فالمسلمون، كانوا أمة، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، وكوّنوا حضارة لا مثيل لها؛ كل هذا ـ تاريخ ـ لا يمكن أن يحقق شيئا. ولنا أن نتساءل عن انه هل عاد المسلمون أمة، وهل هم اليوم خير أمة، وهل انهم بناة حضارة، بل هل هم حماة حضارة؟؟ وبكل أسف يجب أن نجيب كلا أننا لم نعد أمة لأننا اليوم نفقد الوحدة والتعاون.
ولم نعد خير أمة، لأننا لا نملك كفايتنا من العلم والإيمان.
ولم نعد نبني ولا نحمي حضارة، لأننا وبكل أسف، نعاني نكبات عسكرية، وتخلفا اجتماعيا علميا اقتصاديا. و.. و.. وبالتالي:
ان اسلام أمس لا يغني عن إسلامنا اليوم.
والسؤال هنا كيف نحول أمس إلى اليوم؟ والجواب بسيط، لا بد من طي الفترة التي تفصل اليوم عن أمس ليتصل يومنا بيوم تقدمنا، ونبدأ منه المسير.
ذلك لأننا بحاجة إلى واقعين: قاعدة بناء ومنطلق مسيرة هما في الواقع أصالة وتفتح. فدون واحد منهما نخسر المعركة الحضارية.
والإستلهام من الدين الصحيح يشكل القاعدة والمنطلق والأصالة، والتفتح على الحياة يشكل المسير والتفاعل.
فنحن إذا بحاجة إلى (تأصل) و(تفتح) ولابد أن نحققهما عبر مراحل ثلاثة:
1- مرحلة التأصل، وفيها نحاول استيعاب الفكرة الحضارية التي تتمثل في الدين الإسلامي إيمانا وعلما.
2- مرحلة البعث، وفيها نتحسس بالتخلف ونستيقظ من سباتنا العميق، ونريد ان نحيي.
3- مرحلة التفتح، وفيها نحاول الاستفادة من معطيات العلم الحديث.
ان هذا هو الخط الواضح القويم الذي لا يمكننا ان ننجح دون الإلتزام به والوفاء بمتطلباته.
بيد أن هناك عقبة تعترض الطريق، وبمدى قدرتنا على تحديها بكون مدى جدارتنا بحماية حضارتنا التليدة وبنائنا الحضارة الجديدة. وهي التطرفات اليمينية واليسارية التي تريد بالمسيرة الإنحراف عن خطها المستقيم. فاليمين يحاول تجميدنا على الأوضاع الفاسدة، واليسار يريد تمييعنا في بوتقة الحضارات المعاصرة. اليمين يرفض الأخذ بأي جديد ويحاول بنا الانطواء على شكليات القديم المهترئة والتقوقع في توابيته الفكرية المحنطة، ويرضى لنفسه أن يكون تابعا أعمى للفلسفة الأغريقية والبرهمية ولا يقبل الانفتاح على معطيات الحضارة الحديثة العلمية، بل ولا على معارف الدين الإسلامي الحق. ولذلك لا يزال يعتكف على منطق ارسطو وهيئة بطليموس وطب جالينوس في عصر المناهج العلمية الدقيقة، حيث يرتاد الفضاء وتستخدم الذرة وتستعمل الأشعة في شفاء الأمراض.
والذي لا ريب فيه أن اليمين بعيد عن روح الإسلام بعد المشرقين، ذلك لان الإسلام فلسفة شاملة أصيلة متفاوتة كلياً مع فلسفات الأغريق والبراهمة ـ الوثنية المشركة ـ والاسلام منفتح كليا على معطيات العقل والعلم ولا يرضى التقوقع ضمن توابيت القديم.
ولا ريب كذلك أن اليمين عقبة دون بناء الحضارة، لابد من تجاوزها.
والتطرف اليساري هو الآخر عقبة كؤدة يشكلها الانهزاميون الذين منعتهم التيارات الغربية الشعور بأنفسهم فراحوا ينظرون إلى واقعهم وكيانهم بعيون مستعارة، فلا يرون الا مصالح الآخرين. فهم يريدون أن نرفض كل أصيل لأنه في زعمهم السبب المباشر لتخلفنا.
والمسلمون ظلوا بين رجعية اليمين وميوعة اليسار لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ذلك لأن المنحرفين راحوا يشككون في قدرة الإسلام أن يبني حضارة المسلمين الحديثة الأصيلة.
وبما أن الدين لا يزال يتمتع بقاعدة شعبية واسعة وراسخة، فإن المنحرفين لم يقدروا على الهجوم على صلاحية الإسلام أو إمكانية المسلمين للقيام ببناء حضارة حديثة، بل راحوا ينافقون ـ كل حسب اتجاهه المتطرف ـ أيما نفاق.
فالرجعيون حاولوا أن يحصروا الدين عند الناس في حدود معينة من السلوك الفردي وبعض النظم الاجتماعية، أما في المناهج العلمية والأفكار الفلسفية والقواعد الخلقية فلابد أن يصبح تابعا متواضعا للفلسفة التي يختارونها كل حسب هواه.
ومن هنا قالوا: ان الإسلام يشجعهم على اتباع الفلسفة الاغريقية وذهب الخيال ببعضهم حد القول بأن أفكار الفلسفة القديمة هي بالذات معطيات الإسلام، فالمنطق الشكلي ونظرية القوة والفعل وهيئة بطليموس وما أشبه هي عندهم نظريات إسلامية.
وكانت نسبتهم هذه إلى الإسلام أشبه شيء بنسبة رجال الكهنوت خرافات العصور الوسطى إلى المسيحية، مما أدت إلى إرتداد العلماء عن الدين في أوروبا.
أما النصوص الشرعية المخالفة لهم في نسبتهم هذه فكانت في أيديهم ألين من الحديد بين أصابع داود عليه السلام، حيث أخذوا يأوِّلون فيها ويوحرفون ويفترون على الله الكذب وهم هادئون مطمئنون.
وفي الطرف المعاكس تماما كان الإنهزاميون يقومون بدور مماثل للرجعية ولكن من منطلق مختلف، إذ كانوا يحاولون تجريد الإسلام من روحه الناصعة، ومبادئه الفطرية الصائبة، وتمييع أحكامه المحددة وتوجيه نصوصه وفق (فلسفات الغرب الحديثة) ناسين أو متناسين كل ما في هذه الأخيرة من سلبيات وتناقضات.
وقد بلغ الجهد ببعضهم حدا دعى المسلمين إلى تبني فكرة مناهضة للإسلام تماماً، وبإسم الإسلام ذاته، وقالوا لا يعدو الإسلام أن يكون إنتماء قوميا أو قبليا أو عائليا، فهو ينسجم ـ أو بالأحرى لابد ان نجعله بحيث ينسجم ـ مع كل جديد يقتضيه اتجاه الحضارة الحديثة. ولم يعلموا أنهم بعملهم هذا انتزعوا عن الإسلام أهم ما فيه، وهي الروح المبدعة المغيرة والثائرة.
وضاعت الأمة الإسلامية المرتقبة والحضارة الإسلامية المأمولة، ضاعت في زحمة هذه الاتجاهات المتطرفة.
وأصبح الإسلام كلمة جوفاء مطاطية كأنها ضباب السواحل تشمل جميع المتناقضات، وليس أبداً ذلك الدين الواحد الذي جاء من رب واحد لتكوين أمة واحدة، بل انه ألف دين وألف مذهب وألف أمة.. وكانت هذه عقبة تعترض مسيرة المسلمين الحضارية وكان لابد لنا من تحديها بأمرين:
1- تجريد الإسلام من الفلسفات الجاهلية التي نسبها المنحرفون إلى الدين حتى يعود الدين كما هبط من الله سبحانه فكرة رائعة تحمل نفسها على كتف الحياة، وتنسجم وتتفاعل معها. ولا يمكن ذلك دون العودة إلى ذات النصوص الشرعية ومحاول التسليم لها والتفتح عليها. دون التأويل فيها والتحريف لكلماتها.
2- تجريد الحضارة الحديثة عما شابت بها من سلبيات الإنسان الأوروبي ونظراته الضيقة المحدودة، وذلك بدراستها في ضوء العقل وهدى القرآن دون تقليد منا أو انغلاق عنها.
وعلينا بعد ذلك الاعتماد على أصالتنا في بناء حضارة قوية وسليمة.
وليس الكتاب الذي بين أيدينا الا محاولة متواضعة تهدف تحقيق هذه الغاية، والله الموفق وهو المستعان.
محمد تقي المدرسي
العراق-كربلاء
الفكر الإسلامي مواجهة حضارية
القسم الأول عن:
العلم والفلسفة
المعرفة بين الإسلام والتصورات البشرية
نقد التصورات البشرية
العالم بين الإسلام والتصورات البشرية
القسم الأول عن العلم والفلسفة
البحث الأول عن:
المعرفة بين الإسلام والتصورات البشرية
منهج البحث
العقل وتقييم الأفكار
العقل ومصادر الفكرة
ـ 1 ـ
منهج البحث
كمن يدخل بيتا يكتنفه الظلام فيتحسس قبل كل شيء عن المصباح، فإذا وجده استضاء به في اكتشاف سائر الأشياء. كذلك حاول الإنسان: أن يجد في البدء مصباحا للحياة، فإتجه قبل كل شيء ناحية نفسه ليجد فيها العلم والعقل فأولاهما كل اهتمامه.
والإسلام بدء يذكر الإنسان بعقله، ليتخذه مصباحا يكشف به غيب الحياة. وتماما كما أن كل شيء في البيت المظلم ينكشف بالمصباح الا أن المصباح ذاته لا يعرف الا بنفسه بعد التوجه إليه. فإن الإسلام يعتبر العقل أول ما يعرف، بيد ان معرفته لن تكون الا بذاته. إذ ان الإنسان كيف يكشف العقل وهو لا يملكه؟ بل كيف يكون العقل كاشفا للإنسان عن كل شيء ولا يكون كشافا عن ذاته؟
وهكذا يبدء الإسلام معالجة أعقد مشكلة عند البشر من زاوية جديدة وبمنهج جديد، وذلك حين يأمر الإنسان بالا يحاول معرفة العقل الا بالعقل ذاته. إذ انه سيُلحد عن المنهج القويم إذا أراد معرفته بالتوصيف أو بالتصورات والتحليلات البعيدة. ذلك لانه سيبعده عن العقل تماماً مثل الذي يحاول التعرف على المصباح في الليل المظلم بتوصيفه أو تصوره.. يقول الإسلام: ليس العقل شيئا بعيدا عن الإنسان، ولذا فلابد الاّ يحاول معرفته الا بكشف ذاتي وتنبه ذاتي. ومن هنا فإنه يذكر البشر بأن العقل ذلك النور الذي يجده كل عاقل في نفسه بعد ان لم يكن، وحين يجده يشرع بمعرفة الحسن والقبح والخير والشر.. الخ. وربما يفقد الإنسان عقله في سورة الغضب فيرتكب عملا فإذا أفاق لأم نفسه، وتحسر عما فعلت.. هكذا توجيه إلى الداخل، عودة إلى الذات، عودة إلى الشعور.
ان الكشف الذاتي الذي يملكه العقل، نابع من ان كل شيء ظاهر بسببه، فكل ما هو منكشف للبشر وظاهر له آية من آيات وجوده. ومن هنا كان على الإنسان الغافل عن عقله ان يستثير أكبر كمية ممكنة من معارفه، ليجد انه لم يكن يحيط بها لولا وجود طاقة لديه، تكشف الحقائق وهي (العقل). ولهذا فإن التوجيه إلى آثار العقل وآياته هو الدليل القريب إلى حقيقته وإذا وجده الإنسان وعرف حقيقته وميزه عن الجهل، وفرق بين أحكامه الصائبة وخيالات النفس، وأخيرا إذا استيقظ العقل داخل الذات بالتذكرة به والتوجيه إليه استطاع الإنسان أن يسكن إلى نفسه ويثق بفكره ويهتدي إلى السبيل إلى كل علم وكل خير.
هذا هو المنهج الإسلامي الفريد.. ويتخلص في ثلاث نقاط:
1- التذكرة بأن معرفة العقل بداية كل معرفة ومنطلق كل بحث.
2- التذكرة بأن معرفة العقل لن تكون الا بالعقل ذاته، أو بآثاره وآياته وذلك لمقارنة حالتي وجوده وعدمه ببعضهما.
3- التذكرة بأن وجدان العقل، هو الطريق إلى وجدان الحقيقة وتميزها عن الباطل. من هنا نجد النصوص الإسلامية تتظافر بالتذكرة إلى العقل في محاولة لا يقاظه داخل النفس ووجدان الحقائق به. جاء في الحديث:
إذا أردت أن تختبر عقل الرجل في مجلس واحد فحدثة في خلال حديثك بما لا يكون، فإن أنكره فهو عاقل وان صدقه فهو أحمق. هذه تذكرة إلى آيات العقل وإلفات النظر إلى أثر من آثار العقل، وهي معرفة المستحيل وإنكاره رأسا.
وسئل الحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ فقيل له ما العقل؟ قال التجرع للغصة حتى تنال الفرصة..
هذه آية أخرى من آيات العقل يكتشف بها الإنسان وجوده.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صفة العاقل أن يحلم عمّن جهل عليه، ويتجاوز عمّن ظلمه، ويتواضع عمّن هو دونه، ويسابق من فوقه في طلب البر. وإذا أراد أن يتكلم تدبر، فإن كان خيرا تكلم فغنمم، وان كان شرا سكت فسلم. وإذا عرضت له فتنة استعصم بالله، وأمسك يده ولسانه، وإذا رأى فضيلة انتهزها لا يفارقه الحياء، ولا يبدو منه الحرص. فتلك عشر خصال يعرف بها العاقل.
هكذا تتظافر النصوص الإسلامية على بيان آيات العقل وآثاره لكي تكون تذكرة إليه ويقظة له من الداخل، لانه ليس هناك أي حقيقة يمكنه ان تكشف العقل لنا دون الفعل ذاته، والعقل لا يمكن معرفته الا بالتذكرة إلى آثاره.. بين العقل والعلم
وحيث يتعرف الإنسان على العقل يستطيع أن يميز العلم عن الخيال. فالعقل يحكم بإستحالة التناقض والتضاد، وقبح الشر والظلم، وبصحة محسوسات الجوارح. وانه يقدر على أن يرد كل حادث إلى سببه وكل هاجس ـ في النفس ـ إلى علته. يقدر على تمييز كل فكرة صحيحة عن الخاطئة بعد التأكد من سببها، وهو يحكم بأنه لو انكشف الواقع أمام الإنسان انكشافاً واضحا، بحيث لا يمكن للنفس التشكيك فيه فلا يكون ذلك الا علما صحيحا. وأما لو أحب المرء أن يعتقد بفكرة لمصلحة أو هوى في نفسه فلا يمكن أن تكون تلك الفكرة الا باطلة.
فمثلا: قد يهجم على شاشة النفس تصورات متفاوتة من واقع واحد، فيرى المرء أن جاره رجل طيب، ثم يرى في الوقت ذاته أنه شرير، ويرى أن القيام بأذاه قبيح ولكنه في ذات اللحظة يتراءى له انه عمل شريف وواجب.. هنا تتداخل التصورات وتتوتر النفس، ويحتار الإنسان فيتدخل العقل ليبرز العلم الصحيح. ذلك الذي يكشف فعلا عن الواقع الخارجي ويميزه عن الخيال. فيقول محللا بأناة: كيف عرفت أن جاري رجل طيب؟ أبقول الناس أم بقياس أعماله، أم بطيبة أبيه؟؟ فإذا وجد أن ما دعاه إلى تصور الجار رجلا طيبا كان قول الناس ـ مثلا ـ إذا وجد ذلك وقف ليوجه إلى نفسه سؤالاً ثانيا: هل يمكن للناس أن يكذبوا وليست لديهم أية مصلحة في القول بصلاح جاره؟ فيحكم ويقول كلا.. ثم يحاول التعرف على السبب الذي دعاه إلى تصوره رجلا خبيثا، فيجد أن جاره طالبه بحقه الذي لا يمكنه الا الاعتراف به. وهنا يعلم أن السبب في هذا التصور المشوه عن جاره الطيب يكمن في مصلحته وهواه الذاتي. والعقل يحكم بأنه لا يمكن أن يكون هذا دليلا على أنه رجل شرير.. بهذا يفرق بين تصور خاطئ وتصور صحيح، والأمر لا يعدو أن يجري خلال لحظة واحدة الا انه ينطوي على مجموعة أحكام عقلية صائبة.
وهكذا يميز العقل بين حسٍّ باطل وحسٍّ صحيح.. فحين يصاب المرء بالدوار يزعم أن الكون يدور من حوله، لا يشك العقل في أن حسه باطل لأنه يخالف سائر أحاسيسه من جهة وأحاسيس سائر الناس من جهة ثانية. وحين يغمس يدين في ماء واحد، فتحس أحديهما بأن الماء حار والثانية بأنه بارد، فإن العقل لا يتردد أن يحكم فورا بأن اليد تتأثر بحالتها السابقة. فحين كانت احدى اليدين في الماء الحار سابقا- شعرت بأن هذا الماء بارد، وحين كانت الأخرى ـ سابقا ـ في الماء البارد شعرت بأن هذا الماء حار. والماء على هذا ماء فاتر، فهو بالنسبة إلى الحار بارد، وبالنسبة إلى البارد حار. وحين نسمع أخبارا متناقضة، فالعقل يحكم بأنها لا يمكن أن تكون جميعها صحيحة، بل يبحث عما ينبغي أن يطمئن إليه. ولذلك يقوم بتحليل الدوافع التي دعت أصحابها لنقل الأخبار المتناقضة، لأن العقل يحكم بأن وراء كل عمل دافعا نفسيا معينا. فإذا وجد ان دافع أحد من ناقلي الأخبار سليم، حكم بصحة خبره. ومعرفة الدافع أيضا تدور على محور أحكام عقلية. فلا يمكن أن يكون دافع الرجل الصالح، الذي عرف منه الصدق والوفاء والأمانة والتضحية والشجاعة والشهامة و.. و.. الا دافعا سليما. ولا يمكن أن يكون دافع من يكون الخبر ضد مصلحته واعترافا منه على نفسه الا دافعا سليما و.. و..
هكذا يصبح العقل أمام العلم حسبما جاء في حكمة رشيدة للإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال فيها: (نصب الخلق لطاعة الله ولا نجاة الا بالطاعة. والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم الا من عالم رباني ومعرفة العالم بالعقل) وفي حكمة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء) أليست الأفكار فوضى لا تفيد الا بهدى العقل، وبمسبقاته الصائبة؟ أو ليست القلوب ـ أي النفوس ـ لا يمكنها أن تهتدي بدون الأفكار الصائبة، واذا كانت الحواس تعمل وفق إرادة الإنسان فإن إرادة الإنسان نابعة من نفسه ـ أي قلبه ـ فتكون القلوب إذن أئمة الحواس وهداتها.
ـ 2 ـ
العقل وتقييم الأفكار..
ملاحظات أولية
1- ان أول ما نستكشفه لدى السير في ضوء المنهج الجديد، هو أن للإنسان نورا يستطيع به تقييم أفكاره. وهذا ما يفرقنا عن الحسيين والتجريبين الذين رفضوا الاعتراف بوجود مسبقات ثابتة تقيم بها النفس أفكارها المختلفة.
2- الأحكام العقلية لا تكون موجودة عند الإنسان منذ ولادته. قال الله سبحانه: [والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا] والآية لا تعدو أن تكون تنبيها إلى واقع العقل والعلم، وانهما هما النوران الكاشفان اللذان لم يكن أحد منا يملكهما حينما أخرج من بطن أمة، ثم أصبح الآن يملكهما. فلابد إذا أن يعترف انهما من الله، لانه لو كان من نفسه إذا لكان لديه منذ الطفولة. وليست الآية تنفي وجود نور في النفس بصورة مجردة عن المادة المحسوسة، فهي لا تتنافى مع وجداننا هذا النور بصورة فجائية عند البلوغ. ذلك لأنه حسب النظرة الإسلامية انما يوهب العقل للنفس بعد البلوغ حيث يقوم الإنسان بالحكم على الأعمال والأفكار بالصحة والفساد، وهي الحالة التي ترافق التمذهب عند الأفراد أيضا.. وجاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا بلغ المولود حد الرجال أو حد النساء، كشف ذلك الستر. فيقع في قلب هذا الإنسان نور فيفهم الفريضة والسنة والجيد والرديء. ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في البيت).
وليست هذه الأحكام العقلية حسبما تظهر لمن تذكر بها، ليست بمختصة بما يحتاج إليه الإنسان في حياته العملية من نقد الأفكار المتناقضة التي تستقبلها أجهزة الأحساس وتبتدعها تصورات النفس. بل ان العقل يهدي النفس إلى كل حسن وكل قبح وكل محال وكل ممكن ومن كل المستويات، على مستوى الأعمال الشخصية، وعلى مستوى الأعمال الاجتماعية، وعلى مستوى الكون أيضا حيث يهدي البشر إلى الحقيقة الكبرى في الكون؛ حقيقة الخلق والتقدير وتتجه به إلى الإيمان بالله الخالق المدبر، ذلك لأن هذه الحقائق كلها في صف واحد، والعقل هو العقل. فمثلا حين يبصر العقل حسن الخير وقبح الشر، فلن يفرق في رؤيته هذه بين الخير الضئيل والخير الجليل، والشر القليل والشر المستطير، لأن كله ينطوي على طبيعة الخير وطبيعة الشر. وحين يرى الإنسان بعقله ان فاعل الخير يُشكر، فلن يفرق بين أن يكون فاعل الخير العبد أم المعبود.. ان واجب الشكر يستلزم كلا منهما بذات الرؤية الواحدة والحكم والواحد.
والخلاصة: ان العقل يكشف الحقيقة. وكما ان الكبير حقيقة، فالصغير أيضا حقيقة، تماما كما تبصر العين المرئيات، ولا فرق فيها بين أن تكون صغيرة أو كبيرة.
وبهذا تتبين ان النظرة الإسلامية حول العقل نابعة من إعطائه الثقة الكاملة في كشف الحقائق الغيبية، خلافا لتلك النظريات التي تحدد العقل بالشؤون المادية وتنتزع منه حق الحكم في الأمور الغيبية، وتجعل الدين هو الحاكم المطلق في تلك الحقائق. ومن هنا جاء في الحديث: أصل ديني العقل.. وخلافا أيضا للحسيين والتجريبيين الذين حددوا العقل بحدود المادة المحسوسة.. إذ ليست الأحكام العقلية حسب هذه الرؤية نابعة من مقتضيات التجربة الخاصة أو الحس المادي حتى تختص بالعالم المحسوس، بل انها نابعة من النور الذي يجد الإنسان كل شيء به، حتى ان التجربة ذاتها والحس نفسه لن يفيدان شيئا دون وجود ذلك النور حسبما يأتي تفصيل القول فيه بإذن الله. بين العقل والسابقيات العلمية
وللعلم أن السابقيات الفكرية التي تملكها النفس البشرية، مثل العلم بإستحالة التناقض والصدفة وقبح الظلم والشر، وإمكان الخلق والإبداع، وحسن العدل والخير.. ان هذه السابقيات ليست ذاتها العقل، بل انها حقائق يكشفها نور العقل للنفس كما يكشف ضوء الشمس ألوان الحقول.. وكان خطأ الإنسان الأكبر غفلته عن مصدر النور وتوجهه إلى الأحكام زاعما انها هي حقيقة النور فراح يبحث عن مصدر يقيم بها تلك الأحكام. ولو كان الإنسان قد تذكر بأن الذي يساعده على البحث ليس الا هذا النور، وانه لو افتقد أصبح كالمجنون والنائم حين لا يفهمان أمرا ولا يعلمان شيئا وانه أشبه شيء بنور الإرادة والحرية التي تملكها النفس البشرية. وتملك بهما القدرة على الاختيار وهي بذاتها قدرة ذاتية لا تعلل.. أقول لو فعل الإنسان ذلك إذا لتخلص عن سلسلة لا تنتهي من المشاكل العلمية التي أحاطت بنظرية المعرفة. ذلك لأنه حينذاك يجد ان البحث عنه ـ كما سلف ـ ضرب من الإسراف والترف الفكري. إذ ما من بحث الا وهو يؤكد على وجود قوة للإنسان تساعده على البحث، وهي بالتالي تنير طريقه إلى الحقيقة، وتلك القوة هي العقل، وهو نور مقدس عن الإحاطة به من لدن الذات.. من هنا كانت عملية (كانت) النقدية التي سيأتي التفصيل عنها إن شاء الله، ـ والتي استهدفت نقد العقل ـ كانت عملية موغلة في الجهل إذ ان الغفلة عن نور العقل، ذلك النور الذي لم يستطع (كانت) ذاته القيام بعملية النقد بدون وجوده لديه. ان الغفلة عنه فقط كان السبب في التوجه إلى السابقيات الذهنية، كتصور الزمان والمكان والعلة و.. و.. لينقدها وينتهي بالتالي إلى نظرية النسبية ومنطقه الوضعي. ولو ان (كانت) كان يتذكر بوجود نور يجعله يقيم الأشياء ويعتمد على تقيمه هذا، وان ذلك النور هو الذي يكشف له عن الزمان والمكان والعلة والسبب، إذا لنقد الأشياء به، ولم يزعم انه استطاع نقده هو، غافلا عن ان العقل لا يمكن الإحاطة به فكيف يتاح له نقده، وبأي شيء ينقد الإنسان عقله؟ أبعقله ام بجهله؟ والعقل لا يشكك في ذاته والجهل لا يمكنه نقد العقل..
ومن هنا أيضا أصاب (ديكارت) دوار عنيف في مسيرته عبر العقول إذ انه شكك نفسه في معلوماته النظرية. وحين زعم انه تخلص منها قام ليبني صرح العلم على قواعد جديدة فلم ير تحت رجليه حجرا ثابتا، وجر إليه إنتقادات كبيرة من لدن معارضيه من الحسيين. ورغم ان (ديكارت) عقلي التفكير فإنه أيضا مخطئ في منهجه، وينشأ خطئه من أمرين:
الأول: تشكيكه في أن تكون سابقياته الفطرية ناشئة من النفس أو من قوة شيطانية داخلها. ولم يعلم ان تشكيكة انما هو في التصورات الغامضة التي لم تتنور بعلم الإنسان. أما الحقائق الواضحة التي أحاط به علم البشر فلم يمكن التشكيك فيها أبدا. ولهذا عاد (ديكارت) نفسه فأعترف بالنفس، وعلل اعترافه بأنه يجدها ظاهرة مميزة أمامه بحيث لا يمكنه الا الإعتراف بها.
الثاني: غفلته عن حقيقة النور الذي كان معه في لحظة تشكيكه في العقل، وإلا فكيف استطاع أن يبلغ بالتشكيك مرحلة متقدمة منه بترتيب النتائج على الأسباب. كيف استطاع ان يقول: يمكن ان يكون هناك شيطان مضلل للفكر؟.. مع أن علمه بإستلزام سبب للأفكار الخاطئة انما هو ناشيء من حكم عقلي مسبق وهو: (لا بدية السبب لكل شيء) وان علمه بأن الشيطان يقوم بالإضلال، يقوم على أساس وجود ضلالة وهداية، وقبح الضلالة وحسن الهداية. وكل هذه الأحكام عقلية. وكان مثل (ديكارت) في ذلك مثل الذي يشكك في وجود الشمس ثم يرينا الحقول والواحات المضائة بالشمس ويقول لو كانت الشمس موجودة لما كانت لها ظلال وارفة. ان مجرد رؤية الحقول والواحات دليل على وجود الشمس، وان ذات الظلال الوارفة لهي دليل على وجودها. فكيف يستدل بهما على عدم وجود الشمس؟ وهكذا القدرة على التشكيك نوع من إثبات نور العقل.
والواقع: أن (ديكارت) لم يحاول التشكيك في عقله، انما شكك في ركام الجهل الذي تجمع فوق النفس البشرية وزعم الإنسان انها علم وعقل. لذلك فإن تصوره للعقل يختلف عن العقل الذي أرشد إليه الدين، فإنه زعم ان العقل انما هو كل ما في النفس البشرية من تصورات أما الإسلام فيرى ان التصورات ليست الا معقولات يكتشفها نور العقل وينقدها.
فمرة أخرى رأينا كيف اضطربت وتناقضت مقاييس البشر حين زعمت ان المسبقات ذاتها العقل، بينما العقل هو: ما ينور للنفس تلك المسبقات العلمية. خصائص الأحكام العقلية
وحين نتذكر العقل ونكتشف أن حقيقته نور مقدس عن إحاطة الأذهان وانه الذي يكشف لنا الحقائق الأخرى بصورة ذاتية وغير ممكنة التعليل، حينذاك نجد ان الأحكام العقلية تتميز:
1- بأنها ثابتة جازمة لا تقبل الريب إذ ان ذاتها الكشف، والكشف يعني ملامسة الواقع وشهوده. فكيف يجد النفس الواقع ثم يتشكك فيه؟ ومن هنا فإن الحكم بقبح الظلم وحسن التضحية وجمال الآداب لسيت أحكاما تقبل الريب، والذي يرتاب فيها يحاول الفرار عنها بتغيير موضوعاتها بحيث تصبح الأحكام ليست هي التي تغيرت بل موضوعاتها فقط تبدلت، فمثلا: الذي يقول: ان الظلم حسن يغير معنى الظلم حتى يجعله يساوي معنى العدل ثم يقول بأنه حسن.
2- وأن أحكام العقل شاملة لا تخصص، فإذا كانت الرذيلة قبيحة فلن تفتررق ان تكون صادرة من كبير أو صغير، وفي أي عصر وأي زمان. واذا كانت الحادثة بحاجة إلى علة محدثة وسبب موجد، فلا فرق بين ان تكون الحادثة رمي كرة القدم أم وجود كرة الأرض. واذا كانت الصدفة محالة في وجود ساعة يد، فإنها محالة أيضا في صنع مخ الإنسان. وإذا كانت معادلة 55=25 صحيحة، فلا فرق ان تكون في أي وقت وأي مكان.
3- ان أحكام العقل تتفق عليها عقول البشر، فالعقل هو العقل في أي رأس عاش وفي أي مخ سكن. وما هي فضيلة أو رذيلة هنا فهي في كل مكان ولدى كل إنسان فضيلة أو رذيلة، ولذلك كانت الحجة بين العباد العقل ـ حسبما جاء في الحديث ـ فلنذهب انى شئنا فسوف لا نجد الفضيلة في الخيانة والنفاق وبيع الأوطان وايثار النفس على الآخرين.. وسوف لا نجد معاني التضحية والفداء والشجاعة والإباء من معاني الرذيلة. ومن هنا فإن الامم تتبارى بهذه القيم، وتجعل منها مقياسا يحتجون به وينتهون إليه، وترتكز أجهزة إعلامهم على الإدعاء بأنهم يمثلون الفضيلة والعدل وأن أعدائهم يمثلون الزيف والباطل. وهكذا أصبح العقل حجة بين الأفراد ومقياسا لكل أحكامهم، فلا يمكن مثلا ان نتصور رجلا عاقلا في الأرض يحكم عقله بإمكان الصدفة أو صحة التناقض (تواجد الوجود والعدم في لحظة) والتشكيك في وجود الذات و.. و..
4- ان أحكام العقل لا تتطور حسب تطور الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفسيولوجية وما أشبه، لأنها تكشف عن الحقائق الخارجية. تماما كما لا تتغير المرآة وهي تعكس صور الحياة الناشطة الحركات.. وهنا تختلف الرؤية الإسلامية في المعرفة عن النظريات الذاتية والديالكتيكية التي سنتناولها بالبحث بإذن الله. ذلك ان تلك النظريات حسبت العقل وليدة لنفس المادة المتطورة، فإدعت انها تتطور أيضا. ولم تستطع تلك الفلسفات اكتشاف حقيقة العقل التي لا تعدو ان تكون طاقة من نور زودت بها النفس للكشف عن الحقائق بصورة مباشرة. ولذلك فإن حكمه مشهود متيقن ثابت وان أي حكم يتغير أو يتصور فيه التغيير لهو ليس بحكم العقل ومن هنا لا يمكن القول: بأن 22=4 انما هو صحيح اليوم ويمكن ان يتطور غدا حسب التطور.
ـ 3 ـ
العقل ومصادر الفكرة
بعد ان يجد الإنسان موقع قدم ثابت يستقيم عليه وهو تذكرة العقل، يشرع في بناء صرح معرفته على أسس رصينة متماسكة متوازنة، وأول ما يقدم به الفرد اعتمادا على عقله في هذا المجال هي عملية جرد الأفكار، وهي تنطلق من القاعدة التالية: إذا كانت الحادثة بحاجة إلى المصدر، فكل فكرة حادثة بحاجة هي الأخرى إلى المصدر؟ فما هي مصدر الفكرة الحادثة؟
وبكشف ذاتي للأفكار، يصنف العقل مصدرها في ثلاثة أنواع:
1- العقل ذاته، أو بتعبير أدق الأحكام العقلية والمسبقات الفكرية.
2- النفس وما تنطوي عليه من هوى وجهل.
3- الحس بألوانه المختلفة.
وفيما يلي نقوم بالبحث عن كل واحد من هذه الأنواع وكيفية نقد العقل لها، لكي نتعرف على العلاقة الوثيقة بين العقل والعلم. وكيف السياسة فيصبح 22=5 إذ هذا القول مضحك بذاته لدى كل نفس عاقلة. وأيضا كان الزعم بأن القول أن الحادث بحاجة إلى سبب صحيح اليوم أما غدا فحيث يحكم البلاد نظم جديدة في الاقتصاد، فإن الحادث يمكن ان يحدث بلا سبب. كان هذا الزعم قولا مرفوضا بذاته، وهكذا.
ان هذه الميزات الأربعة تبعد عن مجال حكم العقل ركام التصورات التي حسبها الجاهلون عقلا، فخلطوا بها أحكام العقل الصحيحة، وقعوا في فوضى لا نهاية لها.
خلاصة القول:
1- ان للعقل أحكاما سابقة ـ لم تجرب ـ تكون مقياسا للإنسان في معرفة الفكر الصحيح.
2- وبالرغم من أن هذه الأحكام لم تلد مع الإنسان فإنها ليست أيضا وليدة تطور ذاتي له، أو مؤثرات مادية فيه، بل انما هي موهبة له في فترة البلوغ.
3- وان الأحكام ليست ذات العقل، بل العقل هو الذي يكتشف تلك الأحكام للذات، وقد نتج من الجهل بهذه الحقيقة ان أخذ (كانت) و(ديكارت) وكثيرون آخرون أخذوا ينقدون الأفكار النفسية ظنا منهم أنهم ينقدون العقل وقد كانوا محتاجين إلى نور العقل في كل خطوة خطوة من نقدهم هذا. ولذا فإن نقدهم لتلك الأفكار، كان اعترافا منهم بصحة العقل.
4- ان للأحكام العقلية أربعة ميزات؛ انها جازمة لا ريب فيها، وشاملة لا تقييد فيها، وواحدة عند كل عاقل، وثابتة لا تطور فيها. وسنرى بإذن الله كيف تكون هذه الخصائص بعض القيم التي يستند اليها النفس في نقد أفكارها.
يمكن للإنسان تجنب الخطأ إذا التفت إلى عقله وميزه عما قد يلصق به من الجهل والضلالة. العقل مصدر الفكرة
في البدء لابد أن نثبت ملاحظة عن معنى الفكرة وانها تعني هاجسة النفس، وهي لا تعدو أن تكون استعادة لمحفوظات أو معلومات سابقة. وبالتالي فهي من عمل النفس ونحن انما نريد هذا المفهوم حينما نعبر هنا بالفكرة، لكي نستطيع أن نميزها عن حكم العقل. ان حكم العقل يعني كشف الذات للواقع الخارجي كشفا واضحا شاملا وثابتا. والفكرة لا يجب ان تكون دائما واضحة شاملة ثابتة، بل قد تكون كذلك وقد لا تكون، والسبب في ذلك ان الفكرة من عمل النفس، وتكون خاضعة لإرادة الإنسان، فهي بحاجة إلى (الإنضباط المنهجي) حتى تكون صحيحة صائبة. والا تأثرت بالمؤثرات المادية كما تتأثر إرادة الإنسان بها. وبتعبير آخر؛ بما أن الفكرة عمل من أعمال النفس البشرية، وبما أن كل عمل بحاجة إلى الإرادة، فإن الفكرة خاضعة لإرادة الإنسان، وأي ميوعة في إرادة الإنسان تعني عدم توجيه الفكرة وبالتالي عدم صحتها. ونوعية صدور الفكرة عن العقل: ان النفس قد تستغل الأحكام العقلية في استخراج أحكام أخرى، فإذا كان هذا الاستغلال موضوعيا كانت تلك الأفكار المستخرجة مثل حكم العقل تماما واضحا شاملا ثابتا، والا تعرضت للخطأ.. فمثلا قد نستخرج الفكرة التالية من حكم العقل: (الشيء لا يمكن أن يخلق ذاته) ونستطيع أن ندلل عليها بإستحالة التناقض إذ يجب أن يكون الشيء موجودا قبل وجوده وهذا يعني أن يكون موجدا وغير موجود في لحظة واحدة. وبتعبير آخر؛ كيف يمكن أن يخلق العدم شيئا، مع ان الخلق عمل والعمل لا يصدر الا من شيء موجود؟ فإذا: الشيء لا يمكن ان يخلق ذاته.
ففي مثل هذا النوع من الأفكار لا تكون عملية التفكير الا إستجلاء للمعلومات السابقة، واستيضاحا للأحكام العقلية الموجودة. وحسب تعبير بعض المفكرين ان التفكير المعتمد على المعلومات العقلية السابقة ان هو الا فض الفكر ذاته.. ولهذا جاء في الحديث: (كثرة النظر في العلم يفتح العقل).. فالعقل إذا موجود ولكنه منغلق ويحتاج إلى عملية الفض. وعملية فض العقل، وفتح نوافذه على العالم على نوعين:
1- قد يكون الإنسان غافلا تمام عن نور عقله متوجها إلى معلوماته، باحثا فيها عن الحقيقة دون الرجوع إلى عقله والإستضاءة به، ويكون مثله كمن يغفل عن الشمس وينشغل بالموجودات المضاءة بها. وهنا يحتاج الإنسان إلى من ينبهه إلى ضلالته عن النور الذي يملكه هو لاكتشاف الحقيقة، ويقوم فعلا باكتشاف بعض الحقائق به. ولقد ابتعث الله الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لكي يذكروا البشر بما يملكه من نور العقل، وان يقولوا للإنسان ارجع إلى نفسك وعد إلى عقلك لتجد فيه الحل السريع لكل مشاكلك. إذ ان الإنسان لا يمكنه التذكر بعقله مع انه أقرب الحقائق إلى نفسه. لا يمكنه ذلك وهو يسترسل في طريق الهبوط مع طبيعته الجاهلة الضالة ويزعم بأن المعلومات المضاءة بنور العلم والعقل هي حقيقتها! ان هذا الإنسان لا يمكنه ان يتنبه إلى عقله الا بهاد مؤيد بالغيب يهز فيه الفكر، ويوقظ بداخله العقل. وهذا أولى وأسمى آيات رسالة كل رسول التي يلخصها الإمام أمير المؤمنين بالقول: (فبعث الله أنبيائه.. ليثيروا لهم دفائن العقول..).
وهكذا ينعت القرآن ـ وهو جملة رسالة النبي (ص) ـ ينعت القرآن نفسه بأنه تذكرة فيقول: [طه* ما أنزلنا عليك القرآن لتشفى. الا تذكرة لمن يخشى] (طه/1-3). ويجعل غاية التذكرة عودة الإنسان إلى عقله فيقول: [لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون] (الأنبياء/10) ويجعل آياته نورا، لانه يهدي الإنسان إلى العقل الذي يكشف له الحقائق الكبيرة في العالم. ويجعله مقياسا ثابتا ومبينا لانه يضع للإنسان منهجا فريدا للمعرفة ويجعله هاديا إلى سبل السلام، وناقلا للإنسان من ظلمات الجهل حيث يغفل الإنسان عن عقله ويتيه في الضلالات. فيقول سبحانه: [قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين* يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم] (مائدة/15-16).. وهذا النوع من التذكرة وظيفة الهداة إلى الله الذين لا يريدون فرض عقيدة على الإنسان، بل انما يريدون توجيهه إلى الحقيقة ليراها بعقله، ولن يمكنهم ذلك دون إعادة إيمانه بعقله، واسترداد ثقته بتفكيره.
2- وقد تكون النفس واعية لما تملكه من نور العقل، ولكنها تتردد في بعض الموارد بسبب تشابه الموضوع على العقل ـ فمثلا ـ لا ريب لدى النفس ان الظلم منكر عظيم، ولكنه قد يشك في أن سلب النملة رزقها ظلم ليكون منكرا، أم ليس بظلم فليس بمنكر.. وهذا بدوره على نوعين:
أ- إذ قد ينشأ هذا الريب من جهل البشر بطبيقة النملة ومدى ضرورة وجودها لحياة الإنسان. فلابد لكشف ذلك من التفكير المنهجي، والتذرع بالوسائل العلمية. وهنا يحكم العقل عليه بأن يتثبت ولا يعجل في الحكم ذلك أن العجلة من الجهل، فالتسرع يجر إلى مجموع كبيرة من الأخطاء. وقد جاء في النصوص القرآنية توجيه بالغ الوضوح إلى التثبت. فقال الله سبحانه: [ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا] (الأسراء/36).. وبحكم العقل وبضرورة التثبت الكامل قبل الحكم على أي شيء يحرز العاقل العلم الصحيح ولا يتورط في أخطاء التسرع، ولقد جاء في الحديث: (التثبت رأس العقل).
ب- والقسم الثاني من تردد النفس في الأحكام العقلية، ينشأ من تناقض الحكم العقلي مع المصالح الآنية للإنسان. ولذلك يبدو الحكم الواضح غامضا بينما هو في الواقع ليس بغامض انما يريد الإنسان أن يتصوره كذلك ليتخلص من مسؤولية الاعتراف به. فالرجل القوي الذي يعيش على حساب المستضعفين يحاول تبرير ظلمه بما يبعده عن توجيه نور العقل ان هذا النوع من التردد هو الذي يقضي على طائفة ضخمة من الأحكام الصائبة عند النفس البشرية. وعلى الإنسان أن يناضل مع ذاته أبدا ليبعده عن التأثر بالاهواء والشهوات، وقد جاء في الحديث: (زوال العقل بين دواعي الشهوة والغضب). و(ذهاب العقل بين الهوى والشهوة).. وسيتضح لدينا قريبا دور هوى النفس وشهواتها في طمس نور العقل، والذي قد يقضي على العقل كله، ويدع النفس في ظلمات ما فوقها ظلمات.
ومن كل ما سبق نكتشف الجواب الصحيح عن نوعية نقد العقل للأفكار الصادرة عن المسبقات العقلية، وكيف تتمكن الذات من الثقة بنوع منها بعد ان تكتشف زيف النوع الآخر. دور الهوى في تضليل الإنسان
والمصدر الثاني للفكرة هو ما بالنفس من الجهل والغفلة والركون إلى الشهوات.. وينبغي لنا ان نقدم عدة ملاحظات أولية لكي نعرف بوضوح تام كيف ينقد العقل الفكرة الصادرة عن المصدر الثاني (النفس).
1- بين العلم والحب
1- ان المعرفة هي النور الكاشف للحقيقة. ومعنى ذلك انها لا تتأثر بالواقع المادي، ولا تتطور حسب تطوره. ولقد قلنا آنفا: ان الأحكام العقلية جازمة شاملة ثابتة وواحدة عند كل العقلاء، وهي ـ بهذه الصفات ـ بعيدة عن التأثر بالواقع المادي. ولهذا تمثل المعرفة جانب القوة في النفس؛ أي جانب الكشف والاستجلاء، لا جانب الضعف الذي يتلخص في التأثر والتطور والاستسلام لمقتضيات الظروف. فالمعرفة تعطي الإنسان قوة كبيرة لإخضاع الظروف المحيطة به، وإنما قام الإنسان بإنجازاته الباهرة بعلمه.
والإنسان يشعر عندما يكشف الحقيقة انه أوتي قوة كبيرة.. وجاء في الحديث (خلق الله العقل من أنوار أربعة.. القدرة). وبالمقابل فإن للنفس البشرية جانبا آخر هو جانب التأثر والإنفعال، جانب الضعف والسلبية. انه جانب الهوى والشهوات، جانب الحب والرغبات. لأن هذا الجانب هو الذي يدع الإنسان يخضع للظروف ويتطور حسبها.
ذلك لأنه متى ما أحب الإنسان شيئا تأثر به بقدر حبه له، ووجب عليه ان يعطي من ذاته تنازلاً له.
إذا طبيعة الحب تختلف عن المعرفة، لانهما يمثلان جانبين مختلفين في النفس. صحيح ان الإنسان لا يقدر على تمييز ذلك في كل وقت. وصحيح ان ذلك بحاجة إلى أنواع من التجرد الموضوعي والنقد الذاتي، كما انه بحاجة إلى التفكر الممنهج. الا انه لدى ممارسة التمييز فترة طويلة يسهل ذلك على النفس حتى يبدو العلم والحب بعيدين عن أحدهما، مميزين عن بعضهما.. وفي الأمثال التالية بعض الفوارق العملية التي تعتبر نوعا من التجربة الذاتية في حقل التمييز بين الحب والعقل.
أ- تفترق المعرفة عن الحب في اننا نحب كثيرا من الأشياء ونعلم انها غير موجودة فعلا. اننا نحب الخلود حتى انه قد يطغى علينا هذا الحب فينسينا العلم بالموت، ونعمل كما اننا نعلم بالخلود. واننا نحب السيطرة ونعمل في كثير من الحالات مدفوعين بهذا الحب، بل زاعمين اننا نملك السيطرة فعلا، ولكن العلم الحقيقي يكشف لنا خلاف هذا الواقع.
ب- وتفترق المعرفة عن الحب أيضا حينما نحب ان تكون كل معارفنا صحيحة وكل عقائدنا موافقة للحق. بيد انا نواجه في كثير من الأوقات حقائق تكرهنا على إعاة النظر في معارفنا وعقائدنا والإعتراف بخطأها كليا أو جزئيا.
ج- وتفترق مرة ثالثة، المعرفة عن الحب، عندما نحب ان تكون كل أمم الأرض تخدم مصالحنا الخاصة. في حين نعلم ان طائفة كبيرة منها تخالفها تماما!..
ان هذه الأمثلة توضح الفارق الكبير بين الحب والمعرفة، الا انه رغم وجود هذا الفارق يواجه الفرد غموضا بالغا في التمييز بينهما. فمثلا حين يحب الإنسان ذاته يخادع نفسه عن نقائصها، ويحاول ايجاد تبريرات لأخطائها ويريد ان يوقع مسئولية ما تصدر عنها على الآخرين. وحين يحب المرء أبنائه يغمض عينا عن كل ما فيهم من سيئات حتى يصبحوا مجموعة حسنات في عينيه!.. وهكذا حينما يحب الإنسان مبدأ يركز نظره إلى محاسنه حتى يحذف دور عقله كليا في نقد المبدأ أو حتى في تطويره وينقلب إلى إنسان ممسوخ.. ونعرف من ذلك كله: ان الإنسان يستطيع ان يميز الفكرة النابعة من كشف الواقع، والفكرة النابعة من حب النفس وهواها. لأن الأولى تمثل جانب القوة والثانية جانب الضعف في الإنسان.
2- بين العقل والإرادة
ان العقل بمثابة مصباح منير تملكه النفس البشرية وتنصرف فيه لرؤية الحقائق وكشفها؛ متى ما تريد وكيف ما تريد؟ فإذا لم يرد الإنسان رؤية جمال العدل، وحسن الآداب،واستحالة التناقض. يمكنه الا يعرف ذلك فعلا، بأن لا يستعمل المصباح الذي أوتيه أو يدسه تحت التراب.
وهذه حقيقة قد تخفى علينا، الا ان من المؤكد عمليا اننا لسنا في كل لحظة نعلم جميع أحكام العقل. وإننا في أي لحظة نريد التعرف عليها فهي لا تعصي علينا. وهذه حجة كافية على ان العقل يدخل ضمن حرية الفرد واختياره فيستخدمه حينا لمعرفة الحقائق ويدعه عاطلا حينا آخر..
ألست ترى انك قادر في كل لحظة وفي كل مكان ان تفكر، فيما حولك من الأشياء والأشخاص، بصورة منهجية، وتستعمل في تفكيرك مقاييسك العقلية الثابتة؟ كما ان بإمكانك ان تتوجه إلى أمور أخرى ولا تفكر منهجيا وعقلانيا في أي شيء.. نعم ان هناك لحظات لا يمكننا الا ان نعرف أحكام العقل كتلك اللحظات التي نقع تحت تأثير موجه روحي قوي، أو نشاهد تجربة عملية حادة. الا اننا سرعان ما نعود إلى حالتنا السابقة حيث يخضع العقل لتصرفنا وإرادتنا من جديد.
3- الإرادة تقرر المصير
ان إرادة الإنسان قد تتجه بمحض حريته نحو الخير والحق والخلق الرفيع، وقد تتجه نحو الذات والمصلحة والسجايا السيئة. ومن هنا تأتي حرية الإنسان التامة في اختيار طريقه في الحياة. قال الله سبحانه [انا هديناه السبيل، أما شاكرا وإما كفورا]. (الإنسان/3)
والله سبحانه لم يشأ ان يفرض على البشر اتجاها خاصا إكراما وتفضيلا له، بل اتاح له كل الفرص لكي يختار بذاته ما يشاء. وجاء في الحديث في سياق قصة آدم (ع) وحواء (ع) حين اختارت الأخيرة الأكل من الشجرة المنهية عنها، فأرادت الملائكة ان تمنعها عنها بحرابها. فأوحى الله تعالى للملائكة: انما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره. فأما من جعلته متمكنا مميزا مختارا فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجة عليه، فإن اطاع استحق ثوابي وان عصى وخالف امري استحق عقابي وجزائي. فتركوها.
4- النفس البشرية والقدرة على التمويه
وللنفس البشرية مقدرة تمويهية كبيرة، تقوم بتهدئة النفس وتسكينها حين تهجم عليها المصائب. ان هذه القوة تحاول التخفيف عن النفس بما يدعى فيه علم النفس (بأحلام اليقظة). فتسليها بآمال مستحيلة وأماني غير ممكنة الوقوع! وحين يحب الإنسان شيئا حبا جما تحاول هذه الطاقة تبرير كل الوسائل المؤدية إليه، حتى تخترع النفس معلومات ليست واقعية، أو تفسير الملعومات التي لا تلائم بلوغ ما أحب بما يلائمها، وهكذا.. ويدعى هذا العمل في منطق القرآن (بالتسول) وليس منا من لم تراوده حالات التسول أو أحلام اليقظة بين فترة وأخرى. فما يحب الإنسان شيئا الا وتقوم هذه القوة بنسج أساطير غير صحيحة لتبرير ما يحب.
ولكن لا يعني كل هذا ان اشعاع العقل ينحسر عن مجال الذات في هذه الحالات، بل انما النفس لا تستخدم هذا الاشعاع عندها إذ ان بقدرة النفس توجيه نور العقل بعيدا عن الذات حتى لا تكشف الخبايا البعيدة فيها ويقضي على الأساطير المبتدعة..
بعد هذه الملاحظات نعرف ان الحب قد يكون مصدر للفكرة بفعل ما سميناه بعملية التسول، الا ان الإنسان لا يضطر إلى الإنسياق مع هواه بل هو حر في اختيار طريقه. وهذه الحرية تحكم جميع قوى الإنسان والتي منها قوة الكشف عن الواقع (أي العقل) التي تتصرف النفس فيها متى شاءت وقد تتغافل عنها نهائيا. وبقدرة هذا النور يمكن كشف مصدر الفكرة هل هو العلم ام الحب؟ العقل يفضح الشهوات
بعد هذه الملاحظات التمهيدية التي سرعان ما يجد كل منا مثالا حيا منها في حالاته الخاصة نستطيع ان نضع أيدينا على رأس الخيط لعملية نقد الأفكار الذاتية، والتي تتلخص في توجيه ثلاثة أسئلة إلى النفس في محاولة لجرد الحقائق فيها عن الأهواء..
1- هل أحب الاعتقاد بهذه الفكرة؟ فلو لم تكن هذه الفكرة راسخة لدي منذ الطفولة، أو لم تكن تخدم مصلحة لي.. فهل كنت أعتقد بها؟
2- ما هي الأسباب التي حملتني على الاعتقاد بهذه الفكرة، وهل لو كانت هناك فكرة مشابهة لها في تلك الأسباب كنت أيضا اعتقد بها؟
3- هل ان الناس كلهم يرون مثل ما أرى؟ دعني أجعل نفسي مكانهم وأتصور ما إذا كانوا فعلا يعتقدون بما اعتقدت به وهم يعيشون في ظروف مختلفة.. وفي المثال التالي يتضح كيفية توجيه الأسئلة الثلاثة إلى النفس وكيفية استخلاص النتائج الصحيحة عنها:
رجل يعتقد بالثالوث المقدس ـ الأب والإبن وروح القدس ـ آلهة جميعا، يتنبه في لحظة حاسمة، فيوجه السؤال الأول إلى ذاته إنني الآن اعتقد بتعدد الآلهة. حسنا. هل أحب الاعتقاد بها؟ لافترض اني كنت في حضن أبوين ملحدين ولم اعتقد منذ الطفولة بالثالوث، فهل كنت فعلا اعتقد بها؟.. ولأقارن هل أعتقد أنا بجمال باريس إذا توفرت عندي ذات الأدلة المتوفرة في الثالوث المقدس ما دمت لم ألقن منذ الصغر بأنها مدينة جميلة؟ كلا.. أفلا يكون في هذا دليلا على ان الحب ـ حب الأفكار السابقة مثلا ـ وخدمة المصلحة الذاتية هما السببان الواقعيان للاعتقاد بالثالوث المقدس، أفلا أستطيع ان أتصور نفسي مصداقا لقول نبي الإسلام (ص): كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه؟؟
ثم يسأل نفسه ثانية: بأية حجة نرى عيسى إلها؟ أفلا يمكن ان يكون البشر رسولا من الإله الواحد، فلا يكون إلها ولا إبن إله؟ ولنفترض: ان المصدر لهذا الاعتقاد كان إيمانه بالكتاب المقدس وانه قد كتب فيه ان عيسى ابن الله.. فيوجه السؤال ويقول: هل كنت اعتقد بكل ما في الكتاب المقدس أم انني أقوم بتأويل وتفسير طائفة منها وهي التي تخالف عقلي أو مصلحتي فلماذا أقوم بتأويل هذا النص؟
وأخيرا يتساءل ويقول: لأتصور نفسي مكان رجل محايد، هل كنت فعلا أرى كل أقوال الكنيسة علما يقينا؟
وبإستقامة هذا المنهج، نكتشف إنحرافات المناهج البشرية التي أبعدت عن حسابها نور العقل المبين، فمادت من تحت أرجلها كل القواعد الفكرية وتزلزلت صروحها زلزالا.
ان هذه المناهج لم تشأ ان تعترف بالعقل، زاعمة ان العقل لا يعدو ان يكون ـ كما سبق القول فيه ـ مجموعة أحكام سابقية، وليست قبسا من نور قادر على كشف الحقائق جميعا..
لم تشأ ان تعترف بهذا النور فزعمت ان النفس هي التي تفكر وتتصور، وبما ان انصار هذه المذاهب يعترفون بأن النفس البشرية تتأثر بالشهوات وتتطور حسب الحالات، فإنهم يقولون: المعرفة أيضا تتأثر بالشهوات وتتطور حسب الحالات، فكانت النتيجة ان زعموا ان المعارف تتغير وتناقض الشهوات بالضبط.
وانقسمت هذه المناهج على نفسها قسمين: فطائفة آمنت بأن المعارف حينذاك لا تعكس الحقائق الموضوعية الا بصورة نسبية، وقالت: ما دامت النفس هي التي تعرف، وان المعرفة بنتها الذاتي؛ وما دامت هي في حالة متغيرة، فإن المعرفة تتغير. وبما ان الواقع الخارجي لا يماشي هذا التغير، فإن المعرفة لا تعكس سوى بعض الواقع فقط.
وفريق قالوا: ما دام الإنسان لا يدرك كل الواقع فما الذي يحملنا على الاعتراف بكل الواقع. بل نعكس ونقول ان ما لا يدرك فهو غير موجود. ولقد انطوت هذه الفلسفات التي سنقوم بشرحها انشاء الله، انطوت على ضلالة بعيدة نشأت عن الغفلة عن نور العقل الذي يفضح النفس ويكشف تأثراتها. ولذلك فهي لا تستطيع ان تحجب عن الإنسان، الحقيقة بسبب تأثراتها.
ومن هنا نعرف ان النظريات النسبية الذاتية، والنسبية الفردية، والنسبية التطورية، كلها نشأت من إنحرافة ضخمة في المنهج ابتدأت من التركيز على جانب الانفعال في النفس؛ جانب الضعف والسلبية والتأثر، غافلين عن جانب الفعل فيها؛ جانب القوة والإيجابية والكشف. ولقد استبعد هؤلاء عن حسابهم منذ البدء قدرة العقل على كشف التأثرات الداخلية. وهذا هو الضلال البعيد الذي قاد (فرويد) أيضا إلى صياغة نظريته عن اللاشعور حيث استبعد قدرة الإنسان على كشف ما في (لا شعوره) وجعله دائما يخضع لتأثرات ظروفه دون ان يعترف للعقل بقدرة الكشف تلك القدرة التي تفضح للإنسان هذه التأثرات.
وهذا الاختلاف في المنهج بين الإسلام والنظريات الحديثة حول العلم، يتبين في المثل التالي (علما بأنه مجرد مثل):
لنتصور ان رجلا ماركسيا نقابيا، اقتضت ظروفه المعاشية المتردية وانتمائه الطبقي كعامل صغير؛ اقتضت الثورة ضد البرجوازية. هنا ـ وعلى رأي كل المناهج البشرية ـ ينظر إلى الحقائق من الزاوية الخاصة به، ويدرك ان البرجوازية بناء استغلالي ماكر. فإذا تطورت ظروفه وأصبح مليونيرا.. أو كان من قادة الحزب وأصبح بيوقراطيا محترفا، فلابد انه ـ حسب هذه المناهج ـ يتطور تفكيره، ويرى وجوب اتباع سياسة البرجوازيين بحق العمال والفلاحين. فماذا حدث بهذا الرجل؟ لا ريب انه تغيرت نفسيته، ولا ريب انه تطورت أهوائه، ولكن هل المعرفة العقلية أيضا تطورت فيه؟ هل انه نسي معادلاته الرياضية؛ مثلا هل نسي ان 55=25؟ أم انه نسي نظرية فائض القيمة الماركسية بمجرد تطور حالته؟ أم انه لم يعد يتحسس بجمال التضحية، وروعة الحق، وحسن العدل..؟؟
انه لا يريد ان يعرف كل ذلك ـ هذا صحيح ـ ولكن هل هو فعلا لا يستطيع ان يعرفها، وهل انه افتقد ذلك النور الذي كان يعرف بها تلك الحقائق؟ هناك فرق بين الاّ يريد والاّ يقدر، وكم من شيء لا يريده المرء وهو قادر عليه..
ان هذه المناهج اشتبهت مرة واحدة فوقعت في سلسلة لا تنتهي من التناقضات، تلك المرة كانت حين وضعت النفس مكان العقل، وحسبت ان تأثر النفس يعني تأثر العقل أيضا. وكما سبق فنحن لا ننكر دور الحالات المؤثرة على طبيعة الإنسان ولكن ننكر ان تكون هذه الطبيعة كل شيء عند الإنسان. انما نؤكد ان ورائها شيء آخر هو نور العقل.
ولقد ذكر الإسلام بدور (الاهواء) في تضليل الإنسان ولكنه لم يغفل دور الإرادة والعقل ـ والذي يجب الاعتماد عليه ـ في صياغة الإنسان. قال سبحانه: [ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه]. (الكهف/28).
في هذه الآية يبين القرآن وجود علاقة بين الغفلة واتباع الهوى، الا انه لا يجعل الهوى مؤثرا في النفس الا بإرادة الإنسان حين يقول: (واتبع هواه). فالاتباع عمل ولا يحدث بدون إرادة.
ويقول: [بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم] (الروم/28) في هذه الآية، يفصل القرآن بين العلم واتباع الهوى، ويجعلهما مختلفين. ويأمر في آية ثالثة المؤمن بمخالفة الهوى ويجعل له في ذلك ثوابا عظيما، فيقول: [وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى] (النازعات/40-41). ج- الفكرة بين العقل والإحساس
قيمة الإحساس ـ قيمة التجربة ـ تعميم نتائج التجربة ـ الامتداد الكاذب ـ الامتداد الصحيح ـ نقد العقل للاحساس ـ المناخ الفكري ـ التفكير الموضوعي كيف يكون مفهوما عاما ـ المقارنة وسيلة العقل ـ تمحيص النتائج ـ الإحساس في محك السابقيات العقلية ـ الإحساس والتجارب السابقة.
الإحساس المصدر الثالث والأخير من مصادر الفكرة، ودور الحس لا ينكر الا من قبل أولئك المثاليين الذين نسوا دور العقل في توجيه الحس، فأنكروا دور الحس أيضا. وسوف نلتقي بهم في فصول قادمة انشاء الله.
والاسلام أولى جانب الحس أهمية مناسبة، حيث دعا إلى النظر والسير والتحرك والتثبت، في نصوص متظافرة.
الا انه أولى اهتماما اكبر لدور العقل الذي يوجه الحس ويمحص نتائجه، والذي لولاه يصاب الفكر بالشلل الكامل. ذلك لأنه لنفترض اننا أبعدنا العقل عن مجال الحس وأصبحنا مثل أولئك الحسيين الذين لم يعترفوا بدور العقل في توجيه الحس، فسوف نرى كيف نتخبط في الضلالات حتى لا نستطيع كشف أية حقيقة مهما ضؤلت بواسطة الحس. بل ان نكران العقل يدعونا إلى التشكيك في وجود أية حقيقة وراء الحس، وينتهي بالإنسان إلى المثالية أو التشكيك التام. أفليس من الممكن ان تكون رؤيتنا للأمور أشبه شيء برؤية الحالم في منامه، أوليس من الممكن أن يكون الإحساس نابعا من ذات الأعصاب وليس من الحقائق الخارجية؟ فإن لم يكن هناك نور لدى النفس يحكم بأن مصدر الإحساس حقيقة خارجية بصور جازمة، لو لم يكن هذا فأية حجة تقدر على اثبات الحقائق وراء الإحساس.
والآن دعنا نسترسل مع هذا الافتراض لنرى نتائجه.
1- ان أول ما يصدمنا في هذا الطريق إيماننا الذاتي بعقولنا وكلنا يؤمن ذاتيا بطائفة من المعلومات المسبقة، ولا يمكنه ان يتوادع معها مهما كلفه الأمر. نحن نؤمن مثلا: بأن الفضيلة حسنة ولم نحس بها، ونؤمن بأن التناقض (اجتماع العدم والوجود) محال ولم نره، ونؤمن بمبدأ العلية (كل حادث بحاجة إلى سبب) ولم نشاهده.. صحيح اننا شاهدنا بأبصارنا الحجارة تقع على الأرض، ولكن ما الذي دعانا إلى البحث عن راميها؟ صحيح أيضا اننا رأينا الحرارة تندلع من النار، ولكن لم نشاهد ان النار هي التي أوجدت الحرارة. إذن فما الذي يدعونا إلى اعتبار النار سببا للحرارة؟!
2- وصرح العلم الذي نفتخر به اليوم يقوم على أساس التجربة، والتجربة تقوم على قاعدتين الحس والعقل. ان الحيوان لا يمكنه ان يكتشف من تجاربه شيئا مع انه يحس، ربما أشد منا وأقوى. فالكلب ذو سمع شديد، والصقر ذو بصر نافذ، ولكنهما لا يملكان التجربة، لأنهما يحسان فقط دون ان يعقلا. بل حتى التجربة لا تشكل كل المعرفة البشرية.
فإننا لا نملك في أي قانون من قوانيننا العلمية؛ لا نملك التجربة الشاملة لجميع جزئياتها. دعنا نفترض قانون التجاذب الذي بشر به (نيوتن)، هل جرب كل تجاذب في الكون؟ كلا هذا مستحيل! ان ما فعله لم يعد إجراء التجربة على بضعة حوادث حتى حصلت له قناعة تامة بأن أي حادثة أخرى لا تعدو ان تكون مثل تلك التي جربها. وهذه القناعة من أين حصل بها؟ من اين استطاع قياس ما يأتي بما مضى؟ أفليس لحكم عقله بالمعادلة التالية:
ان التجربة الماضية دلت ـ بطريق الحس ـ على وجود تجاذب بين جسم وجسم مخصوصين، وان هذا التجاذب ليس صدفة وانما هو بسبب وجود علة في الأجسام. وحسب عدة ملاحظات على أنواع من الأجسام تبين انه لا فرق بين نوع الأجسام في وجود هذه العلة فيها، فدل على ان كل الأجسام ذات قوة تتجاذب بها.
ترى كم حكما عقليا اشترك على اعطائنا هذا القانون العلمي ـ ومع اننا لا نرتاب في هذه الأحكام ـ فإن أحدا منا لا يدعي انه قد جربها هي الأخرى، وانه لولا التجربة لم يكن يعترف بها.
3- بل ومن حقنا ان نتساءل عن قيمة التجربة ذاتها، كيف كانت لدينا قيمة للحس، وكيف آمنا بها، وكيف صدقنا بأنها لا تخطئ؟ ليس لدينا الا الوجدان والحكم العقلي الذي لا ريب فيه، والا فهل من المعقول ان نقول: ان التجربة ذاتها دلت على قيمة التجربة؟
4- بعد كل هذا، ينبغي ان نعود إلى أنفسنا لنتعرف على نوعية الإنطلاق من الحس الجزئي إلى أبعاد أخرى. فكلنا يعرف ان الحس لا يعدو عملية انعكاس المؤثرات الخارجية على الأعصاب، ونقل الأعصاب لها إلى المخ. وكلما تصورنا حدوثه في المخ، فإنه لا يعدو أن يكون من نوع الإحساس. فمثلا: الإحساس بلون الشجرة عن طريق انعكاس الضوء على شبكية العين، لا يحملنا أبدا على الإيمان بأن كل شجرة لها ذات اللون، ذلك لأن الإحساس مقدر بقدر الشعاع المنعكس على العين، وليس بقادر على شمول سائر الأشجار في العالم كله حتى يكون الإحساس المباشر هو الوسيلة لمعرفتنا بلونها الواحد في كل مكان. فإذا علمنا ذلك كان علينا ان نتساءل ما هو السبب لتعميم نتيجة الحس، والحكم بأن أي إحساس آخر سوف تكون له من النتائج والأسباب ما كان لهذا الإحساس، حتى يتم بناء قانون علمي شامل؟
وقبل ان نقول شيئا في هذا المجال لابد ان نفرق بين لونين من الامتداد في الإحساس؛ فقسم نسميه الامتداد الكاذب، والثاني ندعوه الامتداد الصحيح. أ- الإمتداد الكاذب
1- الامتداد الكاذب، هو ان تقوم النفس بإنتزاع صورة جديدة للحقائق التي أحست بها. فمثلا: يرى الإنسان رجلين (لنفترض محمد وعلي)، ويعرف بالحس ان بينهما أمورا متشابهة كالجسم الأبيض والعينان الكبيرتان، والهيكل الضخم، كما يبصر بينهما أمورا مميزة كإختلاف السن والطول ولون الشعر.
هنا تقوم النفس بعملية التجريد وهي حصر نظرها على الجوانب المتشابهة وحذف غيرها. ونتصور مثلا (كلي الجميل) الذي يشمل محمدا كما يشمل عليا.
ومثل آخر يبصر الإنسان تفاحة، لها ميزاتها وخصائصها الوجودية فهي تفاحة واحدة صغيرة الحجم على الشجرة الفلانية. ولكن النفس تقوم بعملية التجريد وتنزع عن التفاحة خصائصها وتتصور (كلي التفاح) الذي يشمل كل تفاحة.
ان هذه العملية لا تعتمد على العقل، بل على النفس، وهي في الأساس لا تزيدنا الا تصورا كاذبا لا وجود له. فالجميل (كفكرة كلية) لا وجود له الا ضمن محمد وعلي، وليس لدينا (كلي الجميل) ليشمل كلا من محمد وعلي في الواقع الخارجي. كما ان التفاح الكلي لا وجود له خارجا.
القوة التي تخلق لنا هذا التصور تسمى بقوة التخيل، وهي لا تعدو ان تزيدنا بالتصور، ولذلك فهي لا تملك خاصية الكشف ولا تنتقل بنا عن مجال الذات إلى الواقع الخارجي. إذ ان وجود صورة متخيلة في مداركنا شيء ووجودها في الخارج شيء آخر. ومن هنا فنحن نتصور أمورا كثيرة ونؤمن الاّ وجود لها في الخارج أبدا. مثلا نتصور جبلا من عقيق، ونهرا من فضة، وحديقة من زبرجد، ونعلم الاّ واقع لها أبدا.
ولقد كانت فلسفة الحسيين ـ بمختلف مدارسها ـ تتهجم على صحة التعقل، لظنها انه لا يعدو ان يكون ركاما من التصورات الانتزاعية. والسبب انها ـ أي مدارس الحسيين ـ تكونت في جو مشبع بالنظريات الاغريقية وعلى رأسها نظرية أرسطو التي تعتمد على القول بأن أساس العلم التصورات الساذجة والمركبة، وان التعقل انما هو تركيب التصورات والإنتزاع منها. والذي يراجع بدقة نصوص الحسيين ينتبه إلى انها تنسف نظرية ارسطو التي سادت أوروبا قبل عهد الثورة.
ونحن نضم أصواتنا إلى أصواتهم، وننكر ان يكون مجرد الإنتزاع علما. والواضح ان الإنتزاع، عمل من أعمال النفس، لا يكشف الخارج أبدا. ولكنها بعيدة عن الامتداد الصحيح للمعلومات، الذي هو القسم الثاني، والذي لا يرتاب في صحته أحد حتى المنتمين إلى المدارس الحسية. الامتداد الصحيح
2- الامتداد الصحيح، وهو الذي يكشف لنا السبب الواقعي لحادثة معينة. فمثلا: حين نجد موت حيوان بصورة فجائية، نقوم بالتجربة ونرى انفجارا في مخه، ونقوم بعد هذه الملاحظة بعملية تفجيرية اصطناعية في مخ حيوان آخر. فإذا وجدنا موته هو الآخر، فلا نرتاب في أن أي حيوان يكون في مثل هذه الحالة إذا حدث في مخه انفجار مثل هذا، فإنه سيموت. ونجد ان هذا العلم لا يخضع للتصور الذهني بل هو انكشاف وشهود للنفس.
ان أديسن الذي قام بتجاربه المحسوسة في حقل الكهرباء وحفظ الضياء، عرف انه لا مناص له من العثور على خيط من الكربون، فكربن كل ما وقعت عليه يداه بغية الوصول إلى فتيل كربوني رفيع يصلح للإضاءة العملية. وبعد تجربة 1200 مادة من أنواع المواد وجدها أنها كلها ليست من الصلابة بالقدر الكافي للبقاء أكثر من 8 دقائق، وإذا به فيما يقرب من اليأس جاء بخيط مفكوك من إحدى أزراره وعندئذ ألهم ان يكربن هذا الخيط القطني التافه فإذا به يبرهن على انه أطول عمرا من كل ما جرب، فقد ظل مشتعلا أربعين ساعة قبل ان ينطفئ. ان هذه كانت خطوات أديسن لكشفه العظيم (المصباح الكهربائي). فإذا أردنا تتبع خطواته عرفنا ان الحس كان يلعب دورا ثانويا، وان كشفه الحقيقي انما كان لأن إحساسه دفع إلى معرفة السبب. فلو افترضنا ان اديسن لم يكن يملك العقل الكافي، فهل كان يعلم حين يجرب على خيط واحد ان كل ما يشابه هذا الخيط هو مثله ولو لم يكن قد رآه فعلا.
يقول الكسيس كاريل ـ وهو مكتشف قدير ـ: جميع عظماء الرجال وهبهم الله بصيرة، فهم يعرفون دون تحليل أو تفكير ما هي الأشياء الهامة التي يجب عليهم ان يعرفوها. ولهذا فإن الزعيم الحقيقي للرجال لا يكون بحاجة إلى الاختبارات النفسية أو بطاقات التوصية، حينما يريد ان يختار مساعديه. كما ان في استطاعة القاضي الفذ ان يصدر حكما عادلا دون الدخول في تفاصيل الحجج القانونية، بل حتى إذا بدأ بحثه بالمقدمات الخاطئة (كما قال كاردوزو). أما العالم النابغة فيسلك بالغريزة الطريق المؤدي إلى الاكتشاف. (الإنسان ذلك المجهول ص 146).
وكل من يقوم بدراسة حالة العظماء يعرف ان المعرفة لم تحدث لديهم الا بشكل من الاكتشاف المفاجئ. ان هذا الامتداد يحدث بنور العقل الخالص دون أية دوافع نفسية أو مصلحية، وهذا هو الذي يميزه عن الإمتداد الكاذب. إذ ان ذلك الامتداد يحدث برغبة نفسية معينة، اما هذا الامتداد فإنه هو الذي يقود البشر إلى الاعتراف بصورة جازمة دون أية دوافع.
والسؤال هنا كيف يحدث هذا الإمتداد، وما هي السبل الكفيلة لسلامته والمحافظة عليه دون دواعي الشهوة البشرية؟
جوابا على هذا التساؤل لابد ان نعلم ان العقل يقوم بدورين أساسيين في تحويل الإحساس إلى علم..
يتلخص الدور الأول في توجيه الجوارح، توجيها صحيحا، والتثبت في إحساسه، والمقارنة بين الأحاسيس المختلفة. بينما يتلخص الدور الثاني في المقارنة بين الإحساس والأحكام العقلية (السابقية). كذلك المقارنة بينه وبين التجارب الماضية. وبالتالي تأمين القفزة الصائبة من الإحساس إلى العلم. وفيما يلي التذكر إلى نوعية قيام العقل بهذه الأعمال.. نقد العقل للإحساس
1- ان هناك شروطا تمهيدية للتجربة يبينها العقل. فمثلا لا يجرب الإنسان حقيقة تبدو له انها مفروغ من صحتها أو فسادها، انه لا يجرب مثلا: ثقل الحديد الذي يرسب به إلى قعر الماء. وبالفعل حين قال رجل لصاحبه تعال نجرب صنع سفينة من حديد استخف به ورمى بقطعة حديد في الماء وقال: أنظر يا غبي كيف رسبت؟ ولكن الواقع: ان السفينة قد تكون من حديد، وانها كانت من جهالة الرجل حين اعتقد انها مستحيلة.. ولو امعنا النظر عرفنا ان الرجل كان غائب العقل حين قال بذلك، إذ ان العقل الصحيح لا يحكم بإستحالة مثل ذلك.
من هنا نعلم ان هناك شروطا لمرحلة ما قبل التجربة يجب توافرها سلفا، ذلك من أهمها وجود مناخ فكري مناسب لها عند المجرب ذاته، وهو لا ينشأ دون وجود عقل منفتح.
ونستطيع تحديد هذا المناخ بالقول: ان الجهل والغفلة البشرية قد تطبع على عقل الإنسان بحيث لا يوجه إحساسه إلى أقرب الأشياء إليه ليعرف من خلاله الحقيقة، ولا يرضى تجربة ما سواه.
ولذلك فإن الإسلام يوجب على المؤمن ان يظل منفتح الذهنية أبدا ولا يسارع بالنفي عند سماع كل شيء جديد، وانكر على أولئك الذين يرفضون الاعتراف بالفكرة لمجرد انهم لم يجربوها من قبل. قال الله تعالى: [بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه] (يونس/39).
2- والذين يحملون أوزارا فكرية معينة، لا ينظرون الا من زاوية قناعاتهم الخاصة. ولهذا فإن تجاربهم تبدو ناقصة وغير مفيدة لأنها تفسر بعض الحقيقة فقط.
فمثلا: الذي يحمل عقيدة معينة بشأن شخصية تاريخية أو حدث تاريخي، فإنه يحاول دراسة الكتب التي تؤيد وجهة نظره دون الكتب المخالفة لها.. ولذلك تصبح معلوماته ناقصة حتى حول عقيدته الخاصة، لأنه لا يدرسها الا في حدود معينة وبترسبات سابقة.
ومن هنا نكتشف أن العقل ضروري لتوجيه الحس إلى الإحاطة بالشيء، والتثبت من التجربة دون الحكم على الموضوع بسرعة وقبل اكتمال تجربته وتعميمها على جميع الحالات التي قد يكون لتغيرها نوع من التأثير في صحة التجربة.
وقد سبق القول منا بأن رأس العقل هو التثبت، ذلك لان الإنسان جبل على الثقة الساذجة بنفسه، بحيث يصعب عليه الاعتراف بجهله، ولئن اعترف فإنه سرعان ما يعود فيدعي العلم.
والعقل المضيء هو الذي يحكم على الذات بأنها جاهلة، ويكشف لها عن جهلها فتضطر إلى البحث عن المعرفة. وهنا فقط تتجرد عن صلالتها السابقة وتبدء تجرب الحقائق بروح موضوعية.