فکر الإسلامی مواجهة حضاریة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فکر الإسلامی مواجهة حضاریة - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



2- لم تفسر لنا المادية هنا كيف تتم عملية تحول الطاقة من فيزيولوجيا إلى سيكلوجيا؛ أي كيف يعرف الإنسان؟ وهذا هو السؤال الأهم في مشكلة المعرفة، والا فتحويل الطاقة من الخارج إلى الأعصاب أمر يفهمه الأطفال إذا حدد بالإثارة والتنبيه فقط كما فعلنا آنفا.

وهكذا سقطت الحجة عن قيمتها في مشكلة المعرفة وكانت أشبه بالفرار من الإجابة عن شيء إلى الإجابة عن شيء آخر.

وبعد هاتين المفارقتين نقول:

المشكلة في تقييم المعرفة ومطابقتها للواقع الخارجي تبدأ أولا: -وعند المثالين- بالسؤال عن هذه المعلومات (تحويل الطاقة و.. و.. و..) ذاتها فالمثاليون ينكرونها رأسا فما هو الدليل على صحتها؟

ولو افترضنا ـ جدلاً ـ صحة عملية التحويل هذه، فهل في هذا أي دليل على المطابقة بين الفكرة والحقيقة الخارجية.. مع أنهما شيئان حسب اعتراف المادية الديالكتيكية ذاتها، وهل ان الأسلاك تعلم بماهية توليد الطاقة حينما تتحول اليها هذه الطاقة؟

ولنفترض انها تعلم، ولكن العلم ليس مجرد الإحساس البسيط ـ كما يعترف بذلك الديالكتيك ـ فهناك حسب نظريته المفاهيم العامة. فكيف يمكن تفسير تكوّن المفاهيم العامة؟ مع انه يشبه تكون طاقات كهربائية مضاعفة في ذات الأسلاك فهل تسمي ذلك تحويل طاقة أيضا؟

الدليل الثاني:

وقال الديالكتيك:

ان الفكر يستطيع ان يعرف الطبيعة معرفة تامة ذلك لأنه يؤلف جزءا منها وهو نتاجها والتعبير الأعلى. فليس الفكر سوى الطبيعة، تعي ذاتها في ضمير الإنسان. يقول لينين: (ان الكون هو حركة للمادة تخضع لقوانين، ولما لم تكن معرفتنا الا نتاجا أعلى للطبيعة لا يسعها الا ان تعكس هذه القوانين). ان هذا الدليل ليس الا ترديدا خطابيا لذات الدعوى فهي مصادرة حسب تعبير الفلاسفة. ان المثالية تقول: حسنا ما معنى التعبير؟ وما معنى الوعي؟ اللون تعبير عن نور الشمس، يعني انه يعيه ويفهمه ويشعر به. الكلمة تعبير عن الواقع الموضوعي، يعني انها تعيه وتفهمه وتشعر به. ثم ماذا يعني وعي الطبيعة لذاتها؟ هل يعني هذا ان هناك تمازجا بين المخ والمادة؟ فلنسأل أيهما أشد تمازجا المعدة أم الدماغ، بل أيهما أشد تمازجا البنزين في محركات الطائرة أم الإثارات في عملية المخ؟ ان التشويش يبدو واضحا في نصوص المادية الديالكتيكية التي تبغي اثبات قيمة للمعرفة وهو اكبر دليل على فشل أية حجة تريد إثبات أية قيمة للعقل دون التوسل إلى ذاته والتنور به، لا الإنحراف عنه إلى المادة لتفسير العقل بما لا يغني عن الحق شيئا.

الدليل الثالث:

وفي النص التالي يحاول الديالكتيك اثبات قيمة تامة للمعرفة عن طريق علم الحياة فيقول:

(ان الفكرة لا تستطيع ان تكون ـ وهي في مستوى الاحساس ـ نافعة بيولوجيا في حفظ الحياة، الا إذا كانت تعكس الواقع الموضوعي. فإذا كان صحيحا: ان الإحساس ليس الا رمزا دون أيما شبه بالشيء واذا كان يمكن بالتالي تطابق أشياء عديدة متغايرة أو أشياء وهمية ومثلها تماما أشياء واقعية عندئذ يكون التعوّد البيولوجي على البيئة مستحيلا. إذ افترضنا ان الحواس لا تتيح لنا تعيين اتجاهنا بيقين وسط الأشياء).

ولكن هذا الدليل هو الآخر يسقط منهارا أمام تساؤلات المثالية والنسبية الفيزيولوجية والفردية أو .. أو.. التي تقول: أفليس من الممكن ان يكون الرمز كافيا لتحديد اتجاه البشر في وسط الأشياء، ثم لا يكون كاشفا عما وراءه من حقيقة موضوعية. أفليس النبات أيضا يكيف ذاته وسط الحياة بالرموز ولكنه لا يعلم شيئا، أوليست الطبيعة كلها تجري وفق رموز متبادلة، بل أليست الماكنة الحديثة تسير وفق رموز ولكنها لا تعي الحقيقة؟

من هنا نعلم ان المادية الديالكتيكية عاجزة عن اثبات أية قيمة ثابتة للمعرفة. والواقع ان أية نظرية تنحرف عن منهج الحق، وتبتغي السبل الملتوية لا يقدر لها النجاح. الجانب السلبي

تعتقد الديالكتيكية بالنسبية التطورية التي تعني ان الفكر الإنساني لا يستطيع الا معرفة بعض الحقائق، ولكن لا بمعنى ان الحقيقة التي تحس وتدرك لا تمثل الواقع وتمثل الذات الشاعرة كما زعمها النسبية الذاتية والنسبية الفردية؛ لا بهذا المعنى، بل بمعنى ان المعرفة ذاتها تنمو وتتكامل كأي شيء مادي آخر في الكون. ومن هنا يقول لينين:

(نستطيع بإنطلاقنا من المذهب النسبي البحت تبرير كل نوع من أنواع السفسطة). ويقول كيدروف: (ولكن قد توجد ثمة نزعة ذاتية ليس فقط حينما نعمل على أساس المنطق الشكلي بمقولاته الساكنة الجامدة وإنما أيضا حينما نعمل بواسطة مقولاته المرنة والمتحركة. ففي الحالة الأولى نصل إلى الغيبية وفي الثانية نصل إلى المذهب النسبي والسفسطائية والإنتقائية). يقول كيدروف أيضا: (أما المنطق الديالكتيكي فهو لا يواجه هذا الحكم بأنه شيء مكتمل، بل بوصفه تعبيراً عن فكرة قادرة على ان تنمو وتتحرك، ومهما كانت بساطة حكم ما ومهما بدا عاديا هذا الحكم فهو يحتوي على بذور أو عناصر ديالكتيكية تتحرك وتنمو ـ داخل نطاقها ـ: المعرفة البشرية كلها).

وتذهب الديالكتيكية في المعرفة بعيدا لتجعل الحقيقة مزيجة دائما من الصحيح والباطل ومن السلب والإيجاب. فلو عرفنا مثلا: وجود ظاهرة حسب الرأي الشكلي، قلنا انها موجودة. ولكن الديالكتيك لا تقول أبدا ان هذا الشيء موجود وكفى. بل تقول انها موجودة في لحظة. فلنستمع إلى مثال كيدروف: (هل الدائرة المربعة موجودة؟ في المنطق الشكلي يقف الإنسان عند حد إجابات بسيطة جدا (نعم) أو (لا)؛ أي عند حد تمييز نهائي بين الحقيقة والخطأ لهذا السبب تواجه الحقيقة بإعتبارها شيئا معطى ساكنا ثابتا نهائيا ومتعارضا تعارضا مطلقا مع الخطأ ولكن المادية الديالكتيكية تقول نعم ولا في لحظة..).

خلاصة النظرية: انها تدور في ثلاث نقاط:

1- ان الحقيقة ذاتها تتطور.

2- ان الحقيقة دائما مشوبه بالباطل.

3- ان تنامي الحقيقة وانما هي خاضعة لوجود التناقض الداخلي فيها. مفارقات في النظرية النسبية

ولكي نتعرف على واقع هذه النظرية يجب ان نمهد لها بعدة نقاط:

1- في أكثر الأوقات تتجه النفس البشرية إلى جانب واحد فقط من الأشياء وتعتقد انه يمثل كل الجوانب.

وهذا الاعتقاد ينشأ من استكبار النفس عن الحقيقة وتجبرها عليها، حيث تدعي علم كل شيء. وعلى الإنسان ان يكتشف في ذاته هذه الصفة الناقصة ويحاول إزالتها بالإيحاء الدائم إليها. انها لم تبلغ من العلم الا شياء قليلا.. ويوجه الإسلام الإنسان إلى هذه الناحية ويقول: [وما أوتيم من العلم الا قليلا] (الاسراء/85).

وقد يفترض الإنسان ان هذا الجانب الذي يشاهده لا يمثل الحقيقة كلها. ولو كان واثقا من انها الحقيقة وثوقا، قد يفترض ذلك لكي يكشف السلبيات الذاتية التي تمتزج مع الحقيقة في كثير من الأوقات. وقد يكون السبيل إلى ذلك افتراض وجود التناقضات في الحقائق المادية شريطة ان تفسر كلمة التناقض، بالتقابل. مثل تقابل (البيضة) و(الفروجة) في محاولة لكشف تطورات المستقبل وحوادث الماضي إلى جانب الإحاطة بحالات الحاضر التي تكتنف الحقيقة الواحدة. فمثلا في الفرضية السابقة ينبغي لمن شاهد شكلا مربعا الا يثق مبدئيا بهذه المشاهدة، بل يغير زاويته، فلعله يكتشف ان مقامه هو الذي أوحى إليه انه يرى مربعا بينما هو مستطيل.

ولقد كانت نظرية هيجل فيما يتبين بالدراسة العميقة لا تعدو حوارا مع الذات، لمحاولة كشف الحقيقة كاملة. أو حسب تعبير بعض الناقدين العرب عن هذه النظرية كانت محاولة لفض الفكر ذاته إنطلاقا من ان الدراسة العلمية الناجحة تعتمد على تكثيف الإحتمالات العقلية حول الموضوع. فلعل في واحدة منها ما يكشف عن سنة فطرية هامة. هكذا كانت نظرية هيجل.

الا ان ظروفاً سياسية سيئة حالت دون قيام هذا المنطق بدوره الإيجابي وطورته إلى أداة إعلامية ضد فئات وأفكار وقيم معينة. وفيما يلي نعرف بعض السبب.

2- ما هو التناقض؟ شأن كل الألفاظ يختلف معناه الأدبي المشتهر عن معناه في مصطلح المناطقة والفلاسفة الأقدمين. التناقض في الأدب العربي يعني (مطلق المقابلة) فالوجود والعدم متناقضا لأنهما متقابلان، وزيد وعمر متناقضان لأنهما متقابلان في الرأي، ودارنا ودار من يقابلنا أيضا متناقضتان ـ هذا في الأدب العربي ـ.

ولكن المنطق والفلسفة يحصران معنى التناقض في التقابل بين الوجود والعدم في لحظة واحدة. وهو ـ بالطبع ـ يختلف كثيرا عن المعنى العام الشائع في الأدب.

وهذا الفرق سبب اختلافا ليس وراءه الا جهل بمراد الأطراف من اللفظ.. وقد كان نصيب الكتب المترجمة كبيرا جدا من هذا الاختلاف ولاسيما ان المترجمين لم يكونوا دائما فلاسفة حتى يتقيدوا بإصطلاحات الفلسفة. ومنطق هيجل، شأن شأنه أكثر المذاهب الفلسفية كان ذا حظ وافر من أخطاء الترجمة أو أخطاء الخلط بين ترجمة أدبية وأخرى علمية.

وواحد من أبرز الأمثلة على ذلك، مسرحية القول بإمكانية التناقض. لقد قالوا: بإمكان التناقض ولكنهم انما عنوا به (كل تقابل).

وقلنا: بإستحالة التناقض وقصدنا ما يكون منه (اجتماع الوجود والعدم) فقط. والبون بعيد، ولكن الاختلاف قائم على أشده.

هيجل ومن ورائه الماركسيون قالوا بإمكانية التناقض وكل أمثلتهم تدل على انهم أرادوا منه مطلق تقابل شيء مع شيء آخر. وقالوا:

أ- بأن الدجاجة تتناقض مع الفروجة، وهي تتناقض مع البيضة!

ب- وان الهزيمة والإنتصار وهما تتعاقبان في الجيش نوع من اجتماع النقيضين!

ج- وان الثمرة تتناقض مع الشجرة!

واضح ان المقصود في كل ذلك مجرد نوع من التقابل الذي لم ينكره أحد من الفلاسفة، وليس معنى التناقض لدى هيجل اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد ووقت واحد. وهل يمكن ان يكون هناك عاقل يعترف بإمكانية اجتماع وجود زيد وعدمه في ذات الزمان؟ وإمكانية صحة قانون وبطلانه؟ وإمكانية ان يكون الجيش في معركة واحدة منتصرا ومنهزما؟!

ومن هنا فإن جانبا كبيرا من الخلافات يتهافت بسبب تفسير اللفظ تفسيرا مناسبا.. والجدير بالذكر ان هناك فريقا من الغوغائيين استغلوا لفظة التناقض المشتركة في المعنى لأهدافهم الإعلامية، فشرعوا يشنون حربا غير شريفة ضد المنطق الشكلي، زاعمين انه جامد وغير معترف بالفوارق الموجودة في الطبيعة. هذا عن التناقض، اما عن التطور؟ فنتابع الحديث:

3- لنفترض مرآة صافية إلى جنب نهر جار، الماء يتدفق وصورته تنعكس على الشاشة الصافية. ان ثبات المرآة شرط ضرورة لأمانة الصور المنعكسة فيها. فلو جاء شخص وأخذ يهزالمرآة، فإنها تتعرض آنذاك للتشويش.. ولو فرض ان شخصا قام فأخذ لقطة عن النهر أو عن المرآة، فلابد ان تمثل لقطته لحظة معينه من تدفق الماء. ولكنها صورة أمينة للغاية، لتلك اللحظة فقط.

ان هذه هي حقيقة المعرفة التي لا اعتقد أحدا ينكرها لو قدرت له التذكرة بها، فالمرآة هي المعرفة، تعكس واقع الأشياء المتطورة (كأنها نهر لا يتوقف إنسيابه). ولكن لولا ثبات النفس وهدوئها، لما كان الإنعكاس سليما. ومن هنا فإن النفوس المتوترة لا تستطيع إحراز معرفة صادقة.

وفيما لو إلتقطنا صورة علمية عن لحظة معينة مثلا، أردنا التركيز على معرفة حالة النهر في وقت معين (أو قل حالة القمر في ليلة الخسوف ساعة معينة)، فإن هذه المعرفة لا ترتبط بجريان النهر أو دوران القمر، بل هي أشبه شيء بلقطة فتوغرافية عن حالة السيل المتدفق تعكس حالة معينة، ولكنها تعكسها بصورة ثابتة لا تتغير.

ولو أردنا التقاط صورة معينة عن وضع تاريخي معين، مثلا عن حوادث النصف الأول من هذا القرن، فماذا كان يعني هذا؟ يعني تقدم البشرية في غزو الفضاء، واستغلال الذرة لشؤون السلم وتلاشي الحياد الإيجابي وبروز الصين كقوة عالمية و.. و.. ان هذه اللقطة جامدة رغم ان الحياة ستتطور، ولا يمكن لهذه اللقطة ان تتغير ان كانت صحيحة وأمينة. هل يمكن مثلا ان يكون هبوط أول إنسان على سطح القمر عام 1969 حقيقة ثم لا تلبث ان تصبح باطلة؟ كلا لأنها لقطة عن لحظة معينة من تاريخ هذا النهر الجاري، وهل يمكن ان يكون عودة لونا 16 من رحلته القمرية صحيحة اليوم، ولكنها تتطور ـ كعلم وكحقيقة ـ فتصبح باطلة غدا؟ كلا لأنها أيضا لقطة فهي لا تتطور وان كان الإنسان يتطور إلى مرحلة أبولو أو ساليوت؟!

والقول بأن المعرفة تنمو وتتكامل سخيف تماما كالقول بأن المرآة هي التي تتحرك وان الصورة الفتوغرافية خاطئة لانها لا تعكس جميع الحالات! نقد النسبية التطورية

بعد هذه الملاحظات التمهيدية ينبغي ان ننقد النسبية التطورية:

1- المفهوم الأول منها يقول: الحقيقة تتطور في سبيل نقد هذه الفكرة، نسأل: ماذا تعني هذه اللفظة؟ انها أمام شقوق مختلفة.

أ- هل تعني ان الحقيقة هي معرفة الواقع الموضوعي، وبما ان الواقع الموضوعي يتطور فالمعرفة لابد ان تتطور وفقه، لأنها أمينة في إرائتها.. فمثلا نحن نعلم الآن بأن الوقت نهار، وفي الليل لابد ان نعلم ـ ان كنا حقيقيين ـ ان الوقت الآن هو ليل. فالحقيقة تطورت حسب تطور الواقع.. وهذا أمر موغل في البساطة يعرفه الأطفال ولا داعي لذكره في كتاب فلسفي.

ب- أو انها تعني: ان الحقيقة تتكامل مع ذاتها. بمعنى ان البشر يستطيع بجمع معلوماته وتنسيقها كسب معلومات جديدة فمثلا: نحن نعلم بأن القمر في كبد السماء، ونعلم من جهة ثانية بأنه متى كان القمر في كبد السماء فإن ماء البحر في المد. فبجمع هاتين المعلومتين نتعرف على حقيقة ثالثة هي ان الآن يزامن مد البحر. هذا أمر واقع. بيد ان المعرفة لا تنمو بذاتها، بل لابد ان يسبقها التركيز والتمنهج. أرأيت مثلا: ان الإنسان يتمكن من العلم بنتيجة عملية حسابية بسيطة 157= مثلا بدون التمنهج والتركيز.

ان الحاجة إلى المنهجة والتركيز تحملنا على الاعتراف بدور العقل والإرادة في استنباط معلومات جديدة ورفض القول: بأن طبيعة المعلومات هي التصاعد والقفز وذلك بسبب التناقضات الداخلية التي فيها. والاسلام ذكّر الإنسان بإمكانية تنمية المعلومات بالعمل والتفكير (الإرادة والعقل) فجاء في الحديث: (إذا رمتم الانتفاع بالعلم فأعملوا به أو اكثروا الفكر في معانية تسعه القلوب). وقد جاء في الحديث أيضا: (الفكر مرآة صافية).

ج- واذا كانت تطور الحقيقة تعني ان 22=4 اليوم وأما غدا فإنها تنقلب إلى (5)، أو ان العلم بوجود اليونان في التاريخ سينقلب في يوم إلى العلم بعدمهم، دون أية مفاجآت علمية بل بصورة آلية داخل الذات، فإن هذا القول ليس سخيفا فقط، وانما أيضا لا نتصور ان أحدا قد تفوه به، أو زعم بإمكان الذهاب إليه.

ذلك لأن العلم شهود وكشف مباشر، والكشف والشهود ذاتيان له ولا يمكن للشيء ان يفقد ذاته. فلا يمكن ان ينقلب العلم الحقيقي الصادق إلى الجهل التام.

وإذا كانت الحركة تنخر في ذات العقل والعلم والفكرة والمذهب فإن نظرية (النسبية التطورية) نفسها عرضة للإنهيار لأنها تحتوي على شيء كبير من البطلان. ومن هنا فليس لنا الاعتماد عليها، وبالتالي فإنها تتهاوى أمامنا صريعة، مع ان قادة الماركسية يبالغون في صحتها وحتميتها وبقائها إلى الأبد!

الفكر الإسلامي مواجهة حضارية

البحث الثالث عن:

العالم بين الرؤية الإسلامية والتصورات البشرية

المدخل..

الديالكتيك فلسفة عامة

الإسلام وفلسفة النور

الفلسفة الميكانيكية

المدخل

تكوين مفهوم عام عن الكون أو في تعبير أفضل عن العالم (وهو كل حقيقة وراء الشعور)، ليس من اختصاصات العلم بمعناه الضيق بل هو موضوع الفلسفة بالمعنى الشامل.

فإذا سألت أي عالم فيزيائي أو كيميائي أو اجتماعي عن هذا العالم ما هو؟ لأخذ يحلل لك مواده ويشرح لك سننه وغرائزه.. ولكنك ترى هذه الأجوبة ضئيلة لا تكفي حاجتك الملحة إلى تفهم حقيقة العالم ككل وتكوين نظرة عامة عنه.

ان المفهوم العام، هي القيمة الأساسية التي تقوم عليها قائمة العلوم البشرية جميعا، وهي الركيزة الأولى التي تدور حولها النظم والقيم والنشاطات كلها، وهي الأطر الكبيرة التي تتحرك ضمنها جزئيات الكون، وهي الروح التي تعيش خلف العالم وتحركه انى شاءت. ولذلك فإن العلوم التي تبحث في بعض الجوانب الظاهرية من الكون لا يمكنها إعطاء مفهوم عام عن العالم. ان الإنسان بحث عن المفهوم العام قبل بحثه عن الخصائص الجزئية بكثير ولا يزال يبحث عنه رغم توسعه في حقول العلم جميعا. فتاريخ الأديان والفلسفات تسبق أبدا تاريخ العلوم وتحظى عبر جميع الأجيال بأكبر الاهتمام.

وظل الإنسان يبحث عن هذا المفهوم حتى اليوم، وغدا حتى الأبد. لأن في الإنسان نهم بالغ يدعوه إلى هذا البحث أشد من أي نهم آخر.

من هنا نرى في كل أمة نهضة فلسفية تعيد إلى الناس شعورهم بمفاهيم عامة مستقيمة، ثم تبتدئ مسيرتها العلمية. كذلك في اليونان، وكذلك في أرض الإسلام، وكذلك في أوروبا، سبقت كلمة الفلسفة منطلق العلم..

وتتلخص عناصر المفهوم العام عن العالم بضعة أسئلة يوجهها الإنسان إلى نفسه.

* ما هي الروح التي تدبر ظواهر العالم، أو بتعبير آخر: ما هو اله هذا الكون العميق الواسع؟

وما هي القيم الأساسية التي تعمل وفقها الحياة، أو بتعبير آخر: ما هي سنن الحياة العامة؟

وما هي نسبة الإنسان إلى الكون، أو بتعبير آخر: ما هو الدين القويم للإنسان؟

وتصدى لصياغة مفهوم عام عن العالم، الإنسان عبر الزمن. فلم يستطع التجنح فوق منطق الكثافة المادية القريبة.. وإبتعث الله رسله ليهدوا الناس إلى عالم الغيب، الذي يقيم عالم المادة ويدبره.

ومن هنا تنوع المفهوم العام إلى مفهوم مادي وآخر سماوي، والمفهوم المادي تشعب إلى ثلاث مدارس رئيسية:

1- المدرسة المثالية، التي لم تبصر سوى النفس البشرية، فرفضت الإعتراف بحقيقة ما وراء الشعور-وقد بحثنا حول هذا المفهوم في الفصل السابق لدى بحثنا عن قيمة المعرفة-.

2- المدرسة المادية العقلانية، وتدخل ضمنها المدرسة المادية الوضعية، والمادية الميكانيكية، وفلسفة أرسطو الثنائية، وما أشبهها.. وتجمع بينها فكرة العقل المدبر، الذي يسير الكون سواء كان العقل خارجا عنها أو داخلا فيها.

3- المدرسة المادية اللاعقلانية، وهي تنطوي على: المادية الديالكتيكية وبعض الفلسفات الرجعية التي تتوغل في عمق التاريخ السحيق.

4- المفهوم الإلهي هو الإسلام، الذي نزل به أنبياء الله أجمعين ـ صلوات الله عليهم ـ وأكملها النبي محمد (ص) وخلفاؤه المعصومون (ع).

ولنتحدث الآن عن هذه المدارس الأخيرة، ونحن نمهد لإستعراض العقائد الإسلامية، التي هي شرح وتبيين للمفهوم الإسلامي العام عن حقيقة الكون.

ونبدأ الحديث عن المادية اللاعقلانية (الديالكتيك) لنقترب شيئا فشيئا عن المفهوم الإسلامي.. ذلك ان المادية العقلانية تتوافق مع المفهوم الإسلامي في جانب كبير.

الديالكتيك فلسفة عامة..

إلى جانب المنهج الديالكتيكي الذي نقدناه في فصل سابق عند الحديث عن النسبية التطورية، إلى جانبه تستقر الفلسفة الديالكتيكية، وهي وليدة حتمية لنظرية النسبية التطورية التي تبنتها المادية الديالكتيكية.

وقد تبين سابقا مدى التناقض المنطوي عليه منهج النسبية التطورية، وبذلك ينهار بناء الفلسفة الديالكتيكية أيضا.

ومع ذلك فإنا نستعرض فيما يلي ملامح الديالكتيكية وما تعرضت لها من إنتقادات مباشرة تزعم الديالكتيكية الفلسفية:

1- ان كل شيء في حالة تغير دائم، وليس له سوى تاريخ مضى ومستقبل يأتي، تماما كالنهر الذي نراه واحدا ولكنه في حالة تبدل مستمر.

2- كل شيء يرتبط بكل شيء. فلا يمكن ان نفقه حقيقة الكون الا بصورة شاملة؛ أي من زاوية التفاعل المستمر بين أجزائه.

3- كل شيء يحتوي على نقيضه (؟!). فالبيضة تحتوي على الفروخة التي هي نقيضها، والفروخة بدورها تنطوي نقيضها وهي الدجاجة. وعليه ففي كل شيء قوتان متضادتان؛ واحدة تجره إلى البقاء، والثانية تدفعه إلى الامام.

4- وبفعل هذا التناقض الداخلي، يحدث إنقلاب مفاجئ في كل شيء، فالبيضة مثلا: تتفاعل فيها القوى المتضادة حتى إذا بلغت مرحلة (القفز) انفلقت عن الفروخة، وهذا الإنفلاق يحدث فيها بصورة مفاجئة. والماء يوضع على النار، فينشأ فيه تناقض داخلي، ينقلب به بصورة مفاجئة إلى البخار.

وقبل البدأ بنقد هذه النظرية لابد من عرض ملاحظتين:

1- ان هيجل كان أول فيلسوف وضع المنطق الديالكتيكي وفلسفته وقد هداه منطقه إلى الإيمان بالدين والدعوة الملحة إليه من جهة. ومن جهة أخرى إلى القول بالمثالية التي تعتبر الكون انعكاسا للروح وليس العكس. وقد تبنت الفلسفة الماركسية التي تعتقد انه لا وجود للروح وان كل شيء من الذهن ليس الا انعكاسا للمادة على النفس. وهنا لابد من التساؤل عن مدى قدرة هذه الفلسفة للبلوغ بنا إلى الحقيقة؟ فإذا كانت قدرة الفلسفة هذه كافية للكشف عن العالم، فقد كان هيجل مؤسسها أحرى بهذا الكشف. فكيف ذهب إلى المثالية؟ ام كيف تناقض معه تابعوه من أمثال ماركس وانجلز ومن أشبه؟ فإذا بهؤلاء ينكرون وجود أية قيمة في الحياة ويجمدون أنفسهم في حدود المادة الكثيفة. والواقع ان الفلسفة الديالكتيكية أثبتت فشلها منذ البدء، حيث أنكر مؤسسها وجود الواقع الموضوعي الذي لا ريب فيه، وأنكر تابعوه حقيقة القيم التي لا تردد في وجودها.

2- هل الفلسفة الديالكتيكية تعتبر نتيجة للتقدم العلمي الذي أحرزه الإنسان؟ هكذا تزعم أجهزة الإعلام الماركسية! ولكنه زعم ينطوي على الخلط بين الفلسفة والعلم. هذا الخلط الذي تتعمده الماركسية بصورة مستمرة مع أن موضوع العلم (بمفهومه الخاص الذي يعني كل ما هو خاضع للتجربة) يختلف عن موضوع الفلسفة الذي لا يخضع للتجربة. ولذلك فإن في فلاسفة القرن العشرين من ذهب إلى آراء فريق من فلاسفة القرن الرابع في الميلاد. ولذلك فإن أي ربط بين التقدم والفلسفة ينطوي على سذاجة بالغة في التفكير. أما بالنسبة إلى فلسفة هيجل الديالكتيكية فإن هيجل لم يكن له إلا دور المجدد لها وفيما يلي نثبت قائمة بأسماء أولئك الفلاسفة الذين سبقوا هيجل في آرائهم الديالكتيكية:

1- طالس (أو تالس) الملطي كان يعتقد بأصل التغيير في الكون، وقد عاش في حوالي (400ق.م) ومثله في هذا الإعتقاد الفيلسوف (انكسيمانوس).

2- هرقليط (500 ق.م) يمثل العالم بنهر جار ويرى العالم في تغير مستمر وان يرى كان سبب التغير الدائم التناقض الداخلي في الأشياء. وقد قال عنه لينين: (كلامه شرح وتعبير كامل لأصول المادية الديالكتيكية).

3- ديمقراطيس، وابيقور، ولوكرس (341 ق. م.) كانوا يعتقدون بأصل التغير في الكون.

وان وجود رجل واحد من هؤلاء يكفي لإنتزاع صفة التقدم عن الفلسفة الديالكتيكية، بل وطبعها بصبغة (الرجعية السحيقة). نقد النظرية الديالكتيكية

1- المبدأ الأول:

ماذا يعني التغير في الطبيعة؟ هل يعني ان المادة ذات المادة، والسنن التي تسيرها وتدبرها ذات السنن، وضمن هذه السنن سنة التطور في كل شيء؟!

ان هذا ليس فقط حقيقة واضحة، بل انها تكاملت في الفكر الإسلامي حتى أصبحت ركيزة البناء في صرح المعارف الإلهية، وسنبحث عنها مفصلا بإذن الله.

ام يعني ان كل شيء في الكون سائر نحو التغير، حتى القوانين الطبيعية والسنن الكونية والقيم العامة والمعرفة الصادقة؟

إذا كانت الماركسية تعني من التغير هذا المفهوم الشامل فإنها مخالفة لوجدان كل إنسان. إننا نعلم بوجودنا، وان ثلاثة في ثلاثة تساوي تسعة، وان الصدق حسن والعدل جميل والحق مرغوب فيه. ونعلم ان هذه حقائق لن تتغير.

ثم اننا لم نجرب التغير في السنن الكونية. فكل القوانين ثابتة يقوم على أساس ثبوتها صرح العلم العظيم.

ولا تسع الديالكتيك الا ان تعترف بثبوت القوانين الكونية إذ ان البنود الأربعة للديالكتيك ليست سوى قوانين تدعى المادية الديالكتيكية بأنها لن تتغير أبدا. وإذا سحبت فرضية التغير إلى عالم السنن انهار بناء المادية الديالكتيكية قبل كل بناء.

وعالم المعارف هي الأخرى، عالم ثابت موزون. وقد سبق القول منا في أن القول بتغير الحقيقة أشبه شيء بالقول بتغير الصورة التي تمثل لحظة معينة، وانه مغرق في السذاجة.

والقيم، كقيمة العدل والصدق الوفاء، هي الأخرى ثابتة، لوجدان كل بشر انها كذلك.. أترى يأتي حين من الدهر ينقلب العدل قبيحا عند العقلاء والكذب حسنا والغدر خلقا طيبا؟

إذا فالمبدأ الأول، صحيح إذا وضع في إطار الطبيعة التي تلاحظ فيها التطور، أما إذا سحب إلى عالم الغيب (الميتافيزيقيا) فإنه يعود هراء لا يمجه الذوق السليم والعقل الصائب فقط، بل ويلفظه حتى أولئك الذين تشدقوا به.

وسنبحث قريبا، ان شاء الله، عن مبدأ التغير وانه ركيزة الفكر الإسلامي، وستعرف هناك الكذبة الكبرى التي افتراها ستالين حين قال:

(ان الديالكتيك ـ خلافا للميتافيزيقية ـ لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار، بل يعتبرها حالة حركة وتغير دائمين، حالة تجدد وتطور لا ينقطعان. ففيهما دائما شيء يولد ويتطور وشيء ينحل ويضمحل. ولهذا تريد الطريقة الديالكتيكية ان لا يكتفي بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض، ومن حيث تكييف بعضها ببعض بصورة متقابلة، بل ان ينظر إليها أيضا من حيث حركتها من حيث تغيرها وتطورها من حيث ظهورها واختفائها).

وبعد، هل بإمكان (الدكتور) ستالين ان يقول لي: من هم أولئك (الميتافيزيقيون) الذي اعتبروا الطبيعة جامدة؟ بل سنعلم بإذن الله ان الديالكتيك هو الذي يمثل الجمود!!

2- المبدأ الثاني:

قاعدة التفاعل بين الأشياء سنّة في الخليقة معا. فكل شيء يقع في حلقة معينة من سلسلة الأسباب والحوادث.. وليس هناك من ينكر هذا الترابط. والاسلام يرى ان الكون كله آية من آيات الله العظيمة، وإسم من أسمائه الحسنى. فكل شيء يرتبط بكل شيء في ذات الخلقة وفي أصل الوجود.

ولكن من حقنا ان نسأل، هو يمكن للديالكتيك ان تؤمن بمبدأ الترابط العام؟! من اجل معرفة جواب ذلك، لا بد ان نعرف معنى الترابط والسبب الذي يدعونا إلى الإيمان به.

لا يعني الترابط، التلاصق والأصطفاف في مسيرة الوجود الصاعدة، بل يعني التأثير والإيجاد والتحول.

والذي يحملنا على الإعتقاد بالتأثير المتقابل في الأشياء هو العلم بأنه يجب ان تحدث الأمور بواحدة من ثلاث فرضيات:

1- بسبب خارج ذاته.

2- بالصدفة.

3-بالتفاعل الذاتي.

وبناء على الفرضية الأولى، لا بد لكل فعل يوجد من سبب خارجه..

وعليه فلا بد من وجود الترابط والتفاعل بين أجزاء الكون ليكون بعضها لبعض سببا وعلة مغيرة.

ولكن الفرضية الثانية (الصدفة) والثالثة (التفاعل الذاتي) تمنع البحث عن سبب خارجي. فمثلا: لو رأينا انفلاق البيضة عن الدجاجة ذهبنا ـ نحن الإسلاميين ـ نبحث عن سبب خارج البيضة، وهي الحرارة المعينة التي سببت انفلاق البيضة، ثم نبحث عن سبب للحرارة وهو توليد طاقة الكهرباء، ونبحث عن سبب للتوليد. وهكذا نستمر في التدرج مع الأسباب وأسباب الأسباب إلى ان يحدث التفاعل بين أجزاء الكون. ولكن القائل بالصدفة يريح نفسه منذ البداية ويقول لسنا بحاجة إلى البحث عن سبب الانفلاق. وكذلك الديالكتيكي الذي يربط الانفلاق بالتناقض الداخلي ينهي الأمر أيضا، ولهذا يجمد العلاقات بين الأشياء بصورة نهائية!

والواقع ان هيجل كان يقصد بمبدأ التفاعل حقيقة أخرى سنتطرق اليها في المبدأ الثالث. أما الماركسيون فإنهم استغلوا هذا المبدأ لسحق الفرد بين فكي رحى المجتمع. فقال قائلهم (اميل برنز) بعد استعراض هذا المبدأ قال:

(وقد يبدو هذا الترابط بين الأشياء بديهيا إلى درجة يظهر معها أي سبب لالفات النظر إليه عبثا ولكن الحقيقة هي: ان الناس لا يدركون الترابط بين الأشياء دائما، ولا يدركون ان ما هو حقيقي في ظروف معينة قد لا يكون حقيقيا في ظروف أخرى.. وخير مثل يمكن ان يضرب في هذا الصدد هو وجهة النظر حول حرية الكلام. ان حرية الكلام بصورة عامة تحرم الديموقراطية وتقيد إرادة الشعب في التعبير عن نفسها ولذلك فهي غير مفيدة مطلقا لتطور المجتمع إذ انها توقف تطور المجتمع..).

وهكذا استغل الماركسيون هذا المبدأ بعد ان حرفوه، استغلوه في سبيل سحق حرية الفرد وجعله أداة في الجهاز الحكومي الذي يمثل المجتمع.

وبعد هذا، فهل من الإنصاف ان ينعت الماركسية الفكر الميتافيزيقي بأنه (يعتبر الطبيعة تراكما عرضيا للأشياء أو حوادث بعضها منفصل عن بعض أو أحدها منعزل مستقل عن الآخر) كما قال ستالين، ام انه مجرد افتراء وخيانة لأمانة العلم؟

3- المبدأ الثالث:

مبدأ التفاعل الذاتي الذي ينشأ من وجود تناقض داخلي في الاشياء بدفعها إلى التحول نحو الأعلى بصور مستمرة. وينبغي توضيح عدة نقاط، لمعرفة حقيقة هذا المبدأ:

1- تحدثنا سابقا عن اختلاف معنى (التناقض) الأدبي عن معناه الفلسفي وان الديالكتيك تستعمل اللفظ في مفهومه العام الذي يعبر عن مطلق التقابل حسبما يظهر من أمثلة فلاسفة الديالكتيك.

2- كيف تنشأ الحركة؟ الجواب بسيط: خذ قضيبا ودحرج به حجرا تحدث حركة. ولكن لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يبقى السؤال: لماذا حين اصطدم القضيب بالحجر حركه؟ يقول الفيلسوف الميتافيزيقي: ان السبب هو التناقض. إذ ان القضيب احتل مكان الحجر فلم يكن للحجر الا الفرار، إذ انه استحال ان يجتمع ضدان في موقع واحد. وحين نمعن النظر نرى ان كل حركة انما تحدث بهذا السبب. فالحركة في البيضة تبدأ بنمو أجزائها، وحين تكبر تضيق البيضة بها فتنفلق.

وهنا نضع أيدينا على رمز عظيم، هو ان كل حركة تحدث بسبب وجود تناقض ولكن لا بسبب اجتماع نقيضين. وجود تناقض بين المحرك والمتحرك، لا يمكن ان يجتمعا في مكان فيدفع الأقوى الأضعف إلى الخارج. ولكن لا يعني هذا اجتماع نقيضين أي احتواء المكان الواحد للمحرك والمتحرك في مكان وزمان معينين. وبتعبير آخر: هذا تناقض خارجي أي وجود شيئين في مكان كل منهما يقتضي أمرا مختلفا عن الآخر. فإذا حاول التجمع في مكان حدث التناقض، أي حدث تحكم مبدأ امتناع وجود المتناقضين في مكان فحدثت حركة من هذا الأمر. وهذا أمر متفق عليه من قبل الديالكتيك والميتافيزيقيا، وهو دليل على ان اللفظ فقط كان الحاجز بين الفلسفتين.

3- ومبدأ عدم التناقض الذي تبناه الفلاسفة الشكليون يشترط ان يكون الإثبات والنفي في شيء واحد ووقت واحد وحالة واحدة..

ومن الطبيعي بعد هذا الا يبقى في الدنيا عاقل يصحح اجتماع النقيضين ويقول: ان المثلث في الوقت الذي له ثلاثة أضلاع فله أيضا أربعة أضلاع، وان أمة اليونان في الوقت الذي كانت موجودة في التاريخ كانت أيضا معدومة، وان الإسلام حق كله وباطل كله في لحظة ومن جهة واحدة، وهكذا.. ومن هنا نعلم انه ليس من التناقض في شيء، تعارض أجزاء الكون وتنازع أحياءه على البقاء.. فالفعل ورد الفعل في الميكانيك ليس بتناقض لأن زمان الفعل شيء. يختلف عن زمان رد الفعل. صحيح (ان لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الإتجاه) ولكن ليس من الصحيح ان هذا تناقض، إذ ان الفعل يسبق رد الفعل فلا يجتمعان في الزمان. ولأن الفعل يعاكس رد الفعل في الإتجاه فليسا في مكان واحد.. بل كما سبق لو كان التناقض ممكنا لما كان لكل فعل رد فعل إذ انهما إذا جمدا في مكانهما.. وكذلك الخط السالب والموجب في الكهرباء ليسا متناقضين لأنهما أولا يشغلان خطين مختلفين ومكانين فلا اجتماع في المكان. ولأنهما ـ ثانيا ـ يتحولان إلى الحركة لدى اجتماعهما ولا تتولد الحركة إلى دفعه، ولا يمكن ان تحدث الدفعة إلى الأمام لو لم يضق المكان بهما. وهذا دليل على عدم امكان اجتماع المتناقضين إذ لو أمكن لما تصارعت القوتان على المكان وأحدثتا الحركة، بل كانتا تعيشان جنبا إلى جنب في سلام. هذا من جهة ومن جهة ثانية كل شيء الآن شيء، وفي المستقبل قد يتحول إلى شيء آخر، ولا يتحول الا بعد إمكان هذا التحول. فمثلا: الطفل الآن بشر صغير، وهو في المستقبل إنسان كبير، ولا يصبح إنسانا كبيرا الا بعد وجود إمكانية ذلك له. ومن هنا فليس من الممكن ان تتحول البعوضة إلى حجم الفيلة لأنها تفقد إمكانية ذلك.

ويعبر عن هذه الحقيقة بلفظي (الفعل) و(القوة)[5]. بالفعل ذو حجم معين وبالقوة في حجم مختلف.. والأمثال على ذلك كثيرة فكل حركة في العالم تعني التحول من الواقع فعلا إلى ممكن مستقبلا.

وكل جسم حي يسير عبر التحول من الحياة الساذجة إلى الحياة التامة ومنها تتحول إلى الموت والسكون، وكذلك الإنسان يتحول من الواقع إلى المستقبل، من الفعل إلى القوة. فهو لا يعلم شيئاً بالفعل ولكنه يملك إمكانية التعلم وقوته.

بعد توضيح هذه النقاط نعرف حقيقة مبدأ التناقض، فهو عند الفلسفة الغيبية (الميتافيزيقيا) يختلف عنه في الفلسفة الديالكتيكية. فالأولى تشترط لموضوعه (مبدأ عدم التناقض) الوحدة الزمنية والمكانية والفعلية. فلو وجد شيئان مختلفان في زمانين أو في زمان ومكان، ولكن وجد الأول بالفعل والثاني بالقوة (الوجود حالا وإمكانية الوجود مستقبلا) فهو ممكن والفلسفة الغيبية ترى ان الحركة تنشأ بهذا السبب. فالتناقض الموجود بين شيئين في مكانين أو زمانين أو حالتين يكون سببا لدفع أحدهما للآخر إلى الخارج، والحياة كلها التحرك من المتحقق فعلا إلى الممكن مستقبلا.

أما الفلسفة الديالكتيكية فترى ان التناقض ممكن بين شيئين في مكانين متقاربين(مثل السالب والموجب في السلكين المتقاربين) أو في زمانين متقاربين (مثل البيضة والفروخة المتعاقبين، ومثل الهزيمة والإنتصار المتقاربين زمنيا) أو بين شيء موجود فعلا وإمكانية ان يكون شيئا آخر في المستقبل (مثل الجهل فالعلم في الإنسان).

وترى الفلسفة الديالكتيكية ان التناقض هو سبب الحركة، عين ما تراه الفلسفة الغيبية كما سبقت، بيد ان اللغة تختلف. فالديالكتيكية تركز على الجانب الإيجابي منه وتقول: وجود تناقض بين شيئين (يعني في مكانين أو زمانين إذا حاولا الإقتراب من بعضهما) هو السبب الوحيد للحركة.

والفلسفة الغيبية تركز على ذات النقطة (أي امتناع اجتماع نقيضين مختلفين أي في شيء واحد في مكان واحد وحالة واحدة) وتقول انه هو الذي يسبب الحركة.

ولا ينكر صاحب الديالكتيك هذه الحقيقة ولا يمكنه ان ينكرها إذ لو أنكر امتناع اجتماع نقيضين في شيء واحد ومكان واحد، إذا لما حدثت الحركة، بل جمدت الحياة إذ تعيش أجزائها المتناقضة في تحابب وتواد.

وهنا ينبغي الالتفات إلى نقطة وهي ان الديالكتيكية غيرت لفظة العلة إلى لفظة التناقض، فبدلا من ان تقول: ان المواد الغذائية تسبب نمو الجسم وان الحركة تسبب صرف المواد في الجسم تستعمل لفظة التناقض فتقول: تحليل المواد يتناقض مع النمو، ونحن في الفلسفة لا نبحث عن قائمة المصطلحات بل نبحث عن الحقيقة، وهي تقول لنا ان كل حركة تحدث بسبب تلاقي شيئين مختلفين في مكان واحد ووقت واحد. وهذا يدعونا إلى الاعتراف بوجود سبب للحركة، ووجود سبب لسببها، لأن التلاقي لا يحدث الا بسبب آخر، وذلك السبب بدوره نتيجة لسبب آخر، وهكذا..

وبهذا نعرف انه لا يمكن للمادية الديالكتيكية ان تفسر حقيقة الحركة في الكون بمبدأ التناقض إذ انه لا يعدو ان يبين لنا لماذا يتحرك الشيء بعد تلاقيه بنقيضه، ولكن لا يقول لنا لماذا يتلاقى الشيء بنقيضه.

فالمبدأ الديالكتيكي يفسر لنا حقيقة العلية الموجودة بين الأشياء، ولا يمكنه ان يفسر وجود العلة ويكون أشبه بشيء بذلك الذي يسأل عن سبب الخسوف فيجيب بأنه يسبب الظلام في ليلة قمراء. أو يسأل عن سبب حركة السيارة، فيجيب عن وجود تناقض بين دفعة المحرك للإطار ودفعة الأرض للإطار إلى أعلى حسب مبدأ ان لكل فعل رد فعل يساويه في القوة يعاكسه في الاتجاه.

ان مبدأ الفعل ورد الفعل لا يفسر لنا الا نوعية تسبب الضغط للحركة، دون سبب الضغط وهو وجود المحرك. وليتني كنت أطلع على الجامعات العلمية في البلاد التي تتبنى الفلسفة الديالكتيكية لأعرف ما إذا كانت تكتفي بذكر نوعية التسبب ام تتجاوز ذلك إلى معرفة (السبب). فحين تريد ان تدفع عجلة ألا تفكر في وسيلة لهذا الدفع بل تكتفي بمعرفة حقيقة الدفع. في الواقع؛ لا نظن بأحد يمكنه ان ينكر حاجة كل شيء إلى سبب، أو يشك في أن مبدأ التناقض لا يشبع هذه الحاجة بل يفسرها فقط.

وبعيدا عن حقل الفلسفة يستغل بعض الأحزاب السياسية، مبدأ التناقض لشن حملات دعائية مستمرة ضد وجود البارئ للخليقة ووجود قيم ثابتة للحياة.

والحقيقة ان هذه الحملات أعطت الفلسفة الديالكتيكية أبعادا خطيرة لأنها زعزعت ثقة الإنسان بفكره وحضارته ومستقبله، وجعلته طعمة سائغة لجوعة الشهوات الطائشة وخلقت له جوا متوترا لا تهدأ ثائرته. ويذكرنا هذا الواقع بالوضع الخطير في نهاية أيام اليونان إذ سادت بينهم السفسطة والجدل واستغلت الفلسفة أبشع استغلال.

4- المبدأ الرابع: قفزات التطور.

ماذا تعني قفزات التطور بصورة دقيقة؟ لمعرفة ذلك نرجع إلى نص ننقله عن ستالين يقول فيه:

(ان الديالكتيك خلافا للميتافيزيقية لا تعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة لا تؤدي التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية، بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغيرات كمية ضئيلة وخفية إلى تغيرات ظاهرة وأساسية أي إلى تغيرات كيفية، وهذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية وتحدث بقفزات).

في ظلال هذا النص نتساءل: ما هو واقع المفاجأة، هل معناها اننا لم نعرفها أو لم نتنبأ بها قبل وقوعها أو لم نفهم سببها قبل ذلك حسبما يركز عليه النص بكلمتي الظاهرة والبارزة؟ إذا كان هذا معنى المفاجأة اتفقنا ولم نختلف فيها إذ كثيرا ما نرى ان الماء يغلي ويغلي وفجأة يتبخر. فنحن قبل ان نكتشف انه حين تصل حرارة الماء إلى مئة درجة يتبخر لم نكن نتنبأ فعلا بإنقلاب الماء بخارا ولم نعرف سببه.

ام ان معناها انها تقع صدفة وبدون سبب، حسب ما يظهر من بعض إيحاءات النص أيضا فإنه باطل ينشز عنه العقل والعلم. وحين نرى تبخر الماء يهدينا العقل إلى وجود سبب ما لهذا التبخر وان كنا نجهله تماما. كيف انقلبت المادة الميتة إلى خلية حية؟ اننا حتى اللحظة نجهل السبب، ولكن لا يعني هذا وقوع الأمر بدون سبب.

أم يعني ان القفزة تعتبر تطورا أساسيا؛ أي ان المادة تنقلب إلى حقيقة أخرى لها ميزات مختلفة عن الحقيقة السابقة، فهذا أيضا صحيح. فللبخار مثلا خواص مختلفة عن الماء الذي يغلي، إذ ان امتداد البخار كاف لرفعه عن الأرض وإمتداد الماء المغلي يكفي لذلك.

والماركسية استغلت هذه المبدأ بعد ان فسرته تفسيرا بعيدا عن العقل والعلم، استغلته لاثبات بعض أمور:

1- ان قفزات التطور تكون بصورة ديالكتيكية نابعة من تناقضات داخلية في الشيء!!

ولكن سبق ان مبدأ التناقض الداخلي في الفلسفة الديالكتيكية لا ينافي وجود أسباب خارجية، بل انه لا يعدو ان يكون تفسيرا لحقيقة التسبب لا إغناء عن وجود سبب.

كما ان تطور الماء إلى بخار لم يكن دون سبب خارجي وهي الحرارة التي سخنت الماء.

2- ان الحركات الاجتماعية تحتوي على قفزات طبيعية صاعدة يتطور المجتمع خللها من الاقطاع فالرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية. لأن المجتمع محكوم بقوانين الطبيعة تماما، بيد انه سيعلم لدى الحديث عن المجتمع سيعلم ان شاء الله عقم هذه النظرية التي تفسر المجتمع الإنساني بالتفسيرات المادية التي تحكمها قوانين الطبيعة العمياء.

ومضافا إلى ذلك نقول: ان التطورات الاجتماعية لن تتحقق دون عوامل معينة، وان الإنسان أوتي قدرة التحكم على تلك العوامل بقدر ما يتمكن من التحكم على الأسباب الطبيعية.

ثم ان التطورات الاجتماعية لن تكون صاعدة أبدا، بل قد تنتكس كما ينتكس خط الطبيعة. فالماء لا يتبدل إلى بخار دائما بل قد يتحول البخار إلى مطر غزير.

من هنا نعرف ان القواعد الأربعة للفلسفة الديالكتيكية لا تثبت أما النقد الإيجابي الا إذا فسرت تفسيرات مناسبة. الفلسفة الميكانيكية

تتلخص فلسفة المادية الميكانيكية في عبارة ديكارت: ان الكون مكينة كبيرة.. تفسيراً لهذه العبارة يجب ان نثبت عدة نقاط:

1- ان الميكانيكية ترى ضرورة سبب خارجي لأية حادثة، بل ان طبيعة هذه الفلسفة تقتضي وجود علة خارجية لكل أمر حادث، ولكل حركة هادئة، ولهذا تختلف الفلسفة الميكانيكية عن الفلسفة الديالكتيكية ـ بصياغتها الماركسية الأخيرة ـ في ان الميكانكي يعيد كل صيرورة إلى سبب خارج الذات، والديالكتيك يرجعها إلى داخل الذات.

وقد سبق القول في ان الديالكتيك لا تستطيع بل لا تريد في صياغتها الصحيحة نسف مبدأ السبب الخارجي، لأنه مبدأ فطري يؤمن به كل بشر حتى أولئك المنكرين يقيمون حياتهم العملية والعلمية على أساس هذا المبدأ.

2- ولا تنكر الميكانيكية طبيعة التغير المستمر في مواد الكون.

3- ولا تنكر أيضا وجود تفاعل كامل بين أجزاء الكون، بل هذا المبدأ ركزية الميكانيكية حسبما يأتي إنشاء الله. لا تنكر كل ذلك كما اتهمته به بعض الفلسفات.

4- ولا تنكر الميكانيكية وجود تناقض ظاهر أو خفي بين عوامل الكون، ولكن تفسر التناقض حسب ما سبق في توضيح الديالكتيكية؛ تفسره بمعنى التقابل، وهو ان كل شيء لا يمكنه ان يستقر في مكانه مع شيء آخر يتحول إلى وضع جديد. فالعصا الذي يضرب بها الفلاح الحجر لا يمكنها ان تجتمع مع الحجر في موقع واحد، فيتحرك الحجر ليعطي مكانه للعصا. ولو انعمنا النظر في التفاعلات الكيمياوية لأية خلية وجدنا فيها هذه الحقيقة أيضا، فالمواد الداخلة تدفع بالمواد المتبقية لإفساح المجال لها ولولا التناقض لإستقرتا بأمان!

5- والنقطة الوحيدة التي نريد ان نركز عليها من الفلسفة الميكانيكية ـ والتي تعتبر جوهر الفلسفة فيما يرتبط بالثقافة البشرية ـ يكمن في ان الحركة إذا وجدت دامت. وسنبين قريبا بإذن الله، علاقة هذه الفكرة بالثقافة، أما الآن فينبغي ان نعرف معنى هذه الفكرة وحجتها.

معنى هذا المبدأ، ان للكون خالقا قديرا أوجده وفصله أجزاء، ودبره بقوانين دقيقة ومتوازنة، والتي منها قوانين التفاعل المتبادل الذي يقضي بأن تكون مادة الكون خاضعة لعدة نظم دقيقة تنقل الطاقة من جزء إلى جزء ثم تعيدها إلى ذلك الجزء، وهكذا تتحرك في عمليات دورية مستمرة.

ومثل ظاهر لذلك، دورة المياه التي تتبخر من البحار بفعل الحرارة، وتتحول إلى أمطار، ثم تنتقل إلى أنهار، ثم وأخيرا تسيل راجعة إلى البحار، وهكذا.. وشبه أحد الفلاسفة الميكانيك، الكون بساعة آلية الحركة، صنعها القدير وجعلها هكذا تتحرك.

واحتج هؤلاء لذلك بأمرين:

أ- ففي حقل الوجود خلق الله مادة الكون فلا زالت مستمرة موجودة إلى الأبد. وقالوا: ان تلك القوة التي حولت العدم إلى وجود في عملية مهولة، جعلت منه حقيقة مستمرة لم نجد فيها حاجة إلى خلق مستمر.

وظواهر الكون تكشف لنا بوضوح عن ذلك، فالبناء الفخم يشيده البناؤون ثم يدعونه ويبقى. والسيارة الضخمة يبدعها صانعوها وتبقى مستمرة، وهكذا غيرها.. وهذا دليل على استمرارية وجود الأشياء.

ب- وفي حقل الحركة التي تحكم مسيرة الوجود، قالت الميكانيكية: ان الأجسام الساكنة والمتحركة تبقى على وضعها إلى ان تؤثر عليها قوة خارجية. والدليل على ذلك اننا نرى بقاء حركة إطار السيارة الفارغ على أرض مستوية، بقاء حركته بعد الدفع بضعة لحظات. ولدى تقليل وزن الإطار وإستواء الأرض وتخفيف الضغط الخارجي أكثر فأكثر يتحرك الإطار مدة أطول. وربما نستطيع ان نحصل على حركة لا تنتهي في الإطار بتهيئة كل الوسائل المساعدة للحركة وإزالة كل العوائق والضغوط المؤثرة فيها.

وتمت هذه الفكرة الفلسفية بعلاقة وثيقة مع تاريخ الفلسفة الأوروبية وليس من قبيل الصدفة ان نرى تقمص الحضارة الأوروبية لهذه الروح الميكانيكية وابعادها عن نفسها أية فكرة فلسفية أخرى.

وفيما يلي تطبيق نظريتين في هذا المجال:

1- من واقع أوروبا الحديثة حيث طلع نيوتن على الحضارة بفكرة تثبت ان الكون مرتبط بقوانين ثابتة، تتحرك في نطاقها الاجرام السماوية، ثم جاء بعده آخرون فاعطوا هذه الفكرة مجالا علميا أوسع حتى قيل ان كل ما يحدث في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه (قانون الطبيعة) فلم يبق للعلماء ما يقولون بعد هذا الكشف غير ان الإله كان هو المحرك الأول لهذا الكون. وضرب واليث مثلا في هذا الصدد: (ان الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها ثم تنقطع صلته بها). ثم جاء هيوم فتخلص من هذا الإله الميت وعلى حد قوله: (لقد رأينا الساعات وهي تصنع في المصانع ولكننا لم نر الكون وهو يصنع فكيف نسلم بأن له صانعا؟!.. هذه روح أوروبا الحديثة.

2- وأما أوروبا القديمة حيث افلاطون وارسطو وافلوطين، فانهم لا ينقصون قولا من أوروبا الحديثة. الوجود في مذهب افلاطون طبقتان متقابلتان، طبقة العقل المطلق، وطبقة المادة الأولية. والقدرة كلها من العقل المطلق والعجز كله من الهيولي وبين ذلك كائنات على درجات).

ان الوجود هنا تعبير عن كلمة المادة ـ التي عبر بها الفلسفة الحديثة ـ والعقل هو النظام الموجود فيها.

ويقول ارسطو: (فلابد لهذه المتحركات من محرك ولابد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه، وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته أو محرك لا يتحرك لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية).

ولكن لا يعني ان يكون المحرك الأول دائما في تحريكه، بل قد يكون قد حرك الشيء ورفع يده عنه، بل هذا هو الواقع. إذ ان هذا المحرك سابق للعالم في وجوده سبق العلة لا سبق الزمان كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني.

وقد أفرط ارسطو، حتى قال: (ان الله جل وعلا لا يعلم الموجودات لأنها اقل من أن يعلمها وانما يعقل الله أفضل المعقولات وليس أفضل من ذاته فهو يعقل ذاته وهو العاقل والعقل والمعقول وذلك أفضل ما يكون).

ويغلو افلاطون أحيانا فيقول: (ان الله لا يشعر بذاته لأنه لا يميز ذاته من ذاته فيعرفها، ولكنه لصفاء وجوده يتنزه عن ذلك التمييز ويتنزه عن ذلك الشعور).

ان هذه الأفكار تصور الله سبحانه تصويراً سلبيا مطلقا، وتعتبر الوجود وما فيه من الحركة يجري بعيدا عن إرادة الله سبحانه، وعن علمه وقدرته. ولقد صور القرآن الكريم فلسفة هؤلاء، بالقول: [وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قاوال بل يداه مبسوطتان] (المائدة/64).

وفي فلاسفة المسلمين من اتبع افلوطين وعزل الحي القيوم عن مجال الكون ورأى ان الوجود حقيقة ثابتة والحركة جزء من طبيعته، وان هذه الحركة تسير قدما إلى أعلى بصورة ذاتية جوهرية.

ومن نتائج هذه الفكرة عزل المبدأ عن الإلوهية والهيمنة على الكون، وعزله عن التشريع للإنسان لانه ليس بقادر سبحانه ولا عالم بطبيعة ما خلق، تعالى الله عما يصفون!!

والمعجزة خرافة، والوحي ايحاء نفسي، والمعاد ليس كما تصفه ديانات السماء، وانما الرسل مصلحون.

والدعاء والإنابة والمناجاة المباشرة بين الإنسان وربه ضرب من الرجعية المنبوذة.. إلى آخر ما نجده لدى فلاسفة الاغريق ومن اتبعهم وفلاسفة أوروبا ومن قلدهم من آراء تابعة لهذه الفلسفة! نقد النظرية الميكانيكية

ونقد النظرية الميكانيكية، أو بتعبير أدق نقد نظرية (العزل) عزل الله عن الخلق، التي تكون جوهر الفلسفات الحديثة والقديمة.. ان نقدها لا يتطلب جهدا فكريا، بقدر ما يتطلب وجدانا سليما ووعيا شاملا. فليس من المعقول لمن اعتقد بالله انه أبدع هذا الكون العظيم وكان قادرا عليما، ان يحسب انه تجدد له العجز والجهل سبحانه. ان الله لم يخلق الخلق الا لتمام قدرته عليه وعلمه به، فكيف فقدهما بعد ما خلقه؟!

واذا كانت الحركة بسبب، فإن الحركة انما هي بقدر الدفع لها وذلك ليس لإننا نجد ذلك في كل ما نلامسه فقط بل لأن من الطبيعي ان الشيء انما يسكن بسبب وجود عجز ذاتي فيه عن الحركة ولو كان قادرا عليها لتحرك. وبمقدار ما ينقص هذا العجز بالدفع توجد الحركة.


/ 15