/17). وهو رقيب شديد الرقابة على عمل الإنسان، ففي آية شريفة: [ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خسمة الا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر الا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ان الله بكل شيء عليم] (المجادلة/7). فالخلق والتقدير والسلطان والتدبير لله وحده لا شريك له. والانسان هو الآخر مراقب من قبل الله تعالى مجزي بعمله.
ولا يعني هذا الصاق أية صفة مادية بالله سبحانه، إذ ان طبيعة الخلق تقتضي المباينة التامة بين الخالق والمخلوق. هكذا جاء القرآن يصف الله بأحسن الصفات وينفي عنه صفة المخلوقين. فيقول [لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار]. ويقول [ليس كمثله شيء]. [سبحان ربك رب العزة عما يصفون].
وفي تفسير الآيات، جاء في الحديث: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عرف الله من شبهه بخلقه).. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (مباين لجميع ما أحدث في الصفات. ليس بجنس فتعادله الأجناس، ولا بشبح فتضارعه الأشباح، ولا هو كالأشياء فتقع عليه الصفات). وقال: (توحيده تمييزه من خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة).
وقال: (الذي لم تسبق له حال حالا فيكون أولا قبل ان يكون آخراً، ويكون ظاهرا قبل ان يكون باطنا. كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يعذر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن ليطف الأصوات وبصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها..
لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ولا تخوف من عواقب زمان..) كذلك الله رب العالمين.
إذا كانت التعاريف في كل علم ذات اثر ثانوي، فإنها بالنسبة إلى المعارف الفلسفية بمثابة حجر الزاوية. ذلك لأنها ليست الا محاولة لتعريف الحقيقة الكبرى، التي تتفرع عنها حقائق الكون. فهي بذاتها مجموعة تعاريف. ومن هنا تكسب التعاريف أهميتها في الفلسفة.
ولابد لنا ان نقول بأن تعاريفنا هذه مطابقة لوجهة نظر الإسلام التي قد عرفنا انها الحق.
1- العقل:
ذلك النور الذي يميز به الإنسان الرشد من الغي، والخير من الشر، والممكن من المستحيل، والحق من الباطل. ان ذلك النور هو العقل.. ويعرفه (الفيروز آبادي) في (القاموس): (انه نور روحاني تدرك به النفس العلوم. وجاء في حديث النبي (ص): ان العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب، فإن لم تعقل حارت).
ولا يمكننا معرفة العقل الا بذاته وبما له من آثار، أما حقيقته فإن القول فيها نوع من الغرور.
وان من آثاره، توجيه الإنسان إلى الخير وتحبيذه له، وردعه عن الشر وترغيبه عنه. وبهذا فسره النبي (ص) إذ جعله عقالا للنفس البشرية التي شبهها بأخبث الدواب ان لم تعقل حارت.
2- العلم:
ذلك النور الذي تكشف النفس به الحقائق وقد كانت من قبله جاهلة بها غافلة عنها. وليس كل اعتقاد علما ـ في المنطق الإسلامي ـ إذ ليس الاعتقاد دائما كشفا عن الواقع، بل قد تكون النفس مطمئنة بعقيدة، دون ان يكون لها بها علم. بلى؛ كل علم عقيدة إذ لا تملك النفس التي تنكشف لها الحقيقة بصورة واضحة ودون أية ريبة أو غموض لا تملك الا ان تطمئن بها وتعتقد بمضمونها.
3- المعرفة:
وأما المعرفة فإنها علم مستجد بالشيء.
4- اليقين:
بعدما يحصل العلم، تنشأ صفة في النفس تدعى بـ(اليقين). فاليقين اطمئنان الذات بحصيلة كشفها عن الحقيقة وأما القطع فإنه يعني جزم الذات بأمر سواء كان حقا أم باطلا. ورب قطع يوافق الواقع لا يكون علما، لأنه يفقد صفة الكشف عن الحقيقة. فلو قطع (وجزم) فرد بوجود الروح ـ لا لأنه عرفها بعلم ـ بل لأن القول بوجودها كان في مصلحته أو صادف هوى في نفسه فذلك القطع ليس بعلم وان كان صحيحا، لأنه لا ينطوي على كشف الواقع كشفا يقينا.
5- الحق:
وحين يتصادق ما بنفس البشر مع ما في الواقع يكون هو (الحق) والحق في اللغة يعني الثبوت، والتقرر، والوجود. ولذلك فإن للحق معنى آخر ـ غير تطابق الشعور وخارج الشعور ـ ذلك المعنى، هو الوجود سواء علم به أحد ام لم يعلم، اعتقد به ام لم يعتقد. فمثلا الجنة حق لأنها موجودة فعلا في الخارج فإذا علم بها أحد، كان علمه حقا أيضا. ولو مات رجل في بيته ولم يعلم بموته أحد أبدا، فإن موته حق أي ثابت.. ولفظة الحقيقة تعطي ذات المفهوم.. انها تعكس الأمر الثابت في الواقع الخارجي.
6- الروح:
الروح هي النفس وهي التي تنطوي على نور الحياة، والعقل والإرادة. وهي حقيقة ثابتة وراء الجسد وهي محددة بالطول والعرض مختلفة بالقوة والضعف، ومتفاوتة بالاهواء والرغبات. وبافتقادها يعود الجسم ميتا.. ولا يهمنا ـ بعد هذا التعريف ـ ان نعتبر الروح مادة لطيفة جدا، ام نقول انها مجردة عن المادة الكثيقة. فإن الهدف واحد هو تفسير حقيقة أرقى من المادة التي نحس بها، ولكنها ليست هي الحياة والعلم والإرادة، بل ان هذه الأنوار تنشأ فيها.. تزيد وتنقص وهي هي.
7- النفس:
أما النفس فهي كلمة تعكس لدى الإسلام مفهوم الروح تماما، ويراد بها ما يساوي كلمة الذات والقلب أيضا. الا ان الأوسع مفهوما هو الروح ثم النفس لأن القلب يوحي غالبا إلى مركز العواطف أكثر من إيحائه بمبعث نور العقل والإرادة. ويوضع القلب عادة بإزاء العقل.. وينسب إليه العمى والطبع والختم لأنها رمز الشهوات في اللغة العربية، كما هي كذلك في سائر اللغات.
8- الشهوة:
ان الشهوة هي انجذاب النفس إلى شيء أو شخص، ومبعث الشهوات هي طبيعة الحياة. فالحياة تتطلب ضروراتها التي تشكل في الغالب شهوات الإنسان. وقد يخطئ الإنسان في تمييز الضرورة عما سواها فتحدث فيه الصفات الرذيلة التي هي نوع من انحراف حب الحياة في النفس.. وغالبا تستعمل كلمة الشهوات في الصفات الرذيلة هذه.
9- الهوى:
ويعني الهوى الحب، ولكنه يستعمل في منطق القرآن عادة في حب الذات (هوى النفس)، ولقد جبل كل شخص على هوى النفس. وبالعقل تتمكن الذات من تحديد الحب هذا وتوجيهه الوجهة المتسقيمة.
10- الجهل:
والجهل صفة في النفس تقابل صفة العقل، وتقابل آثاره كل آثار العقل. ولا يعني الجهل في منطق الإسلام مجرد افتقاد المعرفة، فمثلا الجزع والظلم والحسد والحقد كلها من الجهل.
11- الفكر:
ان توجه النفس إلى المعلومات السابقة التي احتفظ بها لديه في محاولة لإستعادتها واستثارتها ومنهجتها واستخراج معلومات جديدة عنها يسمى بـ(الفكر).
فالفكر إذا عمل من أعمال النفس البشرية.. هدفه استخراج معلومات جديدة من إثارة المعلومات السابقة.
12- الخيال:
تحتفظ النفس البشرية بالصور التي تنعكس عليها ـ من نافذة الحواس ـ عن العالم الخارجي. تحتفظ بها ثم تبدأ تركب بعضها مع بعض وتجرد بعضها من خصائصها لتصنع منها صورة جديدة وهذا يسمى خيالا. فالخيال إذا إبداع النفس لصور كاذبة.
13- الإنتزاع:
قد يعلم الإنسان بوجود دار معينة. ثم يعلم بوجود دار أخرى وثالثة ورابعة و.. و.. وهنا تتعب النفس عن الاحتفاظ بعدة معلومات عن الدور العديدة المتمازية عن بعضها فتحاول ان تستريح وتجد مهربا في تجريد الدور عن صفاتها المميزة والتركيز على صفتها الموحدة فتحتفظ الذاكرة بصورة عن الدار بعيدة عن خصائص الدور التي عرفها الإنسان وتسمى هذه عملية الإنتزاع.
فالإنتزاع ـ إذا ـ توحيد المعلومات المختلفة بصبغة واحدة.
14- التصور:
حينما يحس الفرد بشيء تنعكس صورته على نفسه، وقد تعمل النفس عامدة لخق مثيلها. وتذكر الصور النفسية أو معرفتها يدعى بالتصور.
فالتصور ـ إذا ـ علم النفس بما فيها من صور الحقائق الخارجية.
[1]- الكافي، الجزء 2، ص 33 34
[2] - في الكتاب الذي بين يديك أمثلة عديدة على ذلك خصوصاً في أبواب التوحيد.
[3] الإسلام يتحدى ص 65 عن (Cleaver Thinding) لمؤلفه ماندير.
[4] - درس المؤلف منطق ديكارت مفصلا في كتابه الكبير (المنطق الإسلامي أصوله ومناهجه).
[5] - لا تعني لفظة القوة هنا وجود قوة داخلية في الشيء تدفعه إلى التحول ـ كلا ـ بل معنى القوة هنا ـ الامكانية ـ أي من الممكن ان يتحول إلى شيء آخر، ولو بعوامل خارجية؛ فالطفل لولا عوامل الغذاء والهواء لما انقلب إلى شاب.
[6] - الإسلام يتحدى ص 78.
العقيدة والإيمان
الدليل إلى الله
رسالة الله
الولاية لله
أيام الله
القسم الثاني: عن العقيدة والإيمان
الدليل إلى الله
كلمات في البدء
كيف ندرس العقائد؟
لماذا ندرس العقائد؟
لماذا ندرس العقائد:
1- لأن العقائد تبين مبدأ الإنسان ومصيره وخط سيره في الحياة الأولى والآخرة، فإن من لا يدرسها ببصيرة، سوف يحسب انه على صراط النجاة.. بينما هو على صراط الشقاء في الدنيا وسبيل النار في الآخرة فيخسر نفسه في العالمين.. ومن هو أشقى ممن خسر نفسه في الدنيا والآخرة؟ قال الله تعالى: [قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبونه انهم يحسنون صنعا]، (الكهف 103/104).
2- من أوجده؟ إلى أين ينتهي؟ ولماذا جاء؟ وما هو سبيله الأقوم؟ وكيف يسعد؟ ولماذا خلق الكون؟ وما هي الغاية من وجود البشر؟ ولماذا يسعد بعض ويشقى آخرون؟ أسئلة يطرحها كل فرد على نفسه، ويسعى لمعرفة الإجابة الصحيحة. ذلك لأن هذه الأسئلة ترتبط بكافة نواحي حياته وبدون الإجابة عنها يفقد الرؤية السليمة إلى الحياة فيقع في تناقضات مستمرة وهنا إذا هو درس العقائد دراسة عميقة عرف الإجابة الصحيحة، والا فاما ان تبقى الأسئلة لديه بدون جواب فيصيبه الفراغ والضياع، أو يجيب عنها إجابات مرتجلة فيضل، ويشقى! إذ انه راح يعتقد بأفكار خرافية مثل عبادة الأصنام والحيوانات والنجوم.
3- لقد بث أعداء الإسلام شبهات حول الدين فلقفتها الشبيبة لأنهم لم يكونوا دراسين بوعي ما كانوا يعتقدون به، فتمسكوا بالشبهات وتركوا حقائق الدين وأصبحوا دعاة للكفر وجنودا للأعداء، فكان لابد لنا من ان ندرس العقائد لنرجع هؤلاء إلى ما كانوا عليه من عقيدة بالدين والتزام بشرائعه.
4- والثقافة الإسلامية التي نزل بها الروح الأمين على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم تبق سليمة وذلك بفعل ما اختلط بها من اهواء وأساطير أملتها خرافات الأغريق قديما، وفلسفات الغرب حديثا. فلم يعد المسلم يبصر طريقه في الحياة، تلك الطريق التي ضاعت في زحمة الدعايات الأجنبية فأصبح متوتر الفكر، مشوه الكيان، مفقود الثقة بنفسه والإصالة في رأيه، مغرقا في بؤرة التناقضات.
ولكي نعيد المسلم إلى واقعه، وننقذه من سلبيته وتبعيته، لابد ان نعيد إليه الثقافة الإسلامية الحقة التي ترتكز على العقائد الإسلامية. كيف ندرس العقائد؟
أمام دارس العقائد ثلاثة مناهج مختلفة:
1- منهج الفلسفة؛ ويعتمد على المنطق الأرسطي (الشكلي) وفلسفة الاغريق الالهيين، وعلم الكلام الإسلامي المقتبس منها وهو منهج شكلي تجريدي. ودراسة العقائد وفق هذا المنهج استعارة ناشزة للقالب الفلسفي في عرض العقائد الإسلامية حيث تتلوث بتصورات البشر الوثنية حيث ان الإسلام مبدأ حنفي جديد على الإنسان موحى إليه من الغيب، وله قالب يناسبه، وأي اقحام لمفاهيم الفلسفة ومناهجها وألفاظها في بنائه الفكري يشوه صبغته ويخل بتوازنه ويقضي على وحدته العضوية الداخلية.
ومن هنا فقد أخطأ أولئك الذين حاولوا صياغة الإسلام في قوالب أجنبية غريبة في مناهجها وألفاظها وإيحاءاتها عن روح الرسالة الإسلامية، كعلماء الكلام قديما ومقلدي الغرب حديثا.. وقد نعت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أول من قام بهذه المحاولة الخاطئة في المسلمين، نعته بأنه (سامري هذه الأمة) لأنه بدل عبادة الله الأحد بعبادة التوهمات الغريبة عندما أشاب نقاء الحنفية الإسلامية بوثنية الاغارقة المشركين!!
2- المنهج الصوفي؛ وقد انبثق هذا المنهج من الاغراق في التقشف وجعل الإنسان رمز الشرور والخطيئات الذاتية، وجعل فناء الإنسان في غياهب العدم والسلبية هو المنهج القديم الموصل بهم إلى الحقيقة. ونرى هذا التصور الخاطئ بارزا في الفلسفة البرهمية والفلسفات الآسيوية البعيدة، وقد طرقت أبواب المسلمين في بداية القرن الثاني مع نشاط حركة الترجمة بين المسلمين.
وهذا المنهج ينكر دور العقل في معرفة حقائق الكون، ويدعو إلى السلبية ونبذ النظم الدينية والاكتفاء بالصفاء الروحي الذي يتحول شيئا فشيئا إلى الانطواء أو اللامبالاة. والواقع ان ابتعاد هذا المنهج عن روح الإسلام هو كبعد الإسلام عن روح الجاهلية. إذ ان هذا المنهج يعتمد على العمل أكثر من اعتماده على العقل! بل ويكفر بدور العقل والاستدلال النظري بتاتا، ويتصور ان معرفة الله هي فوق مستوى العقل. وهذا قول مرفوض وباطل كما تحدثنا عنه في القسم الأول، من هذا الكتاب.
3- المنهج الإسلامي؛ ويستوحى من القرآن الحكيم ويقوم على أصول ثابتة من الفطريات المسلمة والمتميزة عن دواعي الهوى والغضب، وميزته الأساسية ايقاظ الوعي وإثارة العقل والدعوة إلى التدبر والتفكر والتوجيه إلى الانفتاح على الحياة لمعرفة أعماقها وملامسة أغوارها ومخاطبة روحها النقية الخالصة. ولا ينسى هذا المنهج دور العمل كما لا يجرد العقل عن العمل وأسلوب الحديث في هذا المنهج التذكرة والتنبيه والابتعاد ابدا عن المراء والجدل والمكابرة على الحق.
وركيزة الحديث فيه التبشير والانذار وذكر الأمثال من الأمم السابقة، كيف نجى فيها من نجى وكيف هلك منها من هلك.
ونحن نتبع هذا المنهج لأن الإسلام لا يمكن فهمه الا من حيث المجموع لأنه بناء متين ينبغي ان يدخل فيه برفق وتدبر.. ولأنه طريق قريب، واضح المعالم، بليغ البينات، منسجم مع الفطرة، وضرورات الحياة.
ولقد استوحينا المنهج من هدى القرآن حين حاولنا التلمذة عليه دون ان نحاول التأويل فيه، أو مواجهته برواسب الثقافات الغريبة. أي رب ندعو إليه؟
القرآن نجاة من الأساطير انواع المعرفة-
المعرفة فطرة الإنسان دور الأنبياء في المعرفة
إلى أي اله ندعو الناس؟ لابد ان نوضح عدة نقاط مبدئية لكي لا تكون دعوتنا إلى الله مشوبة برواسب الثقافات الأخرى، وبالتالي ترفض هذه الدعوة بسبب تلك الخرافات التي زعمها الآخرون ونحن منها براء.
والواقع ان أكثر المشركين بالله هم الذين تصورا الله بأوهام بعيدة عن الحق فأنكروا الله وهم لم ينكروه في الواقع بل أنكروا من تصوروا انه الله والا فأي شيء أكبر شهادة من الله؟ القرآن نجاة من الأساطير
ولابد لنا ان نتبع القرآن في التذكرة بالله والدعوة إليه، ويكمن السبب في ان البشر عاجزون عن بلوغ المعرفة الصحيحة الا بسبب من الله تعالى. ولذلك تخبط الإنسان في ظلمات الاوهام حينما ترك الاهتداء بنور القرآن فاعتقد بالخرافات وزعم: ان الله جسم لا نهاية له أو انه جسم محدود، وقد تنزل فأصبح الخلق، فإذا ارتفع الناس أصبحوا آلهة. وانه بعيد عن خلقه بمباينة، ويده عنهم مغلولة، وانه أولد عيسى وعزير، وان اليهود أبناءه، وانه تعالى عاجز عن إزالة الشر، وانه يبغض البشر ولكن لا يقدر عليهم[1].
ولم يفضح هذه الخرافات الا القرآن وما صح من تفسيره على لسان أهل البيت (ع) فعلينا الاهتداء بهداه والاقتباس من نوره.
والواقع ان البشر أثبت عمليا عجزه عن بلوغ المعرفة الخالصة لله سبحانه دون التنور بهدى الأنبياء عليهم السلام.. إذ ان تاريخ الإيمان بالله يرشدنا إلى ان الإنسان كان يتخبط حين ابتعد عن منهج الله تعالى- في ظلمات الجهل والغفلة. فالناس كانوا بين من أنكر الله أو أثبته وأنكر صفاته الحسنى، ومن أثبت له صفة العجز والذل سبحانه- أو بالغ في الصاق الصفات البشرية حتى زعم انه مركب. ومن يطلع على ركام الجهالات البشرية هذه يعرف مدى الحاجة إلى الرجوع إلى الله في تعريفه لنفسه، وذلك في كتابه الكريم الذي تجلى فيه لعباده لو انهم كانوا يبصرون. قال الله تعالى: [كتاب أنزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد* الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد] (ابراهيم/ 1-2). أنواع المعرفة
وللإنسان في المعرفة أحوال ثلاثة: المعرفة التامة، والمعرفة البسيطة، والجهل التام.
1- فقد تعرف مثلا تفاصيل حدث كائن غدا.
2- وقد لا تعرف شيئا من ذلك.
3- وتارة تعرف ان شيئا ما كائن غدا، ولكن لا تعرف كيف هو وأنى هو؟
فهذه ثلاثة أحوال في المعرفة بصفة عامة، أما حول الله فليس لنا معرفة الله تفصيلا ولسنا عاجزين عن معرفته رأسا، وان لنا بين ذلك سبيلا وسطا وهو ان نعرفه بآياته دونه ان نحيط علما بكنهه وذاته. وإليك مثالا نقدمه عن معرفة العلم (تعالى الله عن الأمثال): حينما ترى آيات العلم ترى أنك تحيط ببعض الأشياء علما وأنت على يقين بأن علمك هذا شيء غيرك. عند ذلك تصدق بواقع العلم، ولكن كيف عرفت العلم؟ ام كيف أحطت به؟ وبأي وسيلة؟ أبعلم أحطت به، ولا يحيط الشيء بنفسه؟ ام بالجهل عرفت العلم، وكيف يرشدك الجهل إلى العلم؟ وهل يكون الظلام رائد النور؟ لابد لك من ان تصدق بوجود العلم وليس لك أمر فوق ذلك تصدق به، لأنك لا تستطيع ان تنكره بعد ان رأيت آياته الباهرات- ولا تحيط به لأنك لا تحيط به حيث لا تملك وسيلة إلى ذلك.
حتى ان العلم بوجود واقع العلم لا يعني اننا نثبت للعلم وجودا كما نثبت للمعلوم وجودا. ذلك لأنه ليس لنا طريق إلى اثبات وجود للعلم، بل كل ما يعني ذلك اننا نخرج العلم عن اطار العدم وننكر ان يكون معدوما.
فالمعرفة التي يمكننا تحصيلها في هذا المجال هي التي تجعلنا بين النفي والاثبات، حيث ننفي العدم، ولا يمكننا ان نشير إلى الوجود. صحيح ان انكار العدم بذاته دليل الوجود إذ لا وسيط بينهما، ولكن لا يمكننا الإثبات الصريح لأنه لم نؤت وسيلة إلى ذلك. وهكذا تكون المعرفة بالله!
حينما نرى السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقات في غاية الدقة والنظام، لا نملك الا ان نعترف بأن موجودها وخالقها ليس عدما. ولكن هيهات لنا ان ندعي له وجودا الا بقدر (ان كل ما ليس بمعدوم فهو موجود). وهذا يختلف عن القول بثبوت الوجود له على غرار (الوجود) الذي نعهده في الأشياء سبحانه.
وحينما نرى في آيات الله آثار التدبير والتقدير نعلم بأن بارئها يتعالى عن الجهل والضعف. وهل يعني هذا اننا عرفنا (علم الله) واحطنا (بقدرة الله)؟ كلا! لا يعني هذا الا نفي الجهل والضعف عنه وان نقول تعالى الله عما هو صفة المخلوقين.. وما قولنا ان الله قدير عليم الا إشارة إلى نفي الضعف والجهل عنه، لا اننا علمنا منه (العلم والقدرة) لانه قد سبق ان عقولنا اعجز من ان تصل إلى مستوى الخالق. والى هذه الحقيقة تشير الأحاديث التالية:
سأل سائل الإمام الصادق (ع) عن الله؟ فقال: هو الرب وهو المعبود وهو الله، وليس قولي (الله) اثبات هذه الحروف (الألف واللام والهاء) ولكن أرجع إلى معنى هو شيء خالق الاشياء وصانعها، وهذه الحروف المسمى به الله والرحمن الرحيم وأشباه ذلك من أسمائه- وهو المعبود جل وعز. قال السائل: فانا لم نجد موهوما الا مخلوقا؟ قال ابو عبد الله(ع): لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرفوعا لأنا لم نكلف ان نعتقد غير موهوم. ولكننا نقول كل موهوم بالحواس مدرك بها تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق. ولابد من اثبات صانع للأشياء خارج من الجهتين المذمومتين؛ أحدهما النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم، والجهة الثانية التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التأليف والتركيب. فلم يكن بد من اثبات الصانع لوجود المصنوعين، والاضطرار منهم إليه. فثبت انهم مصنوعون وان صانعهم غيرهم وليس مثلهم. إذ لو كان مثلهم لكان شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد ان لم يكونوا، وتنقلهم من صغر إلى كبر، وسواد إلى بياض، وقوة إلى ضعف، وأحوال موجودة لا حاجة لنا إلى تفسيرها لثبوتها. قال السائل: فقد حددته إذا أثبت وجوده. قال (ع): لم أحده ولن أثبته إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة. قال السائل: فله انيه ومائية[2]؟. قال الإمام (ع): نعم لا يثبت الشيء الا بانية ومائية. قال السائل: فله كيفية؟ قال(ع): لا لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة ولكن لابد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه، لأن من نفاه أنكره ورفع ربوبيته وأبطله، ومن شبهه بغيره فقد اثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية، ولكن لابد من إثبات ذات بلا كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره.
وسئل ابو جعفر (ع): يجوز ان يقال الله انه شيء؟ فقال: نعم بخرجه من الحدين؛ حد التعطيل وحد التشبيه.
وقال الصادق (ع): ان العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب الإحاطة بصفته. فإن قالوا كيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به؟ قيل لهم انما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم ان يبلغوه وهو ان يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته.. (وذلك لأن الله لا يرى بعين الوهم).
المعرفة فطرة الإنسان:
الإنسان جزء متفاعل مع العالم كله، يرتبط معه في كل شيء؛ في مواد جسمه وسنن حياته ومعارف عقله وشهوات قلبه. واي محاولة لفصله عن طبيعته المتفاعلة المنسجمة مع الكون تكون فاشلة. والمعارف البشرية سعي متواضع لكشف بعض مناحي هذا التفاعل الواسع بين البشر والكون من حوله.
والدين الحق تعبير صحيح عن الكون؛ روحه وجسمه، باطنه وظاهره. وفي الكون هذا الإنسان المتفاعل معه، والكون خليقة الله العظمى ومظهر اسمائه الحسنى فهو أبرز شاهد وأكبر آية على الله تعالى. وبحكم تفاعل الإنسان مع هذا الكون وبحكم ان الكون شاهد على الله فهو مفطور على الدين ليس في عقله وروحه فقط بل في كل شيء منه، فهو مرتبط بأكثر من خيط بأصله وطبيعته. وشعوره لا يعدو ان يكون مفطورا على معرفة الله وحبه والإنابة إليه وهذا نوع من المعرفة الفطرية تأكدت بمعرفة أخرى عندما بدأ الله خلق الإنسان حيث اشهده على نفسه وعرفه خلقه. وهنالك عرفنا ربنا معرفة تامة، وعلق بأنفسنا ما يشبه الظل من تلك المعرفة، ذلك الظل الذي يدفعنا أبدا إلى البحث عن الله، فتارة نهتدي إليه وتارة نضل عنه فنتخذ اندادا من دون الله ونزعم بأنها هو الذي عرفناه سابقا. ولولا هذه المعرفة الأولية التي تدغدغ ضمير كل بشر لما بحث الناس عن إله، ولما ابتغوا إليه الوسيلة بشتى الأسباب. وهذه الفطرة تساعد الإنسان على معرفة الله الحق. فليس أمامه سوى ان ينبه به ويذكر إليه فإذا بشعاع المعرفة يغمر فؤاده، الا ان يجحد عنادا وطغيانا.. قال تعالى: [واذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين] (الأعراف/172) وجاء في الحديث في تفسير هذه الآية [وإذ أخذ ربك من بني آدم] انه سئل معاينة كان هذا؟ قال الإمام: نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف، وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر احد من خالقه ورازقه. وفي تفسير قوله (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم على التوحيد[3] وان هذه الحقيقة لتهدينا إلى عدة حقائق:
أ- ان البشر لا يحتاج لمعرفة الله إلى أكثر من التوجيه والتذكير.
ب- ان ما قاله الماديون في تفسير توجه الناس إلى الدين ورغبتهم الملحة إلى معرفة الل،ه ان ذلك من ضعفهم وجهلهم عن التفسير الصحيح للحوادث، انما هي ضلالة بعيدة، إذ لو لم يكن لديهم فطرة أولية تهديهم إلى الله لما أظهروا ضعفهم بهذا الشكل.
ج- انما السبب في توجه الناس إلى الله وترك ما كانوا يعبدون من الشركاء، وذلك حين تمسهم الضراء والبأساء انما السبب في ذلك وجود معرفة فطرية لديهم بالله، إذ تنقشع عن أنفسهم آنئذ حجب الغفلة والمصلحة ويتوجهون إلى الله. دور الأنبياء في المعرفة
بما ان الإنسان مفطور على المعرفة في عالم سابق على هذا العالم ولم يحدث له إلا النسيان والغفلة عن تلك المعرفة والاحتجاب عنها باتباع الشهوات فانه لا يحتاج الآن الا أن يلفت نظره إلى ما غفل عنه من المعرفة بعد أن ترفع عن وجهه غشاوة الحجب. ولم يكن من الممكن عودة الإنسان اللاصق بالارض بمباهجها ومشاكلها وأمانيها البعيد الاّ برسول مبعوث من الله إذ أن هذه العودة تستوجب تناسي الإنسان لعالمه المادي القريب وتطلعه إلى الآفاق البعيدة حيث الغيب الذي يدبر أمور الحياة وذلك أمر مستصعب لا يلائم طبيعة الانسان، ولهذا بالذات بعث الانبياء(ع) فقد جاءوا لكي ينذروا البشر عن التمادي في الغفلة عن معرفة الله تعالى ويذكروهم بربهم الذي أنعم عليهم بنعم لا تحصى.
ولقد كانت هذه سنة الانبياء عليهم السلام. فهذا القرآن تذكرة بالله فليس في القرآن سورة، بل ولا آية الا وتذكر بالله بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ورفع حجب الغفلة من دونه. وهكذا كانوا يصرحون للناس ان الهدف الرئيسي من بعثهم كان تذكرة العباد بربهم وتوجيههم إلى خالقهم. قال تعالى (فذكر انما أنت مذكر، لست عليه بمسيطر). وفي الحديث: سئل الامام الصادق (ع) عن الناس: (أضلالا كانوا قبل بعثة الانبياء (ع) أم على هدى؟) فقال: (لم يكونوا على هدى، بل كانوا على فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله). الدليل إلى الله
آيات الله-اسماء الله-الاحدّية-التوحيد.
أ-ما هو الدليل إلى الله؟.. تدبر في نفسك واسرح بصرك في الآفاق فانظر ماذا ترى؟.. ألست ترى ما تعجز عن وصفه عالما متوازنا مبدعا مدبرا وأنت فيه صغير يدبر شؤونك مولى عطوف ويربيك طورا فطورا.
ب-ويقولون: ان الكون جاء صدفة ونظم صدفة ويسير بغير دليل سبحان الله. ما هي الصدفة؟ هل يمكن تفسيرها؟ أو لا تعني الصدفة سوى ان حادثتين وقعتا في حالة واحدة. وكان لكل واحدة منهما سببها، الا انه كانت في وقوعهما معا حكمة جديدة؟ هذه هي الصدفة التي نعرفها، ولا نعرف الصدفة عملا بغير عامل أو خلقا بدون خالق أو حادثا بدون سبب.
ج- الكون لم يحدث بل كان أزليا هل هذا صحيح؟ كلا! ان جميع شواهده يدل على حدوثه.. تطوره، تناميه، تناقصه، تناقضه، حاجة بعضه إلى بعضه، تركيب أجزاءه بدقة وتناسق. ان في هذه آيات الحدوث.. بل كل اكتشافات العلم تهدي إلى ان للوجود عمرا محدودا. فالحرارة المتاحة للحياة تتناقص، وعمر النجوم محسوب، والأرض لم تكن ثم كانت، والوجود كان مركزا ثم حدث فيه انفجار هائل ثم أخذ يتباعد وانه سيرسو في نهاية محدودة[4].
[أولم ير الذين كفروا ان السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما] (الأنبياء/ 30) وهل هي بحاجة إلى أكثر من لفتة نظر، حتى نعرف ان هناك من نحتار في كنهه ولا نعرف الا انه شيء فوق الأشياء، شيء لا يشبه الأشياء وهو قادر عليم وهو الذي أبدع الكون إبداعا.
د- يقولون: هي الصدفة التي نسقت علاقة الأشياء ببعضها. فصدفة وبدون أية حكمة أو تدبير كانت حركة كوكبنا (الأرض) حول الشمس منضبطة تمام الانضباط بحيث لا يمكن ان يحدث أدنى تغير في سرعة دورانها حتى بعد مرور قرن من الزمان، وصدفة كان نظام القمر الذي يتبع في حركته الأرض يدور في فلك مقرر ومنضبط مع تفاوت يسير يتكرر بدقة فائقة.
هل هي صدفة؟. نحن لا نفقه من لفظة الحكمة الا النظام الدقيق، فهل هم يفهمون منها ما يرادف كلمة الصدفة.. ان الفضاء الكوني فسيح جدا تتحرك فيه كواكب لا حصر لها[5]، بحيث لو أوتيت ـ فرضا ـ أجنحة من نور وسارت بك الف مليون سنة في سرعة الضوء لما قدرت ان تحيط بالكون، لأنه في توسع مستمر يسبق أجنحتك الخيالية السرعة.
ان دقة التنسيق وروعته تبهران الإنسان وهو يتدبر في آفاق السموات التي تهتف به انها تدبر من لدن حكيم عليم.
هـ- ان شواهد العمد والتصميم السابق متوافرة في كل حركة في الكون. فبالرغم من وجود سنن كونية تجري عبرها الكواكب والمنظومات، فإنها ليست كآلة ميكانيكية، بل انما هي كسيارة في عراء قد استوى عليها صاحبها وسيرها بقدرة وخبرة بالغة.
فالآلة الميكانيكية تفترق عن السيارة في ان الآلة ذات محدودية ضيقة، وبرغم تحركها فهي لا تتطور ولا تتوسع. وآثار الكون فإنه يجري لمستقر معلوم. له بداية وله توسع وتناقص وله نهاية. ومن هنا فليست المجرات وهي تتغير وتتطور كالساعة الأوتوماتيكية التي صنعت ثم جعلت تتحرك بذاتها، بل هي كالساعة وهي تصنع وتكمل لحظة بعد لحظة، لأنها في صنع وتقدير مستمرين. فمثلا: مجرات الكون تسير حينا باتجاه بعضها ولكنها لا تتصادم أبدا، بل تتداخل ثم تتوادع وتتابع كل واحدة منها مسيرتها بسلام.
وهناك تكون جديد للنجوم لا يتكون في أي موقع كان، بل يتكون في لحظة معينة وفي موقع معين ولهدف معين ليعرف ان وراء الأمر حكيما يدبره تدبيرا.
وان للصدف مجالا واسعا فيها ولكنها صدف مقصودة، الشهب تقاذفها الصدف ولكنها في النهاية صدف حكيمة تنطلق في وقت معين ولهدف معين سبحان من يرصدها وسبحان من يرميها.
و- وحسب أحدث النظريات الكونية ان في آفاق السماء خلقا مستجدا دائما ولكنه خلق مقصود ومتعمد.
والميكنة قد تفسر شكلا خاصا من الأحداث، ولكن هل بإمكان المصنع الذي ينتج السيارة ان يصنع الطائرة في لحظة معينة؟ كلا! لقد عبر عن هذه الحقيقة عالم كبير بطريقة لطيفة فقال: انه يستحيل على مصنع يخرج منه الرجل ان يصنع المرأة لو لم تكن هناك حكمة بالغة تدبر الأمر بالغيب! وكذلك قال الله في كتابه: [ومن آياته ان تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا انتم تخرجون. وله من في السماوات والأرض كل له قانتون. وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه. وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم] (الروم/ 25-27) وفي الأرض آيات للسائلين. فكل ما في الأرض جاء لمصلحة كل فرد. وجدير بنا ان نسأل كيف خلقت الصدفة كل شيء في صالح الإنسان؟ فحجم الأرض لو كان بحجم القمر إذا لقلت جاذبيتها إلى السدس واشتدت البرودة فيها ليلا والحرارة نهارا ونقصت مياهها، وانهار توازنها واستحالت فيها الحياة ولو كان حجمها أكبر منها بضعف إذا لا نكمش غلافها الجوي واشتد ضغط الهواء فيها وأثر في استمرار الحياة عليها.. والضغط الجوي لا يزيد عن 15 رطلا لكل بوصة مربعة لأن هذا القدر فقط يفيد حركة الإنسان ونشاطه.
والضغط من الجاذبية، وقد كشف نيوتن عن وجود تجاذب بين أي جسم وجسم وبقي متسائلا: كيف ينجذب جسم ميت إلى جسم ميت ان لم تكن لهما أهداف مشتركة ورائهما، وممسك عظيم، وفي الأرض اختلاف الليل والنهار واختلاف المواسم، ولم يكن ممكنا وجود هذا الاختلاف دون تدبير دقيق جعل الأرض تدور في زاوية 33 درجة. تصور لو لم يكن فيها هذا التدبير، أفلم يكن قد غمر الظلام القطبين أبدا وما بقي على الارض غير جبال الثلج والفيافي الجرد واستحالت الحياة؟
فسبحان من علم وقدر وقضى ونفذ القضاء بقوة، بل يقولون صدفة بئس ما يخدعون به أنفسهم.
ان سمك الأرض لو كان أكثر عشرة أقدام لامتصت الارض الأوكسجين واستحالت الحياة، ولو كانت البحار أعمق بضعة أقدام لاستحالت الحياة أيضا، ذلك لأنه كان قد انجذب ثاني أكسيد الكربون والأوكسجين.
أكان كل ذلك صدفة؟ سبحان الله عما يصفون.
ز- ان منظر المطر رائع، وفيه منافع للناس جميعا. فلنتصور أي تدبير حكيم هذا الذي يجعل البحر يتبخر صعدا ويأمر الرياح ان تحملها إلى حيث (يشاء هو) فيهطل عليهم بقدر ما يصلحهم، ويزيد لهم الرعد والبرق وهما ضرورتان للزراعة.
وتقول صدفة تمطر سنة هنا وسنة هناك؟! كلا انما هو وفق نظام دقيق يناسب تدبير الحياة والاحياء كما يناسب سائر قوانين الكون.
قال الله تعالى: [فلينظر الإنسان إلى طعامه اننا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم] (عبس/ 24-32). وقال: (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا).
ح- وحياتنا الشخصية هل تدبر بالصدفة؟ قليل من الناس يستطيع ان يقول ماذا سيصبح في المستقبل، بل ماذا يكسب غدا ومتى يموت. ولو تدبرت قليلا لوجدت ان صدفا ما غيرت مسيرة حياتك، وحوادث ما جعلتك تغير أفكارك، بل انك في لحظات اضطررت ان تختار طريقا مختلفا عن آمالك، بل اخترته بصورة فجائية لم تسبقك إليه بادرة أبدا. ولقد عبرت عن الحقيقة آية شريفة تعبيرا لطيفا، فقال: [ان الله يحول بين المرء وقلبه] (الانفال/ 24). وانك تعلم كثيرا، ولكنك لا تختار بالضبط متى تعلم وكيف تعلم. وبالرغم من ان هناك أسباب معينة للتعلم فإن يدا غيبية تنظم التعليم وتوجهه. وأكبر العلماء وأقدرهم يرى نفسه ـ حسب اعترافات فريق عظيم منهم ـ تلميذا متواضعا للغيب يفتح له أبواب العلم بقدر معلوم.
ولم تتم الاكتشافات العظيمة الا في حالات تشبه الغيبوبة والتنبه الخاطف. ونعلم أشياء ثم ننساها وصدفة نتذكرها وحين نتدبر لحظات نرى ان هناك مصالح عامة عملت في ذهولنا.. ولا نعلم شيئا، وصدفة نعرفها ويكون ذلك في صالحنا ونسميه خطأ الحس السادس. هكذا يتقلب البشر بين أصابع الله سبحانه. فإذا به يجد ذاته مدبرا محدود الاختيار. قال الله سبحانه: [ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير] (لقمان/ 34).
وقال الإمام أمير المؤمنين (ع) في جواب سؤال وجه إليه ان بماذا عرفت ربك قال: عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم.
ط- وفي حالات عديدة يرتبط وجداننا بقوة غيبية فنسأل صاحبها (باسم أو بآخر) ونتضرع إليه بقلوبنا فنجدها ذات اثر فعال في توجيه حياتنا نحو الأفضل ونجد الحياة المستصعبة تيسرت حتى نخال ان القدرة كانت من ذواتنا بصورة أصيلة.. وعندما تهجم علينا المصائب تتوسل قلوبنا بقوة غيبيبة قاهرة لا نعلم أين هي وكيف هي، بل لا نعرف عنها الا انها قادرة على انقاذنا. وقد تصفو النفس إلى درجة تحسب انها ترى الله، بل هو أشد من الرؤية وضوحا آنذاك، ولو يتذكر الإنسان تلك اللحظات لعرف ان الله لا ريب فيه فاطر السموات والأرض الرؤوف الرحيم.
قال الله في كتابه الكريم: [هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا انهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن انجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين] (يونس/ 22).
وجاء رجل إلى الإمام الصادق يقول: عرفني ربي؟ فقال له الامام (ع) هل ركبت البحر؟ قال: نعم. قال: هل كسرت بك السفينة؟ قال: نعم. قال (ع) هل تعلق قلبك بشيء حيث لا سفينة تنجيك ولا أحد يغنيك؟ قال: نعم. قال: ذلك هو ربك.. وهكذا يعرف الله نفسه للإنسان مرة بعد أخرى ويظهر في كل شيء ظهورا، لا تراه تلك العيون التي تعودت رؤية الفقاعات الصغيرة دون ما ورائها وانما تراه القلوب البصيرة النافذة التي تخترق ظواهر الحياة إلى حقائقها [سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم] (فصلت/ 53).
أسماء الله الحسنى:
1- اننا نجد في أنفسنا وفي الكون المحيط بنا نقطتين متقابلتين؛ نقطة الضعف ونقطة القوة. فإننا مثلا موجودون الا ان وجودنا محدود بالزمان والمكان، واننا عالمون لكن علمنا محدود بالوقت والكمية، ومثل هذا كل شيء في العالم.
2- ليس لنا ان ندعي ان ما بنا من علم ووجود هو من معطيات ذواتنا الأولية، وان ذواتنا هي الوجود والعلم، إذ لو كنا نملك بذاتنا ان نوجد أنفسنا إذن لأوجدناها كبيرة قديرة كما نحب، باقية خالدة كما نأمل، كذلك لو كنا نملك العلم بذاتنا إذن لأعطينا أنفسنا علم كل شيء وبالتالي ما نسينا شيئا أبدا.
3- فإذا لم يكن ذاتنا بالعلم والوجود كما هي الحقيقة، فلا بد ان نهتدي إلى انها من طبيعة العدم والجهل. فنعرف ان ما بها من وجود وعلم هو من مصدر كامل الوجود وتام العلم، ذلك الذي لا نقص فيه ولا ضعف ولا عجز وذلك الذي لا جهل معه ولا نضوب له، وان مالك الوجود الذي يعطينا منه قدرا مقدورا ومالك العلم الذي يفيض علينا منه قبسا محدودا، انه لا يمكن ان يحدد وجوده بعجز أو فقر أو ضعف، ولا يجوز ان يقدر علمه بنوع دون آخر وبكيف دون كيف أو بشيء دون شيء وإلا لكان مثلنا مخلوقا مملوكا ويكون ذاته عدما وجهلا كما هي ذاتنا.
4- وان هذه الحقائق تهدينا إلى ان ما في الآفاق وما في أنفسنا من آيات الكمال والجمال فهي دالة على ما لواهبها من كمال ذاتي لا محدود وجمال تام لا متناهي وان ما فيها من معالم الضعف والنقص فهي دالة على تعالي خالقها منها وتساميه عنها وبهذا نهتدي إلى ما لله من أسماء حسنى وما هو منزه عنها من صفات المخلوقين.
قال الله تعالى: [هو الله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم* هو الله الذي لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون* هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم] (الحشر/ 22-24).
في السنّة: (الحمد لله الذي لا من شيء كان، ولا من شيء كون ما قد كان المستشهد بحدوث الأشياء على أوليته وبما وسمها من العجز على قدرته وبما اضطرها إليه من الفناء إلى دوامه، لم يخل منه مكان فيدرك بأينية ولا له شبح فيوصف بكيفية). الأحدية
الأحدية تعني أمرين؛ الأول ان الله تعالى صمد لا تركيب فيه، والثاني: ان الله واحد لا شريك له. والدليل على الأول:
أ- اننا نلاحظ ان المخلوق يحتاج بعضه إلى بعض ولا يتم بعضه الا ببعض، ونعلم من وجداننا ان هذه صفة الذل والعجز، وان هذا يدل على انهم ضعفاء وقدرتهم محدودة. وهذا يهدينا بالوجدان- إلى ان خالقنا مقدس عن ان يشارك خلقه في الضعف والعجز إذ ان الضعيف لو كان قادرا على الخلق لم نكن بحاجة إلى الخالق بل كنا نقول: ان كل شيء قد خلق نفسه، فإذا هدانا العقل إلى الحاجة للخلق هدانا أيضا إلى ان الخالق لابد ان يكون منزها مما يجري فينا من الصفات الناقصة. وبما ان صفة التركيب صفة من صفات العجز والضعف فإننا نعرف ان الله مقدس عنها وانه غير مركب.