فکر الإسلامی مواجهة حضاریة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فکر الإسلامی مواجهة حضاریة - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



وهذا الشرط الثاني الذي يوفره العقل للحس حتى يكون موضوعيا. وقد أوحت إلى هذا الأمر آية قرآنية كريمة حين قالت: [ولا تقف ما ليس لك به علم. ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا] (الأسراء/36).. والملاحظ في هذه الآية ربط الإحساس بالمسؤولية التامة، لكي لا يتسارع الإنسان في الحكم دون تثبت كامل وإحاطة تامة بمحتملاته ولقد عبرت الآية بكلمة "تقف" الدالة على ان البشر يجب ان يقسم الأمور أمامه إلى خطوات، فلا يخطو خطوة إلى الأمام الا إذا قاده العلم الذي لا ريب فيه إليها، ولا يكون متسرعا فيعترف كليا أو يرفض كليا!!

3- اننا بسرعة نكوّن مفهوما خاصا وواحدا عن التفاحة، مع ان العملية بحاجة إلى معارف عقلية مسبقة تجمع شتات الأحاسيس وتقول لنا: ان الرؤية التي نقلت إلينا حجم التفاحة ولونها، وان اللمس الذي عرفنا وزنها وملاستها، وان الذوق أو الشم الذي عرفنا الطعم والرائحة.. كل هذه الأحاسيس انما هي تعبير عن شيء واحد هي (التفاحة).

ان هذه الوحدة النظرية لم نستطع الحصول عليها بدون وجود العقل الذي لم يكشف لنا عن وحدة السبب فحسب، بل وأيضا كشف عن ان كل عرض (اللون، الطعم، الرائحة و.. و..) لا يطرأ الا على شيء ما (هو الذات). وان لذات الشيء علاقة بعرضه وبالتالي يكشف لنا عن حقيقة التفاحة.

ان التفاحة ليست ـ لدى علمنا ـ مجموعة صور من الأحاسيس المتفرقة كما شاءت بعض الفلسفات الحسية ان تتصورها، بل هي حقيقة واحدة متكاملة، ذات خصائص متصورة. ومعرفتنا بهذه الوحدة انما هي بسبب نوع من المقارنة الإيجابية تكشف عن وحدة الأحاسيس.

هذه بعض الشروط التمهيدية للتجربة الحسية يوفرها العقل. المقارنة وسيلة العقل

والى جانب هذه الشروط لدينا معارف عقلية ـ تقوم بمقارنات ـ نكشف بها خطأ بعض أحاسيسنا، وهي كالتالية:

أ- المصاب بالدوار لا يشك في ان حسه هو مبعث الإحساس بحركة العالم. وذلك لدى مقارنة حسه بحس الآخرين. إذ ان لدى كل منا حكما عقليا لا نرتاب فيه، يتلخص في: ان الواقع يجب ان يحس به كل أحد. فما دام الآخرون لا يحسون به، نكتشف ان الذي يحس به وحده لابد ان يكون خاطئا. وهكذا كل إحساس خاطئ ينكشف زيغه فور مقارنته بإحساس الآخرين، أو بإحساس الرجل ذاته في سائر الأوقات..

ب- وقد تصاب العين بالمرض فترى الأشياء مقلوبة، ولكن اليد تكشف زيف الإحساس، حين تلمس الأشياء لتجدها سالمة. وهكذا يحكم العقل بين الأحاسيس المختلفة بمقارنتها ببعضها.

ج- وقد تبصر العين رجلا قزما فلا يتردد العقل من الحكم بأنه طويل القامة، لأنه يقارن المسافة بينه وبين الرجل، فيقول: إذا كانت الرؤية من بعد ميل تظهر الشخص بهذا الطول ـ نصف متر ـ فلابد انه إذا اقترب يظهر ذو طول قد يتجاوز المترين. وهكذا يقدر العقل المسافة في العين والأذن وسائر الأعضاء، بل هكذا يقدر سائر القوانين الفيزيائية كوزن الشيء في الماء. فإن الأساس البسيط يزعم انه خفيف مثل ما يتصور، الا ان العقل سرعان ما يحكم بخلاف ذلك.

د- مقارنة سائر العوارض الداخلية، فقد تشعر جميع أعضاء الجسم بالبرودة أو بالحرارة الشديدة، ولكن العقل لا يتردد في ان ذلك احساس باطل لانه يتقارن مع عوارض المرض، مما يدل على زيف الإحساس. وهكذا في كل مرض، كفقدان التوازن والذوق والشم و.. و..

وتتشابه الأخطاء الحسية الناجمة من العقاقير المخدرة كالأفيون والهرويين و.. و.. بالأخطاء المرضية التي لا يلبث العقل حتى يفضحها.

وهناك عدة أنواع أخرى من المقارنة، لا نذكرها لأنها متشابهة ومعروفة ويقوم كل واحد منا بتجربتها يوميا وبصورة عفوية، الا انه ينبغي ان نبين هنا حقيقة المقارنة ونقول:

ان كل مقارنة تنطوي على مجموعة من الأحكام العقلية التي لم نعد نلتفت اليها لسرعة تحققها وشدة وضوحها. فمثلا: ان المقارنة بين ما نحس به وأحاسيس الآخرين، انها تنطوي على الحكم الواضح الذي لا نرتاب فيه. وهو ان ما أحس به ان كان هو الواقع وجب الا يختلف فيه حس الآخرين لانهما من طبيعة واحدة، وتكشفان عن حقيقة واحدة. فلابد ان يكون الاختلاف بسبب آخر هو المرض والخطأ وما أشبه. ودون العقل من أين نعرف ان الحقيقة واحدة، أو ان الحقيقة الواحدة لا تبث الا لونا واحدا من الإحساس عندي وعند الآخرين، أو ان للإختلاف سببا خارجيا. فلماذا لا يكون الشيء بلا سبب؟

وبهذا كله نقتدر على فضح المغالطة الكبيرة التي استند إليها النسبيون حين قالوا: ان الإحساس يتأثر بالظروف الفيزيولوجية فلهذا لا تعكس الا ذاتها. ونحن نعترف انها تتأثر حينا، ولكن لا يحملنا هذا التأثر إلى التشكيك في نتائجه كل مرة. إذ ان العقل سيحكم بما إذا كان الحس متأثرا بعوامل خارجية ام بعوامل داخلية فيزيولوجية. تمحيص النتائج

ثم يقوم العقل بدوره الثاني في توجيه الإحساس وهو تمحيص النتائج. وتختلف النفوس في مواهبهم العقلية، من هذه الناحية. ولذلك فإن قليلا من الناس فقط يتمكنون من الإستنتاجات الصائبة من تجارب متشابهة. وهذا الدور معقد، ولذلك فلا يمكننا الا التنبيه بالقواعد العامة، التي تفيدنا في هذا المجال:

1- الإحساس في محك السابقيات العقلية

حينما ترى العين أجنحة المروحة وهي تدور تزعم العين بادئ النظر انها: (صحن مدور) ولكن العقل يقوم بتخطئة هذه النتيجة، ويقول: ان الصحن لا يحرك الهواء. وهذا المثال البسيط يدل على ان الإحساس يقارن بالأحكام العقلية المسبقة. فمثلا لدينا حكم عقلي جازم هو: ان الحدث لابد وان يأتي بعد سبب مناسب، ولذلك فإن الأحداث الواحدة ذات أسباب متشابهة. ومن هنا فنحن لا نرتاب في قانون التجاذب، لانه حصيلة تجاربنا المحسوسة مضافة إلى أحكامنا العقلية. (اننا نرى ان الطير عندما يموت يقع على الأرض، ونعرف ان رفع الحجر على الظهر أصعب من رفع القطن ويتطلب جهدا. ونلاحظ ان القمر يدور في الفلك، ونعلم ان الصعود في الجبل أشق من النزول منه. ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى ظاهرا، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية هي قانون الجاذبية، وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق فنعرف للمرة الأولى انها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى إرتباطا كاملا داخل النظام، وكذلك الحال لو طالعنا الحقائق المحسوسة مجردة فلن نجد بينها أي ترتيب فهي متفرقة وغير مرتبطة، ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فسنستنتج صورة منظمة للحقائق[3].

ونرى كيف قام العقل بربط نتائج الإحساس بعضها ببعض حتى حصل منها على قانون علمي سمي بقانون التجاذب. ان الإنسان توسل لإستنباط هذا القانون بعدة أحكام عقلية والتي كان أهمها الحكم بضرورة وجود السبب لكل حادث، وضرورة تناسبه مع المسبب وأن الأحداث المتشابهة ذات سبب واحد وأخيرا ربط نتائج الأحاسيس المختلفة ببعضها لصياغة قانون عام منها. وهذه الأخيرة كانت السلسلة التي لولاها لما استطاع البشر من استنباط قانون موحد... ولنلاحظ تجربة أخرى هي تجربة ديزل الذي سميت بإسمه محركات ديزل الضخمة. فإن الشاب الألماني (دولف ديزل) دأب على كبس الهواء حتى وصل ضغطه في النهاية إلى (500) رطل للبوصة المربعة، ورفع هذا الضغط درجة حرارة الهواء إلى (1000). وربط هذه العملية بقانون عقلي آخر هو أنه: إذا كان الوقود عادة يبدأ في الاحتراق عند درجة (450) فلابد ان يكون كل ما نحتاج إليه لكي نحصل على الاشتعال بدون شرارات الاشتعال، هو حقن الوقود إلى خزانة بها هواء مضغوط ضغطا مفرطا لكي يشتعل في الحال كما يشتعل الدهن في المقلاة!..

وهكذا فعل ولكنه حين اختبر محركة لأول مرة انفجر كله وطرح الشاب أرضا فاقد الشعور. بيد انك تصور بإستخدامه الحكم العقلي انه لو استعمل اسطوانات أقوى وصمامات أضبط فإنه لن ينفجر إذ انه عرف بحكم عقلي ان الانفجار كان نتيجة سبب، وان السبب لابد ان يكون قوة الانفجار ورخاوة الاسطوانات. فلما اتقن اسطواناته لم ينفجر المحرك هذه المرة بل أعطى الصناعة دفعا جديدا إلى الإمام بمحركه.

وماذا لو فقد ديزل مساعدة عقله، هل كان بإمكانه متابعة تجاربه؟ ومن هنا نعرف ان العقل ضرورة لتمحيص التجربة بعرض الملاحظة على الأحكام العقلية الثابتة. وهذا أهم القواعد التي تساعد البشر على استنباط الحقائق من الإحساس.

2- الإحساس والتجارب السابقة

لدى أبسط التجارب يحتاج الإنسان إلى إدخال مجموعة كبيرة من تجاربه الشخصية الأخرى ومعلوماته الصحيحة عن تجارب الآخرين لكي يوازن بينها ويحصل على فكرة صائبة عن تجربته. فنحن حين نستعمل الترمومتر (درجة الحرارة)، لا نعلم كم تجربة نستخدم من تجاربنا الماضية أو تجارب الآخرين، ولكننا نستطيع ان نقول بأنها تجارب لا تحصى عدا.

فمثلا اننا بدون تجارب المصريين في الهندسة ونظام العد الإسلامي واكتشافات أوروبا الرياضية لم نكن نستطيع ان نعرف أي شيء عن قياس الحرارة.. ولهذا فإن أية تجربة جديدة لا تنمو الا في مناخ صالح. ونعني بالمناخ الصالح وجود عدد ضخم من تجارب البشرية في سائر الحقول تساندها وتخلق فكرة صائبة عنها.

فمثلا: جابر بن حيان الأنصاري ـ تلميذ الإمام الصادق عليه السلام ـ قام بصنع طائرة لم يذكر المؤرخون صفاتها بالضبط لأنها دفنت تحت ركام الجهالات التي كانت تسود عصره، ولذلك فإن العصر الذي تلي عصر جابر لم ينتج تجارب جديدة لأنها كانت تفقد مناخها المساعد.

أما حين بدأ أخوان رايت (Wright Brothers) تجاربهما بالطائرات الشراعية على كثيبات الرمل في (كتي هوك) لمجرد التمرن على كيفية التحكم في الأجنحة أثناء الطيران. وطورا تجاربهما ـ حينذاك ـ ساعدهما وجود المحرك ثم وجود المواد الخفيفة الصلبة البناء (التي حصلت البشرية منها على قدرة حصان واحد مقابل كل رطل واحد من وزن المحرك)، ان هذه التجارب المتنوعة التي سبقت تجربة أخوان رايت، أعطت الطائرة مناخا مناسبا للظهور، فأصبحت ميزة العصر الحديث. وهذا يهدينا إلى ان العقل يعرض نتيجة الحس على التجارب الماضية لميحصها.

ولولا وجود عقل موازن عند الإنسان لما استطاع ان يستغل تجارب غيره أبدا. ان العقل الموازن يحكم بأن ما فشل فيه إنسان واحد فإنه يستحيل ان ينجح فيه الآخرون، وبالعكس ما نجح فيه هو فسوف ينجح فيه كل إنسان. ولذلك فإن العالم الخبير يقوم بعد كل ملاحظة بطرد آلاف الإحتمالات التي تتراءى أمامه، لمعرفته المسبقة بأنه قد ثبت بطلانها في تجارب غيره ونستطيع تلخيص المهمة الثانية التي يقوم بها العقل عند تمحيصه نتائج الحس بأنها:

(موازنة الحس بتراث البشرية العلمي).

ان العقل هو الذي يهدي إلى ضرورة هذه الموازنة وهو الذي يدلنا على نوع التجارب التي ينبغي ان توازن بها التجربة الجديدة. وأخيرا هو الذي يعطينا حاسة الكشف عن أقرب التجارب إلى الحقيقة لدى اختلاف التجارب. ترى ماذا يفسر كل ذلك الحسيون؟ من هنا جاء في الحديث: (العقل حفظ التجارب).

3- أهم ما يحصل بالعقل هي ـ القفزة العلمية ـ والمثال التالي يوضحها: يقوم الطفل بطرح فلز في الماء، فيستقر في القاع، ورأسا يتنبه إلى ان مطلق الفلز لا يستقر فوق الماء ـ أي ماء كان ـ. هذه هي القفزة العلمية حيث استنبط الطفل من تجربته حكما عاما. ونحن لم نجرب طيلة حياتنا الا بعض التجارب البسيطة بيد اننا نملك عدة قوانين عقلية لأن تلك التجارب قفزت بنا إلى مستوى معرفة قوانين عامة بحيث لا نرتاب في صحتها. وهذه العملية التي لا تخضع لحساب، هي التي زودت البشرية بالكميات الضخمة التي تملكها من المعلومات عن الكون. ونحن نضحك حتى الأعماق حينما تروى لنا قصة جحا الشهيرة: حين كان جالسا فوق غصن شجرة وينشر اصله، فقال له عابر سبيل انك ستقع. فقال مستهزاً: من أين عرفت؟ هل أنت عالم غيب؟ ولكنه سرعان ما سقط على الأرض، وتهشمت أعضائه. فتعقب الرجل وقال: حقا أنت نبي. نحن نضحك من هذا الكلام لأنه معرق في السذاجة. ولكن ماذا لو قال طائفة من المنتمين إلى الفلسفة بهذا القول منكرين مصدرا للمعرفة لا يوزايه مصدر أبدا. قالوا: انك لا تستطيع ان تعرف (كل رجل يموت) لأنك لم تعلم الا بموت فريق من الناس، ولعل الفريق الآخر لا يموتون!! وهكذا في سائر الحقائق.

ان الطفرة العلمية التي لم نستطع نحن البشر ان نعرف عنها شيئا كثيرا تشكل أقوى الأدلة على وجود عقل يكشف لنا عن أبعاد الحقائق، والا فما الذي يدعونا إلى القول بأن كل إنسان يموت، مع أننا لم نشاهد الا بعض الأموات.. يقول البروفيسور (ماندير):

ان الحقائق التي نتعرف عليها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسة Facts Receivde) بيد ان الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في الحقائق المحسوسة. فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال. ووسيلتنا في هذا السبيل هي الإستبناط. فهذا النوع من الحقائق هو ما نسيمه (بالحقائق المستنبطة Inferred Iacts) والأهم هنا ان نفهم ان لا فرق بين الحقيقتين، وانما الفرق هو في التسمية من حيث تعرضنا على الأولى مباشرة، وعلى الثانية بالواسطة. والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط (الإسلام يتحدى ص 64).

والعقل هو الذي يميز بين الطفرة العلمية (الاستنباط) وعملية (انتزاع النفس) أو الخيال ووسيلته إلى ذلك تجنب أية رغبة في التسرع أو في ترجيح جانب على جانب آخر. بل لابد ان يدع الإنسان نفسه مسلما بنتيجة تجاربه، تقوده كيف شاءت لا يكف يشاء هو.

القسم الأول عن العلم والفلسفة

البحث الثاني

نقد التصورات البشرية

آراء في قيمة المعرفة

(كانت) والنسبية الذاتية

النسبية التطورية

أ- أداء في المعرفة

الانحراف في المنهج ـ نظرية أفلاطون ـ المثالية ـ نقد المثالية ـ الاسلا يخالف ذاتية المعرفة ـ نظية الإنتزاع ـ النظرية الحسية التجريبية ـ نقد النظرية ـ الماركسية تتناقض.

أمامنا الآن مجموعة من التصورات البشرية حول المعرفة، لا يخلو كل واحدة منها عن جوانب إيجابية، الا انها بصفة عامة لم تحط خبرا بواقع العقل والعلم والفكر. ولعل السبب الوحيد لهذا العجز البشري عن معرفة أقرب الحقائق إلى الإنسان وهو العلم. ان الإنسان حاول معرفة العلم عن طريق الجهل؛ أي عن غير طريق العلم ذاته، وهو نوع من الإنحراف في المنهج، سبق البحث فيه.

لقد حاول البشر قياس العلم والعقل بركام التصورات والتعاريف، فما زاده الا بعدا عن حقيقته ومزيدا في الانحراف عنه تماما كمن حاول قياس الوجع بالمتر أو الحرارة بالكيلو. وقد سبق القول في ان شأن العلم شأن الإرادة وسائر ما يرتبط بالنفس حيث لا يمكن قياسها الا بآثارها.

ونحن حين نجد في العصر الحديث انتشار قياس حقائق النفس بآثارها، بعد ان عجزوا عن قياسها بالطرق المادية. فما الذي يمنعنا من تطوير منهجنا في معرفة العلم والعقل إلى النظر إلى آثارهما كما صنع الإسلام.

ان هذا المنهج يجعل كل فرد يكتشف النور من داخل نفسه، وهناك فقط يتبين ان تصورات البشر حوله انما كانت انحرافات بعيدة عن الواقع.

نظرية أفلاطون

تتلخص نظرية أفلاطون في النقاط التالية:

1- تماما كالصورة التي تنعكس على المرآة، لها حدود وليس لها جرم وكثافة. كذلك يوجد عالم يدعى بعالم المثل، كل حقائقها ذات حدود ولكن دون كثافة. وهذه المثل هي صور الحقائق الأرضية جميعا. فالإنسان مثلا: يعيش على الأرض أفراده أما هو فإنه واحد يعيش في عالم المثل، وهو (أي حقيقة الإنسان) شبح هناك يمثل كل الناس في كل العصور.

2- والإنسان كان قبل تنزله إلى الأرض يسرح في عالم المثل، ولذلك فقد أحاط علما بكل الصور (أو المثل) التي كانت موجودة فيه، ولكنه نسيها عندما تقولب بالمادة وهبط إلى عالم الجسد.

3- الا ان أقل تنبه يكفي الإنسان لتذكر ما كان قد نسيه في عالم الدنيا، فيعود يعرف الحقائق التي عرفها في عالم المثل.. ولذلك سميت نظريته ـ بالنظرية الإستذكارية ـ لأن الفكر حسب هذه النظرية، ليس سوى إستعادة المعلومات، والعلم ليس الا إستعادة المحفوظات المنسية.

4- ان العقل البشري أسمى من ان يعرف الحقائق الجزئية، بل انه يعرف الكليات؛ أي المثل العامة فقط. فمثلا: حينما يعرف رجل زيدا فإنه لا يعرف بعقله الرجل المسمى بزيد، انما يعرف بعقله كلي الإنسان، أو صورة الإنسان بصفة عامة.

وترتكز هذه النظرية فيما يخص موضوعنا على أمرين؛ الأول: الاعتقاد بوجود الأرواح بصفة مستقلة عن الأجسام قبل خلق الأجسام. والثاني: ان العلم صفة أصيلة في ذات الإنسان ولسيت صفة طارئة على الإنسان.

والإسلام يعترف بوجود الأرواح قبل الأبدان بفترة طويلة، حيث جاء في الحديث: (خلق الله الأرواح قبل الابدان بألفي عام).

أما ان العلم صفة ذاتية للإنسان، فهذا ما يرفضه الإسلام، والسبب:

أ- لو كان العلم صفة الذات لم يجز ان يتخلف في لحظة عن الذات، ذلك ان الذات لا يفقد نفسه الا ساعة انعدامه. أترى يمكن ان يجهل الله سبحانه شيئا وهو يملك العلم بصفة ذاتية، أم ان النور يمكنه ان يتخلف عن الحركة والإشراق وذاته الحركة والإشراق؟ هذا مع اننا نلاحظ: ان الإنسان لا يعلم ثم يعلم ثم ينسى ما علم. قال الله سبحانه، وهو يذكر بهذه الحقيقة الواضحة:

[ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا] (النحل/70).

ونحن نعلم من أنفسنا صفة الجهل الذاتية، لان العلم لا يحصل لنا الا بتعب وإرهاق، ثم يزول بسرعة مع هبوب عاصفة النسيان التي تتناوب على أنفسنا فتكنس معها معلوماتنا.

ب- ان ذاتي الشيء لا يحدد.. ان الجهل والعدم والعجز من ذاتنا، ولذلك فهي غير محدودة، لأنها إذا كانت محدودة إذا لم تكن ذاتية لنا. أما العلم والإرادة والوجود والقوة فهي مواهب أو مكاسب، ولذلك فهي محدودة.

وبتعبير آخر؛ ان التحديد يعني العدم في بعض الجوانب. فلو حددنا علم رجل ببلده مثلا فذلك يعني انه لا يعلم عن البلاد الأخرى شيئا، وإذا كان ذات الرجل عالما فكيف لا يعلم شيئا عن البلاد الأخرى؟ أفلا يعني ذلك ان هذا الرجل عالم وجاهل في لحظة؟ وهو تناقض مرفوض.

وهل يصح ان نقول: ان ذات الحرارة هي الحركة (أي لا يمكن ان توجد حرارة ولا توجد حركة أو العكس بأن توجد حركة ولا توجد حرارة) ثم نقول ان الحرارة يمكنها ان لا توجد في وقت أو في حالة مع وجود الحركة؟!

إذا فنظرية أفلاطون الإستذكارية مرفوضة بسبب واحد وهو انها تدَّعي ان العلم من ذات الإنسان. ولو فسرنا هذه النقطة منها إذا استطعنا القبول بها فيما يخص العلم، فسرنا بالقول: ان الله سبحانه وهب الإنسان العقل، ولكن هذا العقل محتجب بالنسيان وان التذكر به يرجعه إليها.

نظرية الإنتزاع

وهي التي ذهب إليها فريق من الفلاسفة الأغريق وفي طليعتهم أرسطوطاليس وأتبعهم فريق من فلاسفة المسلمين. وهي تذهب إلى: (ان للدين البشري نوعين من التصورات، تصورات أولية، كتصور اللون والحجم والطعم والرائحة، وما إلى ذلك ما يتصوره الذهن عن طريق الحواس. وتصورات ثانوية: وهي التصورات التي يولدها الذهن البشري منتزعة إياها عن التصورات الأولية، وذلك مثل الكليات المجردة، وتصور العلة والمعلول وما أشبه).

وتقول النظرية: ان التصورات الأولية هي الأساس للتصورات الثانوية، وانه يستحيل على الذهن القيام بأي تصور ثانوي بدون التصورات الأولية. وبتعبير آخر؛ الإحساس أساس العلم. وتقول: ان الذهن يقوم بنمو ذاتي متى ما يدخل حريمه تصور أولي، فيتمخض عن تصور ثانوي.. ونستطيع تمثيله بالأرض الصالحة التي تنمي أشجارا كثيرة بعد ان تدخل فيها النواة.

والملاحظ: ان هذه النظرية تتنافى وما سبق ان ذكر بها الدين الإسلامي من الحقائق، ونضيف إليها ما يلي:

1- ان الإنسان لا يمكنه الإيمان بالحس دون وجود عقل يحكم بصدق الإحساس، وقد سبق ان أكدنا ذلك بأكثر من بينة. ومن هنا فإن العقل (وهو ما تسميه النظرية بالتصور الثانوي) هو الأساس للإحساس. وقد عكست النظرية فقالت ان الإحساس هو السبب في وجود العقل. ولست أدري كيف يمكن ان يكون الإحساس بشيء وسيلة إلى الاعتراف بوجود علته، لو لم تكن في النفس نور يكشف عن حقيقة العلة؟

2- ان النظرية تعتقد ان النفس تسير في نمو ذاتي حتى تصل إلى العلم، وهذا يشبهها بنظرية أفلاطون في أنها تجعل العقل وليدا طبيعيا للنفس ضمن حركة جوهرية تكاملية. ومن حقنا ان نسأل إذا كانت حركة النفس إلى أعلى بصورة مستمرة فكيف تنتكس حتى لا تعلم بعد علم شيئا، وكيف ينسى البشر أشيئا عرفها، وكيف لا يعلم أشياء يجهلها بصورة طبيعية، بل يكون محتاجا إلى المعلم؟

والواقع ان نظرية أرسطو الإنتزاعية لم تثبت للنقد بعد ان تعرضت له من قبل الفلاسفة الغربيين، منذ روجر بيكن وإلى جون لوك. ونحن بغنى عن استعراض إنتقاداتهم بعد ما سبق وأن أشرنا إليه في تقرير النظرة الإسلامية المتوازنة الشاملة.

النظرية الحسية التجريبية

النظرية الحسية التجريبية هي النظرية السائدة على العالم المادي المعاصر، وكان أول مبشر بها في الفترة الأخيرة (جون لوك) الفيلسوف الإنكليزي الذي ظهر في جو مشبع بالأفكار الديكارتية العقلية.

ثم تبنتها فلسفات أخرى، وبينها النظرية المثالية والماركسية. يقول جورج بوليتيريز:

(ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر؟ ثم ان مصدر الإحساسات ما يعالجها الإنسان بدافع من احتياجاتها الطبيعية). ويقول ماوتسي تونغ:

(ان مصدر كل معرفة يكمن في إحساسات أعضاء الحس الجسمية في الإنسان، للعالم الموضوعي الذي يحيطه).

وهذه النظرية تتلخص في نقطتين:

1- ليس للذهن البشري من ممون سوى الإحساس، فهو المصدر الوحيد لكل المفاهيم والتصورات. ومن هنا فليس للذهن إبداع تصورات جديدة.

2- وان التجربة وهي نوع من الإحساس هي المصدر الوحيد للعلوم الإنسانية، وأنه لو تجرده عن كل معارفه.

ومن هنا: تنفي هذه النظرية وجود معلومات سابقة (أو ما نسميه بالعقل)، ولذلك فهي تبعد عن ذاتها كل محاولة لمعرفة ما وراء المادة (الغيب).. وما تزعمه هذه النظرية: ان الإنسان لا يمكنه ان يعرف حقيقة الا بتجربتها مباشرة. فليست هناك حقيقة استنباطية يسير فيها الفكر من الحقائق العامة إلى الحقائق الجزئية. فالمثل التالي مستبعد كليا عن المنهج التجريبي: كل فلز يمتد بالحرارة والحديد فلز فلابد ان يمتد بالحرارة. بل يجب ان نجرب الإمتداد على الحديد بالذات حتى يمكننا ان نقول: (الحديد يمتد بالحرارة). وهكذا يبعد هذا المنهج كل مثل متشابه، ذلك لأنه يستبعد العلم الكلي (كل فلز يمتد بالحرارة) ويقول: من أين عرفنا هذا العموم، هل مع التجربة على الحديد التي كانت بين التجارب التي أجريت على كل فلز؟ وإذا فلا نستفيد من الكلي (كل فلز يمتد بالتجربة) لأنه لا يعدو ان يكون تكرارا للمفهوم السابق، ام بدون التجربة على الحديد بين الفلزات. فمن أين حصلنا على هذا المفهوم، ان لم نكن قد جربنا كل الفلزات؟ والعلم لا يحصل بدون التجربة.

الماركسية تتناقض:

لقد سبق القول في نقد النظرية الحسية، ونلخصه فيما يلي:

1- ان قيمة الحس والتجربة لا يمكن ان تثبت الا بوجود شيء عند النفس يُمكِّنها ان تقيّم الحس والتجربة. وذلك ما نسميه بالعقل. ولو افترضنا عدم وجودها فما الذي تفيدنا قيمة الحس والتجربة؟.. قال فريق منهم: ان التجربة ذاتها دليل تقييمها.. حسنا؛ فتلك التجربة التي تقيم التجارب الأخرى، هل هي ذات قيمة أم لا؟ إذا كان لها قيمة فمن أين عرفنا قيمتها؟

والواقع اننا نؤمن بقيمة التجربة، وهذا الإيمان نابع من عقولنا التي تحكم بذلك.

2- كيف يمكننا تفسير العلة والمعلول، والحسن وقبيح، والخير الشر؟ هل هذه الحقائق تدرك أيضا بالتجربة؟ وكيف مع انها معلومات لها من القيمة لدينا كقيمة التجربة، ولها من الوضوح كوضوحها؟

3- ولدى شيء من التحليل نكتشف ان التجربة ذاتها تعتمد على مجموعة أحكام عقلية، كالحكم بإستحالة التناقض والصدفة. ولو تصورنا العلم بدونها تبخرت معلوماتنا في لحظة واحدة.

4- نحن نؤمن بحقائق غير مجربة ونعلم ان مصدر إيماننا ليست هي التجربة. ولا نؤمن بحقائق مجربة لأنها تخالف حكم عقولنا. فمثلا نرى أجنحة المروحة متلاصقة، ولا نؤمن بذلك. ولا نرى دوران البروتن في الذرة، بيد أننا نؤمن بها إيماننا بضوء الشمس.

وتتناقض الماركسية مع نفسها في تفسير حقيقة المعرفة فتقول ـ على لسان ماوتسي تونغ ـ (الخطوة الأولى في عملية اكتساب المعرفة هي الإتصال بالمحيط الخارجي.. الخطوة الثانية هي جمع المعلومات التي نحصلها من المعلومات الحسية وتنسيقها وترتيبها- مرحلة المفاهيم والأحكام والإستنتاجات- وبالحصول على معلومات كافية كاملة من الإدراكات الحسية (لا جزئية ولا ناقصة) ومطابقة هذه المعلومات للوضع الحقيقي (لا مفاهيم خاطئة) عند هذا فقط يصبح في المستطاع ان نصوغ على أساس هذه المعلومات مفهوما ومنطقا صحيحين).

وتنطوي هذه النظرية على الاعتراف بدور العقل الذي يقوم بتنسيق المعلومات وترتيبها. إذ من الواضح انه لولا وجود نور يكشف عن طبيعة المعلومات وموضعها من جدول الأفكار كيف يمكن للنفس ان تقوم بعملية التنسيق والترتيب. فلو إفترضنا عاملا لا يعرف شيئا عن الحساب هل يمكنه تنسيق معلومات وزارة الدفاع أو المخابرات المعقدة؟ ونحن نجد ان التنسيق يستنزف جهدا عظيما منا، وفي خلاله نستخدم مئات الأحكام العقلية، فكيف ننكر فضلها في توجيه معارفنا؟

هكذا اعترفت الماركسية من حيث لا تشعر بدور العقل، ولكنها أنكرته في مواضع أخرى من فلسفتها، وهذا هو التناقض.

وقد أكدت الماركسية هنا ما تبنته من تفاعل الإحساس والتنسيق، والعمل والعلم. ونحن لا ننكر ذلك، بل ان الإسلام أول من بشر بالتأثير الكبير الذي يخلفه العمل على الفكر، والإحساس في العقل. ان العلم ضوء في القلب، ينمو بإستخدامه كما تنمو كل أعضاء الإنسان بتربيتها وإستعمالها. والعقل نور في النفس يزداد بطاعته كما تزداد الفضيلة أو الرذيلة بممارستها.. وجاء الحديث: (العلم يهتف بالعمل فإن أجابه والا إرتحل)!

باء- آراء في قيمة المعرفة

العقل يقيم ذاته ـ تاريخ البحث عن قيمة المعرفة ـ ديكارت ـ جون لوك ـ المثالية الحديثة ـ المثالية الفلسفية ـ باركلي يشكك ـ نقد نظرية الشك ـ المثالية الفيزيائية ونقدها ـ المثالية الفيزيولوجية ونقدها.

العقل حيث يكشف شيئا، لا يتردد فيه ولا يقبل أي نوع من التشكيك حوله لأنه يراه واضحا مميزا مشهودا.

ومن هنا لا يصدر العقل حكما الا إذا كان موثوقا به بالمئة مائة، وهناك يصح الإطمئنان به كاملا، وتتروح القلب على سكينة. والعلم بعض من العقل وهو الشهود المباشر، والكشف الواضح للأشياء. ولأنه كذلك فإنه يقيم ذاته، ويعطي للنفس السكينة والإطمئنان وبصورة لا تقبل الشك. ونحن إذا أردنا ان نقيم العلم فهل نقيم بغير العلم ام بالعلم ذاته؟ والعلم إذا تشككت فيه لا يقيم نفسه ـ والجهل بالطبع ـ لا يقيم العلم.

عندما بحثنا عن المعرفة في منهج القرآن، بينا بأن العقل نور هاد يكتشف ذاته بذاته، والعلم ـ لأنه وليد العقل ـ فإنه يقيم بالعقل، والتقييم بلانسبة إليه خطأ، لأنه لا يكون الا به ولكن الإنسان أدار وجهه عن عقله، وحاول إعطاء قيمة للمعرفة بعيدا عنه.

ولتقييم المعرفة تاريخ طويل؛ ففي اليونان إجتاحت الفكر موجة عارمة من السفسطة في القرن الخامس الميلادي، كان مبدعوها ومغذوها طائفة من السياسيين المحترفين، جمعوا كل من فشل في حياته الشخصية ليعلموه طريقة الجدل، ويقحموا به في حقل السياسة. وهكذا أصبحت المناقشات اللاعقلانية سيدة الموقف في اليونان.

وتطورت هذه الحالة حتى أدت إلى مبدأ غورغياس الذي ألف كتابا في (عدم الوجود) وحاول البرهنة على عدم وجود شيء. وحتى لو إفترض وجود شيء فإن الإنسان قاصر عن معرفته، ولو حصل ـ فرضا ـ على معرفته فإنه يستحيل ان يعلمها غيره.

وأخذ الفكر الفلسفي ينهار لولا تحدي سقراط الذي ضحى بحياته في سبيل إعادة الناس إلى توازنهم الفكري، ثم أفلاطون تلميذه الذي اتبع سبيل الحوار لاستعادة ثقة الفكر بنفسه، وأخيرا ارسطو الذي وضع اصول منطقه القائل بوجود مسبقات عقلية هي الركيزة الأولى لتقييم المعارف البشرية، وان كانت تنشأ من الإحساس بعملية الانتزاع. واتجه بيرون ـ وهو احد فلاسفة اليونان ـ اتجه ناحية التوفيق بين انكار الحقيقة واثباتها، فدعا إلى الشك واتبعه فريق كبير. الا انه قدر لمذهب الشك ان يختفي عن مسرح الفكر حتى ابتداء القرن السادس، حين عاد بفعل الثورة الثقافية التي عصفت بمسلمات القرون الوسطى وجعلتها خرافات لا قيمة لها.

ديكارت

ولعب ديكارت دور ارسطو في إعادة الناس إلى أفكارهم وتماشى معهم في فلسفته حتى شكك نفسه في معلومات قطعية.. وفلسفة ديكارت عقلية تعتمد على وجود أحكام جازمة للنفس يستطيع الإنسان ان يحكم بها على سائر معلوماته، وتعتمد فلسفته حول قيمة المعرفة على الحقيقة التالية:

ان أية فكرة واضحة ومميزة لدى النفس بحيث لا يمكن التشكيك فيها بأية حجة، فإنها فكرة صحيحة وذات قيمة. ويرى ديكارت: ان قيمة المعرفة، الإيمان الثابت بها. فما وجد فيها هذا الإيمان أثبت لها القيمة. ومثل لها (فكر الإنسان) فإنه لا يزداد مع الشك الا وضوحا. و(ذات الإنسان)، و(الله) سبحانه، و(الحركة)، و(الامتداد)، و(النفس).

وتنطوي فلسفة ديكارت على أخطاء منهجية لا يفيدنا انتقادها الآن[4]. الا انه بوجه عام استطاع بها ان يقيم المعرفة بوجود العقل الذي لا يحتاج إلى تقييم، فذاته قيمة. هكذا أراد ـ أو ـ لا اقل هكذا يبدو انه أراد ان يعمل. جون لوك

وسار لوك في ذات المسيرة التي سار فيها ديكارت، عندما أراد تقييم المعرفة البشرية. وقال: ان المعرفة قد تكون وجدانية، كالعلم بأن الواحد أقل من اثنين. وقد تكون تأملية وهي التي لا تحصل دون الاستعانة بمعلومات وجدانية. وهذان النوعان من المعرفة، ذات قيمة واقعية. أما الإحساس فإنه لا قيمة له في حقل الفلسفة، ذلك لأنه ناشيء من انعكاسات قد لا تتفق مع طبيعة الأشياء، بل يحتمل ان تكون انفعالات ذاتية.

ونظرية لوك هذه لا توافق مع منطلقه الفلسفي الذي ينادي بالحسية، والا فما هو الممون للفكر غير الحس؟ وبعد هذه الملاحظة تتمكن من القول بأن المعارف العقلية التي قسمها لوك إلى نوعين: الفطرية والتأملية، وقسمناها نحن بنوعين: الأحكام العقلية وما يصدر منها من أفكار؛ ان هذه الأحكام ذات قيمة لا ريب فيها وهي دالة على نفسها، ولكن إذا ميزت عن شوائب الهوى والغضب.

وأما الحس، فإن التعقل سيحكم على نتيجته. فإن كان متأثرا بالذاتية، رفضه والا اطمأن إليه حسب ما سبق في حديثنا عن المعرفة في الرؤية الإسلامية.

ولذلك فنحن متفقون مع لوك في وجود نوع من الذاتية في الإحساس، ولكننا لا نتفق معه في عجزنا عن ايجاد مقياس يجرد الحقيقة المشوبة بالذاتية!! المثالية الحديثة

بعد ان عرفنا قيمة العلم عند المذهب الإسلامي ومذهب ديكارت ولوك، يجدر بنا ان نبحث عن المدارس الفلسفية التي أنكرت هذه القيمة، وهي تتنوع إلى أربعة أقسام:

الأول: المثالية، التي انكرت وجود واقع خارج الشعور. وكان إنكارها معتمدا على انكار أية قيمة للمعرفة التي تثبت وجود هذا الواقع.

الثاني: مذهب الشك، الذي أنكر ان تكون المعرفة مضمونة الخطأ، ولم تنكر وجود واقع خارج الشعور الا انه لم يستطع إثباته أيضا.

الثالث: المذاهب النسبية، التي آمنت بصحة المعرفة، ولكن بصورة جزئية. فليست الحقيقة كما ندركها، ولكن ما ندرك لا تعدو كليا جوهر الحقيقة.

الرابع: النسبة التطورية، التي لم تنكر قيمة للمعرفة، ولكن أنكرت ثبوت المعرفة على حالة واحدة، وقالت: بأنها تتكامل شيئا فشيئا..

والمثالية التي تتناولها في البدء بالدراسة هي الأخرى ذات أنواع: المثالية الفلسفية، والمثالية الفيزيائية، والمثالية الفسيولوجية. آ- المثالية الفلسفية

ان هذه المثالية استندت على قواعد فلسفية حجة على مثاليته، التي تتلخص في ان الوجود لا يعني سوى المتصور، وان يوجد شيء عبارة أخرى عن ان يدرَك أو ان يدرِك.

وبطل هذه المثالية: باركلي، الذي ادعى انه لا ينكر العالم، ولا أي حقيقة موضوعية فيه، الا ان جوهر فلسفته هو الكشف عن حقيقة الكون.. الناس يزعمون ان حقيقة الأشياء هي الوجودات المستقلة عنا، القائمة بذاتها. ولكن هذا الخطأ إذ ان حقيقته لا تعدو ان تكون مجموعة تصورات تتفاعل داخل شعور كل منا. وكل ما يقول الناس عن العلم والصناعة والتاريخ والاكتشافات والنشاطات المادية حقيقة لا ريب فيها. ولكن نسأل عن معنى الحقيقة؟ انهم يحسبون ان معناها الوجود المادي الكثيف، ولكني أقول ان معناها الوجود الذهني اللطيف.

ومن هنا، فلم يكن يجدي باركلي حجج الماركسية التي زعمت ان تكثيف كلمات علمية وتسطيرها وتكديسها على بعضها، تكفي للقضاء على أية نظرية تريد تحطيمها. فقامت بسرد اكتشافات العلم وحوادث التاريخ في محاولة لدحض المثالية، ولكنها غفلت عن ان المسألة أعمق مما تتصورها. ان المسألة انما هي في وجود أي واقع خارج المادة. باركلي يقول: كل ذلك صحيح، ولكنه لا يعني وجود واقع خارج الشعور، بل يدعم القول بأنها كلها تصورات شعورية محضة.

باركلي يرفض الاعتراف بشخص ماركس وهيجل، بل يقول قد يكونان مجرد شبحين في تصوري، فيكف أؤمن بأفكارهما؟ وحتى إذا آمن بهما فإنه لا يؤمن بما يريانه ويرويانه من وقائع الوجود الخارجي الا بعد تفسير الوجود بالشعور. باركلي يشكك

وقد أخذ باركلي يشكك نفسه بالواقع الخارجي عن طريق وجود تناقض في الإحساس أو في المعلومات. فقال:

1- ان كل ما يدركه البشر يرتكز على الحس، وإذا اختبرنا الحس وجدناه مليئا بالمتناقضات. فالبصر يرى الشيء القريب كبيرا، وإذا ابتعد عنه حسبه صغيرا. والإذن تسمع الصوت ضعيفا إذا كان بعيدا عنها، وإذا اقترب اليها سمعته عاليا ـ أو بالأحرى اعتقد انه يسمعه عاليا ـ وهكذا اليد تلمس الشيء الواحد حارا مرة وباردا أخرى. فمثلا؛ ان أخرجت يديك عن مائين ـ بارد وحار ـ وأغمستهما في ماء دافئ شعرت كل واحدة بعكس ما كانت فيه، والماء واحد.

فإذا كان الإحساس يتناقض فكيف نطمئن إليه؟

ثم يتابع استدلاله قائلا:

2- ثم لدى تحليل الإحساس نجده ليس سوى التصور، والتصور لا يعدو ان يكون فكرة تعيش داخل الشعور. ولكن لدى التعمق نجد ان هذه الفكرة قد لا تكون وليدة واقع موضوعي. بل وليدة هاجسة نفسية أو قوة علوية تبعثها في نفوسنا.. ألستم أيها الواقعيون تعترفون بوجود أفكار لا واقع لها. فلماذا لا تجعلون كل الأفكار بعيدة عن الواقع؟

وأضاف يقول:

3- ولندع التصورات الساذجة، لندرس المعارف البشرية، هل هي ذات قيمة بعد التناقض الذي نجده بينها؟ فهي لا تقوم الا لكي تنهار. فكم من قضية كانت من المسلمات، أصبحت من الخرفات. وكم من فكرة أجمع عليها المفكرون، ولم تمض عليها فترة حتى اغتدت مهجورة.

فالواقعيون لا يتمكنون من ادعاء الصحة في أي جزء من معلوماتهم ما دامت سائر الاجزاء قد تبخرت مع حرارة الزمن!

هكذا استدل باركلي.. وتابعه الفريق الذي يدعى بأنصار الشك الحديث الذي قاده (دافيد هيوم)، وكونوا فلسفة لا أدرية. قالوا ما بأيدينا من وسائل العلم لا تكفي للتثبت عن الحقيقة، فالأولى الشك فيها. ولكنه لم يزد على أدلة باركلي شيئا. فجوهر أدلته التناقض البادي بين المعارف والأحاسيس على غرار ما استعرضناه من حجج باركلي. نقد النظرية

والنظرية تنطوي على التباسات عديدة:

فأولا؛ ان معرفة أخطاء الحس وتناقضاته بسيطة لمن أوتي نور العقل. وما دمنا آمنا بدور العقل الذي لا يخضع للحس وانما بالعكس يخضع الحس له، فإن بمقدورنا كشف تناقضات الحس ببساطة متناهية. ولقد سبق ان درسنا كيف ينقد العقل مدركات الحس. فالعقل ـ كما قلنا آنفا ـ نور يكشف الواقع الخارجي ويجعل النفس تطل عليه وتشاهده مباشرة. وليس العلم تصورا تنطوي عليه النفس ـ كما زعم ارسطو ـ حتى يزعم باركلي: ان ليس لدينا ضمان كاف لتطابق الصورة مع الواقع الخارجي.

إذا فإنتقادات باركلي وتشكيكاته مركزة ضد نظرية ارسطو التقليدية التي زعمت ان المعرفة ليست سوى صور في النفس منعكسة عن الأشياء فأنكرها، وقال: من يقول بوجود حقائق وراء الصور؟ أما حسب تذكرة الإسلام لواقع المعرفة التي كشفت لنا سابقا من أنها نور كاشف للواقع مباشرة، فإن انتقادات باركلي تذهب هباء. وقد نوه باركلي ذاته بهذا الأمر حيث يظهر من أقواله ان لو كانت المعرفة شهودا للواقع مباشرة كانت صحيحة ولكنها ليست كذلك.

كذلك حجة باركلي الثالثة المرتكزة على ان المعارف البشرية قد تخطئ، فإنها نوع من الخلط بين المعرفة والجهل، لأن المعارف لن تخطئ لأنها مشاهدات مباشرة للواقع. وهناك فرق كبير بين تبين خطأ عقيدة، وبين تبين خطأ علم. العلم لا يخطئ، بينما تخطئ العقيدة إذ ان الثانية تخضع للشهوات والتطورات المادية بيد ان العلم النابع من العقل ليس كذلك.

ويكفينا حجة: تلك المجموعة الضخمة من المعلومات التي لا يتردد أحد فيها ولا يحتمل انها قد تخطئ في يوم ما إطلاقا. مثلا: الإيمان بوجود حقيقة الكون والسنن العامة فيه، والقوانين الرياضية التي تحكمه، لا يمكن ولا نحتمل ان يمكن ان تخطئ في يوم من الأيام. وباركلي لم يزد على الإدعاء بوجود الأخطاء في الحس أو في المعلومات. وهذا لا يكون دليلا على عدم وجود واقع خارج الشعور، انما هو دليل على مذهب الشك، الذي يقول انه لا يمكن ان نعترف بكل مفاهيمنا الواردة علينا من قبل الحس. ونحن لا ننكر وجوب التشكيك في طائفة من الأفكار الا اننا حتى في حالة التشكيك هذه نستعين بعقولنا، كما فعل باركلي نفسه. فكيف نشكك أنفسنا دون القول بإستحالة التناقض التي جعلها باركلي نفسه دليلا على بطلان الإحساس مع انه لو لم نسلم سلفا بهذا المبدأ لم يكن لنا ان نستدل بأي دليل أبدا. إذ يمكن لأي معترض ان يفحمنا بالقول: بأنه ما هو المانع من تناقض الإحساس وصحة هذا التناقض، وبالتالي صحة المعلومات المنبثقة عنها؟ ب- المثالية الفيزيائية

ما هي طبيعة المادة؟ قال علم الميكانيك التقليدي انها مجموعة جزئيات أصلية لا تتجزأ. وكان يبدو ان ذلك أمر لا مرد منه، وواقع لا ريب فيه. ولهذا قابل التلاميذ استاذهم الفيزيائي في إحدى جامعات المانيا الذي نادى بإمكانية تفجير الذرة (اوالجزء الذي لا يتجزأ)، قابلوه بالإنكار الشديد حتى لم يعد يتابع كشوفاته الذرية، ولو فعل لكان زمن ظهورها العشرينات.

وحين تقدم العلم وفجرت الذرة تفجيرا، تفجرت في الوقت ذاته ثقة الإنسان بعلمه الميكانيكي وذهبت مسلماته هباء.

فأصابت الأزمة النفسية بعض العلماء، وقالوا: ما دامت المادة لم تكن حجرا ثابتا لبناء صرح العلم عليها بينما كنا نعتقد نحن انها كذلك فمن يضمن لنا ان تثبت الذرة مكانها. أليس من الممكن ان يأتي العلم ليقول لنا يوما ان الذرة أيضا وهم تقليدي؟ وهكذا اندفعوا إلى المثالية. فقال (اوزوالد): ان العصا التي تضرب (سكايان) لا تنهض على وجود العالم الخارجي. هذه العصا ليست موجودة، وليس موجودا الا طاقاتها الحركية. نقد النظرية

اننا حين نعلم شيئا. فلابد ان نستند على مجموعة كبيرة من الأحكام العقلية. فالعلم بنواة الذرة ـ مثلا ـ مبني على صحة التجربة وهي مستندة على حكم العقل. فإذا كانت عملية تفجير الذرة أمرا واقعيا، فلا داعي إلى القول بأنه لا واقع أمامنا؟

والحقيقة ان المثالية الفيزيائية لا تنكر وجود العلم ولا وجود المادة التي يكشف عنها العلم، وانما تنكر فقط ان تكون المادة مجموعة جزئيات أصلية. بل تقول ان التصور الجامد عن المادة غير صحيح. بل انها حركة وطاقة في جوهرها. وهذه حجة قوية على وجود شيء وراء الشعور، وهو ما أنكرته المثالية الفلسفية. فاللفظ فقط قاسم مشترك بين المثالية الفلسفية والمثالية الفيزيائية والا فهما متباعدتان جدا. ج- المثالية الفيزيولوجية

وتتلخص هذه النظرية: على ان الإحساس، وهو المصدر الوحيد للمعرفة لدى هذه الدراسة، عملية فيزيولوجية ترتبط بالأعصاب وبناء المخ وشروط الزمان والمكان. ولقد اكتشف العلم، ان حقيقة الكون التي تحس بالأجهزة العلمية تختلف جدا عما نحس به بدونها. ولذلك فإنهم قالوا: ان الإحساس ليس أداة أمينة لنقل المؤثرات الخارجية، وان الحقائق تقوم بالنسبة إليها بدور المنبة فقط.

وهذه المثالية لها واجهتان: الأولى علمية، والثانية فلسفية. فالواجهة العلمية هي: ان الأحاسيس لا تنقل إلينا كل الحقائق المرتبطة بها. فلذلك يحتاج البشر في سبيل الحصول على معلومات أدق عن الكون، ان يخترع أجهزة جديدة لكشف أكبر قدر ممكن من الحقائق. وهذه الواجهة تزيد من ثقة الإنسان بعقله.

والواجهة الفلسفية تهدف عدم الثقة بالمحسوسات بحجة انها تتعرض لمؤثرات ذاتية.

أما الواجهة الأولى فإنها صحيحة؛ أي ان العلم يكشف لنا عن حقائق في محسوساتنا لا تبلغها حواسنا الإعتيادية.. الا انها كما نعلم تفيدنا ثقة بمعارفنا وبما تكشفه لنا من حقائق.

اما الواجهة الثانية (أي الفلسفية) فإنها تقوم على أساس خاطئ هو ان الإحساس هو المصدر الوحيد لمعارفنا، أو هو المصدر الأول والأهم. أما لو قلنا بأن العقل هو المصدر الوحيد أو الأهم الذي يزودنا بالمعارف الصحيحة التي لا ريب فيها، فإن هذه المثالية ستفقد قاعدتها. وقد قلنا ـ عندما تحدثنا عن دور العقل في نقد المعلومات الواردة عن طريق الإحساس ـ قلنا ان المقارنة بين الأحاسيس المختلفة للشخص نفسه في أوقات متفاوتة أو بين أشخاص متعددين ذوي اتجاهات متعارضة.. ان هذه المقارنة من جهة، ومن جهة ثانية المقارنة بين المحسوسات والأحكام العقلية القاطعة، ستكون المقياس الذي نقيم به الأحاسيس ونعرف الصحيحة منها عن الباطلة.

كانت والنسبية الذاتية

كانت والنسبية الذاتية ـ نقد النسبية الذاتية ـ النسبية الفردية ونقدها ـ النسبية التطورية ـ الجانب الإيجابي ـ بين التحول والتنبيه ـ الجانب السلبي ـ مفارقات في النظرية ـ النسبية التطورية ـ نقد النسبية التطورية.

انطلق (كانت) في مسيرته الجديدة من قاعدة (القلب والنظر إلى الحقيقة) قال: حينما رأيت مشاكل عديدة تمنع عن بلوغ حقيقة المعرفة، فعلت ما فعل غاليلو بالنسبة إلى الهيئة؛ فبدلا من ان يقول الأرض مركز العالم والشمس تدور حولها، قال افترض ان الشمس هي المركز والأرض تدور حولها، فنجح وحلت مشاكله العلمية. وكذلك نجحت حين قلت: الناس حتى اللحظة كانوا يحسبون ان الحقائق هي المركز والفكر يدور حولها. ولكن بدأت أقول: الفكر هو المركز والحقائق تدور حوله، وأبسط الحقائق هو الإحساس.. فما يزعمه الناس حول الإحساس؟ انه انعكاس الحقيقة على الذهن، ولكن أقول بل هو صبغة الذهن للحقائق. انا أقول: صحيح ان هناك حقائق نحس بها، ولكن لم يكن من الممكن الإحساس بها الا في حدود الزمان والمكان. ولدى التعميق أكثر من هذا، نرى ان الزمان لا يعني سوى نسبة الإنسان إلى الأحداث. وأما المكان فهو نسبة الإنسان (ونعني به هنا الفكر) إلى الأشياء. فاليوم يعني: تقارن إحساسي مع دورة الشمس، والمكان القريب يعني: قربي إليه. ونستطيع تشبيه الزمان والمكان بظرف بلور نضع فيه الماء فيصطبغ الماء بلون الظرف فنعتقد نحن ان اللون من الماء، ولكن الظرف فقط واهب اللون. وكذلك نحن نزعم الحقيقة في الزمان والمكان، والواقع هو اننا نحن نعيش عبر المحدودية الزمانية والمكانية، لا أن الحقائق هي التي تعيش.

من هنا كان منطق (كانت) مزج الحقيقة البسيطة وهي الإحساس (بصبغة ذاتية) هي صبغة الزمان والمكان. فقال: نستنتج من هذا ان الحقيقة كما هي في واقعها أو بتعبير آخر كما هي في ذاتها - لا يمكن ان تعرف لأننا لان نملك الا أداة محدودة للمعرفة وهي أداة الذهن التي تعيش ضمن وقت ومحل محدودين. فالحقيقة انما تعرف بنسبة معينة وهكذا كانت النظرية نسبية وتفرق بين (الشيء لذاته) و(الشيء لذاتنا). فالشيء لذاته أو كما هو في ذاته يختلف عن (الشيء لذاتنا) أو الشيء كما نتصوره. ثم استرسل قائلا: ولذلك فإن بحوث الميتافيزيقيا (الغيب) بعيدة عن إحاطة الإنسان لأنها مجردة عن الزمان والمكان.. اما بحوث الرياضيات فإنها أيضا لا تعكس الحقائق ولكنها صحيحة حسب أفكارنا إذ انها تكرير لحقيقتي الزمان والمكان. فالحساب مجموعة أعداد، والعدد ليس الا انعكاس الذهن على شاشة الأشياء. فأنا، يعني: عندي واحد. وأتصور مثلين لـ(أنا) فأكوّن فكرة(2) وهكذا. وكذلك الهندسة تحديد للأماكن القريبة والبعيدة ونوع قربها وبعدها عني.

واستخلص (كانت) من منهجة ان العلوم على أقسام:

2- الطبيعيات؛ وهي التي تحتوي على مادة هي الإحساسات وصورة هي الزمان والمكان.

2- الرياضيات؛ وهي التي تحتوي على صورة ـ وهي الزمان والمكان ـ ولكن بدون مادة.

3- الإلهيات (الميتافيزيقيا)؛ وهي التي لا تحتوي موضوعاتها على صورة ولا على مادة.

ويقول ان معارفنا عن الطبيعيات مزيجة من الذاتية والموضوعية وهي لذلك لا تمثل الا بعض الحقيقة. ومعارفنا عن الرياضيات ذاتية بحتة ورغم اننا نعتقد بها لانها جزء من تركيب أذهاننا فإنها لا تعكس حقيقة ورائها وأما معارفنا على الغيب (ميتافيزيقيا) فإنها لا ذاتية ولا موضوعية. نقد النسبية الذاتية

1- لكي نكون واقعيين ينبغي ان نتساءل ما هي الوسيلة التي عرف بها كانت، ان الزمان والمكان عرضان ذاتيان؟ أهي المعرفة أم هي الجهالة؟ ان (كانت) لا يتردد عن القول: بأنه اكتشف بصورة جازمة طبيعة الزمان والمكان. وهذا يعني انه عالم بحقيقة الزمان والمكان، وهو يعني بدوره ان لـ(كانت) كإنسان نورا كاشفا يستطيع ان يسلطه على نفسه ويكشف فيها حقيقة الزمان والمكان. ونحن إذ عرفنا هذه الحقيقة وهي: وجود نور في النفس يكشف الحقائق ورأينا أنفسنا نملك أشد القناعات بنتائج هذا النور نعلم بأن البشر قادر على كشف الأشياء، ومقدار ما يكتشف منها يكون واضحا أمامه وذا قيمة تامة لديه.

وهذا ذات ما استهدفناه بالمذهب العقلي، وهو ينطوي على رد النسبية الذاتية. إذ ان الذات (ونعني به هنا ما بالنفس من عوارض الجهل والهوى) خاضع لنور العقل الموجود فيه ومنكشف به. وإذا فهو يفتضح لدى ادخال جهالات باطلة ضمن المعلومات الصحيحة.

2- والزمان والمكان منكشفان بالعلم. ذلك ان التعاقب بين حدثين ( وهو مفهوم الزمان عند كانت )، أو بين شيئين (وهو مفهوم المكان عند كانت )، ان هذا التعاقب لا يمكن الاحساس به، فكيف اعتقدنا به؟ يقول(كانت) لانه يستحيل العلم بشيء لا زمان له. وهذا خطأ، فالمستحيل مثلا نعلم به بعيدا عن قالبي الزمان والمكان وكذلك الخير والشر والقبح والحسن والفضيلة والرذيلة.

ومن هنا نعلم ان موضوعات المعارف الغيبية (ميتافيزيقيا) معلومات لا ريب فيها بالرغم من أنها لا تخضع لظرفي الزمان والمكان لأنها أولا: معلومات قناعتنا بها قد تكون أشد من قناعتنا بنتائج الحس. فكيف نؤمن بهذه ونكفر بتلك؟ ولأنها ثانيا: تضاهي تلك المعارف التي نؤمن بها وليس خاضعة لظرفي الزمان والمكان مثل المعلومات العقلية التي آمن بها (كانت) أيضا، كإستحالة التناقض.. ولأنها ثالثا وأخيرا: هي النتيجة الطبيعية للإيمان برابطة العلة والمعلول التي آمن بها (كانت) نفسه.

والواقع ان (كانت) أبعد عن منطقه الوضعي الحقائق الغيبية لأنها لا تخضع لمفهومي (الزمان) و(المكان). وهو لم يأت بدليل مقنع في ان يتخذ من علمنا اليقين بالغيبيات، حجة على ان الزمان والمكان لا يعدوان حقيقتين منكشفتين بالعقل، وليسا أمرين ذاتيين ـ كما زعم ـ.

وبعد فنحن لا ننكر ان هناك مجموعة من الحقائق لا يمكننا الإحاطة بها علما. فحقيقة الوجود مثلا- حقيقة بعيدة عن الزمان والمكان ولكننا بعيدين عن معرفتها، لأننا نعيش في إطار الزمان والمكان ومن المستصعب عمليا التجرد عنهما للاطلال على جوهر الأشياء.ولكن هذا لا يزيدنا الا ثقة بعقولنا التي هدتنا إلى ان هناك حقائق نجهلها وإلا فكيف عرفنا ان هناك حقائق وراء مشاعرنا؟! النسبية الفردية

كان (كانت) يذهب إلى النسبية الذاتية التي تهدف إلى اثبات وجود إضافة من ذات البشر على المعلومات التي تعتبر عنده إضافة المحسوسات إلى ما بالذات من قالبي الزمان والمكان.

وكانت تلك النسبية ترى: ان الذات البشرية واحدة في كل إنسان، وان الناس سواسية في تفهم الحقائق.

وكانت تعترف أيضا بصحة المعارف الرياضية لأنها نابعة من أصل ثابت عند الناس جميعا وهو الزمان والمكان.

الا انها تطورت لدى النسبية الفردية، فقالت:

1- ما دامت الذات البشرية تخلق أثرا غير واقعي على المعارف كقالبي الزمان والمكان، ولا يملك الإنسان نورا يكشف به زيف هذه الزيادة وبُعدها عن الحقيقة. ما دام الأمر كذلك فإن القول بأن الناس سواسية في الأضافات قول باطل، لأن لكل إنسان شروطا خاصة بالإدراك ليست للفرد الآخر. ومن هنا فله إضافات ذاتية مخصوصة به، فكل بشر يدرك على شاكلته. ولهذا قالت هذه النسبية: لكل شخص حقيقة تخصه.

2- وعلى هذا فليس من الصحيح الإيمان بصحة الرياضيات إذ انها غير ثابتة هي الأخرى. بل قد تكون 22=4 عندي، ولكن عند غيري يساوي خمسة، لماذا؟ لأنه لا يملك أحد مقياسا ثابتا للمعرفة إذ يحتمل فساد معلوماته بإقحام التصورات النابعة عن شروطه الخاصة للإدراك.

هذه هي النسبية الفردية، وقد فضلنا ان نسميها بالفردية مع ان المشهور تسميتها بالذاتية إنطلاقا من قاعدتها: ان لكل فرد نوعا خاصا من الإدراك.

وهذه النسبية ليست الا البنت الشرعية لنسبية (كانت)، بل هي وليدة الكفر بنور العقل الكاشف لغياهب الذات، والناقد للحس بطرقه الخاصة.

وقد سبق القول منا في الفصل الأول، كيف ان العقل يحكم أحكاما ثابتة لا ريب فيها ولا تفاوت بين شخص وآخر، وقلنا كيف ان الذات منكشفة هي الأخرى وما تحس به لهذا النور المبين.

وبناء على تلك الحقائق التي ذكرنا بها في ذلك الفصل يبدو التشكيك في المعرفة البشرية ـ غير المتأثرة بالهوى والغضب والتسرع ـ تافها. إذ ان الإدراك العلمي لا يخضع لشروط شخصية، وبالتالي فهو يثبت صامدا أمام مؤثرات المادة.

والواقع ان جذر الخطأ في جميع مذاهب الشك والنسبية كامن في أمر واحد هو الخلط بين دور العقل ودور الجهل اللذين يتنازعان النفس البشرية.. الجهل (أي الذاتية والمصلحية والغفلة وما إلى ذلك) يضغط على الإنسان لكي يعتقد بفكرة ولكن العقل يحكم على زيفها أو صحتها ثم يكون للإنسان كامل الحرية في اختيار أي الطرفين.. وحين يصفوا العقل (باختيار الإنسان له) فإنه يكشف عن الواقع. واذا كشف فإن الثقلين لا يتمكنان من تشكيك صاحبه في حكمه الذي يعتبره هو الحق.

النسبية التطورية

وتابعت النسبية مسيرتها، منطلقة من قاعدة واحدة هي الغفلة عن نور العقل، الذي زودت النفس البشرية به حتى جاءت النسبية التطورية النهاية الحتمية لها. وذلك لأنه إذا كانت المادة حقيقة الإحساس، والإحساس حقيقة المعرفة أو أهم مصادرها، واذا كانت المادة في حالة تطور دائم، فلماذا لا تكون المعرفة هي أيضا متطورة ولا تمثل الا بعض واجهات الحقيقة؟

ولكي نعرف حقيقة النسبية التطورية يجب ان نلقي بعض الأضواء على ديالكتيك الفكر التي هي جزء من المادية الديالكتيكية.

ان للمادية الدياكتيكية جانبا إيجابيا وآخر سلبيا. في الجانب الأول تحاول الديالكتيكية اثبات معرفة حقه للإنسان بإزاء المثالية والتشكيكية.. وتحاول في الجانب الثاني، اثبات صفة التطور للمعرفة.

والحقيقة ان المحاولتين متباعدتان. يظهر ذلك ببيان كلا الجانبين وما قد يتعرضان له من انتقاد.

1-الجانب الإيجابي

تقيم المادية الديالكتيكية عدة أدلة على تطابق المعرفة مع الواقع الخارجي. وينبغي ان نتذكر في البدء ان طبيعة الأدلة علمية وغير مرتبطة بمسألتنا الفلسفية.. ذلك لأن النظرية المثالية والتشكيكية التي تحاول النسبية التطورية تفنيدها، نظرية فلسفية تستند إلى التشكيك في كل علم، بل في كل شيء وراء عالم المادة. وان أية حقيقة علمية لا تفيدها لأنها لا تشك في تلك الحقيقة العلمية التي احتج بها فقط، بل وحتى في وجود قائلها، ويكون أشبه بإستدلال النائم ـ وهو يحلم ـ بصحة علمه على انه يسمع ويرى ويتحرك في حين لا يعترف الواعي بسماعه ورؤيته وتحركه. بعد هذه الملاحظة دعنا نستعرض أدلة الديالكتيك:

الدليل الأول:

ان الفكرة ليست الا نتاجا أعلى للمادة، حيث انها تتحول في عملية فيزيائية من الكتلة إلى الطاقة، وتتحول بعد ذلك من الطاقة إلى الأعصاب في عملية فيزيولوجية، وتتحول بعدئذ إلى عملية سيكلوجية.

فمسيرة الفكرة كالتالية:

المادة الإحساس الإحساس المعرفة..

وبتعبير آخر:

المادة الفيزياء الفيزلوجي السيكلوجي.

فإذا كانت المادة لونا من ألوان الحركة، فإن ذات الحركة بصفاتها تحولت إلى حركة نفسية عبر حركة في الأعصاب. فلذلك لا نستطيع ان نقول، ان الإحساس يختلف عن الواقع الموضوعي.

ونحن واقعيون ونعترف بتوافق الإحساس والواقع الموضوعي أولا أقل إمكان هذا التوافق. ولكننا مع التجرد عن هذه الصفة، وافتراض كوننا مثالين جدلاً لا نستطيع ان نقتنع بهذا الدليل، لماذا؟ ينبغي توضيح نقطتين لمعرفة السبب الذي حملنا على رفض هذا الدليل! بين التحول والتنبيه

لابد من الفرق بين مفهومي التحول والتنبه. ففي الميكانيك: البنزين يتحول إلى طاقة محركة، أما الضغط الذي يولد الانفجار في عبوات الطاقة فإنه ليس الا منبها؛ أي ليس هو الذي يحرك السيارة، وانما هو الذي ينبه الطاقة. ويشعلها.. ومثل آخر عن الكهرباء: الطاقة تتكون في مركز توليد الطاقة، وتسير عبر الاسلاك حتى تبلغ قريب المصباح حيث ينقطع السير في الزر المختص، ويأتي الإنسان ليضغط على (الزر) فيشتعل المصباح.. طاقة الإنسان تحولت فعلا إلى الزر ولكنها ليست هي التي أعطت المصباح الضياء، بل كانت بالنسبة إليها منبها فقط.

فتحويل الطاقة يعني إنتهاء الطاقة من شيء ووجودها في شيء آخر لم تكن فيها أية طاقة. أما التنبيه فإن الطاقة لا تتحول من الشيء الأول إلى الشيء الثاني، بل ان الشيء الثاني يملك طاقة من ذاتها أو من مكان آخر، ولكنها تنتظر المنبه.

وهنا نستطيع التفرقة بين عملية الإحساس وعملية الهضم. فالأولى منبهة والثانية محولة. الإحساس لا يحول الطاقة من الشيء الخارجي بكاملها إلى الأعصاب، بل حين أحس بالنور يبقى النور في مكانه، ولا يتحول كله إلى الأعصاب. والأعصاب هي بذاتها حية فيها الحركة والطاقة تماما كما هو موجود في أسلاك الكهرباء، والإثارة الخارجية لا تعدو ان تكون محركة لتلك الطاقة الموجودة. ولمزيد من التوضيح نقارن المنبهات بالإرادة. فنحن جميعا نعلم بوجود خطين في الأعصاب؛ خط الاستقبال، وخط التوجيه. فالمنبهات بالنسبة إلى خط الاستقبال تؤثر على الأعصاب حتى تحمل الإحساس إلى الدماغ. أما خط التوجيه فإنه يرسل بسببه الأوامر من الدماغ إلى الأعضاء. فالإرادة تبعث في الأعصاب ما تبعثه المؤثرات الخارجية فيها لكن بإتجاه معاكس.. وبما ان عملية التوجيه ليست بتحويل الطاقة إلى الأعصاب إذ ان الإرادة باقية محلها، فإن عكسه وهو خط الاستقبال لا يحول الطاقة من الخارج إلى الأعصاب. وهي بالتالي تشبه المنبهات الآلية الموجودة في الطائرات المزودة بالرادار، حيث انها هي التي تنبه بالمؤثرات وليست عملية تحويل الطاقة تجري فيه كما تجري في محركاتها ونفاثاتها.

وهذا لا يجعلنا ننكر أية تحويل. فبالدقة ان هناك جزءاً قليلا من الطاقة تتحول من المنبهات إلى الأعصاب (كالجزء القليل من الأشعة التي تنعكس على شبكة العين)، ولكن لا يعني هذا (التحويل المطلق) كما لا يعني تفسير الإحساس بعملية التحويل.

وقد خلطت المادية الديالكتيكية بين التحويل والتنبيه هذه مفارقة، ومفارقة أخرى.


/ 15