يتحدث الناس عما إذا كانوا مختارين في أعمالهم أم مجبورين من قبل الله عز وجل من قبل قوى الكون. وهناك موضوع آخر سيأتي تحت عنوان (القضاء والقدر) حيث يجري الحديث حول انه ما معنى ان الله قدر هكذا، أو قضى هكذا؟ أيمكن أن يكون معناه انه سبحانه يجبر الناس ويضطرهم على ما هم عاملون، أم له معنى آخر؟ ولابد لنا في الموضوع الأول ان نقول: ان الوجدان الشخصي الذي هو أكبر شاهد على الحقيقة، يشهد بأن الإنسان عندما يقوم بأعماله العادية بأنه يتمتع بحرية تامة في الاختيار ومعنى ذلك انه يجد نفسه حينذاك غير مكره على اختيار أحد الطرفين وان له استطاعة تامة في ان يقدم أو لا يقدم، يعمل أو يترك، يختار هذا الطريق أو ذاك.. ألست ترى نفسك حينما تنتقل من وإلى المدرسة انك تخطو باختيارك، ولك ان ترجع؟ وحينما تدرس انك تقرأ بحريتك ولك ان لا تقرأ؟ ولكن ههنا واقع يجب ان لا ننساه وهو ان هذه القدرة التامة على الفعل والترك بنسبة واحدة ليست من ذات الإنسان. هذه السلطة والإرادة الحرة، قوة يهبها الله للإنسان حينما يتردد بين الفعل والترك. فهي تماما مثل موهبة العقل وموهبة العلم، فبإستطاعة الله ان لا يعطي عبده هذه القدرة فيصبح لا إراديا أو مجنونا ولذلك فإن العبد في الوقت الذي هو مختار بكل معنى الكلمة في ان يترك وان يعمل، فهو تحت سلطات الله المطلق، لأن اختياره هذا وقدرته هذه مستمدة وموهوبة من الله. فهو مختار في حدود صلاحياته الموهوبة له لذاته، لذلك فإن الله إذا أراد ان يمنعه من الحرية سلبه هذا الاختيار. وهذا جوهر كلام الإمام الصادق عليه السلام: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين) ذلك لأن: - الجبر يعني ان الإنسان لا إرادة له ولا رأي مستقل، بل انه مضطر ومجبور من قبل الله أو بسبب القوى الطبيعية. وهذا يسلب الفرد تكاليفه ومسؤولياته تجاه أعماله ذلك لأن المجبور لا تكاليف له ولا عقاب عليه. والنصوص التالية تشرح هذا الواقع وتشهد له: 1- عن الإمام الرضا عليه السلام، قال أحد أصحابه: سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال (ع): انه اعز من ذلك.. ثم قال: قلا الله عزوجل يا بن آدم انا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك: ومثال بسيط يكفي معنى هذا الحديث تصور: لو وهبت لصديقك وهو رجل عاقل دينارا فذهب واشترى به متاعا حسنا فمن الذي ينسب إليه شراء المتاع، انت ام هو؟. طبعا أنت لأنه لولا أنك اعطيته الدينار لم يستطع من شراء المتاع.. ولو انه اشترى به مسدسا وقتل به نفسه فمن المسؤول، أنت أم هو؟. طبعا هو لأنك أقدرته على المال ولم تجبره على شراء المسدس أو قتل نفسه.. وهكذا الله حينما أعطانا القدرة على اختيار الحسنات كان أولى بها، وحينما اخترنا بتلك القدرة- السيئات كنا أولى بها. 2- عن الإمام الصادق عليه السلام: (ان الناس في القدر على ثلاث أوجه: رجل يزعم ان الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر. ورجل يزعم ان الأمر مفوض إليه فهذا قد وهب الله في سلطانه..).
شبهات وردود
هناك بعض الشبهات انتحلها بعض المنكرين ممن قالوا بالجبر- لابد من التعرض لها. ولكن قبل ذلك يجب ان نعلم انه حين عرفنا بوجداننا ان لنا كامل الحرية بأن نترك أو نعمل أي شيء، بعد هذا لا بد ان نتحقق عن واقع الاستطاعة هذه. الإسلام يقرر ان كل عمل اختياري لابد له من عامل، ولابد لهذا العامل من ان يملك القدرة التي يرجح بها أحد الطرفين على الآخر.. وهذه القدرة هبة من الله للنفس التي تريد أن ترجح وهي لا تتأثر بأية دوافع خارجية.. وبكلمة أخرى فإن الاستطاعة عند الإسلام نور يفيضه الله على النفس حين العمل فتصبح كل العوامل متساوية بالنسبة اليها وتفقد كل قوتها أمام تلك الومضة الإلهية التي تعطي النفس القوة الكاملة على الفعل والترك. هكذا يقرر الإسلام واقع الاستطاعة وعليه فالقوة الإرادية تأتي من الله حين العمل، فبمشيئة الله وقوته يستطيع العبد ان يختار هذا الجانب أو ذاك.. وهذا ينافي التفويض: إذ التفويض يعني ان العبد يختار بعيدا عن مشيئة الله إذا فلا جبر، إذ الجبر يعني ان تختار للنفس أحد الجانبين قوة خارجة عن ذات الإنسان. ولا تفويض إذا امتلاك الإرادة بصورة ذاتية وهذا مما يخالفه الإسلام ولنعرج على الشبهات للرد عليها وبيان تفاهتها: 1- ان الإنسان مفطور على حب ذاته وحب مصلحته الخاصة، فهو يسير بصورة طبيعية وراء ما ينفعه. والمصالح تختلف ما هي عليها في الواقع وفقا لملابسات نفسه فهي إذا هي الرائدة للإنسان نحو ما تقتضيه من اتجاه.. ومن هنا ظهرت الجبرية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي قال بها كل من: ماركس، دركايم، فرويد. والجواب: صحيح ان النفس تهوى ذاتها بصورة طبيعية وان الإنسان يحاول دائما ان يجلب إلى نفسه النفع ويدفع الضر، ولكن هذا لا يعني ان النفس مجبورة على اتباع هذا الهوى وهذا الحب.. ان النفس تملك بإذن الله قوة - فوق قوة الحب وهي قوة الرأي وقوة الإرادة، فتختار حينا ما تحب النفس فتتبع بذلك هوى النفس وتختار حينا آخر ما تكره النفس وخلافا لما تحب. وبعبارة شاملة: ان هناك فرقا واضحا بين ان تكون حركة الإنسان وراء مصالحه حركة لا إرادية وجبرية (كحركة الشمس حول الأرض) وان تكون إرادية بمعنى ان بإستطاعة البشر ان يتوقف عن السير ولا يستمر في جلب المنافع، لا يأكل ولا يكتسب ولا ينكح تماما كما يفعل الزهاد وبعض الثائرين.. والوجدان شاهد على ان للبشر مقدرة كافية في مخالفة النفس بالسير في اتجاه آخر، وهذا هو الشرف الإنساني الذي يتميز به عن كل حي آخر. كما ان باستطاعة الإنسان ان يخالف تقاليد الاجتماع وان سبب له ذلك ضررا كبيرا وان يغلب حالته النفسية بإتجاه معاكس. 2- أليس الله يعلم ان عباده يذنبون علما سابقا على وجود ذنبهم؟ ثم أليس الله عليم ولا يجهل ولا يمكن ان يخطأ؟ إذا فلو علم الله اني أكذب فإني لا اقدر على أن لا أكذب، إذ لو لم أكذب إذا لزم ان يكون علم الله جهلا؟ الجواب: بالرغم من ان هذه الشبهة ترى قوية في الأوساط الفلسفية فإن جوابها واضح وبسيط يعرف بعد ان نفهم واقع العلم ولنأت له بمثل: انك تعلم ان أخاك سوف يموت بعد مئة سنة علما يقينا فماذا يحدث؟ ان الواقع الخارجي الذي يحدث بعد مئة سنة وقد انكشف لك بصورة واضحة. وهل هناك شيء آخر من تأثير في الواقع؟ طبعا لا، حيث ان علمك لا يؤثر في الواقع الخارجي فلست انت الذي تقتل أخاك، بل ان لموته سببا خاصا أنت فقط تعلم انه سيموت. فالعلم ليس الا معرفة الواقع كما هو وليس سببا في صنع الواقع.. وإليك مثلا آخر: تعلم ان زيدا سوف ينتحر غدا بصورة إرادية واختيارية فهل يعني هذا: أنك قتلته؟ أبدا ذلك لأنه انما انتحر لإرادته الخاصة ووفقا لدواعي مخصوصة، ولست أنت الا عالما بما سوف يجري. فالعلم لا يؤثر في صنع الأمر والواقع، بل في كشفه ولدى مقياسه العلم بالمستقبل بالعلم بالماضي يصبح الأمر أكثر وضوحا لو انك علمت بأن زيدا مات أمس فهل يعني هذا ان لعلمك تأثيرا في هذا الموت؟ وبما ان حقيقة العلم واحدة في الماضي والمستقبل فليس هناك مجال مقود بتأثير العلم في الواقع وعلم الله بالأشياء لا يعني انه هو الذي يفعلها مباشرة. فإنه يعلم مثلا ان زيدا سوف يختار الكفر بحريته وإرادته على الإيمان، وليس معنى هذا انه تعالى يجبره على ذلك. وبتعبير آخر: ان زيدا يختار بين الكفر والإيمان، ولابد انه يختار بحريته التامة، فأيا منهما يختاره؟ انا لا أدري. والله يعلم بأنه سوف يختار بكل حرية وإرادة- الكفر لا الإيمان. وهذا لا يعني سوى انه يعلم بنتيجة الاختيار لا انه هو الذي أجبر عليها صاحبها. أترى لو انك عرفت ان لو خيرت إبنك بين دينار وبين متاع جميل قيمته نصف دينار وعلمت بأنه سوف يختار المتاع بكل حرية- فهل معناه انك أجبرته على اختيار المتاع؟ طبعا لا. انما أنت عالم فقط. 3- ان طينة كل فرد قد خلقت بشكل خاص.. فالشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه.. وولد الزنا لا ينجب إلى سبعة بطون.. ومن انعقدت نطفته في حيض أو في حرام لا ينجب.. وهكذا الجينات الوراثية تؤثر على تفقيد سلوك الفرد فهو مضطر إلى اتخاذ نوع خاص من السلوك فهو إذا مجبور وليس بمختار كما يزعمون هذه هي الشبهة. الجواب: ان الطينة (متخذة من لفظ الطين باعتبار ان أول الخلق كان طينا لازبا)؛ تعني خلق جوهر النفس. وهذا الجوهر قد يكون صالحا يرغب في الصالحات، وقد يكون طالحا فيهوى الخطيئات.. الناس بطبعهم الأولي على قسمين: فريق يحب الخير بذاته، وفريق يهوى الشر بذاته (كل يعمل على شاكلته) و(كل حزب بما لديهم فرحون).. بيد ان هناك شيئا آخر يثبته الإسلام غير حب النفس وغير هواها ذلك هو الرأي. تلك هي القدرة التي توهب للإنسان وتجعل الفعل والترك سواء عندها، تلك القدرة التي نطلق عليها اسم (الإرادة).. وأنها ليست مخلوقة مع النفس حتى تتأثر بالطينة، بل انها كالعلم موهبة الإهية. فولد الزنا مثلا يحب الشر بذاته ولكن حينما يعمل الشر لا يعمله لأنه يحبه بل لأنه أراد ذلك بحيث لو انه كان يريد خلافه وان كان صعبا عليه كان يستطيع ان يأتي به أيضا. مثال ذلك: من تعود على التدخين يحب هذا العمل كثيرا، ويصعب عليه تركه ولكن لا يعني هذا انه مجبور على ذلك، بل بإمكانه التغلب على هذه الصعوبة وترك التدخين.. فالطينة والعادة وأكل مال الحرام وما أشبه تحدث حالات نفسية تهوى جانبا من جانبين، ومن الصعب مخالفته باختيار الجانب الآخر. ولكن بما ان الإرادة ليست من النفس فإنها حاكمة على هذا الحب والهوى وباستطاعة الإنسان بها ان يختار الجانب الآخر. وبعبارة وجيزة: الطينة تسبب الحب والهوى، وللنفس فوق الحب إرادة ترجح ما تحب النفس وقد ترجح ما تكره. القضاء والقدر.. كلمة القدر (المتخذة من مادة قدر يقدر تقديرا) تعني. التحديد والتنظيم والتدبير.. وينسب الراتبة ذلك لأن الله قدر كل شيء تقديرا. فالشمس مقدرة لا تقترب ولا تبتعد عن الأرض أكثر من المدار المقرر لها ولا تبعث الضوء خارجا عن المنطقة المحدودة له وهكذا القمر مقدر بمداره ومقدار نوره وكل شيء مقدر بتحديد وتدبير. وكلمة القضاء (متخذة من مادة قضى يقضي-) تعني إمضاء التدبير. فبعد ان قدر الله الأشياء أجرى هذا التقدير في عالم الكون. فمثلا يقدر الله ويحدد إعطاء ولد لزيد ثم يقض بذلك بأن يعطيه الولد فعلا فهنا يكون قدرا وقضاءا حيث قدر الله ذلك أولا ثم قضى ما قدره وهذا المعنى للقدر والقضاء معترف به دينيا وعقليا الا انه لا ينافي عدية الإنسان إذ انه هو في حدود الاقدار المقضية. وهناك معنى آخر للقدر وهو العلم فقدر الله يعني: علم الله بالأشياء كيف تقع منذ الأزل. وقد سبق ان علم الله بالأمور ولا يؤثر أيضا في اختيار العبد لها وقدرته على تركها وفعلها جميعا بنسبة متساوية وفي الحديث المروي عن حمدان بن سليمان قال: كتبت إلى الإمام الرضا عليه السلام أسئلة عن أفعال العباد مخلوقة ام غير مخلوقة فكتب (ع): (أفعال العباد مقدرة في علم الله عز وجل قبل خلق العباد بألفي عام). 1- أما القضاء والقدر بمعناهما الاصطلاحي فيعني ان كل عمل للعباد مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ الذي ينظر إليه الأنبياء والملائكة والصالحون فيعرفون ما سوف يجري في المستقبل. ولكن ما كتب في هذا اللوح يتبدل بإرادة الله حيث قال: [يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده علم الكتاب] (الرعد/39). 2- وان كل عمل يجري من العبد فهو انما يقدر من قبل الله أي بما أعطاه الله من قوة وبما وفر له من ظروف مواتية.. وجاء في الحديث عن البيزنطي قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: ان أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم يقولون بالاستطاعة؟. فقال عليه السلام: (أكتب: قال الله تبارك وتعالى: يا بني آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ما تشاء وبقوتي أديت الي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك انى أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك. وذلك أنى لا اسئل عما أعمل وهم يسئلون). وفي حديث آخر عن الحسين بن علي عليهما السلام: سمعت أبي علي ابن ابي طالب عليه السلام يقول: (الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض، وفضائل، ومعاصي. فأما الفرائض فبأمر الله تعالى بها وبرضا الله وبقضائه وتقديره ومشيئته وعلمه. وأما الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيئة الله وبعلم الله. وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء وبقدر الله وبمشيئة الله وعلمه). (تقدير الله يعني: تحديده للأشياء.. وقضائه: تهيئة الوجود للأشياء.. ومشيئة الله أي بنعمته بهذا الاعطاء أولا.. وعلم الله: انه كان يعلم منذ الأزل) هذا وان واحدا من هذه لا يخالف الاختيار إذ ان الله شاء ان يكون العبد مختارا ثم قدر. وقضى ذلك بإعطائه الاستطاعة فكان صدور الفعل منه بالاختيار وبقضاء من الله يعني: ان الله لم يمنعه بل اذن له في ذلك. فلو انه كان يسلب القدرة في اللحظة الأخيرة لم يتمكن من الفعل أبدا ولكنه لم يفعل. وبصورة موجزة ان للقدر ثلاثة معاني: 1- ان الله عالم من الأزل بما هو كائن. 2- ان الله كتب ما يجري في اللوح المحفوظ وله تبديله متى شاء وهو المعبر عنه (بالبداء). 3- ان كل شيء يقع في الأرض أو السماء، فإنه يقع تحت سلطان الله، وبما يعطي الله العباد من القوة والقدرة لحظة بعد أخرى. ومن الواضح ان أيا من هذه لا تؤثر في اختيار العبد، إذ ان العلم تابع لما يقع، وان اللوح وهو نوع آخر من العلم- فيه البداء. وأما ان كل شيء من الله فلا يؤثر في ان يكون العبد مختارا بتلك القدرة الموهوبة التي أعطاها الله له.
الغاية من الخلق..
ما هي الغاية من الخلق؟ سؤال يفرض نفسه على الإنسان ليوفق مسيره طبقا للغاية التي جاء من أجلها.. الغاية ليست اللعب والعبث تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أيلعب أو يعبث الحكيم الذي ملأت آثار حكمته السموات والأرض؟- وليست لحاجته إلينا ليدفع ضرا أو يلبي نفعا، وهو القادر القاهر الغني المتعال. والواقع انه بتواتر النعم وتوالي الآلاء، وما سخر لنا من الشمس والقمر والنجم والشجر وما كرمنا به من العقل والقدرة وما فضلنا على كثير مما خلق تفضيلا، بذلك كله نعرف: ان الغاية من خلقنا هي الرحمة بنا بيد انه لما نرى ان النعمة في الدار الدنيا تمتزج بالنعمة، وان الراحة يعقبها التعب، وان في العالم ظلما فاحشا وفسادا ظاهرا، نهتدي بذلك على ان الله لم يجعل هذه الدار التي نعيش فيها دار الرحمة التي لأجلها خلقنا. وان كان قد اسبغ علينا فيها بالنعم والآلاء.. فلا بد إذا ان نبحث عن مكان آخر غير الدنيا فيه الراحة الكاملة التي تناسب وكمال الله سبحانه فما هو ذلك المكان؟ انه الآخرة التي وعدنا بها فالغاية من الخلق السعادة في الآخرة ان تتم في الدنيا هذه من ناحية ومن ناحية أخرى لا ريب في ان الدنيا تنطوي على خير وشر، ولا يمكن ان يكون الشر فيها نعمة أيضا. وبما ان الله متعال عن الشر وهو ينافي الرحمة الواسعة التي لا حدود لها، فلابد من القول بأن الله تعالى انما جعل الخير والشر في الدنيا ليختبرنا بهما إذ انه كلفنا بأن نختار بحرية أحدهما، وما جعل في أنفسنا من نوازع الخير والشر يرشدنا إلى ذلك فنعمل بما أمرنا بتلك من القوى والإمكانيات التي وجهتها لنا، نعمل بالطاعة فنستوجب بذلك الخير الكثير. والى هذه تشير الآيات التالية: 1- [وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين]، [ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون]. 2- [أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم إلينا لا ترجعون]. 3- [وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون]. 4- [ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم] (أي للرحمة). 5- [وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا]. من الآية الأولى يظهر ان الله لم يخلق الخلق لعبا، ويظهر من الآية الثانية انه لم يخلقهم عبثا. فلماذا خلقهم؟ لكي يعبدون (كما في الآية الثالثة). ولماذا يعبدون؟ يظهر من الآية الرابعة انها لكي يرحمهم؛ أي ان العبادة انما فرضت لتكون وسيلة لرحمة الله تعالى. وأين يرحمهم؟ ليس في الدنيا لأنهم جاءوا هنا ليبلوهم أيهم أحسن عملا! بل يرحمهم في الآخرة (كما في الآية الأخيرة). وفي الحديث: قال سألت الصادق عليه السلام فقلت له لم خلق الله الخلق؟ فقال (ع): (ان الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم: 1- لإظهار قدرته. 2- وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه. وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد). وعن الإمام الحسن عليه السلام قال: (أيها الناس ان الله جل ذكره ما خلق العباد الا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه). وسأل أحد الكفار الإمام الصادق (ع) فقال: لأي علة خلق الخلق وهو غير محتاج اليهم ولا مضطر إلى خلقهم ولا يليق به العبث؟ قال (ع): (خلقهم لإظهار حكمته ونفاذ علمه وإمضاء تدبيره). أقوال وردود.. ولدى معرفة هذه الغاية تتوضح لنا طائفة من الحقائق التي يسبب الجهل بها الوقوع في سلسلة من الشبهات، وهي شبهات بناها الماديون لتبرير إنكارهم لوجود الله سبحانه. ونحن إذ نشير إلى هذه الشبهات وردودها نعتمد في التوضيح على وعي القارئ لما سبق من الحديث المفصل: س1: لو كان الله موجودا، وكان قديرا حكيما، فلماذا -إذا- هذه النكبات وهذه الويلات التي تلف الجماهير من حين لآخر؟ ج: ان الله القدير الحكيم لم يخلق الدنيا الا ليعلم من يصمد أمام نكباتها ومن ينهار.. إذا فالويلات ضرورية إلى حد ما لفلسفة هذا الكون ذلك لأن للويلات غايات عديدة وأسباب مختلفة نشير إلى بعضها اختصارا وهي: 1- ان الويلات تسبب رجوع الناس إلى ربهم ومعرفتهم به واقترابهم إليه. قال الله تعالى: (وأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يرجعون). وليس من ريب في ان العودة إلى الله توجب خيرا كثيرا. 2- انها تكفر عنهم بعض ذنوبهم أو تكون معاقبة من الله على تلك الذنوب، ذلك لأن طائفة من المعاصي يلقى فاعلها العقاب العاجل، ومن هذا النوع كان العذاب الذي لف قوم عاد وثمود وأصحاب الأيكة وما أشبه. 3- ان الله بها يرفع درجات الصالحين من عباده. ففي الحديث: ان للحسين (ع) درجة لم يكن ينالها الا بالشهادة. 4- ان الكوارث تعمل على التمييز بين المؤمن والكافر. قال سبحانه: [الم أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين]. س2: قد نرى في حوادث الكون انها تصيب أناسا لا يستحقون أي جزاء سيء فما سبب ذلك؟ ج: ان هؤلاء الناس سوف يضاعف لهم الأجر في الآخرة، فإن الله ليس بظلام للعبيد. س3: ان هناك طائفة من الجبابرة والطغاة يسلطون على رقاب للناس ويهلكون الحرث والنسل فلماذا لا يعذبهم الله؟ ج: في الوقت الذي قد يكون تسلط هؤلاء بسبب أعمال الناس أنفسهم كما ورد في الحديث: [كما تكونون يُولَّ عليكم].. في الوقت ذاته فإن سبب بقاء هؤلاء ليس لكي يزدادوا ثوابا إذ لا ثواب لهم بل يزدادوا إثما ويزداد المظلومون أجرا في يوم القيامة. س4: لماذا لا يهدي الله الناس جميعا؟ ولماذا ترك بعض الناس يفسدون ويقترفون المعاصي الكبيرة؟ فهل يعني ذلك ان الله راض بالمعاصي أو هو عاجز عن هدايتهم؟ ج: تعالى الرب الحكيم عن ان يرضى بالقبيح أو بعجز عن ردعه، وانما الله أراد ان يجعل الدنيا دار بلاء وامتحان وقد ترك الناس يختارون ما يشاؤون حتى يختاروا طريقهم بأنفسهم ويحصلوا على الجزاء المناسب ومجرد هذا الاختيار المخول إليهم كرامة لا تقدر. س5: لماذا نرى المؤمنين الصادقين أكثر الناس بلاء وأضيقهم عيشا وأشدهم عناء مع أنهم متصلون بالرب العظيم وهو قادر رحيم فلماذا لا يراعيهم؟ ج: ان الله لم يجعل الدنيا للمؤمنين الا مزرعة مباركة للآخرة ولذلك فإن نفوسهم رغبت عنها وزهدت فيها! وليسوا كما زعم- أضيق الناس عيشا بل العكس صحيح. وبصورة مجملة: الشبهات نابعة من اعتبار الدنيا دار راحة ومنزلة قرار بينما هي دار بلاء وامتحان وانها مجرد جسر نحو الآخرة. وفي الحديث: (الدنيا مزرعة الآخرة). فطوبى لمن فهم ذلك.. واتخذها طريقا.. ولم يتخذها قرارا.. الفكر الإسلامي مواجهة حضارية
القسم الثالث: عن الإنسان والمجتمع
البحث الأول عن:
الإنسان والمجتمع
كلمة في البدء
الإسلام والإنسان والمجتمع ميزات النظام الإسلامي
كلمة في البدء
ماذا تعني المشكلة الاجتماعية النظام الاجتماعي النظام الرأسمالي- نقد الرأسمالية النظام الشيوعي بعد ما طفنا حول الفكر الإسلامي ابتداء من نظرته إلى العقل والعلم ومرورا بالفلسفة العامة وانتهاء بالعقائد الإسلامية كان لابد من حديث موجز عن الإنسان والمجتمع في الفكر الإسلامي.. لكي نحصل على النظرة الإسلامية الشاملة في الحضارة الإنسانية ولكي نطلع على مدى الانسجام بين الركائز الفكرية والتشريعات العملية في البناء الحضاري للإسلام. ونبدأ الحديث باستعراض الحلول العامة التي وضعت حتى الآن للمشكلة الاجتماعية ثم نقوم: ببحث النظرات الخاصة، الواحدة تلو الأخرى وما تنطوي عليها تلك النظرات من أخطاء ثم نستعرض الخطوط العامة للفكر الإسلامي. ونختم الحديث ببيان مقتضب حول ميزات التشريع الإسلامي والله المسدد. ماذا تعني المشكلة الاجتماعية؟ لقد خلق الإنسان حضاريا يتطلع إلى آفاق أبعد من إشباع الحاجات الضرورية كما في سائر الاحياء.. وقد اكتشف ان تحقيق تطلعه البعيد لا يمكن بدون تشكيل مجتمع يسوده التعاون. ونبعت المشكلة من هنا. فما هو المجتمع المتعاون؟؟.. ليس من شك في ان الظلم عقبة تعترض طريق التعاون ولكن كيف يمكن القضاء على الظلم الاجتماعي وكيف يحقق العدل مكانه؟ للإجابة على هذا السؤال كان لابد ان يحدد بدقة: ما هو الظلم؟ بل ما هو العدل؟.. فجاء الجواب: العدل اعطاء الحقوق وافية ولكن استمر الغموض أيضا. وجاء سؤال آخر: ما هي الحقوق وكيف يمكن الوفاء بها؟ ما هو حق الفرد على المجتمع؟ وما هو حق المجتمع على الفرد؟ وبأي الحقين نضحي لدى تعارضهما؟ وما هي الدولة الصالحة التي تقوم على أداء الحقوق؟ وكان من الطبيعي ان يتصل الموضوع مباشرة بمعرفة واقع الحق ثم بمعرفة واقع صاحب الحق. فمن هو الانسان؟ ما هي حقيقته؟ ما هي حاجاته؟ ما هي حقوقه؟ وما هو المجتمع؟ ما هي حقيقته، فحاجاته، فحقوقه؟ والنظرية الفكرية التي تجيب على هذه الأسئلة بدليل علمي أو فلسفي تسمى بالفلسفة الاجتماعية أو الفلسفة العملية.. أما الإجابات الجانبية التي تقوم على أساسها فإنها تسمى بالنظام الاجتماعي. وجملة المسائل الغامضة التي تشكل مواضيع هذه الاجابات هي المشكلة الاجتماعية.إذا: 1- الفلسفة العملية= نظريات حول حقيقة الإنسان والمجتمع. 2- النظام الاجتماعي= الأحكام الواضحة التي تستنبط من تلك النظرية. 3- المشكلة الاجتماعية= البحث عن إجابة صحيحة لهذا السؤال، كيف يمكن ان يصنع الإنسان حضارته؟ فالمشكلة الاجتماعية تعتبر الموضوع الأول للفلسفة العملية ثم يأتي دور النظام الاجتماعي. إذ نحن نطرح أولا: السؤال عن الطريقة التي يمكن ان يصنع الإنسان بها حضارته؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال نحاول أولا: وضع نظام اجتماعي. إلا ان المحاولة تبوء بالفشل لعلاقة الموضوع بالبحث عن حقيقة الإنسان والمجتمع فنضطر أخيرا إلى معرفة الفلسفة العملية التي تعالج حقيقة الإنسان والمجتمع. النظام الاجتماعي بعد ان طاف البشر تطوافا مرهقا حول النظام الأصلح للمجتمع انتهى إلى نظامين رئيسيين نابعين من مفهومين متعاكسين: 1- التسليم لله، وتقبل تشريعه كاملا. وهذا هو النظام الإسلامي في صيغته الأخيرة المتمثلة في دين النبي محمد (ص). 2- الاستبداد بوضع النظام لنفسه، وهو ينقسم تبعا لافتقاد البشر المقياس الدقيق لمعرفة الصحيح عن الباطل، ينقسم إلى نوعين: أ- النظام الفردي الرأسمالي. ب- النظام الجماعي الشيوعي. وبالرغم من ان الإنسان اضطر إلى تعديل كلا النظامين المتطرفين ذات اليمين وذات اليسار، تعديلا جعلهما يقتربان نوعا ما إلى النظام الإسلامي.. فإن الإنسان العصري لا يزال يسرح خياله في متاهة الجهل، ويعتقد بأن الشيوعية أو الرأسمالية المتطرفة أصلح الأنظمة التي تسير بحضارة الإنسان قدما إلى الكمال. ومن هنا فإنه لا تزال توجد فكرة تنادي بسلب حقوق الفرد بصورة تامة ودفع المجتمع إلى مستوى الإله المعبود.. وتقابلها فكرة متطرفة تنادي بوجوب إعطاء الفرد كامل حريته وجعله إلاها من دون المجتمع. ونحن إذ نتحدث عن النظريتين المتقابلتين نحاول تجريدهما عن التعديلات العملية التي طرأت عليهما اضطرارا وبعد ان فشلا في حقل التطبيق الخارجي. النظام الرأسمالي يرتكز هذا النظام على فلسفة عامة تقول ان تصارع الأفكار والمصالح يظهر على المسرح أفضل ما ينتجه الإنسان! ويلزم على النظام الاجتماعي ان يهيء ظروف هذا التصارع كأفضل ما يكون وذلك بفسح المجال الأكبر قدر ممكن من الحريات الفردية لتكون وسيلة مشجعة للإنسان تبعثه لإبداع أفضل الأفكار والقيام بأحسن الأعمال. والحريات تتلخص في أربعة أقسام هي: السياسية والاقتصادية والفكرية والشخصية. فالحرية السياسية تعني إفساح المجال لكل فرد على ان يقرر مصيره السياسي بنفسه عن طريق اعطاءه حق التصويت والمحافظة على هذا الحق.. وينشأ من هذا الحق: التنافس الحر على السلطة ويكون أقدر الناس على السياسة هو المنتخب النهائي للمجتمع. والحرية الاقتصادية تدفع بكل فرد إلى خوض صراع حر على العمل وينشأ من هذا ان كل فرد يضع كل طاقاته الممكنة في المعركة. وبهذا يحصل المجتمع على أكبر قدر ممكن من طاقات أفراده الانتاجية. هذا من ناحية التنمية الاقتصادية. وأما من ناحية الاقتصاد السياسي فإن الحرية تحفز بكل فرد إلى اختيار مصالحه الخاصة، وهذا الحافز يحفظ التوازن الاقتصادي للبلاد؛ فمثلا: يبقى هناك نسبة معينة بين دخل الفرد ومستوى معيشته إذ مجرد ان ينخفض دخل الفرد أو يرتفع مستوى معيشته حتى يطالب بازدياد الأجور وهو بدوره يقضي بتعديل الأثمان. والحرية الفكرية تعني ان لكل شخص حقا في التمسك بعقائد وآراء معينة تروق له ولا يحق لغيره منعه من الالتزام بتلك الآراء. ومن الحرية الفكرية تنبثق الحرية الدينية وهي تقضي بتعديل الأفكار التي تنتشر في المجتمع بسبب التصارع بينها واختيار الجمهور لها. والحرية الشخصية، تعطي لكل فرد الحق في التزام سلوك يختاره دون ان يكون لأحد الحق في منعه عنه.. وهذه الحرية تعين أيضا أفضل أقسام السلوك عن طريق اختيار أكثرية الناس له؛ فمثلا: الزي المناسب الجميل يختاره المجتمع بعد تقارن الأزياء المختلفة التي تختارها كل فئة فتستقر الأكثرية على أنواع معينة من الزي. نقد الرأسمالية: ان الرأسمالية لم تعد اليوم تلك الجنة التي وعد بها البشر منذ قرون طوال، إذ منيت بنكبات مريرة. والتي كان من أهمها تمخض الشيوعية عنها كرد فعل عنيف لنظام النفاق والتنافس المرهق. وتتلخص نقاط الضعف الرأسمالية في ما يلي: 1- انها نظام مادي ينطلق من مبدأ الاستبداد بالحكم من دون الله وهو لذلك ينطوي على أخطاء ضخمة لا يمكنه التملص منها لأن البشر مهما أوتي من علم وقدرة وأخلاق فإنه لن يبلغ مستوى دين الله الذي يشع علما وقداسة وقوة. وقد تقدم في فلسفة الرسالة، ما يدعونا إلى الأخذ بالإسلام جملة وتفصيلا. 2- والرأسمالية مادية لأنها تجعل القيمة التامة للمصلحة وتقيم الحقائق الأخرى من دين وأخلاق وفق ما تنطوي عليها من تلك القيمة؛ قيمة المصلحة الذاتية. وهذا التقييم المطلق للمصلحةالذاتية يشكل جذر الأخطاء في النظام الرأسمالي. 3- وكانت الرأسمالية مادية مرة ثالثة حين شرعت نظمها بعيدة عن التفكير في الحياة بعد الموت، تلك الحياة التي لو كانت واقعية وهي كذلك لكانت أسمى من هذه الحياة. فينبغي ان يجند الإنسان بعض طاقاته لا أقل لتلك الحياة ويعمل وفق معطياتها. هكذا تنطلق الرأسمالية من منطلق مادي سواء آمنت بذلك أو رفضت الاعتراف به كسبا للمزيد من الأنصار. 4- وبانطلاق الرأسمالية من العقلية النفعية وتأليهها المصلحة الذاتية قضت على أية قيمة للأخلاق ذلك لأن من انحصر تفكيره ضمن نطاق ضيق من المصلحة لا يستشرق ليرى جمال القيم الخلقية وروعتها. ولذلك نلاحظ ان الرجل الرأسمالي يعيش كل البعد عن المناقبية السلوكية ولا ينظر إلى الحياة الا من زاوية المصالح الخاصة. وفي تاريخ الاستعمار والعنصرية نقرأ ألف مأساة ومأساة استلهمت من الذاتية الغربية. وبالرغم من ان الوعي الشديد بسبل الانتفاع يهدي الإنسان إلى تعديل سلوكه وفرض بضعة قيم خلقية على نفسه، فإنها لا تعدو ان تكون متواضعة ومجتثة الجذور. ذلك ان صاحب المصلحة قليلا ما ينظر بعيدا ولئن نظر فقليلا ما يعتقد ان في مصلحته الالتزام بالخلق ولأن التزم فسرعان ما يتركه حينما تعارض مصالحه. 5- والرأسمالية إذ تنطلق من المصلحة في كل مناحي الحياة فإنها تعطي الحق للأكثرية وضع النظم الصالحة لها وان كانت تضار مصالح الأقلية. فالمصلحة انما هي مصلحة الأكثرية أما الأقلية فإنها ستعيش طبيعيا تحت رحمة الحكم ما دامت لا تملك ضمانا من الأكثرية برعاية شؤونها. ولقد كانت الشريعة الإسلامية واعية لمأساة الأقلية فلم تجعل المصلحة ولا مصلحة الأكثرية هي القيمة النهائية للنظام، بل الحق والحق وحده كانت القيمة الأساس. 6- والقضية المأساوية العظمى التي تورط فيها النظام الرأسمالي كانت عودة الأكثرية أقلية حاكمة إذ ما أطلقت الحرية الاقتصادية حتى تكتلت الأدمغة البشرية الواعية ومضت قدما في تحقيق مصالحها الذاتية، وأحرزت لنفسها ثروة طائلة. والثروة كل شيء بالنسبة إلى أمة المصالح التي تسودها العقلية النفعية بصورة كاملة. ولهذا فقد أمست الثروة الطائلة التي كدستها الأقلية هي سيدة الموقف تماما.. إذ قامت الأقلية الثرية اعتمادا على ثروتها الطائلة وحفاظا عليها، قامت بضرب مواقع القوة التي كانت تهدد مصالحها. فالقوى السياسية لم تكن قادرة على الصمود بعيدا عن الثروة. وهكذا غزيت الأحزاب السياسية في عقر دارها، بإشتراء ضمائر ساداتها وكذلك تنازلت السياسة للاقتصاد بصورة كاملة. وتنازل الاقتصاد للصفوة الثرية، فكانت هي دون الأكثرية الحاكمة المطلقة الا انها غطت حاكميتها تحت محيط واسع من الدعاية. فإذا بالناس يختارون ما توافق المصلحة الأقلية وهم يحسبون انها مصالحهم أنفسهم. ولقد تسلحت الأقلية هذه باليقظة التامة بحيث كانت تتصدى لكل من أراد ان ينفلت من قبضتها قضاء تاما ولكن بعد ان مزجت السم بالعسل والموت بالأحلام.. ولسنا بحاجة إلى القول بأن العقلية الاستعمارية وما أعقبت من مآسي وويلات وبلبلة وثورات كانت نتيجة مقضية للعقلية النفعية الرأسمالية. ذلك لان الترابط بين العقليتين انما هو ترابط بين سبب ونتيجة وعلة ومعلول.. ذلك لأن تلك العقلية التي توحي باستثمار الأكثرية في بلدها هي التي تتطلع إلى استغلال البلاد الأخرى. هكذا كانت الرأسمالية جحيم الشعوب في الوقت الذي كانت تدعي انها الجنة الوارفة. النظام الشيوعي: وأحدثت الرأسمالية أزمة حادة في صفوف تلك الأكثرية المحرومة فبدأت تشعر بالسم في العسل، والموت في الأحلام، وتسلحت بنظرية الصراع الطبقي والتفسير الديالكتيكي لأحداث التاريخ وصاغت نظرية (الشيوعية العلمية) التي انبثقت منها كمقدمة وتمهيد، الاشتراكية العلمية. وانطلقت الشيوعية ووليدتها الاشتراكية من هذا المنطلق. ما دامت الأقلية الثرية تشكل بؤرة الفساد، فلابد من القضاء عليها، بل لابد من القضاء على تلك الأجواء المساعدة لنموها. وبحثت عن البديل فجاء الجواب في البداية بتشكل حزب يمثل الطبقة المحرومة فيقودها إلى الحرب الباردة فالساخنة ضد الأقلية المستندة وتبني دولة العمال.. وتستلم الدولة مقاليد الحكم من أولئك المستغلين ريثما تنضج العقلية الشيوعية في المجتمع. فلا حاجة آنئذ إلى الدولة أيضا فيمكن التخلص نهائيا عن الدور السلبي للثروة.. وكانت خطوط الشيوعية تتلخص في: 1- تحديد الملكية الفردية في حساب توسيع الملكية الجماعية وتأميم وسائل الانتاج والتوزيع كخطوة أولية لإلغاء الملكية الفردية نهائيا. 2- توزيع الدولة للسلع المنتجة حسب القانون الشيوعي العام (من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجاته). 3- تخطيط الدولة لمناهج الاقتصاد العامة. وينطوي النظام الشيوعي وما يتبعه على خطأ جذري هو: النظرة السطحية إلى مشكلة الثروة. فمشكلة الثروة ليست مشكلة أناس بأسمائهم وصفاتهم ليست مشكلة أشخاص بمؤسساتهم، انما هي أعمق من ذلك وأشمل. المشكلة هي ان البشرية حينما نظرت إلى نفسها نظرة مادية ضيقة تورطت في سلسلة لا تنتهي من المشاكل. فما دامت الحياة المادية الغربية هي كل شيء، فعلى كل فرد ان يحصل فيها على أكبر قدر ممكن من المتع الذاتية. ولذلك فإن أي فرد يعطى له الحق في التصرف بدون رقابة خارجية فإنه سوف يقيم مصالحه على المصالح الاجتماعية بصورة طبيعية.. ولا فرق بين ان يكون إسم هذا الشخص زيد وتكون صفته رئيس شركة كبيرة، أو يكون اسمه عمر وتكون صفته رئيس دولة كبيرة. وحتى لو افترض جدلا انه يبتغي الاصلاح وتقديم المصلحة العامة فإنه لا يستطيع ان يراعي الا مصلحة طائفة معينة هي طائفته التي كانت وراء سيادته، كالحزب في دولة العمال ومصالح الرأسماليين في الدولة الرأسمالية. فلو لاحظ رئيس الدولة ان الحزب أصبح بيوقراطيا وجائرا فليس من المعقول ان يتمكن من ضربه أو تحديده. إذ هو الذي يسيره ويدعمه، وضربه يعني الانتحار. وهكذا لا تتمكن الدولة الرأسمالية من تحديد الرأسمالي لانه هو الذي يدعمها وينصرها. فما دامت المشكلة قائمة وهي نابعة من نظرة الشخص المادية إلى الحياة، فإن الخطأ موجود. والفرق ان الأكثرية كانت خاضعة في الرأسمالية لحكم الأقلية المستغلة بأسماء مستعارة وبطرق ملتوية، وكانت تلك ترائي لها انها حامية مصالحها، وتمزج السم بالعسل.. ولكن الأكثرية في الشيوعية تخضع للأقلية الحاكمة تحت اسم معين وبطريق مباشر ولا تحتاج هذه الأقلية إلى تبرير حكمها بدليل ولا خسارة بضعة دنانير في العسل لتمزج به السم ذلك لأنها ستكره الأكثرية إلى اجتراع السم قهرا. ان تجربة نصف قرن من قيادة الحزب الشيوعي لطائفة من دول العالم أظهرت بوضوح عدم قدرة الشيوعية على كشف جذر الخطأ، وهو الذي يتلخص في المفهوم المادي للحياة. ومن هنا فإن النظام الإسلامي استطاع ان يقضي على الاستغلال ليس بتبديل شخص المستغل من زيد إلى عمر ولا تبديل صفته من رئيس شركة إلى رئيس دولة أو رئيس حزب بل بتبديل النظرة المادية إلى نظرة روحية. وحين بنت الفلسفة الإسلامية بنائها على أساس روحي مناقبي واستطاعت بناء طليعة مناقبية تفضل مصالح المجتمع على مصالحها الذاتية، أوحت إلى الناس ان اتبعوا هؤلاء وأعطت بيدهم القدرة على تحديد نشاط الأثرياء ومنعهم عن الاستغلال وعن الفساد ثم أعطت للناس كلهم الحرية الكاملة.. هذه هي خطوط النظام الإسلامي والتي تتلخص في نقاط: 1- الإسلام يغير الإنسان المادي إلى الإنسان الروحي بفلسفته العامة والصائبة عن الكون. 2- الإسلام يبدل مقياس الانتخاب والقيادة من مقياس راعي المصالح الطبيعية إلى راعي الحق والعدالة الاجتماعية بالنسبة إلى كل إنسان يعيش على الكوكب. 3- حينما يقوم أساس الدين على النظرة الروحية فإن فريقا من الناس ينبغون في هذا الحقل فيكونون هم طليعة الأمة وقادتها. 4- يحدد الإسلام المصالح الشخصية بالحق والعدل ثم يطلق الحريات. هذه هي الخطوط العامة للنظم الاجتماعية الثلاثة، وهي تعتمد على الآراء الفلسفية المتفاوتة في حقل الإنسان والمجتمع وهذا ما نود بيانه فيما يلي بإذن الله.
آراء وملاحظات
ارسطو لوك- منتسكيو روسو- هابر نيتشه آراء اشتراكية ماركس. الحديث عن واقع الإنسان والمجتمع يتناول أعمال الإنسان الاختيارية.. كيف يجب ان تكون لكي تضمن له السعادة والرفاه؟ وهي تبحث في جوانب مختلفة من حياة البشر، هي: 2- الاجتماع؛ ويبحث عما يرتبط بالمعاشرة مع الآخرين والذي ينبثق منه (علم الاجتماع). 2- الأخلاق؛ ويبحث عما هو أفضل أنواع السلوك. 3- الاقتصاد؛ ويبحث عن وسائل العيش وكيف يوفر الإنسان لنفسه حاجياته بصورة أفضل وجهد أقل. 4- السياسة؛ وتبحث عن الحقوق والواجبات وانه كيف يحفظ الناس أنفسهم من تعدي بعضهم على بعض، وهي تكون بين أفراد أمة واحدة وتسمى بـ(بالحقوق المدنية)، وقد تكون بين أمم مختلفة وتسمى بـ(الحقوق الدولية). ونحن نتعرض هنا للآراء والنظريات التي قدمها فلاسفة قدماء ومحدثون، ونكشف عن نقاط الضعف فيها، تمهيدا للبحث عن موجز فلسفة الإسلام حول الإنسان والمجتمع. أرسطو* (322-384 ق.م.) 1- الاجتماع: * الإنسان مدني بطبيعته، ولابد لأفراد البشر من العيش معا حتى يتعاون بعضهم مع بعض، ويتقاسموا الأعمال بينهم فينالون السعادة التي هي الغاية المتوخاة من الحياة وتندلع الثورات الاجتماعية (عند أرسطو) عندما لا يكون تساو بين الناس في الحقوق ولا تراعي الكفاءة في توزيع الأعمال والثروات والوظائف مما يحمل على إشاعة السخط بين المقهورين فيثورون على الأوضاع. * ولذلك فلابد من تشريع قوانين ونظم تحفظ للناس حقوقهم حسب كفاءاتهم وأعمالهم. 2- الاقتصاد: *يعتقد أرسطو انه لابد من تقرير الملكية الفردية ذلك لأنها ان ألغيت وبدلت بالاشتراكية، سوف يحسب كل فرد انه يعمل أكثر من غيره ويحصل على ثروة أقل فيسخط على الوضع ويثور! 3- الاخلاق: *ولابد لتقرير الصلاح النهائي للمجتمع من تحسين التربية العامة ولابد من الأسرة لتنشئة الفرد الطيب الذي يتعلم من أبويه (المجربين الرشيدين) تعاليم الحياة. * ويعتقد ان للنفس الإنسانية جانبين: عقلية ونباتية. ولابد للوصول إلى السعادة من توجيه النباتية بالعقلية، واكتساب الفضائل بسببها. * والفضيلة هي مراعاة التعادل في الأمور، فمثلا: الشجاعة هي الوسط بين التهور والجبن، والتواضع هو الوسط بين التكبر والتملق، وهكذا. 4- السياسة: * تنوع الحكومات عند أرسطو بثلاثة أنواع: أ- الحكومة العامة (الجمهورية الديموقراطية) وفيها يشترك الجميع في الرأي، ويفصلون النزاع بإتخاذ رأي الأكثرية، ولابد فيها من تقرير العدالة والمساواة بين جميع الأفراد. ب- حكومة الأعيان (الارستقراطية) حيث يتغلب على الحكم طائفة من الأقوياء النبهاء وينتحلون لأنفسهم الرتب المفتعلة. 3- الحكومة الوراثية (الملكية): حيث يتسلط على الناس رجل قوي ثم يجعل الملك إرثا في عقبه. * ولا يفرق أرسطو بين هذه الأوضاع ولا يرى وجود ضمان في أحدها مفتقد في الآخر، بل يقول: ان هذه الأقسام الثلاثة ان عملت على الاصلاح والكفاءة والمسؤولية ورعاية القانون كانت صالحة. أما إذا كانت تتبع الأهواء والمصالح فإنها تكون فاسدة. ويقول في بيان نقطة الضعف في هذه الأقسام -: ان الظلم والاستبداد يسودان المجتمع في القسمين الأخيرين بينما يشيع المكر وتغرير الجماهير في القسم الأول. الملاحظات: نظريات أرسطو التي كانت سائدة أكثر من ألفي عام على الأوساط العلمية في العالم، قريبة نوعا ما إلى الحقيقة ولكنها تتميز بالضعف من جهتين: