جاء في الحديث: (مستشهد بكلية الأجناس على ربوبيته وبعجزها على قدرته وبفطورها على قدمه وبزوالها على بقائه، تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوا كبيرا). ب- ان التركيب يعني وجود عنصرين خالدين يحتاج أحدهما إلى الآخر، وان هذا يعني عدم وجود اله أبدا، ذلك لأن الحاجة من صفة المخلوق والخالق غني بالذات عن غيره إذ لو لم يكن غنيا بالذات لم يمكن ان يكون أزليا دائما، بل كان يحتاج إلى خالق آخر غير محتاج. هذا هو المعنى الأول للأحدية. ولمعرفة الدليل على المعنى الثاني لابد من عرض بعض النقاط التمهيدية: التوحيد 1- قالت المجوس ان للكون إلهين اثنين أحدهما للخير والثاني للشر، ويسمون إله الخير بإله النور، وإله الشر بإله الظلمة. والذي أضلهم هذا الضلال المبين هو جهلهم بطبيعة الشر وسبب وجوده في الحياة، فزعموا: انه لا يمكن ان يكون خالق النور هو خالق الظلمة ورب الخير هو رب الشر. ولقد أضلهم هذا الجهل إلى ان الإلهين لابد ان يكونا في صراع دائم يمثله في الخارج جنود الخير والشر، والنور والظلمة. ومن هنا فهم قائلون بتعدد الآلهة ليكون أحدهما ممثلا للخير وخالقا له والثاني ممثلا للشر وخالقا له ولابد عندهم من ان يكون النزاع دائما بين الإلهين، والا فقد التعدد معناه. ومن هنا فإنهم يزعمون: ان كلا من إله الخير وإله الشر عاجزين من التغلب على الآخر. فإن أثبتنا ـ كما سيأتي ـ ان الله الخالق لا يمكن ان يكون عاجزا عرفنا ان الله أحد وهو إله الخير والشر، وجاعل النور والظلام، وانه لا يمكن ان يكون هناك إله آخر ليس لله تعالى طرده والإنتصار عليه. 2- ان الفلسفة الاغريقية وروحها السارية في اليهودية والنصرانية زعمت بتعدد الآلهة بسبب زعمهم بأن الله قد أولد الاشياء، فأضلهم جهلهم بطبيعة الخلق وزعموا ان طبيعة الخلق انما هي ولادة شيء عن الله ـ سبحانه ـ وصدوره عنه كما تفيض العيون بالماء. فإذا ثبت لدينا ان خلق الله انما هو بنحو الابداع (يقول كن فيكون) لأن قدرته ذاتية، وعرفنا انه إذا حدد الذاتي انقلب إلى أمر عرضي إذ معنى ذاتية القدرة ان الذات لا يمكن ان يكون عاجزا بل ان كواقع العلم الذي لا يمكن انه ينقلب إلى الجهل بل العلم علم بالذات. أقول: إذا ثبت لدينا هذا ثبت سخافة الفلسفة الاغريقية وتابعتها اليهودية والنصرانية في هذا المجال، وانهار بناء القول بتعدد الآلهة: بناء الزردشتية الشرقية والاغريقية الغربية، هذه بعض النقاط التمهيدية، اما تفصيل الأدلة على التوحيد فهي: 1- لكل اثنين ثالث ولكل ثلاثة رابع، والسبب انه لابد لكل اثنين من عنصرين أحدهما يميزه عن الآخر والثاني يحقق وجوده، فزيد وعمر يشتركان بعنصر الرجولة ويفترقان بعنصر العمر والزمن أو الحالة والمكان وما أشبه. ولو افترضنا إلها غير ذي العرش ـ تعالى ـ إذا لكان بينه وبين الله سبحانه فارقا يميزه عنه كالمكان والزمان و. و.. وإذن لكان الفاصل خالدا خلود الإلهين لأنه مقوم لهما محقق لوجودهما ولولاه لما تميز عن الإله الآخر ثم يأتي الحديث عن هذا الفاصل الذي يميز بين الإلهين والذي افترض انه قديم فنقول انه لو كان قديما لكان وجوده من نفسه وإذا لكان غنيا عن الخلق. إذ كل شيء قديم لا يمكن ان يكون مخلوقا بل غنيا عن الخلق وبالتالي إلها وإذا كان لابد ان يكون بينه وبين الإلهين فارقان ولكان الفارقان إلهين أيضا ولكان يجري فيهما ما قد جرى في الآلهة السابقة من لزوم الفارق بينهما وبين غيرهما من الآلهة، وهذا لا يقف عند حد محدود، إذ كلما افترضنا إلهين قلنا فيهما انهما يحتاجان إلى ما يفرقهما عن بعضهما ولابد ان يكون الفارق إلها، وهكذا نستمر إلى ما لا نهاية. كل ذلك فيما لو افترضنا ان الإلهين بعيدين عن بعضهما اما لو قلنا ان أحد الإلهين يكون حاملا للآخر إذا لكان المحمول مخلوقا محتاجا، ولم يكن في الكون الا اله واحد. 2- ثم ان وجود إلهين اثنين لا يخلو من ان يكون واحدا من أمرين؛ اما ان يقدر أحدهما على دفع الآخر عن موضعه أو لا يقدر، فإن كان قادرا لم يكن ذاك الآخر إلها وان لم يكن قادرا لم يكن هذا الها إذ الإله لابد ان يكون قادرا بالذات، ولا تكون القدرة الذاتية بمحدودة أبدا، إذ كما مر ان الذاتي يعني ان كون القدرة من ذات الفرد، ولا يناسب القدرة الذاتية العجز عن ناحية معينة. فمثلا: يكون الله قادرا بالذات ثم لا يكون قادرا على خلق نجمة مضيئة؟ هذا تناقض. وبما ان العجز عن التغلب على الإله الآخر نوع من العجز فإنه لا يناسب القدرة الذاتية، إذ انا نعرف بالوجدان- ان القدرة بالذات لا يمكن ان تنقلب إلى العجز ولو بالنسبة إلى شيء واحد. جاء في السنة؛ سأل زنديق، الإمام الصادق (ع): من زعم ان الله لم يزل ومعه طينة موذية فلم يستطع التقصي منها الا بإمتزاجه بها ودخوله فيها فمن تلك الطينة خلق الأشياء؟! قال الإمام (ع): (سبحان الله وتعالى ما اعجز إلها يوصف بالقدرة لا يستطيع التقصي من الطينة ان كانت الطينة حية أزلية فكان إلهين قديمين أزليين فامتزجا وجاء العالم من أنفسهما، فإن كان كذلك فمن أين جاء الموت والفناء وان كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم والميت لا يجيء منه الحي). 3- إذهب ببصرك انى شئت من لدن نفسك حتى تبلغ أبعد مجرة في السماء فلا ترى الا الترابط والتماسك التام بعضها يحتاج إلى بعض ولا يتم الا به، وليس ذلك الا شاهدا ودليلا على وحدة التقدير والتدبير، والمقدر والمدبر، الذي يحفظ توازنها ويمسكهما ان يتصدعا فكما يوجد نظام تجاذب الأجسام بين النجوم والمنظومات والمجرات، فكذلك يوجد في داخل الذرة الصغيرة من أجسام أو اشعاعات. والنظام الذي يوجد في العوالم الكبرى نجده في صورته الكاملة في أصغر عالم عرفناه. فنحن نعرف طبقا لاحدث معلوماتنا- ان الذرة أصغر عالم وانها قد تناهت في صغرها حتى لا يمكن ان نشاهدها الا بالمنظار الذي يكبر الاشياء ملايين المرات. ولكن هذه الذرة مع ما وصفناه بها- تحتوي بصورة رائعة على نظام الدوران الموجود في النظام الشمسي، والسؤال ماذا يدل عليه الترابط والتشابه؟ والجواب: -: انك إذا رأيت كتابا قد أتقنت فصوله ونسقت تنسيقا قلت ان مؤلفه انما هو فرد واحد. وأما إذا رأيت كتابا مختلف الفصول في المستوى وفي الموضوع عرفت ان من ألفه ليس بواحد. فكيف لا يشهد العقل بوحدة مدبر الكون من وحدة تدبيره وتناسق أجزائه وترابطها؟ ولو كان هناك آلهة إذا لكان يظهر في الكون آثار قدرتهما ولكان يختلف تدبيرهما وإذن لكان يفسد الكون بهما. في القرآن الكريم: [لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا] (الأنبياء/ 22). 4- لو كان مع الله اله آخر، لكان يبعث إلينا رسلا نهتدي إليه بهم إذ ان معرفة الله لا يمكن الا به وبإرشاده، وإذ لم يبعث إلينا رسلا عرفنا انه لا يخلو من ثلاث: فاما انه ليس بموجود، واما انه عاجز، أو انه غير آبه بعباده. وليس ذلك كله من صفة الخالق القادر الغني بالذات. جاء في السنة: (لو كان مع الله اله لأتتك رسله). التذكر بالله ملاحظات تمهيدية ـ مرحلة الجهود ـ مرحلة الجدال ـ مغالطات مفضوحة ـ مرحلة الهداية ـ صفات الله. ان لمعرفة الله مرحلتين؛ الأولى تتناول موضوع معرفة الله، والثانية في انه: كيف نذكر الناس بالله، وكيف ندعوهم إليه، وقد استوعبنا الحديث عن المرحلة الأولى، وها نحن نعرض المرحلة الثانية: ملاحظات تمهيدية: 1- في هذه المرحلة، يسعى الداعي إلى إثبات الله للمنكرين، وتعتبر هذه المرحلة بمثابة تمهيد طريق يؤدي إلى المعارف التي بينت في المرحلة الأولى، ذلك لأنه يعرض في البدء الأدلة المثبتة لوجود الله سبحانه، فإذا آمن الفرد يعرض له صفات الله وكيفية معرفته وما أشبه، مما سبقت الإشارة اليها في أحاديثنا السابقة. 2- هل تستطيع العقول اثبات الله؟ بالوجدان نرى ان كل ذي لب يستطيع بعد التوجه إلى آيات الله ان يهتدي إلى وجود الله. وإلى هذه الحقيقة تشير النصوص التالية: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون). إذن في الكون آيات لمن تفكر وعقل. فالفكر والعقل يهديان إلى وجود الله. في الحديث (لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته). 3- والناس في الدعوة إلى الله فريقان: منكر متردد، ومنكر جاحد. وعلى الداعي ان يجاري كلا منهما بما يناسبه من دليل أو تذكر. 4- على الداعي ان يثبت وجود الله في ثلاث مراحل: أ- تذليل الغريزة الجاحدة والتي ينكر الحق أكثر من ينكره تحت ضغط تلك الغريزة. ب- رد الشبهات والأفكار الضالة التي ترسبت في النفس بسبب وبآخر. ج- إضاءة الضمير بالتوجه إلى آيات الله الدالة عليه. واذا نجح الداعي في دفع الفرد من مستوى الجحود إلى مستوى الشبهات ومنها إلى مستوى الآيات فقد انتصرت حجته ومضت دعوته. وعلى الداعية ان يعرف أولا مستوى صاحبه في مجال الدعوة. فبعض الناس مسلمين للحق ـ بطبعهم ـ وليس لهم سوى الغفلة عنه وهزة واحدة لهم بالتذكير تنقلهم من الضلال إلى الهدى، في حين ان لبعضهم قلبا أقسى من الحجر، لا ينفذ فيه الهدى أبدا.. وإليك الآن بيانا وتفصيلا للمراحل ومقتضياتها: أ- مرحلة الجحود ان الجحود مرض نفسي، ناشئ من الطغيان والتكبر. علاجه الوحيد يكمن في تذليل النفس وتبديل طغيانها رضا وتسلميا.. والطريق الإسلامي إلى هذا التبديل، توجيه النفس بكل عنف وإصرار إلى ثلاث نقاط. أ- ان الكفر يوجب غضب الله وعذابه في الآخرة. ب- ان الكفر يؤدي إلى عذاب عاجل في الدنيا. ج- ان الإيمان بالله يسبب مغفرة من الله وأجرا في الدنيا والآخرة[6]. وبما ان البشر قد فطر على حب الذات فإنه يستسلم لدى تخويفه بالعذاب ويرجع عن طغيانه عندما يرغب في الثواب. والنصوص القرآنية تعطينا درسا بليغا في مجال دعوة الجاحدين تبين لنا سر نجاح القرآن في هداية الجاحدين وكيف أذلت نفوسهم الطاغية وأخضعتها للحق. وفيما يلي نثبت نماذج قرآنية لذلك. قال الله تعالى وهو يخوف الإنسان بالعذاب [بسم الله الرحمن الرحيم* إذا السماء انفطرت* وإذا الكواكب انتثرت* واذا البحار فجرت* واذا القبور بعثرت* علمت نفس ما قدمت وأخرت* يا ايها الإنسان ما غرك بربك الكريم* الذي خلقك فسواك فعدلك..] (الانفطار/1-7). [ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون* فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين* وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون* انما تعبدون من دون الله اوثانا وتخلقون إفكا* ان الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له واليه ترجعون] (العنكبوت/14-17). قال الله وهو يجعل لمن آمن أجرا عظيما في الآخرة ويرغبهم فيها: [.. فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى* قال آمنتم له قبل ان آذن لكم انه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى* قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض، انما تقضي هذه الحياة الدنيا* انا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى* انه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى* ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى* جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى] (طه 69/67). كما يجعل لمن آمن أجرا عظيما في الحياة الدنيا، فيقول تعالى: [.. واسماعيل وادريس وذا الكفل كل من الصابرين* وأدخلناهم في رحمتنا انهم من الصالحين* وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن ان لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين* فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين* وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين* فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه انهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين* والتي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين* ان هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون] (الأنبياء/ 85-92]. ومن تدبر في القرآن يجد ان أكثر آياته تسير على هذا النهج ذلك لأنها تجابه الملحدين- بالإنذار والبشارة ثم يوجههم إلى الله الحق. وتسلك النصوص الإسلامية هي أيضا نفس الطريق. نثبت فيما يلي نموذجا واحدا منها نقتبسه من خطب الإمام أمير المؤمنين حيث قال: (الحمد لله المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبه. خلق الخلائق بقدرته، واستعبد الأرباب بعزته، وساد العظماء بجوده. وهو الذي أسكن الدنيا خلقه، وبعث إلى الجن والإنس رسله، ليكشفوا لهم عن غطائها، وليحذروهم من ضرائها، وليضربوا لهم أمثالها، وليبصروهم عيوبها، وليهجموا[7] عليهم بمعتبر من تصرف مصاحها[8] واسقامها وحلالها وحرامها، وما أعد سبحانه للمطيعين منهم والعصاة من جنة ونار وكرامة وهوان، أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه، جعل لكل شيء قدر ولكل قدرا أجلا ولكل أجل كتابا.. واعلموا انه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم، وانما تسيرون في أثر بين وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم). ثم قال: (واعلموا انه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار فارحموا نفوسكم فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا، فرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه والعثرة تدميه والرمضاء تحرقه! فكيف إذا كان بين طابقين من نار ضجيع حجر وقرين شيطان.. أعلمتم ان مالكا[9] إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه وإذا زجرها توثبت بين أبوابها من زجرته). هكذا تحاول الآيات والنصوص الإسلامية إزالة جحود الجاحدين بالإفناء والترغيب وعلى الداعية ان يستعمل نفس الأسلوب ليكون ناجحا. ب- مرحلة الجدال تمهيدا لعرض طائفة من الشبهات ودحضها يجب ان نعلم ان الجدال يعني في منطق القرآن المناقشة بصفة عامة وهو على نوعين: جدال ممدوح وآخر مذوموم، وهما: 1- الجدال بالتي هي أحسن. 2- الجدال بغير التي هي أحسن. والحديث التالي يفرق لنا بين النوعين كما يبين حكمهما لدى الإسلام: ذكر عند الإمام الصادق عليه السلام الجدال في الدين وان رسول الله والأئمة قد نهوا عنه، فقال الصادق (ع): لم ينه عنه مطلقا ولكن نهي عن الجدال بغير التي هي أحسن، اما تسمعون الله يقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن) وقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وهو الذي قرنه العلماء بالدين والجدال بغير التي هي أحسن محرم، حرمه الله على شيعتنا.وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول: (وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى) قال الله: (تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) فجعل علم الصدق بالبرهان وهل يؤتي بالبرهان في الجدال بالتي هي أحسن؟! قيل: يا ابن رسول الله؛ ما الجدال بالتي هي أحسن وبالتي ليست بأحسن؟ قال (ع): أما الجدال بغير التي هي أحسن فإن تجادل مبطلا فيرد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل ان يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة ان يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه؟ فذلك حرام على شيعتنا ان يغتدوا فتنة على ضعفاء اخوانهم وعلى المبطلين. اما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما في يديه حجة لهم على باطلهم، وأما الضعفاء منكم فتعمى قلوبهم لما يرون من ضعف الحق في رد المبطل. وأما الجدال بالتي هي أحسن فهي ما أمر الله به نبيه ان يجادل به من أنكر البعث بعد الموت وإحيائه له فقال حاكيا عنه (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم) فقال الله تعالى في الرد عليه: قل يا محمد (يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل شيء عليم). نستنبط من هذا الحديث ثلاثة أمور هي: 1- على الداعي ان لا يورط نفسه بالجدال ما دام لا يرى في نفسه الكفاءة التامة عليه. 2-عليه ان لا يجحد حقا لإثبات حق آخر، بل يبين الفارق بينهما. فلو قال المبطل للمحق انك تعتقد بأن للأرض نظاما فلماذا نعتقد بالله مع ان النظام يكفي لتفسير ظواهر الخلق، فلا يقل المحق: ليس في الأرض نظام. فيكون قد انكر حقا. بل ليقل: (لا منافاة بين ان يكون للأرض نظام وان تحتاج الأرض في خلقها ونظامها إلى خالق مقدر). 3- يندب الجدال بالتي هي أحسن بالنسبة إلى كل مسلم قادر. وهذا الحديث يجعلنا نثبت لأنفسنا الحق ـ ليس في عرض الفكر الإسلامي ـ بل وحتى في الاستدلال له، ذلك ان الدليل الباطل لن يهدي الإنسان إلى الحق. وان تراءى للبسطاء كذلك وهذا ذات ما قد سبق من وجوب الإلتزام المطلق بالمنهج الديني، حتى لا نعرض الدين في ثياب غريبة عنه. مغالطات مفضوحة.. بعد تمهيد الطريق بذكر معنى (الجدال الحسن والجدال السيء) نعرض جملة من مغالطات الماديين وشبهاتهم حول الله، نفضح ما فيها من تناقض. (ش: علامة الشبهة. وعلامة الرد (ج)). ش- يقول الدكتور بخنر الألماني: -بما اننا لم نجد ظاهرة واحدة في هذا الكون الرحيب من أبعد نقطة اكتشفناها في الفضاء وإلى أقرب جرم الينا لم نجدها شاذة عن النظام الكوني، فليس لنا الحاجة إلى افتراض وجود الله. ج- ان عدم وجود شذوذ في النظام أو شمولية النظام في الكون لا يكون دليلا على عدم وجود الخالق بل يكون دليلا قاطعا على وجود من خلق النظام وهو الله الخالق العظيم والا فمن جعل هذا النظام وقدره واجراه وبعد هذا فهل الكون كله خاضع للنظام، أو هل اثبت العلم الحديث هذا النظام؟ لنسمع (هايزنبرغ) العالم الفيزيائي يقول ـ في نظام الذرة ـ: (ان من المستحيل علينا ان نقيس بصور دقيقة كمية الحركة التي يقوم بها جسيم بسيط وان نحدد في الوقت عينه موضعه في الموجة المرتبطة به بحسب الميكانيكا الموجبة التي نادى بها (لويس دوبروغلي) فكلما كان مقياس موضعه دقيقا كان هذا المقياس عاملا في تعديل كمية الحركة ومن ثم في تعديل سرعة الجسيم بصورة لا يمكن التنبؤ بها ومهما تعمقنا في تدقيق المقاييس العلمية ابتعدنا أكثر عن الواقع الموضوعي). هذا في الذرة الذي نادى فيها بعض بمبدأ النظام في اللانظام. وأما في المجرة وهي أكبر وحدة وجودية فإن أحدث النظريات الفلكية اثبتت انه بالرغم من وجود نظام متناسق فيها فإن فيها مجالا واسعا لما نسميه بالصدف. ش- قال طاليس (من قدماء فلاسفة اليونان): لقد كانت المادة ذرات أزلية فاصطدمت ببعضها وكان الكون. وإلى هذه النظرية ذهب بعض الماديين الجدد قائلين ان المادة عبارة عن الذرات الصغار الخالدة التي لا عدم فيها، انها تتكون بين فترة وأخرى بشكل أو بآخر ثم تتلاشى لتتكون بصورة جديدة. ويقول هكسلي: (لو جلست ستة قرود على آلات كاتبة تضرب على حروفها ملايين السنين فلا نستبعد ان نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير، فكذلك كان الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء ظلت تدور في المادة لبلايين السنين). ج- أ- كيف ومن أين عرفتم ان المادة كانت أزلية، هل كنتم مع المادة في أزلها، أم آمنتم بها غيبا؟ فإذا أجبتم بالأول قلنا إذن من اين وكيف آمنتم بأزلية المادة غيبا وانكرتم الله؟ كيف صح ان تؤمنوا بما لا تروه ولا يصح للموحدين الإيمان بما لم يروه؟ ونسأل أيضا هل المادة الأزلية كانت حية؟ فمن أين جاء الموت، أم هي ميتة فمن أين جاءت الحياة؟ وانكم تقولون ان المادة تصادمت مع بعضها، ما الذي سبب تصادم أجزاء المادة؟ أبالصدفة كما يقول (طاليس) أم بالضرورة أم بإرادة واختيار؟ ب- فإن قلتم بالصدفة قلنا: ألستم تقولون ان للطبيعة قوانين معينة لا يخرج عليها ولا يشذ عنها، فكيف حادت عنها؟ أم كيف تركت نظامها إلى نظام جديد؟ ثم هل تأتي الصدفة بهذا النظام الدقيق المتناسق الذي يحير العقل من دقته وعمقه واتقانه ان الصدفة لا تصنع ساعة يد (كما يقول انشتاين) فكيف تصنع العقل المفكر والاجهزة المحيرة للعقول الموجودة في الدماغ؟ وكما يقول أحد العلماء ان القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن تتوقع اعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في المطبعة.. ان احتمال ان يكون الضرب على آلة كاتبة على يد أمي سببا لقصيدة شكسبير أبعد من ان يشافي كل مرضى العالم بتناول مواد تقضي على أمراضهم صدفة كأن يذهب أحدهم إلى الحقل ويتناول حشيشة وصدفة يكون فيها دواؤة، ويذهب الآخر الىالبحر فيتناول صدفة سمكة يكون فيها شفاؤه، ويذهب الثالث إلى الصحراء وتلدغه أفعى يكون فيه دواء مرضه، وهكذا كل مريض في العالم وفي يوم واحد يشفى صدفة بسبب مجهول. لو حدث مثل ذلك لما تمالكنا عن القول بأن معجزة إلهية كبيرة قد وقعت. ثم كيف يمكن ان تكون الحياة صدفة مع ان الخلية الحية تحتوي على أجزاء منها البروتين واحتمال ان يحدث بروتين واحد صدفة يتطلب ـ حسب نظام الاحتمالات ـ يتطلب مادة يزيد مقدارها الف مليون مرة عن المادة الموجودة وأما المدة التي يمكن فيها ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية فهي أكثر من 1-243 عاما أي مائتان وثلاثة وأربعون صفرا أمام عشر سنين.. وبعد هذا هل يمكن القول بتكون كل العالم صدفة؟ ج- وان قلتم بالضرورة أي ان المادة من طبيعتها ومن قانونها الاجتماع. قلنا فلماذا كان ذلك حادثا ولم يكن منذ القدم كذلك فإن المادة قديمة (كما تدعون) وقوانينها قديمة فيجب ان يكون هذا العالم من قديم ويجب ان تكون ما فيها من صور قديمة وليس الواقع كذلك قطعا. وان قلتم انما صارت كذلك بإرادة واختيار، قلنا: ممن كانت الإرادة من الطبيعة أم من المادة أم من ذات أغلب وأقوى منهما؟ إذا دعنا ننظر: ما هي الطبيعة؟! ان هي الا النظام (وهل النظام عاقل؟). وما هي المادة، أليست المادة هذه الذرات، فهل هي الإرادة؟ ارجعوا إلى عقولكم وفكروا. وثم لماذا بدلت صورتها بعد ان كانت في صورة واحدة؟ الضرورة أم الإرادة أم بالصدفة، وكل ذلك سفه الفكر. ش- ويقولون لقد تغلغلنا في أعماق المادة وكشفنا غورها البعيد فلم نر غير المادة شيئا وغير النظام مربيا ومدبرا. ج- نحن لا ننكر النظام والمادة، ولكن من خلق المادة والنظام؟ ان العقل يحكم بأن المادة لابد لها من خالق وان النظام لابد له من مدبر عليم، وهل يمكن ان ينكر الإنسان شيئا بمجرد انه لا يراه؟ ش- ان الإيمان بالله نشأ من ضعف الإنسان أمام قوى الطبيعة القاهرة في تلك الحقب المعتمة من تاريخ البشر حينما لم يكن له ملجأ من الحر والبرد ولا منقذ من المرض والعاهة ولا وسيلة يدفع بها عادية الأعاصير أو يقهر بها المسافات في البر والأمواج في البحر. اما اليوم فقد قهر الإنسان بعقله العملاق الطبيعة وأخضعها لإرادته الجبارة فلم يبق ما يبرر الإيمان بالله. ج- بالرغم من ان هذه المغالطة تشغل فكر الرجل العصري في كل مكان اعتزازا بنفسه وغرورا بإنجازاته ومكاسبه، فإنها تافهة جدا. وأول تساؤل نوجهه إلى أنصار هذه الفكرة هو ان البشر هل تخلص نهائيا عن أسباب الضعف التي كانت قديما تدعوه إلى التوسل إلى الله، أو ليست الأمراض تتصاعد خطورة وتتزايد عددا، أو ليست الوفاة وهي أشد الحوادث هولا لا تزال تهدم أحلام البشر، أو ليست الحروب تشكل زاوية خطرة في بناء الحياة السعيدة، أو ليست الحوادث الطبيعية لا تزال تقوى على البشرية، بل أليس الخضوع للإقليمية والمصلحية والطائفية والعنصرية ضعف في الإنسان لم يستطع معالجته حتى الآن؟ والتساؤل الثاني هو انه هل ان تقدم العلم يقضي بعدم الإيمان؟ أيزعمون ان الله يجب ان يعرف في غرفة الاختراع أو تحت مجاهر كهربائية فإذا لم يوجد وجب إنكاره، أم ان تقدم العلم دليل إلى الله؟ والحقيقة ان اتجاه الحضارة اليوم اتجاه كافر والا كان تقدم العلم سببا لزيادة الإيمان لأنه: 1- يجعل البشر يعتقد بأن وراء أفقه آفاقا، وان ما وصل إليه فكره ليس المنتهى الأخير كما كان يعتقد الأولون. 2- يكشف أسرار الطبيعة التي تدل على اتقان الصنع واحكام الخلق، ولذلك فإن مشاهير العلماء أصبحوا أول المؤمنين بالله. ونكرر هل العلم يتأثر بتقدم الكشوفات؟ فمثلا لو كان البشر يعتقد بأن 22=4 قبل قرن يجب ان يقول 22=5 لأن البشر أحرز مكاسب جديدة؟! ان الإيمان بالله نابع من فطرة الإنسان التي لا تزداد بالتجارب الا جلاء وروعة. فكيف ننكر ربا يزيد علينا كل يوم فضلا كبيرا، وكيف نرفض الشكر لإله يلهمنا كل يوم علما مستجدا و.. و..؟؟ س- ان الله صانع الخلق كما يقول المؤمنون أوجد الشيء من لا شيء وهذا أمر مستحيل عقلا فلا يمكن ان يكون العدم مبعث الوجود. ج- أولا من أين عرفتم استحالة وجود الشيء من العدم؟ هل لأنكم لم تروه من ذي قبل؟ أو أنكم لم تروه في المختبرات وتحت المجاهر؟ وهل عدم الرؤية دليل على عدم الوجود؟ كم من واقع لم يكن مرئيا ثم أصبح معروفا. فهل كانت الأشعة مرئية حين كانت موجودة منذ ان كانت الشمس، أم كانت الجاذبية مرئية؟ ان الفطرة أمضى حكما وأنفذ بصيرة من العين المجردة. وثانيا: لابد لنا ان نعترف ببداية الكون لأنها تدل عليها تجاربنا العلمية ومعارفنا الفلسفية وقد سبقت لمحة موجزة من أدلتها عند الحديث عن حقيقة الوجود. وثالثا: ان كثيرا من الحقائق نضطر إلى الاعتراف بأنها حادثة فمثلا: حالة الاتصال والإنفصال ـ كمثل اتصال يد بأخرى ثم انفصالها- حالة معدومة ثم يوجدها الإنسان، والإرادة كانت معدومة ثم وجدت. إذن فليس هناك مانع من وجود شيء بعد عدم. رابعا: ان استحالة وجود شيء من العدم لا يرتبط بخلق الله سبحانه للأشياء ذلك لأن الله هو الذي وهب الخلق للأشياء. فالأشياء جاءت من خلق الله لا من العدم والله أبدعها بعد عدم ولم يخلقها من العدم.. قال الله تعالى (ربنا الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى). وفي الحديث (لا من شيء كون الأشياء). س- لقد ثبت بالتجربة العلمية ان كل شيء يحتاج إلى مكان وزمان، فإذا آمنا بالله فلابد ان نعتقد بوجود شيء لا مكان له ولا زمان وهذا أمر غير ممكن. ج- لابد ان نسأل أولا من أين اكتشفتم ان كل شيء يحتاج إلى حيز يستوعبه من مكان وزمان لولا انكم رأيتم المادة في زمان ومكان فحسبتم ان كل شيء لابد ان يكون مقولبا بهما موجودا فيهما. ولقد اكتشف الإنسان ان بعض الحقائق تقع خارج حدود الزمان. فالجاذبية مثلا حقيقة لا يمكن ان ينكرها رجل عصري بيد انها حقيقة تعيش خارج الزمن. ولو ان (رد الفعل الجاذبي) كان يحتاج في قطع المسافات الىالزمان لكانت نتيجة تبدل المجرات إلى أمواج الذي يحدث كثيرا- يؤدي إلى تفجر كافة المجرات. هذا عن هذا الزمان وأما عن المكان فأين مكان الحق والباطل، والفضيلة والرذيلة؟ ونقول ثانيا ان الله سبحانه محيط بكل زمان ومكان فليست الأمكنة والأزمنة مباينة عنه. فهو إله في السماء وإله في الأرض وهو محيط بكل زمان ومكان، ولكن لا بما ان الله محاط م قبل الأزمنة والأمكنة. بل بما هو محيط بهما. وثالثا ان السبب الذي بحثنا من أجله عن الله. ان الفطرة تهدينا إلى ان الكون عاجز بذاته عن خلق نفسه وتدبيرها لأنه يجري في حدود الزمان والمكان فلا يمكن ان نسري ذات الصفة إلى الله خالقه إذ نفقد المبرر الذي جعلنا نبحث عن الخالق من أجله- وهو البحث عن إله لا يحتاج ولا يحد بزمان ومكان. ش- إذا كان الله موجودا فلماذا خلق الله الكون؟ ج- هل ان عدم معرفة سبب الخلق دليل على عدم حكمة الخلق؟ أليس من الجهل ان نقول ان كل شيء لا نعرفه فهو غير موجود؟ ثم اني لا اعتقد ان أحدا يحمل فكرا مستقيما ينكر فائدة المخلوقات كالشمس والقمر والاجرام السماوية والاحياء جميعا. وهل هناك فائدة اكبر من ذات الحياة التي غمر حبها كل قلوبنا؟ ش- نحن لم نشاهد أول خلق المادة فلا يمكننا ان نؤمن بمبدأ لها فهي اذن أزلية. ج- هل رأيتم أزليتها؟ ثم ان الأزلي لا يمكن التغيير فيها فلا ينقص ولا يزيد لأن النقصان والزيادة تأتي من تأثير خارجي والأزلي معناه ان الوجود من نفسها ولا يمكن ان يحدث فيها التغيير بينما نراه في المادة فإذن ليست ازلية. وقد سبق الحديث عن خرافة القول بأزلية المادة. ش- وشبهة أخيرة تقول: ان تقدم العلم يناقض الإيمان بالله؟ ج- ولكن لنتساءل لماذا؟ هل ان العلم ينافي الإيمان لأن طائفة من المكتشفين كانوا ملحدين؟ وهل هذا دليل قوي على الكفر؟ فإذا لابد ان يكون اعتقاد طائفة كبيرة بالله دليلا على وجود الله. وفيما يلي نثبت بعض أقوال العلماء في الله: 1- يقول (هرشل) العالم الانكليزي: كلما يتوسع أفق العلم تزداد البراهين الواضحة على وجود الله الخالق الأزلي الذي ليس لقدرته حد ولا نهاية. 2- ويقول (لينه) الفسيولوجي الفرنسي: لقد تجلى لي الله الكبير المتعال ببدائع صنعه بحيث أدهشتني وحيرتني، أي قدرة وأي حكمة وأي ابداع جعلها في كل مصنوعاته ومخلوقاته من صغارها وكبارها! 3- ويقول (فونتل) في دائرة المعارف: ليست أهمية الكشوف الحديثة في إشباع تهمة العقول الفارغة، بل ان أهميتها البالغة هي ترفيع مستوى العقل إلى الخالق الذي يملأ مشاعرنا احساسا بالجمال والعظمة. 4- ويقول (روسو) الكاتب الفرنسي الكبير: يجب ان نعترف بالخالق القدير الحكيم وذلك لأن الحركة في الجسم ليست ذاتية ولابد ان تنتهي سلسلة المحركات إلى محرك واحد. وما أبعدها من فرضية تقول: ان هذا النظام العجيب جاء نتيجة الصدفة. 5- ويقول (نيوتن): أتشكون في الخالق؟ الا ان من السخف الاعتقاد بأن الضرورة هي الرائدة للكون. ج- مرحلة الهداية وبعد دحض الحجج وتسفيه الأباطيل، تأتي مرحلة الهداية حيث يذكر الداعي بالآيات، ويوجه الفرد إلى ربه، ويختلف توجيه الناس حسب اختلاف مستوياتهم وأفكارهم. 1- فقد يستدل بآيات الله الكونية كالشمس والقمر والأجرام والمنظومات والمجرات وما فيها من دقة ونظام. 2- وقد يستدل بما في جسم كل بشر وكل حي من عظيم الآيات. 3- وقد يستدل بالنفس البشرية، وانها كانت ضعيفة ثم قدرت وكانت جاهلة ثم علمت وانها تحس في واقعها بالصغار والذل أمام قوة قاهرة عالمة، فلابد ان الذي أعطاني القوة والفهم هو أقوى مني وأفهم. 4- وقد يستدل بما في الكون من نظام شامل دقيق عميق على قدرة الخالق وعلى علمه. 5- كما انه يستدل بما في الوجود من تناسق وترابط واتحاد في النظام على ان خالقها ومدبرها فرد احد. هذه هي الأصول المشتركة التي توحي إلى العقل بوجود الله وما له من صفات، ونذكر هنا جملة من الآيات والأحاديث التي تعتبر نماذج حية للتوجيه إلى الخالق بهذه الطرق المذكورة. قال الله سبحانه وتعالى [الم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم اخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا] (نوح/ 15-20]. (ومن آياته ان خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون. ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين. ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغائكم من فضله ان في ذلك لآيات لقوم يسمعون. ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون] (الروم/ 20-24). قال الإمام أمير المؤمنين (ع) وقد سئل عن الدليل إلى الله، قال: (اني لما نظرت إلى نفسي لا أملك فيها زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت ان لهذا البنيان بانيا فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات). وقال رجل لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال عليه السلام: (بمخالفة العزم ونقض الهمم لما هممت فحيل بيني وبين همي وعزمت فخالف القضاء عزمي علمت ان المدبر غيري..) وقال: (لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا العذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والأبصار مدخولة أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم صنعه وأتقن تركيبه وخلق له السمع والبصر وسوى له العظم والبشر، أنظروا إلى النملة في صغير حجمها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال للحظ البصر ولا بمستدرك الفكر دبت على أرضها وظنت على رزقها تنقل الحبة إلى مجراها وتقعدها في مستقرها تجمع في حرها لبردها وفي ورودها لصدورها مكفول برزقها مرزوق بوفقها لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديان). قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما الدليل على ان الله؟ واحد قال: (اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال الله سبحانه: (لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا). وأعلم بأنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولرأيت أفعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه). ولو شئنا ان نعرض هنا ـ ولو موجزا ـ معاشر آيات الله اذن لوجب ان نملأ أسفارا طوالا ولكننا ذكرنا جانبا من الآيات والأحاديث، لتكون هداية كافية لنا إلى كيفية الحديث حول التذكر بالله العزيز، وعلينا بعد ذلك ان نقولب كلما نملك من ثقافة ومعرفة حول النفس البشرية من آفاق المعرفة في قالب التذكر بالله. صفات الله: لقد سبق القول في أسماء الله الحسنى، وهناك قلنا ان التفكر في الخلق يهدينا إلى ان في كل شيء مخلوق صغير أو كبير جوانب كمال وجوانب نقص، جوانب قوة وجوانب ضعف.. وقلنا ان ذات المخلوقات انما هي العجز والضعف والنقص وما فيها من القدرة والمعرفة والكمال فهي موهوبة له من لدن القادر القوي بالغ الكمال. وعلى هذا فكلما نرى من صفة كمال في الخلق تهدينا إلى ان الله الذي وهبها يملك ما لا نهاية له منها، وكلما نرى في الخلق من صفة النقص نعلم ان بارئها منزه عنها. إذ كما سبق لا يمكن ان يجتمع النقص الذاتي والكمال الذاتي في شيء واحد، ويبين هذه الحقيقة الإمام عليه السلام حيث يقول: (واما التوحيد فإن لا تجوز على ربك ما جاز عليك). ويقول: (الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه، كل يوم هو في شأن من أحداث بديع لم يكن.. الذي لم يولد فيكون في العز مشاركا، ولم يلد فيكون موروثا وهالكا، ولم تقع عليه الأوهام فتصوره شبحا مائلا، ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها مماثلا، الذي ليست له في أوليته بداية، ولا لآخريته نهاية الذي لم يسبقه وقت ولم يتقدمه زمان ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، ولا يوصف أين ولا بما ولا بمكان، الذي لطف من خفيات الأمور، وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد بل وصفته بأفعاله، ودلت عليه بآياته لا تستطيع عقول المفكرين تصويره لأنه من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهم وهو الصانع العظيم لهن فلا مدفع لقدرته الذي بان من الخلق فلا شيء كمثله، الذي خلق الخلق لعبادته، واقدرهم على طاعته، بما جعل فيهم وقطع عذرهم بالحجج. فعن بينة هلك من هلك وعن بينة نجا من نجا). وهكذا تكون الوسيلة الوحيدة لمعرفة صفات الله الجميلة وأسماءه الحسنى تقديسه عن شبه المخلوقين وتسبيحه عن كل نقص يرى فيهم وتكبيره عن كل عجز يوصفون به سبحانه! الإيمان بالله كيف يؤمن الإنسان معطيات الإيمان الإيمان وقاية وعلاج- الإيمان نبع لا ينضب كيف يؤمن الإنسان أ- نجد أنفسنا تتردد في قبال كثير من الأعمال، ولدى التدبير في حقيقة نرددها هذا نجد ان قوتين تتنازعانها، فقوة تريد لها اختيار ما ينفع ودفع ما يضر، وقوة تريد اتباع الحق والعدل. ولدى تدقيق النظر نرى ان التي يحبذ إليها النفس هي التي تدعو إلى الشهوات من المال والبنين ومظاهر الأبهة والجمال[10]، والتي تدعو إلى الحق هي التي تدعو إلى الخير والفضيلة والوفاء وأداء الأمانة. والإحسان إلى المساكين وما إلى ذلك.. ب- القوة الأولى تدعى بالجهل والهوى وحب الذات، والقوة الثانية تدعى بالعقل والعلم والضمير. 1- ان الجهل يدعو إلى المادة وما بها ويدعو إلى الدنيا وما فيها ويزين الشهوات العاجلة للنفس ويفضلها على الحق والعدل الشامل أو يدعو في سبيلها إلى نسيان الواجبات واغتصاب الحقوق. 2- ولذلك فإن طبيعة الجهل تمنع النفس عن التسليم للحق والهدى والطاعة لله تعالى والشكر له وإلتزام أحكامه والعمل ليوم الحساب كل ذلك لأنها تتنافى واللذائذ التي يتعجلها حب الذات ويزينها الجهل له، وتتنافى مع كبرياء الجهل وغفلته عن المستقبل البعيد. أما العقل فإنه يدعو إلى المثل العليا.. يدعو إلى الخير ويفضلها على الشهوات العاجلة ويدعو إلى الطاعة الصادقة وأخيرا إلى الإيمان بالله سبحانه والتسليم له ما دام ذلك كله يؤدي إلى حسن الثواب وحسن المصير وما دام ذلك هو الحق والعدل اللذين يأمر بهما العقل. ج- وليس للإنسان من عمل الا ويتأثر بنشاط احدى هاتين القوتين وبمدى افساح المجال لواحدة منهما للعمل في ساحة النفس تنسحب الأخرى للطبيعة المضادة بينهما- فإذا اختار الإنسان الجهل على العقل واطاع الهوى واتبع الشهوات وترك الحق والعدل فقد أمات عقله، لأنه لم يترك مجالا لطاعته في اتباع الهدى والعمل بالحق والعدل فيتغلب لديه الجهل على العقل. ويكون العكس تماما إذا اختار العقل على الجهل حيث لا يدع مجالا للجهل ولا لحب الشهوات العاجلة واللذائذ القريبة المتواضعة. د- وتبقى النفس البشرية متوترة بفعل هذه المنازعة حتى يتغلب أحد الجانبين على الآخر بالعمل به أو التفكير فيه فإذا غلب الجهل على العقل ذهب نور العقل وطبع على النفس بطابع الكفر. وأصبح الفرد حينئذ- لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه شيئا. ان هذا الفرد لا يرجى منه الخير أبدا إذ ان القوة التي كان يعمل بها الخير قد ذهبت إلى غير رجعة وتدعى هذه الحالة في منطق الدين بالجحود والعناد.. وإذا غلب العقل على الجهل تضاءل الجهل في النفس وانكمش ظل الهوى عنها، وضعف حب الشهوات فيها وكان كل نشاط الفرد ذا صبغة واحدة هي صبغة العقل وتدعى هذه الحالة في منطق الدين بالإيمان.. فالإيمان إذا حالة تسبب من توجيه كافة نشاطات النفس بالعقل وتغليب جانبه على الجهل بحيث لا تبقى له قوة توجه نشاط الفرد بتوجيه منحرف وهذا هو الذي يشير إليه الإمام علي عليه السلام حيث يقول: العقل والشهوة ضدان، ومؤيد العقل العلم ومزين الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينهما فأيهما قهر كانت في جانبه[11]. والسؤال الآن: كيف يتم تغليب جانب في النفس على جانب، وكيف يصبح فرد مؤمنا وآخر جاحدا؟؟ ينبغي أولا ان نؤكد على الحرية التامة التي يتمتع بها البشر في اختيار الإيمان أو الجحود. وان ما نذكره من دوافع الإيمان والجحود لا تسلب النفس إرادتها بل لا تعدو ان تكون أداة ضاغطة عليها فقط. بعد هذا نقول ان الإيمان يكمل بالتسليم المطلق للحق ولا يتم التسليم التام لو لم يتمتع الفرد بواحدة من ثلاث: إرادة صلبة أو عقل كامل أو شهوة ضعيفة. أ- فالإرادة الصلبة تتجاوز كل السلبيات الداخلية وتقهر النفس قهرا حتى ولو لم يكن العقل تاما أو الشهوة ضعيفة. وقوة الإرادة ناشئة التربية العائلية أو التربية الذاتية. فمن أراد العظائم أصبحت إرادته عظيمة هي الأخرى. والتوجيه الخارجي قد يؤثر في هذا الحقل لو ركز الموجه كل نصيحة في ثقة الإنسان بذاته وتحسسه بشخصيته مما يشحذ عزيمته وتقوي إرادته. ب- والعقل يزيد باتباعه والتفكر في احكامه والمزيد من مدارسة العلم ومصاحبة ذوي العقول. والتوجيه الخارجي يفيد قوة للعقل بالتذكرة المستمرة بحقائق الكون واستعراض آيات الله فيها، وشرح اسماءه الحسنى.. واذا تم العقل في الفرد لم يرض لنفسه بالدنيا ولا بالمخلوق واستشرف الآفاق البعيدة متطلعا إلى الأهداف السامية وقال: ما دامت الآخرة خيرا لي من الأولى فإن اختياري الدنيا عجز وصغار، ومادام الله اكبر من كل شيء فإن رضاي بغير إلاها أو حبيبا ذل وخساسة، وما دمت قد خلقت لكي اكون عظيما عند الله فلم أفضل اللذات العاجلة على التقوى؟! وهكذا جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أصل ديني العقل. ج- وانما تضعف الشهوات بتوجيه النفس إلى ابدالها. فالشهوة القصيرة الأمد السريعة الزوال المشوبة بالألم خير ام ما عند الله من النعيم الدائم الخالص؟ هكذا تقارن كل شهوة في الدنيا بلذة في الآخرة فتضعف الشهوات. والواقع ان النفس تستبدل انئذ عنها بشهوات أسمى منها. وانما هو اختيار بين شهوتين عاجلة وآجلة تماما كمن يغري نفسه بالصحة واللذة الدائمة حينما يريد ان يتجنب ما يضر بنفسه ويقول لو أكلت هذه اللقمة فصحيح اني سأحصل منها على لذة ولكنها ستمنع عني ألف لقمة هي ألذ وأطيب من هذه. وهكذا يفضل الآخرة على الأولى. ولو تدبرنا قليلا في النصوص الشرعية إذا لعرفنا ان الدين قد استخدم الطرق الثلاثة في بعث النفوس إلى الإيمان. فقد وجه الإنسان إلى نفسه وعرفه بكرامته عسى ان يقوي ذلك إرادته، ومن ناحية أخرى ذكره بآيات الله في الكون لكي يزيد عقله، ومن ناحية ثالثة وجه انظاره إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار وأنهار من عسل لذة للشاربين وحور عين كأنهن اللؤلؤ والمرجان لذة للناظرين هذه من حقيقة الإيمان. وفيما يلي نص بشأنها (جاء في السنة المروية عن الإمام أمير المؤمنين (ع) ان الإيمان على أربع دعائم؛ على الصبر واليقين والعدل والجهاد. فالصبر من ذلك على أربع شعب؛ على الشوق والإشفاق والزهد والترقب. فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق[12] من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقب الموت سارع إلى الخيرات. واليقين على أربع شعب؛ تبصرة الفطنة وتأول الحكمة ومعرفة العبرة وسنة الأولين. فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنما كان مع الأولين واهتدى إلى التي هي أقوم[13]. ونظر من نجا بما نجا ومن هلك بما هلك وانما أهلك الله من هلك بمعصيته وأنجا من أنجا بطاعته. والعدل على أربع شعب؛ غامض الفهم وغمر العلم وزهرة الحكم وروضة الحلم. فمن فهم فسر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميدا[14]. والجهاد على أربع شعب؛ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين. فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن. ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين وأمن كيده، ومن صدق في المواطن قضي الذي عليه، ومن نشئ الفاسقين غضب لله ومن غضب لله غضب له، فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه[15]. معطيات الإيمان فوائد الإيمان الفلاح في الآخرة الفلاح في الدنيا الإيمان وقاية وعلاج. ما هي معطيات الإيمان في النفس والحياة؟ الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان[16]، هكذا يحدد النبي (ص) واقع الإيمان فهو يستقر في النفس لكي يظهر على اللسان ثم تصدقه سائر الجوارح. 1- إذا فالذي يعرف ولا يقر كافر وليس بمؤمن. قال الله تعالى: [وجحدوا (أي الكفار) بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا] (النحل/ 27). 2- والذي يقر ولا يعمل فهو مسلم وليس بمؤمن. قال الله تعالى: [قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا بل قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم] (الحجرات/ 14). 3- والذي يقر بالذي يعرف، ويعمل بالذي يقر، فهو مؤمن حقا. ولابد للمؤمن ان يسلم لله وحده جميع أموره ويتصف بكل صفة يريدها الله له ويعمل بكل فعل يأمر به الله. والحديث التالي يفصل هذا الواقع. نثبته هنا بشرح موجز..قال رسول الله (ص): (الإيمان في عشرة: المعرفة بالله، واليوم الآخر، والكتب، والأنبياء، والإلتزام بالطاعة لله، والعلم بأحكام الله، والعمل بها، والورع (الخوف من الله)، والاجتهاد (بذل كل الجهد في سبيل الله)، والصبر في النوائب وعلى الطاعات الشاقة، واليقين، والرضا بأمر الله، والتسليم لأمر الله. فأيها فقد صاحبه بطل نظامه (أي إذا كانت للفرد صفة واحدة من هذه الصفات ولم تكن له أخرى لم يكن مؤمنا حقا). ما هي فوائد الإيمان؟: ان الإيمان أثقل ما في ميزان العدالة، فلابد ان يقابل بأجر عظيم. وإذا كانت الأعمال تقوم بما لها من الصعوبة فلابد ان يكون الإيمان أعظمها أجرا لأنه أشقها جميعا. ونحن إذ نشير إلى فوائد الإيمان لا ندعي استيعابها جميعا: 1- الفلاح في الآخرة؛ لنفترض ان وراءنا عالم آخر يصيبنا فيه جزاء أعمالنا ان خيرا وان شرا. فمن هو رب ذلك العالم؟ وما هي الأعمال التي تجزي بخير؟ وما هي التي تجزي بشر؟ بكل بساطة: ان رب هذا العالم الخالق الواحد هو رب ذلك العالم لأنه لا إله الا الله[17]. وبكل بساطة ان صفات الصدق والوفاء والصلاح والعمل على خدمة الناس، وعبادة الله، وطهارة القلب من الحسد والبخل والحقد والجبن والكبر والغرور، أعمال ان كان هناك خير فإنما هو فيها، وان كان هناك جزاء حسن فإنما هو لها. وان صفات الكذب والنفاق، ونقض العهد، والفساد في الأرض، وهدم المجتمع وتفكيك أواصره والاعتداء على حقوق الآخرين ان تلك هي الشر الذي لا يمكن ان يبقى دون عقاب. ان هذا أمر وجداني لا ريب فيه. وهنا نسأل: ما هي الوظائف الدينية التي يلتزم بها المؤمن؟.. من المعلوم انها لن تقع الا في صف الخير فلابد ان يكون جزاء المتدين في الآخرة جزاء حسنا. إذا فإن كانت وراء هذه الحياة حياة أخرى فإن المؤمنين هم الفائزون فيها لا ريب في ذلك بشهادة الفطرة والوجدان بأن جزاء الخير لا يمكن ان يكون شرا. وفي النصوص التالية شهادة على الفلاح الذي يحرزه المؤمنون في الآخرة، ولكن يجب ان نعلم في البدء انه لا يمكن ان نعتقد ونحن عقلاء- بأن الله يأمر عباده بطاعته ويعدهم بالجزاء الحسن في الآخرة ثم يخلف وعده. فلماذا يخلف؟؟ هل لأنه كان محتاجا إليهم فأراد ان يخدعهم ليطيعوه ثم يخلف وعده، ام انه عاجز عن الوفاء لهم بوعده؟؟ سبحانه!! ليست هذه من صفة الخالق الغني الوهاب. وبعد فلنعرف ما هي حقيق الفلاح في الآخرة التي أثبتتها النصوص للمؤمنين. (يموت المؤمن باختياره بعد ان يرى محله من الجنة ثم تزف روحه إلى جنة البرزخ، حتى تتمتع بالملاذ الروحية. ويؤمن من قبل الملائكة عن أهوال يوم القيامة، ثم ينتظر في ظل عرش الله حتى يتم الحساب ثم تزلف إليه الجنة فيدخلها آمنا. ويجد على أبواب الجنة مكتوبا (للخلود) ويهب له الله خيرات ليست الدنيا في جهتها الا كالرمل في البادية الفضفاضة، له سبعمائة ضعف مثل الدنيا، وله سبعون ألف قبة، وسبعون ألف قصر، وسبعون ألف حجلة، وسبعون ألف أكليل، وسبعون ألف حلة، وسبعون ألف حوراء عيناء، وسبعون ألف وصيف، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفيها ملاذ روحية، وفيها رضوان الله، وفيها أمان من النار، تلك النار التي يصفها جبرئيل (ع) للنبي (ص) بقوله: (ان الله أوقد على نار جهنم ألف عام فاحمرت ثم أوقد عليها ألف عام فإبيضت ثم أوقد عليها ألف عام فاسودت، فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا ينطفي لهيبها.. والذي بعثك بالحق نبيا، لو ان مثل إبرة فرج عنها على أهل الأرض لاحترقوا عن آخرهم، ولو ان رجلا دخل جهنم ثم أخرج منها لهلك أهل الأرض جميعا حين ينظرون إليه لما يرون به، ولو كان ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن آخرها، ولو ان بعض خزان جهنم التسعة نظر إليه أهل الأرض لماتوا حين ينظرون إليه، ولو ان ثوبا من ثياب أهل جهنم أخرج إلى الأرض لمات أهل الارض من نتن ريحه[18]).. هذا فلاح المؤمن في الآخرة، انه ينجى من هذه النيران. 2- أما الفلاح في الدنيا؛ فإن الفلاح هي السعادة، فما هي سعادة الإنسان في الدنيا؟؟ ان السعادة تنشأ من تزاوج عاملين.. القضاء على أسباب الشقاء، وتوفير سبب الفلاح. وللشقاء أربعة أسباب نبينها ونشير إلى كيفية قضاء الإسلام عليها أو لا أقل من تهوينها. أ- الخلق السيئ؛ ان الحسد والحقد والغرور والكبر والقلق وسوء الظن، والشعور بالنقص وعقدة الحقارة وعقدة الجنس وما أشبه تنغص عيش طائفة كبيرة من الناس. ومهما توفرت أسباب الرفاه، فإن عذاب النفس الداخلي لا يدع الفرد ان يتمتع بالرفاه أبدا. والإيمان يقلع جذور الفساد من قلب صاحبه ويجعل نفسه نقية راضية مرضية[19]. وفيما يلي نرى كيف يقضي الدين على ذلك؟ ان الدين يغير نظرة الإنسان المادية فيستهين بالدنيا التي هي منشأ الرذائل، في القرآن: [ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون] (يونس/ 68). في الحديث: (انصف الناس من نفسك واسهمهم في مالك وأرض لهم ما ترض لنفسك، واذكر الله كثيرا، وإياك والكسل والضجر) والمؤمن يجيد هذه التعاليم. ب- ظلم الناس بعضهم بعضا؛ والمجتمع المؤمن يسوده العدل والإحسان. والاسلام الدين الذي يلزم بتطبيق شرائعه المؤمن- يضمن للناس العدالة التامة ويتمتع كل فرد بالكرامة والأمن لا فرق في ذلك بين عربي أو أعجمي، أبيض أو ملون، صغير أو كبير، فقير أو غني. ويضمن لهم حقوقهم جميعا ويقول: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). هكذا يعالج الإسلام الظلم لو كان المجتمع المؤمن قائما وأما لو لم يكن فإن المؤمن يتمتع أيضا بالكرامة والأمن في ظل المجتمع الجاهلي ذلك لانه لا يظلم أحدا أبدا[20]. ومن لا يظلم لا يظلم. ولو انه ظلم، فلأنه يحتسب مظلمه عند الله، فإن شقائه سوف يخفف كثيرا لأن هناك فرقا نفسيا كبيرا بين من يعلم بأن بعد هذه الحياة يوما ينتقم الله من الظالم اضعافا مضاعفة، ومن لا يعلم ذلك فإن الأول يستسلم لما لابد منه راضيا بالإنتقام الآجل بينما يحترق الثاني بنار الحقد والقلق الذي لا مناص له منها. هذا فيما إذا كان الظالم أقوى منه وان كان أضعف فمن خصال المؤمن العفو عمن ظلمه، وهذا العفو تنازل اختياري عن الحق المشروع فلا يكون شقاء عليه[21].. إذا فالإيمان يجنب الإنسان من الشقاء المتسبب عن مظالم الناس بعضهم لبعض بطرق ثلاثة: 1- تشريع نظم تضمن للناس كل الناس حقوقهم العادلة. 2- تحريم الظلم الفردي مهما كان صغيرا ورد المظالم مهما كانت حقيرة. 3- تسلية النفس المؤمنة بالرضا لما لابد منه في انتظار يوم القيامة. أو العفو عن الظالم لمن انتصر على الظالم. وهذه معالجة نفسية. وتلك معالجة خارجية عامة وخاصة. في القرآن: في صفة المتقين [الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيط والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم] (آل عمران/ 134-135). وفي الحديث: (ان لأهل الدين علامات يعرفون بها؛ صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، والرحمة للنساء، وبذل المعروف وحسن الخلق[22] وسعة الخلق واتباع العلم وما يقرب إلى الله عز وجل زلفى) [بحار الأنوار/ ج69]. ج- الحوادث الطبيعية؛ (الزلازل، الأوبئة، الفيضانات، حوادث السير، الحرق، الغرق، العواصف، الأمطار المهلكة، والجفاف الطبيعي وغيرها).. ان هذه أسباب أخرى لشقاء البشر والإيمان يدفع هذه بطرق عديدة نتعرض لبعضها: 1- تدبير الغيب؛ النظر الرشيد في الكون يهدينا إلى ان هناك نظاما دقيقا ومرنا في الكون، ولابد لكل نظام من مدبر يجريه. وبالرغم من اننا لم نكتشف الا القليل من هذا النظام، واننا نزعم ان لا نظام ولا تدبير في حوادث الكون (كالزلازل والفيضانات)، وبالرغم من ذلك لابد ان نعترف انه لا ريب في انها خاضعة لنظم دقيقة. إذ ان مدبر الشمس والقمر لا يعجز عن تدبير الزلزال والفيضان، بل هناك إذن إرادة موجهة لنا نعني إرادة الله، فإذا آمن به البشر وسألوه وهو الغني الكريم فلماذا لا يعطي ولا يدفع البلاء[23]. 2- ان طائفة من الآفات كموت الفجأة- تتسبب عن أسباب طبيعية والدين الإسلامي يشرع أحكاما للتحصن ضدها. وبذلك يتخلص الملتزم بأحكام الشرع منها[24]. 3- وبالرغم من ان بعض الآفات تصيب المؤمن، فإن ورائها حكمة الإبتلاء حيث ان الله يمتحن العباد المؤمنين ببعض البلاء فإن صبروا واستقاموا أعطاهم أجرهم مرتين؛ مرة في الدنيا ومرة في الآخرة، وبذلك يبدل الله عزاء وأملا[25]. الإيمان وقاية وعلاج: د- الأمراض؛ وتشكل الأمراض نوعا من الشقاء البشري. فالمريض لا تتوافر عنده متعة الحياة وان توافرت له سائر أسباب الرفاه. والإيمان يدفع شقاء المرض بوسائل شتى: 1- ان كثيرا من الأمراض تنشأ من الصفات النفسية كالقلق والعقدة[26]، وبما ان الإيمان يعالج الأمراض النفسية فإنه يقضي على ما تنشأ منها من أمراض. 2- في أحكام الشريعة كثير من الوقايات المحصنة ضد الأمراض كالطهارة (الوضوء والغسل)، واجتناب النجاسات التي تسبب الأمراض، وتحريم الخمر والزنا واللواط والعادة السرية، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أشبه من السباع والهوام والمضر من صيد البحر. ان تحريم ذلك كله لم يكن الا لما تسبب من الأمراض بل الإسلام يحرم كل ما فيه ضرر على صحة الإنسان ضررا كبيرا ويقول: (ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة). وما دام المؤمن ملتزما بأحكام الشرع هذه، فإنه يقي نفسه عن طائفة كبيرة من الأمراض. 3- ان هناك تعاليم كثيرة يفرضها الدين وأخرى يندب إليها نجد فيها الوقاية أو العلاج التام لطائفة كبيرة من الأمراض. فالصلاة تهدئة سيكولوجية وتمارين رياضية، والصوم ترويض نفسي ووقاية صحية، وآداب الأكل والشرب والنكاح وغيرها كلها وقاية عن الأمراض. والمؤمن حيث يتلزم بها يتخلص من غائلة قسم كبيرة من الأمراض الناجمة عن تركها. 5- ان الدين يدعو إلى العلم والطب بصورة خاصة- وينشر الطب ويوفر الأدوية كل ذلك من خلال نظمه وتعاليمه الرائعة وهذا يؤدي إلى التقليل من إنتشار المرض في المجتمع[27] وبالتالي يقضي على جانب كبير من جوانب الشقاء الإنساني. 6- ويبقى من شقاء المرض الشيء القليل والإيمان يجعل المبتلى به يحس بأن هذا المرض سعادة له بما يسليه به من مثوبات يعوض الله بها مرضى المؤمنين. وإليك بعض ما يقوله الدين عن المرض والمريض المؤمن. أ- ان المؤمن إذا مرض كتب له كل ما كان يعمله في الصحة، وانه يغفر له ذنوبه كلها. ب- ان المؤمن إذا أصابته الحمى ليلة واحدة كتب له عبادة سنة كاملة. التطلع نور السعادة: هذه هي عوامل الشقاء وهكذا يقضي عليها الإيمان أو يخفف من شقائها ولكن الإيمان لا يكتفي بذلك بل يعطي الفرد نور السعادة ليجعله مفلحا حقا.. وذلك ان البشر قد خلق طموحا لا يكتفي بما تكفيه من ضرورات الحياة حتى يطلب المزيد، ولذلك فهو يحرص على جمع المال حرصا عجيبا [وتحبون المال حبا جما] ليس فقط لأن المال يفي بحاجاته الضرورية بل لانه حسب اعقاده يجعله شيئا كما جاء في المثل [إذا ملكت شيئا فقد اصبحت شيئا].. وطموحه لا يقصر على الملاذ المادية، بل ان ملاذه الروحية تدعوه إلى النشاط أكثر؛ فمثلا: حب المعرفة وحب السيطرة وحب الشهرة قد يبلغ بالبشر حدا يضحي في سبيله بالمال والأهل جميعا وهذا الطموح ان لم يتحقق عمليا بقي الإنسان يشعر بفراغ. وكلما تحقق شيء منه طار فرحا وغمر نفسه شعور بالسعادة، واذا وجه الإنسان طموحه إلى حطام الدنيا ازداد شقاء بعد شقاء لانه كلما جد في طلب الدنيا كلما اصطدم بقوى خارجية توقفه، بينما إذا وجه طموحه نحو العالم الروحي تقدم إلى الأمام دون أي اصطدام. والدين يستغل هذا النشاط في مجالات ثلاثة مما يجعله سعيدا متطلعا: 1- في مجال التحلي بفضائل إنسانية تزيد الفرد قيمة إلى قيمته ورفعة بعد رفعة. 2- في مجال طلب النعم في الآخرة والتي عرضها كعرض السموات والأرض مما تمتص تطلعات المؤمنين وتزيد. 3- في مجال الاتصال بنور الله والقرب من رضوانه الذي يعطي الإنسان فيضا من السعادة التي لا تنتهي.. وأين تلك السعادة من سعادة الجسم[28]. وبكل هذا يؤتي الله المؤمن فلاحه في الدنيا والآخرة، ويقول: [أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون] (البقرة/ 6).